الفصل الرابع
صلاةُ التراويح..
هلِ هيَ بِدعة حسنة؟
1ـ دوافعُ القولِ بتقسيمِ البدعة 2ـ مع القائلينَ بتقسيم البدعة 3ـ بطلانُ القولِ بتقسيمِ البِدعة أ ـ المعنى الشرعي للبدعةِ لا يقبلُ الإنقسامَ عقلاً ب ـ حديثُ (كل بدعةٍ ضلالة) ينافي التقسيم ج ـ النصوصُ الشرعيةُ تنافي تقسيمَ البدعة د ـ استعمالُ المتشرعةِ للبدعةِ ينافي التقسيم 4ـ مَعَ النافينَ لتقسيمِ البدعة 5ـ مناقشة ثلاثة مبرراتٍ للتراويح من قِبَلِ النافينَ لتقسيمِ البِدعة |
نظرة
على الفصل الرابع
إنَّ من أهم التبريرات التي حاولها علماءُ (مدرسة الصحابة) توجيه صلاة (التراويح) هو القول بأنَّها بِدعةٌ حسنةٌ، وهذا يعني تقسيم (البِدعة) إلى مذمومة وحسنة، وكان تبريرُ (التراويح) هو الدافع الأساسي لهذا التقسيم.
وسوفُ نتناول خلال هذا الفصل هذا التبرير بالبحث والتحليل؛ فننظر في حجج القائلين بتقسيم البدعة، ونبطلها من خلال الأدلة القاطعة، فمفهوم البدعة أولاً: غير قابل للانقسام عقلاً لأنَّه كمفهوم الكذب على الله ورسوله، وثانياً: نستفيد نفي التقسيم من الحديث النبوي (كل بدعةٍ ضلالة)، وثالثاً: نستوحي عدم التقسيم من النصوص الشرعية، ورابعاً: نستوحي عدم التقسيم من استعمال المتشرعة للـ (البدعة) في خصوص الحادث المذموم، ومن خلال كلِّ ذلك نثبتُ أنهُ ليسَ للـ (البدعة) إلاّ معنىً واحد وهو الحادثُ المذموم.
ثمَّ ننتقلُ إلى النافينَ للتقسيم المزعوم، ونرى التبريرات التي قدموها لتوجيه مشروعية (التراويح)، فنتناولُ ثلاثة تبريرات منها، وهي محاولةٌ لابن تيمية، وثانيةٌ لأبي إسحاق الشاطبي، والثالثةُ لصالح الفوزان، فنتناولُ هذه المحاولات، ونفنِّدُها الواحدةَ بعد الأخرى، فيثبتُ لدينا بأنَّ تبريرَ (التراويح) بأنَّها بِدعةٌ حسنةٌ غيرُ مقبولٍ مطلقاً، فلا يبقى إلاّ أنَّها بدعةٌ محدثةٌ.
صلاةُ التراويح
(1)
دوافعُ القولِ بتقسيمِ البِدعة
بعدَ أن ثبتَ لنا عدمُ مشروعية صلاة (التراويح)، وأنَّها (بِدعة) دخيلةٌ على الشريعة الإسلامية، نحاولُ أن نتعرضَ لأهم المحاولات من قبل بعض علماءِ مدرسة الخلفاء لتبرير المواظبة عليها، والعملِ بها، على الرغم من عدم مشروعيتها، وهي المحاولةُ التي اعتبرت صلاةَ (التراويح) بِدعةً حسنة، من خلال تقسيم البِدعة إلى: بِدعةٍ مذمومة، وبِدعةٍ حسنة.
وسوف نرى حقيقةَ الأمر في هذا التقسيم المزعوم من خلال دراستنا لدوافع القول بتقسيم (البدعة).
لقد أخذَ مفهومُ (البِدعة) بعدَه الارتكازي المستفادَ من الشريعة في أذهان الأصحاب آنذاك، نتيجةً لتناول النصوص النبوية له بكثرةٍ وتكرار، وتأكيدها على ذم الابتداع، وانتقادها له بشدة، ودعوتها الى ضرورة مواجهته، ومكافحته، واستئصاله، وتنكيلها بالمبتدعين، ووعدهم بأشد وأقسى أنواع العقوبات الدنيويةِ والأخروية.
وشأنُ (البِدعة) في ذلك شأنُ المصطلحات الإسلامية المنقولةِ الأخرى، التي كانَت لها مداليلُ لغويّة معينة قبل النقل، وفي الاصطلاح اللغوي العام، إلاّ إنَّها استُعملت من قبل الشارع المقدس في معانٍ اصطلاحية جديدة، واتخذت طابعاً شرعياً محدّداً لا تربطُه مع المعنى السابق في مجالات الاستعمال، إلاّ تلك العلاقةُ التي جوَّزت عمليةَ النقل، ونتيجةً لكثرة استعمال هذهِ المصطلحات المنقولةِ الجديدة في حياةِ المسلمين في معانيها الشرعية، فقد بدأت الذهنيةُ المتشرعةُ تهجرُ تلكَ المعاني اللغويةَ القديمة، وتنصرفُ تلقائياً الى المعنى الاصطلاحي الشرعي من دون حاجةٍ الى ذكرِ القرائنِ والقيود.
فالصلاةُ، والزكاةُ، والحجُّ، والخمس.. وغيرُ ذلك من المصطلحات الشرعية الأخرى، قد خضعت لعملية النقل هذه، وأخذت بُعدَها الواضحَ في أذهان المسلمين، من خلال معانيها الشرعية الجديدة.
ومفهومُ (البِدعة) واحدٌ من تلك المفاهيم التي سلكت عينَ الطريق، وسارت في ذاتِ المسار الذي ضمَّ الأعدادَ الغفيرةَ من المنقولات.
ولم يكن ليشكَّ أحدٌ بعد عملية النقل هذهِ في دلالة لفظ (البِدعة) على الحادث المذموم، والممارسةِ المقيتة والمرفوضة في نظر الشريعةِ الإسلامية، ولم يكن ليترددَ شخصٌ في طبيعة الموردِ الذي يُستعملُ فيه هذا المفهوم، بعد هذا التداول المتكرر، والتأكيد الحثيث.
ولكنْ بعدَ أن وردَ لفظُ (البِدعة) في حديثِ صلاة (التراويح) بالذات، انقلبت تلكَ الموازينُ والأسسُ والمرتكزات، وتوقفَ إعمالُ القواعدِ العلمية التي يتمُّ بموجبها التعاملُ مع المواقف والأحداث، وقامت الدنيا ولم تقعد، من أجل تبرير إطلاق لفظ (البِدعة) على هذه الصلاة، وتوجيهِ معناها الجديد.
وتحيَّرَ القومُ في هذا الأمر.. فهم بين حشدٍ كبيرٍ من النصوص الصريحة التي تناولت هذا المفهومَ بالذم الواضح، والتقريع الصريح، والتي ما فتئت حيةً وساخنةً في وجدان المسلمين وقت إطلاق ذلك القول، وبينَ مقولة (نعمتِ البدعةُ هذهِ) التي عاكست ذلك الاتجاه، وسارت في طريقٍ مضادٍ له تماماً.
وكانَ أنْ تمخَّـضَ الحـلُّ في رأي هؤلاء المبررين والمـدافعين بتشطيرِ مفـهوم (البِدعة)، وتقسيمه إلى قسمين: بِدعة مذمومة، وهي التي تناولتها أحاديثُ الرسول الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) بالذم والانتقاد، وبِدعة ممدوحة، وهي التي يمكنُ أنْ تندرجَ تحتها صلاةُ التراويح، فيتوجه بذلك القولُ السابقُ المذكورُ في الحديث.
ولنحاول في البداية أن نتناولَ الأقوالَ التي نصَّت على تقسيم البِدعة، ثمَّ ننظر بعد ذلك في حقيقة هذا التقسيم.
(2)
معَ القائلينَ بتقسيمِ البِدعة
أرجو من القارئ الكريم أنْ يركِّزَ عند مطالعة الأقوال التالية على نقطة مهمةٍ جداً في التقسيم، وهي بناءُ التقسيمات المزعومة على أساسٍ واحد، وهو عبارةٌ عن مقولة (نعمتِ البدعةُ هذهِ)، وانطلاقُها من هذا الاتجاه.
وأهم هذهِ الأقوال هي:
1ـ الشافعي:
روى (البيهقي) بإسناده عن (الشافعي) أنَّه قالَ:
(المحدثاتُ من الأمورِ ضربان: أحدُهما ما أُحدث مما يخالفُ كتاباً، أو سُنَّة، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه البِدعةُ الضلالة، والثاني ما أُحدثَ من الخير، لا خلافَ فيه لواحدٍ من العلماء، وهذه محدثةٌ غيرُ مذمومة، وقالَ عمر رضيَ اللهُ عنه في قيام شهر رمضان: نعمتِ البدعةُ هذهِ)(1) .
وقالَ الربيعُ معقّباً على ذلك:
(وقد استندَ في كلا التعبيرينِ إلى قولِ عمر رضيَ اللهُ عنه في صلاة التراويح: نعمتِ البدعةُ هذهِ)(2) .
____________
(1) النووي، تهذيب الأسماء واللغات، قسم اللغات، ج: 1، ص: 23. وانظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: 13، ص: 253. (2) حوّى، سعيد، الأساس في السُنَّة وفقهها (العقائد الإسلامية)، ص: 359.
2ـ ابن حزم:
يقولُ (ابنُ حزم) بصدد التقسيم:
(البِدعةُ في الدين: كلُّ ما لم يأتِ في القرآن، ولا عن رسولِ اللّه، إلاّ أنَّ منها ما يؤجرُ عليه صاحبُه، ويُعذرُ بما قصدَ إليه من الخير، ومنها ما يُؤجرُ عليه صاحبُه، ويكونُ حسناً، وهو ما كانَ أصلُه الإباحة، كما رُوي عن عمر رضيَ اللهُ عنه: نعمتِ البدعةُ هذهِ)(1) .
3ـ ابن الأثير:
يقولُ (ابنُ الأثير) في (جامع الأصول) عن هذا التقسيم:
(فأمّا الابتداع من المخلوقين، فإنْ كانَ في خلاف ما أمرَ اللّهُ به ورسولُه، فهو في حيِّز الذم والإنكار، وانْ كانَ واقعاً تحت عموم ما ندب اللّهُ إليه، وحضِّ عليه، أو رسولُه، فهو في حيِّز المدح، وان لم يكنْ مثالُه موجوداً، كنوعٍ من الجود، والسخاء، وفعل المعروف... ويعضدُ ذلكَ قولُ عمر بن الخطاب رضيَ اللهُ عنه في صلاة التراويح: نعمتِ البدعةُ هذهِ)(2) .
4ـ الجاكمودي:
يقولُ (الجاكمودي) في قصيدة له:
فبِدعةٌ فعلُكَ ما لم يُعهد***في عهدِ سيِّد الورى محمّد
قد قُسّمت كالخمسةِ الأحكام***من الوجوب الندبِ والحرام
____________
(1) حوّى، سعيد، الأساس في السُنَّة وفقهها (العقائد الإسلامية)، ص: 359. (2) ابن الأثير، جامع الأصول في أحاديث الرسول، ج: 1، ص: 280 - 281.
كذاك مكروهٌ وجائزٌ تمام***قد قالَه عزُّ بنُ عابد السلام
فكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ حُمِل***على التي قد حُرِّمت فقط نُقل
من بدعٍ واجبةٍ تعلّمُ***النحو إذ به الكتاب يُفهمُ
ومثّلوا الحرامَ في المكاتب***كالقدرية من المذاهب
وإنما زخرفةُ المساجد***من بدعٍ مكروهةٍ للعابد
ومثّلوا المندوب كاجتماع***عند التراويح بلا نزاعِ (1)
5ـ عز الدين بنُ عبد السلام:
وقد بالغَ (ابنُ عبد السلام) في تقسيم (البِدعة)، وسحب عليها الأحكامَ الشرعيةَ الخمسة، وهو الذي قصده (الجاكمودي) في أبياته المتقدمة، فيقولُ في أواخر (القواعد):
(البِدعةُ: خمسةُ أقسام:
فالواجبةُ: كالإشتغال بالنحو الذي يُفهمُ به كلامُ اللّه ورسولِه؛ لأنَّ حفظَ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك، فيكونُ من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب، وتدوين أُصول الفقه، والتوصل إلى تمييزِ الصحيح والسقيم. والمحرَّمةُ: ما رتَّبَه مَن خالف السُنَّة من القدرية، والمرجئة، والمشبهة.
والمندوبةُ: كلُّ إحسانٍ لم يُعهد عينُه في العهد النبوي، كالاجتماع على التراويح، وبناء المدارس والربط، والكلام في التصوف المحمود، وعقد مجالسِ المناظرة، إن أُريدَ بذلكَ وجهُ اللّه.
____________
(1) بارو، محمد بن أبي بكر، تنبيه المنتقد للاحتفالات بليلة المولد، ص: 31.
والمباحةُ: كالمصافحة عقب صلاة الصبحِ والعصر، والتوسع في المستلذات من أكلٍ، وشرب، وملبس، ومسكن، وقد يكونُ ذلكَ مكروهاً، أو خلافَ الأولى، واللّهُ أعلم)(1) .
6ـ الغزالي:
يقولُ (الغزالي) في (الإحياء) بصدد الأكل على السفرة ما يُستفاد منه تبنّيه للتقسيم المذكور:
(وقيلَ: أربع أُحدثت بعدَ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: الموائدُ، والمناحلُ، والأشنانُ، والشبعُ، واعلم أنّا وإنْ قلنا الأكل على السفرة أولى، فلسنا نقولُ الأكل على المائدة منهيٌّ عنه نهيَ كراهة أو تحريم، إذ لم يثبت فيه نهي. ما يُقالَ أنَّه أُبدعَ بعد رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فليس كل ما أُبدع منهياً عنه، بل المنهيُّ عنه بِدعةٌ تُضادُّ سُنَّة ثابتة، وترفعُ أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداعُ، قد يجبُ في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب)(2) .
7ـ عبد الحق الدهولي:
يقولُ (الدهلوي) في (شرح المشكاة) مصرحاً بالتقسيم:
____________
(1) النووي، تهذيب الأسماء واللغات، ص: 22 - 23، وانظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 13، ص: 254. (2) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، ج: 2، كتاب آداب الأكل، الباب: الأول، ص: 4 - 5.
(اعلم أنَّ كلَّ ما ظهرَ بعدَ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِدعةٌ، وكلَّ ما وافق أُصولَ سُنَّته وقواعدها، أو قيس عليها فهو بِدعةٌ حسنة، وكلَّ ما خالفها فهو بِدعةٌ سيئة وضلالة)(1) .
وقد آلت النوبةُ إلى الكتب اللغوية التي يُفترض بها أن تكونَ في غاية الدقة، والإتقان، والأمانة؛ لتعتمدَ تقسيمَ (البِدعة) الآنف الذكر ضمن تعريفها، ومن هذه الكتب (المصباحُ المنير)(2) ، و(تهذيبُ الأسماء واللغات)(3) .
وأمّا (ابنُ الأثير) في كتابه (النهاية)(4) فقد استندَ إلى مقولة (عمر) بشأن (التراويح) بشكلٍ صريح، وأصبحَ تعريفُه لـ (لبِدعة) هذا أساساً اعتمدت عليه كتبٌ لغويةٌ أخرى.
يقولُ (ابنُ الأثير) في (النهاية):
(وفي حديثِ عمر رضيَ اللهُ عنه في قيام رمضان: نعمتِ البدعةُ هذهِ. البِدعةُ بدعتان: بِدعةُ هدى، وبِدعةُ ضلال، فما كانَ في خلاف ما أمرَ اللّهُ به ورسولُه صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فهو في حيِّز الذم والإنكار، وما كانَ واقعاً تحت عموم ما ندبَ اللّهُ إليه، وحضَّ عليه اللّهُ، أو رسولُه، فهو في حيِّز المدح، وما لم يكن له مثالٌ موجود، كنوعٍ من الجود، والسخاء، وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة... ومن هذا النوع قولُ عمر رضيَ اللهُ عنه: نعمتِ البدعةُ هذهِ، لما كانَت من أفعال الخير، وداخلةً في حيِّز المدح سمّاها بِدعةً، ومدحها؛ لأنَّ النبي صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم
____________
(1) حوّى، سعيد، الأساس في السُنَّة وفقهها (العقائد الإسلامية)، ص 360، عن الجزء الأول من كتاب كشاف اصطلاحات الفنون. (2) الفيّومي، المصباح المنير، ص: 38. (3) النووي، تهذيب الأسماء واللغات، ج: 1، ص: 22. (4) كتاب (النهاية) من الكتب التي تناولت غريب الحديث، وقد تناول المعاني اللغوية ضمناً.
يسنَّها لهم، وإنَّما صلاّها لياليَ ثمَّ تركها(1) ، ولم يحافظ عليها، ولا جمعَ الناسَ لها، ولا كانَت في زمن أبي بكر، وإنَّما عمر رضيَ اللهُ عنه جمعَ الناس عليها، وندبَهم إليها، فبهذا سمّاها بِدعة)(2) .
وقد أصبح تقسيمُ (ابن الأثير) للـ (البِدعة) في هذا الكلام الى: مذمومة وممدوحة أساساً تناقلته كتبٌ لغوية أُخرى، وجعلته أحدَ الآراء المعتبرة للمعنى الشرعي لها، من دون أن تتبناه.
ومن تلك الكتب (لسانُ العرب) لـ (ابن منظور)، حيثُ نقلَ كلامَ (ابن الأثير) هذا بتمامه، ونسبَه إليه من دون تعليق(3) .
كما نقله بتمامه أيضاً صاحبُ (تاج العروس)، ونسبَه إلى قائله(4) .
ونقل بعضَه أيضاً (الطريحي) في (مجمع البحرين)، ولم يصرّح باسم قائله(5) .
وسارت على منهج تقسيم البِدعة (دائرةُ المعارف الإسلامية)(6) ،و (دائرةُ معارف القرن العشرين)(7) .
ونحنُ لا نريدُ أن نسجّلَ ملاحظةً على هذه النقولات، وعلى هذا التسامح في طريقة عرض الآراء، بغثّها وسمينها، أكثر من أن نقول بأنَّ للإنسان أنْ يركنَ الى هذهِ
____________
(1) قوله: وإنما صلاها ليالي ثمَّ تركها... لا يصح؛ لأنه لو فعلها مرة لكانَت سُنَّة، وخرجت عن كونها بِدعة، ولكانَ استدل بذلك من أمر بها. وسيأتي توضيح هذا المطلب فيما بعد إن شاء اللّه تعالى. (2) ابن الأثير، النهاية، ج 1، ص: 106 - 107. (3) ابن منظور، لسان العرب، ج: 8، ص: 706. (4) الحنفي، محب الدين، تاج العروس في جواهر القاموس: ج: 5، ص: 280. (5) الطريحي، مجمع البحرين، ج: 4، ص: 298 - 299. (6) دائرة المعارف الإسلامية: ج: 3، ص: 456 (7) وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، ج: 2، ص: 77.
الكتب في مجال تخصصاتها اللغوية، باعتبار انَّها أسفارٌ علميةٌ معتبرة، وخصوصاً الكتب اللغوية المشهورة منها، ولا كلام لنا في ذلك، إلا انَّه من غير الصحيح أن ينساق المرءُ مع كل ما يُطرح في هذهِ الكتب، على مستوى تقرير المعاني الاصطلاحيةِ للألفاظ، ويتلقاها من دون تثبُّت، وإمعان نظر؛ وذلك لما ثبت عن طريق التتبعِ والاستقراء، من عدم توفر الدقة الكافية في تحقيق هذهِ المعاني الاصطلاحية، والتي قد لا تُضبطُ بشكل كامل ودقيق حتى من قبل أصحاب الفن أنفسهم، ومن جهةِ خروج هذا المطلب عن أصل التخصص الذي يدور حولَه البحث في مثل هذهِ المصنّفات.
(3)
بطلان القولِ بتقسيمِ البِدعة
وبعد هذه الجولة السريعة في مجمل الآراء التي تعرضت لتقسيم (البِدعة) الى مذمومة وممدوحة، وملاحظة الخلفيات التي دعت الى القول بهذا التقسيم، من خلال صراحة النصوص المتقدمة، واعتمادها بشكل واضحٍ على مقولة: (نعمتِ البدعةُ هذهِ)، فسوف نذكرُ أدلتنا على بطلان القول بتقسيم البِدعة الى مذمومة وممدوحة، أو الى الأحكام الخمسة التي ادُّعيت في بعض الكلمات، ثمَّ نتعرضُ بعد إتمام ذلك الى أقوال النافين للتقسيم من أعلام الفريقين.
وقبل أن نستعرضَ أدلةَ نفي التقسيم، يجدرُ بنا أن نشيرَ الى أنَّ القول بتقسيم (البِدعة) يستندُ أساساً على الخلط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم.
فإنّا لو كنّا مع مفهوم (البِدعة) بمعناها المجرّد عن مراد الشريعة وقصدها، فإنها تعني: الأمر المحدث الذي ليس له سابق مثال، وهذا المعنى يتحملُ أن يكونَ مذموماً، وأن يكون ممدوحاً، لأنَّ هناك أُموراً كثيرة تحدثُ وتُبتدعُ بعد عصر التشريع، مما لم تنلها الأحكام، والأدلةُ الخاصة، فتتصفُ بالمدح تارةً، وبالذم أُخرى، بل يمكنُ أن تتصفَ بالعناوين الشرعية الخمسة أيضاً.
ولكن بعدَ أن تضيَّقت دائرةُ دلالة هذا المفهوم، وأصبحَ شاملاً لخصوص الأمر المحدث الذي يُدخَلُ في الدين من دون أن يكونَ له أصلٌ شرعي فيه، فلا يمكن حينئذٍ أن نتصورَ له قسماً ممدوحاً بشكل مطلق، وأمّا أدلةُ نفي التقسيم فهي:
الدليل الأول
المعنى الشرعي للبِدعة لا يقبل الانقسام عقلاً
إن الضرورةَ العقلية تقضي وتحكم بعدم إمكانية عروض التقسيم على مفهوم (البِدعة)، فمن خلال التدقيق في المعنى الاصطلاحي الوارد لتحديد مفهوم (البِدعة) في النصوص الشرعية، نلاحظُ أن هذا المفهوم غيرَ قابل للتقسيم بحد ذاته أصلاً، ولا يمكنُ أن يعتريه أيُّ استثناءٍ أو استدراكٍ أساساً، إذ أنَّ معنى (البِدعة) في الاصطلاح الشرعي هو: (إدخال ما ليس من الدين فيه)، وهذا يعني أنَّ (البِدعة) تشريعٌ بشريٌّ وضعي ينصبُ نفسه في مقابل التشريع الإلهي المقدّس، ويضاهي السُنَّة الشريفة، ويتحدى تعاليمَ السماء، فهل يُعقل أن نتصورَ قسماً ممدوحاً لمثل هذا اللون من الإدخال؟ وهل يمكنُ أن يتصفَ مثل هذا التشريع بالمدح والإطراء؟! أو أن يتصفَ بواحدٍ من الأحكام الشرعية الخمسة غير التحريم المطلق؟
إنَّ شأنَ الابتداع في المصطلح الشرعي شأنُ الكذبِ على اللّه ورسولِه، أفهل يُعقل أنْ يكونَ هناك قسمٌ ممدوح لهذا اللون من الكذب؟ وهل يقولُ أحدٌ بأنَّ هناك كذباً وافتراءاً على اللّه (جلَّ وعلا) ورسولِه الأمين (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) يتصفُ بالمدح، أو الإباحة، أو حتى بالكراهة والعياذُ باللّه؟
الدليل الثاني
حديث (كلّ بِدعةٍ ضلالة) ينافي التقسيم
وردَ في الحديث المتفق عليه بين الفريقين أنَّ النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قالَ:
(ألا وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ، ألا وكلُّ ضلالةٍ في النار)(1) .
ووردَ بلفظ:
(فإنَّ كلَّ بِدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة تسيرُ الى النار)(2) .
فدلالةُ هذا الحديث على استيعاب جميع أنواعِ البدع بالذم والضلال، لا تحتاجُ منّا إلى مزيد بيان، ولا تقبلُ الجدل والإنكار.
____________
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، كتاب العلم، باب: 32، ح: 12، ص: 263. (2) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1113، ص: 221.
الدليل الثالث
النصوص الشرعية تنافي تقسيم البِدعة
إنَّ اللغةَ التي تحدثت بها النصوصُ الشرعية حول مفهوم (البِدعة) تأبى التقسيمَ المذكور أيضاً؛ فقد جعلت هذهِ النصوصُ المستفيضة من (البِدعة) ندّاً مقابلاً للسُنَّة، وضدّاً لا يلتقي معها أبداً، وذمَّت المبتدع، وأكالت له أنواعَ الذم، والتوبيخ، والتقريع، وأوعدت بعذاب المبتدع بأقسى أنواع العقوبات الدنيوية، والأُخروية، ودعت الى مقاطعته، وهجرانه، وأطلقت القول بعدم قبول توبته... فكيف يمكنُ مع كل هذا أن يكونَ هناك قسمٌ ممدوحٌ للابتداع؟ وكيف يمكنُ لهذا القسم أن يتخطى هذا الحجمَ الغفيرَ من النصوص الصريحة، ويحيدَ عنها نحو اتجاه آخر، لا أثرَ له ولا دليلَ عليه؟
كما أنَّ الموردَ الوحيدَ الذي تناولته النصوصُ الشرعيةُ المتقدمة على اختلاف مضامينها، وتنوعِ مداليلها، هو المورد المذموم، الذي يُعدُّ (البِدعةَ) خصوصَ الأمر الحادث الذي يقابلُ الكتابَ، والسُنَّة، والتشريعَ الإلهي المقطوع؛ وبهذا فقد تعرض هذا الموردُ إلى الذم والانتقاد الشديد، ولو كانَ هناك نحوٌ من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة، وحتى لو كانَت تلك المواردُ المستثناة مواردَ جزئيةً ومحدودة، لما كانَ بوسع الشريعة المقدسة أنْ تتجاهلها، وتغضَّ النظرَ عنها بشكلٍ من الأشكال، في الوقت الذي نترقبُ حصولَ مثل هذا الاستثناء من قبل الشريعة، فيما لو وُجد أمرٌ من هذا القبيل، باعتبار أن لسانَ بيان التشريع يتحدثُ من موقع استيفاء جميع شؤون الأحكام والتعاليم.
فمفهومُ (الكذب) مثلاً، وردَت في شأنه نصوصٌ صريحة وقاطعة، تناولته بالذم الشديد، حتى أصبحَ الإيمانُ بقبحه من مسلمات الاعتقاد، وضروريات الدين، إلاّ أنَّ الشريعةَ لم تتجاهل في نفس الوقت بعضَ الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم، ولا
تسير في نفس الاتجاه الأصلي المذكور، وإنَّما نرى أنَّ هناك نصوصاً شرعية مماثلة في الصراحة، وقوة الدلالة على استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم، إذ قد يخرج من دائرة التحريم إلى دائرة الوجوب، فيما لو توقّف عليه حفظُ نفسٍ مؤمنةٍ من القتل والهلاك مثلاً.
ومفهومُ (الغيبة) كذلك، يخضعُ لنفس التعامل الذي صدر من الشريعة بشأن الكذب، فهو مذموم ممقوت في نظر الشريعة، ويُعدُّ من كبائرِ الذنوب، إلاّ أنَّ هناك موارد ذكرتها النصوصُ الإسلامية تحت عنوان (جواز الاغتياب)، يتم الانتقالُ بموجبها من الحكم الأولي بالتحريم، إلى أحكام أُخرى كالجواز مثلاً، فيما لو كانَ المغتاب متجاهراً بالفسق، ومعلناً له مثلاً.
وهكذا الأمرُ في الكثير من المفاهيم الإسلامية المذمومة الأخرى، حيثُ يردُ الاستثناءُ صريحاً فيها، فتتحولُ بواسطة هذا الاستثناء من الحكم الأولي المحرَّم، إلى أحكامٍ ثانوية أخرى، كالإباحة، أو الندب، أو الوجوب، أو الكراهة، بحسب مقدار دائرة وحدود ذلك الاستثناء، ونوع القيود التي وضعتها الشريعةُ له.
وما دمنا نتفقُ على أنَّه لا يوجد أيُّ لونٍ من ألوان الاستثناء الشرعي الصريح في خصوص الأدلة التي تناولت بأجمعها ذم الابتداع وانتقاده الشديد، وما دام لا يمكن لأيِّ أحد أن يّدعي ذلك، وحتى أُولئك الذين يقولُون بالتقسيم، إذ أنَّهم لا يبنونه على أساسِ النص الشرعي الصريح وإنَّما على التنظير العقلي المحض، أو على استفادات بعيدةِ المنال من بعض النصوص الشرعية... فما دمنا نتفقُ على ذلك، فلا بدَّ أن نتفقَ أيضاً على أنَ مفهومَ (البِدعة) لا يمتلكُ إلا قسماً واحداً مذموماً، ولو وُجد لهذا المفهوم قسمٌ آخرُ ممدوح؛ لأعربت عنه الشريعة، ولما تجاهلته وأهملته، كما هو الشأن في جميع المفردات التشريعية الأخرى.
إذنْ فكلمةُ (البِدعة) في الاصطلاح الشرعي لم تُستعمل إلا مذمومةً، والرواياتُ الواردة عن النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وأهلِ بيته (عَليهمُ السلامُ) تصلُ في كثرتها إلى حدِّ الاستفاضة في هذا النحو من الاستعمال.
ولكي نؤكدَ استعمال لفظ (البِدعة) في خصوص الحادث المذموم من قبل الشريعة الإسلامية، نوردُ جانباً من هذه الاستعمالات ضمنَ عناوين متعددة:
البِدعة: تقابل السُنَّة
وردَ عن رسولِ اللّهِ (صَلى اللّهُ عَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ:
(لا يذهبُ من السُنَّة شيءٌ، حتى يظهرَ من البِدعة مثلُه، حتى تذهبَ السُنَّةُ، وتظهرَ البِدعةُ، حتى يستوفي البِدعة مَن لا يعرف السُنَّة، فمن أحيى ميتاً من سنتي قد أُميتت، كانَ له أجرُها، وأجرُ مَن عملَ بها، من غير أنْ ينقصَ من أُجورهم شيئاً، ومَن أبدَعَ بِدعةً، كانَ عليه وزرُها، ووزرُ مَن عملَ، بها لا ينقصُ من أوزارهم شيئاً)(1) .
وعنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنه قالَ:
(أيُّها الناسُ، إنّه لا نبيَّ بعدي، ولا سُنَّةَ بعدَ سُنَّتي، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعتُه في النار)(2) .
وسأل رجلٌ الامامَ علياً (عَليهِ السلامُ) عن (السُنَّة)، و(البِدعة)، و(الفرقة)، و(الجماعة)، فقالَ:
____________
(1) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1119، ص: 222. (2) المفيد، محمد بن النعمان، أمالي الشيخ المفيد، ص: 53.
(أمّا السُنَّة: فسُنَّةُ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، وأما البِدعةُ: فما خالفها، وأمّا الفرقةُ، فأهلُ الباطل وإن كثروا، وأمّا الجماعةُ، فأهلُ الحق وإن قلّوا)(1) .
وعنه (عَليهِ السلامُ) أنَّه قالَ:
(ما أحدٌ ابتدعَ بِدعةً إلاّ تركَ بها سُنَّة)(2) .
البِدعة: تعني الغشَّ والضَّلال
وردَ عن رسولِ الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قالَ:
ـ (من غشَّ من أُمتي، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين.
قالَوا:
ـ يارسولَ الله! وما الغشُّ؟ فقالَ:
ـ أنْ يبتدعَ لهم بِدعةً فيعملوا بها)(3) .
وعنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):
(إنَّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرُ الهَدي هديُّ محمد، وشرُ الأُمور محدثاتُها، وكلُّ محدثةٍ بِدعة، وكلُّ بِدعة ضلالة)(4) .
البِدعة: أدنى مراتبِ الكفرِ والشرك
وردَ عن (الحلبي) أنَّه قالَ:
____________
(1) الحرّاني، تحف العقول، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، ص: 211. (2) الكليني، محمد بن يعقوب، الأصول من الكافي، ج: 1، باب: البدع والرأي والمقائيس، ح: 19، ص: 58. (3) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1118، ص: 222. (4) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، كتاب العلم، باب: 32، ح: 12، ص: 263.
(قلتُ لأبي عبد اللّه (عَليهِ السلامُ):
ـ ما أدنى ما يكونُ به العبدُ كافراً؟ فقالَ:
ـ أنْ يبتدعَ شيئاً فيتولى عليه، ويبرأَ ممن خالفَه)(1) .
وقالَ أبو جعفر الباقرُ (عَليهِ السلامُ):
(أدنى الشرك أنْ يبتدعَ الرجلُ رأياً، فيحبُّ عليه ويبغض)(2) .
البِدعة: موارد وتطبيقات
وردَت في النصوص الإسلامية عدةُ تطبيقات للـ (البِدعة) على خصوص الحادث المذموم، والتي كانَت تجسِّدُ بوضوح اختصاصَ (البِدعة) بهذا المعنى الاصطلاحي وحسب، كما وردَ أيضاً نفي (البِدعة) عن موارد أُخرى هي من صلب التشريع.
وسوف نستعرضُ أمثلةً تاريخية لكلا القسمين؛ لكي نتمكنَ من خلال ذلك أخذَ صورةٍ واقعية عن طبيعة هذهِ التطبيقات، والحدودِ التي تمَّت فيها.
فأمّا المواردُ التي وردَ فيها تطبيقُ معنى الابتداع فهي كثيرة، سوف ننتخبُ للقارئ الكريم بعضَ النماذجَ البارزةَ لها.
أولاً: طبَّقَ رسولُ اللّهِ (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) كلمةَ (البِدعة) على عملية إكراه الناس للدخول في الإسلام، حيثُ إنَّ اللّه تعالى لم يأمر بذلك، فيكون تطبيقاً لما ليسَ له أصلٌ في الدين، فقد وردَ عن علي (عَليهِ السلامُ) أنَّه قالَ:
(إنَّ المسلمينَ قالَوا لرسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ:
____________
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، باب: 34، ح: 33، ص: 301. (2) الصدوق، أبو جعفر، ثواب الأعمال وعقابها، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ص: 587، ح: 3.
ـ لو أكرهتَ يا رسولَ اللّهِ مَن قدرتَ عليه من الناس على الإسلام، لكثُرَ عددُنا، وقوينا على عدوِّنا، فقالَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ:
ـ ما كنتُ لألقى اللّهَ عزَّ وجلَّ ببِدعةٍ لم يُحدث إليَّ فيها شيئاً، وما أنا من المتكلفين.
فأنزل اللّهُ عزَّ وجلَّ عليه:
ـ يا محمَّد، (وَلَو شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهم جَميعاً)(1) على سبيل الإلجاءِ والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنونَ عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلتُ ذلك بهم لم يستحقّوا مني ثواباً ولا مدحاً، لكنّي أُريدُ منهم أن يؤمنوا مختارينَ غيرَ مضطرين، ليستحقّوا منّي الزلفى والكرامةَ ودوامَ الخلود في جنَّة الخُلد: أَفَأَنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتى يَكُونُوا مُؤمِنيِنَ)(2) .
ثانياً: طبَّقَ رسولُ اللّه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) كلمةَ (البِدعة) على قيام نافلة شهر رمضان جماعةً في لياليه، وهي المسماة بصلاة (التراويح)، وطبقها كذلك على صلاة (الضحى)، باعتبار أنَّه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) لم يشرع ذلك للمسلمين، بل قد وردَ عنه (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) النهي عن ذلك، فقد وردَ عن أبي عبد اللّه الصادق (عَليهِ السلامُ) أنَّه قالَ:
(صومُ شهرِ رمضانَ فريضةٌ، والقيامُ في جماعةٍ في ليلته بِدعةٌ، وما صلاّها رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في لياليه بجماعة، ولو كانَ خيراً ما تركه، وقد صلّى في بعض ليالي شهر
____________
(1) يونس / 99. (2) الصدوق، أبو جعفر، التوحيد، باب: 55، ح: 11، ص: 342.
رمضان وحدَه، فقامَ قومٌ خلفه، فلما أحسَّ بهم دَخَلَ بيتَه، فَعَلَ ذلكَ ثلاثَ ليالٍ، فلما أصبحَ بعد ثلاث صعدَ المنبرَ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمَّ قالَ:
ـ أيُّها الناسُ، لا تصلّوا النافلةَ ليلاً في شهرِ رمضان، ولا في غيرِه، فإنَّها بِدعةٌ، ولا تصلّوا الضحى، فإنَّها بِدعةٌ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ سبيلها إلى النار، ثمَّ نزلَ وهو يقولُ: قليلٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من كثيرٍ في بِدعةٍ)(1) .
ثالثاً: طُبقت كلمةُ (البِدعة) على قول المؤذِّن (الصلاةُ خيرٌ من النوم)، وعدِّهِ جزءاً من الأذان الشرعي، وذلك باعتبار أنَّ هذا القول ليس له أصلٌ في الدين، فقد وردَ عن أبي الحسن (عَليهِ السلامُ) أنَّه قالَ:
(الصلاةُ خيرٌ من النوم بِدعةُ بني أُمية، وليسَ ذلكَ من أصل الأذان، ولا بأسَ إذا أرادَ الرجلُ أنْ ينبِّه الناسَ للصلاة أنْ يناديَ بذلك، ولا يجعله من أصلِ الأذان، فإنّا لا نراه أذاناً)(2) .
رابعاً: طُبقت كلمةُ (البِدعة) على (الأذان الثالث يوم الجمعة) الذي أحدثه (عثمانُ بن عفان)، ولم يكن له أيةُ صلة بالتشريع، فقد وردَ عن أبي جعفرٍٍ (عَليهِ السلامُ) أنَّه قالَ:
(الأذان الثالث يومَ الجمعةِ بِدعة)(3) .
____________
(1) الصدوق، أبو جعفر، التوحيد، باب: 55، ح: 11، ص: 342. (2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار ج: 81، باب: 13، ح: 76، ص: 172. (3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 80، باب: 10، ح: 26، ص: 114، عن الكافي 3 / 421 والتهذيب 1/250.
هذا بالنسبة إلى تطبيق (البِدعة) على بعض الموارد البارزة لها في لسان الروايات، كما جاءَ أيضاً نفي الابتداع عن موارد أُخرى لعدم انطباق حدود المفهوم عليها، ولما تمتلكه من أُصولٍ دينية مشروعة، فمن تلكَ الموارد:
أولاً: نُفي الابتداع عن (سجدة الشكر) بعد الفريضة باعتبار ارتباط هذا العمل بالدين، ووجود أصلٍ له فيه، فقد سألَ (محمدُ بن عبد اللّه الحميري) من محمد المهدي صاحب الزمان (عَليهِ السلامُ) عن (سجدةِ الشكر) بعد الفريضة: هل يجوزُ أن يسجدَها الرجلُ بعد الفريضة، فإنَّ بعضَ أصحابنا ذكرَ أنَّها (بِدعة)؟ فأجابَ (عَليهِ السلامُ):
(سجدةُ الشكر من ألزمَ السُّننِ وأوجبها، ولم يقل إن هذهِ السجدة بِدعةٌ إلاّ مَن أرادَ أنْ يُحدثَ في دين اللّهِ بِدعةً)(1) .
ثانياً: نُفي الابتداع عن إظهار (البسملة)، باعتبار وجودِ أصلٍ لها في التشريع، فعن (خالد بن المختار) قالَ: سمعتُ جعفرَ بنَ محمد (عَليهِ السلامُ) يقولُ:
(ما لهم قاتلهم اللّهُ عَمَدوا إلى أعظمِ آيةٍ في كتابِ اللّهِ فزَعموا أنَّها بِدعةٌ إذا أظهروها، وهيَ بسمِ اللّهِ الرحمنِ الرحيمِ)(2) .
والمهم في الأمر أنَّ الاستقراءَ والتتبع لهذه الأحاديث، يوقفُنا على النتيجة على التي انتهينا إليها، وهي أنَّ (البِدعة) لم تُستعمل في اصطلاح الشارع إلاّ مذمومةً.
____________
(1) الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج، ج: 2، ص: 576. (2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 82، كتاب الصلاة، باب: 23، ح: 10، ص: 21، عن تفسير العياشي 1/21.
مناقشتانِ حولَ النصوصِ الدالةِ على عدمِ التقسيم
من المناسب في المقام أنْ نتعرضَ لذكر مناقشتين ذكرَهما أنصارُ القول بتقسيم (البِدعة) حول ما قررناه من النصوص الشرعية بهذا البيان، لكي يستوفيَ المطلبُ حقَّه من البحث والتحليل.
المناقشة الأولى:
ربما يُعترضُ على ما قررناه من بيان: بأنَّ (البِدعة) قد وردَت مقيَّدةً بقيد (الضلالة) في بعض الأحاديث، وهذا يعني وجودَ قسمٍ آخرَ لها لا يتصفُ بالضلالة، فقد وردَ في الحديث أنَّ النبي (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) قالَ لبلال بن الحارث:
ـ (اعلمْ! قالَ:
ـ ما أعلمُ يا رسولَ اللّهِ؟، قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
ـ اعلمْ يا بلالُ! قالَ:
ـ وما أعلمُ يا رسولَ اللّهِ؟، قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
ـ إنَّه مَن أحيى سُنَّةً من سُنَّتي قد أُميتت بعدي، فإنَّ له من الأجر مثلَ مَن عملَ بها، من غير أنْ ينقصَ من أُجورهم شيئاً، ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالةٍ، لا تُرضي اللّهَ ورسولَه، كانَ عليهِ مثلُ آثامِ مَن عملَ بها، لا ينقصُ ذلك من أوزارِ الناسِ شيئاً)(1) .
فقيدُ (الضلالة) كما يدّعي هؤلاءِ المقسِّمون في قوله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالةٍ)، يفيدُ في مفهومه أنَّ هناكَ لوناً من البدع لا يتصفُ بالضلالة، وإلاّ فما هي فائدةُ ذكرِ القيد في الحديث؟
____________
(1) الدارمي، سنن الدارمي، ج: 5، كتاب العلم، باب: 16، ح: 2677، ص: 44.
والجوابُ على ذلك أنّا لو سلَّمنا صحةَ هذا الحديث، فإنَّ منطوقَ قول النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (كلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ) الدال على الاستيعاب والعموم بالأداة (كل) يفسرُ المفهومَ المستفاد من (بِدعةِ ضلالةٍ) ويتقدمُ عليه. فمثلاً لو قيلَ: (كلُّ نميمةٍ سوءٌ)، ثمَّ قيلَ (مَن نمَّ نميمة سوءٍ)، فهذا يعني ملازمةَ صفة (السوء) للنميمة، بعد استيعابها بالأداة (كل)، وليسَ فيه أي إيحاء بأنَّ هناك نميمة حسنة في المقابل، هذا أولاً.
وثانياً: إنَّ مثل هذا مثل المفهوم غيرُ ثابت عند أهل التحقيق والنظر من علماء الفريقين، ولو سلَّمنا ثبوتَه فإنَّه لا ينفعُنا في المقام شيئاً؛ لأنَّ الأدلةَ الصريحة والمستفيضة قد دلَّت بصراحةٍ وبشكلٍ مطلق على لزوم الضلالة للبِدعة من دون انفكاك، فيكون القيدُ في هذا الحديث، من قبيل القيدِ في قوله تعالى:
(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا الرِّبا أَضعافاً مُّضاعَفَةً)(1) .
فأكلُ الربا يبقى حراماً وإن وُصفَ بكونه (أضعافاً مضاعفةً)، ولا يعني أنَّه إذا لم يكن (أضعافاً مضاعفةً) فإنَّه جائزٌ أوممدوح.
المناقشة الثانية:
كما قد يُعترض على ما تقررَ من أنَّ (البِدعة) في الاصطلاح الشرعي لم تُستعمل إلاّ مذمومةً، ولم تُطلق إلاّ على خصوص الحادث المذموم، بورود الاستثناءِ المستفادِ من قوله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) في الحديث الشريف:
(عملٌ قليلٌ في سُنَّةٍ، خيرٌ من عملٍ كثيرٍ في بِدعة)(2) .
____________
(1) آل عمران: 130. (2) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1096، ص: 219.
فيدلُّ الحديثُ كما يُدَّعى على المفاضلة بينَ قليل (السُنَّة) وكثيرِ (البِدعة)، وهذا يعني أنَّ لكثير (البِدعة) نحواً من القبول والصحة، وإلاّ لما وقعت هذه المفاضلةُ المذكورة.
وفي الحقيقة أنَّ مَن له أدنى اطلاع على طبيعة الخطابات الشرعية، ومَن يمتلكُ ولو مقداراً يسيراً من التعامل والتماسِّ مع النصوص الإسلامية، يدركُ بأنَّ المقصودَ من الحديث هنا مجاراةَ الخصم ومسايرته، أي: (لو كانَ في البِدعة خيرٌ، فقليلُ السُنَّة خيرٌ من كثير البِدعة) فالبِدعةُ لا خيرَ فيها مطلقاً، وبعبارةٍ أُخرى: (إنَّ الإنسانَ لو كانَ ملتزماً بسننٍ قليلةٍ محدودةٍ تقعُ مورداً للقبول، فهو خيرٌ له من المواظبة على بدعٍ كثيرةٍ متعددة لأنَّها باطلة).
ويمكنُ إيضاحُ الخطاب بالمثال التالي: (عملٌ قليلٌ مع الإخلاص، خيرٌ من عملٍٍ كثيرٍ مع الرياء)، فلا يمكنُ الادِّعاءُ في هذا المثال بأنَّ لـ (الرياء) نحواً من القبول، باعتبار وقوع المفاضلة بين كثير (الرياء) وقليل (الإخلاص)، بل المقولةُ واضحةُ الدلالةِ في توضيح خطورة (الرياء).
فالحديثُ إذنْ، في موردَ التأكيد على الالتزام بالسُنَّة، والتهويل من فداحة خطر (البِدعة)، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك تلك النصوصَ الشرعية المصرِّحةَ بذم (البِدعة)، وانتقادها بشكل مطلق، وإذا ما التفتنا إلى أنَّ هذهِ الصيغة من الخطاب، أي الصيغة المذكورة في حديث: (قليلٌ في سُنَّةٍ، خيرٌ من كثيرٍ في بِدعة) جاريةٌ في جملةٍ من النصوص الشرعية الأخرى، وفي المحاورات العرفية العامة.
فقد ورد عن رسول الله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) أنَّه قال:
(ما أحدثَ قومٌ بِدعةً إلا رُفعَ من السُنَّة مثلُها، فتمسُّكٌ بسُنَّةٍ خيرٌ من إحداثِ بِدعة)(1) .
____________
(1) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري، ج: 13، ص: 254.
فهذه المفاضلة وقعت بين التمسُّك بالسُنَّة وبينَ إحداث (البدعة) التي وُصفت في الحديث بأنَّها رافعةٌ للسُنَّة من الأساس، وكأنَّها جاءت مفسرةً للحديث مورد البحث.
وهناك قرينةٌ متصلة بالحديث تؤيدُ المعنى الذي ذهبنا إليه، وتمنعُ التبريرَ المدَّعى للتقسيم، إذ أنَّ صدرَ الحديث يكرِّسُ محاربةَ (البِدعة)، ومواجهتها، بما لا يدعُ مجالاً للريب في مؤدَّى الحديث، فقد وردَ عن الإمام جعفرٍ الصادق (عَليهِ السَّلامُ) أنَّه قالَ:
(صومُ شهرِ رمضانَ فريضةٌ، والقيامُ في جماعةٍ في ليلتهِ بِدعةٌ، وما صلاّها رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في لياليه بجماعةٍ، ولو كانَ خيراً ما تركَه، وقد صلّى في بعض ليالي شهرِ رمضانَ وحده، فقامَ قومٌ خلفَه، فلما أحسَّ بهم دَخَلَ بيتَه، فَعَلَ ذلكَ ثلاثَ ليالٍ، فلما أصبحَ بعد ثلاثٍ صعدَ المنبرَ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليهِ، ثمَّ قالَ:
ـ أيُّها الناسُ، لا تصلّوا النافلةَ ليلاً في شهر رمضانَ، ولا في غيره، فإنَّها بِدعةٌ، ولا تصلّوا الضحى، فإنَّها بِدعةٌ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ سبيلُها إلى النار، ثمَّ نزلَ وهو يقولُ: قليلٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من كثيرٍ في بِدعةٍ)(1) .
____________
(1) الصدوق، أبو جعفر، التوحيد، باب: 55، ح: 11، ص: 342.
الدليل الرابع
استعمال المتشرعةِ للبِدعة ينافي التقسيم
ويمكنُ أنْ يضافَ إلى هذا المقدار من الاستعمال في النصوص الشرعية، قرائنُ ظنيةٌ قوية، مستفادةٌ من تتبعِ واستقراء استعمالات المتشرعة الذين رافقوا الزمنَ الأول للتشريع، ومَن جاءَ بعدَهم بقليل، والوصولُ من خلال ذلك إلى عين النتيجة السابقة، وهي: أنَّ المتشرعةَ لم يستعملوا البِدعةَ إلا مذمومةً أيضاً، فنحنُ نرى من خلال استعراض استعمالات هذهِ الطبقة التي كانَت تتلقى المفاهيمَ الإسلامية من قرب، أنَّ تطبيقَ هذا المفهوم لم يكن يتجاوزُ الحادثَ المذموم بشكل عام، وأمّا قصةُ التقسيم فهي قضيةٌ حدثت في فترةٍ متأخرةٍ عن بدايات عصر التشريع، وكانَت لها خلفياتُها ودواعيها الخاصة، ومنطلقاتُها التي قد نكونُ ألمحنا للبعض منها فيما مضى من دراستنا هذه.
والآن نحاولُ أنْ نستعرضَ بعضَ التطبيقات التي قد استُعملت (البِدعةُ) فيها مذمومةً، مع اعتقادنا بأنَّ الاستعمال بحدِّ ذاته لا يكشفُ ذاتياً عن حقيقة الوضع الشرعي لهذا المفهوم في معناه الحقيقي، إلاّ انَّنا حين نضمُّ إلى ذلك الاستعمالات الواردةَ على لسان صاحب الشريعة (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، وأهلِ بيته الطاهرينَ (عَليهمُ السلامُ)، مع الأدلة المتقدمة التي قضت ببطلان التقسيم المزعوم، نجدُ أنَّ هذهِ الاستعمالات تشكِّلُ بمجموعها قرينةً مؤثرة في الحسابات العلمية، وتؤيدُ بطلانَ القول بالتقسيم.
ونودُّ أن نذكِّرَ بأنّنا لسنا بصدد تقويم هذهِ النصوص المعروضة، أو بيان صحة أو عدم صحة مواردِها واستعمالاتها، وإنَّما نحنُ بصدد الاستشهاد بنحو استعمال لفظ (البِدعة) الوارد فيها، ومن خلال النظر إلى هذه الزاويةِ ليسَ غير.
وسوف نذكرُ ما يتيسرُ ممّا وردَ في استعمال لفظ (البِدعة) مذمومةً ضمنَ مرحليتن:
المرحلةُ الأُولى: ما وردَ من ذلك على ألسنةِ الصحابة، وبالأخص بعد وفاة الرسول الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ).
والمرحلةُ الثانيةُ: ما وردَ من ذلك على ألسنةِ مَن يلي أُولئك بقليل.
المرحلة الاولى:
استعمال الصحابةِ للبِدعة في خصوصِ الموردِ المذموم
* طبَّق أميرُ المؤمنين علي (عَليهِ السلامُ) كلمةَ (البِدعة) على الخوض في أمرِ القَدَر، والجدال في الأمور الاعتقادية التي تكونُ منشأً للاختلاف، وسبباً لفرقة المسلمين، وتمزيق وحدتهم، وذلك عندما مرَّ على قومٍ من أخلاط المسلمين، ليسَ فيهم مهاجري ولا أنصاري، وهم قعودٌ في بعض المساجد في أول يومٍ من شعبان، وإذا هم يخوضونَ في أمرِ القَدَر مما اختلف الناسُ فيه، قد ارتفعت أصواتُهم، واشتدَّ فيه جدالُهم، فوقفَ عليهم وسلَّم، فردّوا عليه، ووسّعوا له، وقاموا إليه يسألونَه القعودَ إليهم، فلم يحفل بهم، ثمَّ قالَ لهم:
(يا معشرَ المتكلمين، ألم تعلموا أنَّ للّهِ عباداً قد أسكتتهم خشيتُهُ من غير عيٍّ ولا بُكم.. فأينَ أنتُم منهم يا معشر المبتدعين، ألم تعلموا أنَّ أعلمَ الناس بالضرر أسكتُهم عنه، وأنَّ أجهلَ الناس بالضرر أنطقُهم فيه)(1) ؟!
" وردَ انَّ رجلاً قد أخبرَ (عبدَ اللّه بن مسعود) بأنَّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجلٌ يقولُ: كبِّروا اللّهَ كذا وكذا، وسبِّحوا اللّهَ كذا وكذا، واحمدوا اللّهَ كذا وكذا، فقالَ (عبدُ اللّه بن مسعود) للرجل: فإذا رأيتَهم فعلوا ذلك فاتِني فأخبرني
____________
(1) الطبرسي، أحمد بن علي، الإحتجاج، ج: 1، ص: 617، وقالَ في هامش الاحتجاج: ونحوه في التبيان 9 / 378، والعياشي 2 / 283، والمجلسي 10 / 121.
بمجلسهم، فأتاهم الرجلُ فجلسَ، فلمّا سمعَ ما يقولُون، قامَ فأتى (ابنَ مسعود)، فأخبره، فجاءَ (ابنُ مسعود)، وكانَ رجلاً حديداً، فقالَ:
(أنا عبدُ اللّه بنُ مسعود، واللّهِ الذي لا الهَ غيرُه لقد جئتُم ببِدعةٍ ظُلماً، ولقد فضلتم أصحابَ محمّد صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ علماً. فقالَ (عمرو بنُ عتبة): أستغفرُ اللّهَ، فقالَ عبدُ اللّه: عليكم الطريقَ فالزموه، ولئن أخذتُم يميناً وشمالاً لتضلُّنَّ ضلالاً بعيداً)(1) .
فبغض النظر عن طبيعة الأُسلوب الذي عالجَ به الصحابي (عبدُ اللّه بنُ مسعود) هذهِ الحادثة التي لم يكن لها سابقُ مثالٍ في حياة الرسول الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ) وأصحابه، نجدُ أنَّه قد استعملَ لفظَ (البِدعة) في مورد الذم، وعدَّ انحرافَ الإنسان عن طريق الحق نحوَ اليمين أو الشمال بِدعةً وضلالاً بعيداً، والظاهرُ من الحديث أنَّ هذا المعنى للـ (البِدعة) هو المرتكز في أذهان القوم آنذاك.
* رُوي عن (ابن مسعود) أيضاً أنَّه قالَ:
(اتبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم)(2) .
* ورُوي أيضاً عن (ابن مسعود) أنَّه قالَ:
(إنَّ للّهِ عند كلِّ بِدعةٍ كيدَ بها الاسلامُ وليَّاً من أوليائِهِ، يذبُّ عنها، وينطقُ بعلامتها، فاغتنموا حضورَ تلكَ المواطن، وتوكلوا على اللّه)(3) .
____________
(1) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، تحقيق د. الجميلي ص: 25. (2) القرطبي، ابن وضاح، البدع والنهي عنها، تصحيح وتعليق محمد أحمد دهمان، ص: 10. (3) القرطبي، ابن وضاح، البدع والنهي عنها، ص: 4.
فاستعمالُ لفظ (البِدعة) مذمومةً واضحٌ في كلامه، حيثُ عدَّ (البِدعة) مما يُكاد به الإسلام، وانَّ لِلّه تعالى في كل زمن ولياً، يدافعُ عن الإسلام، ويذبُّ هذهِ المحدثات عنه، ولعلَّ كلامَ (ابن مسعود) هذا مستفادٌ من قوله (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ):
(إنَّ للّهِ عندَ كلِّ بِِدعةٍ تكونُ بعدي يُكاد بها الإيمانُ وليَّاً من أهلِ بيتي موكلاً به، يذبُّ عنه، ينطقُ بإلهامٍٍ من اللّه، ويعلنُ الحقَّ، وينورُه، ويردُ كيدَ الكائدينَ، ويعبِّرُ عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على اللّه)(1) .
* عن (عبد اللّه بن الحلبي) عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه (عَليهما السلامُ) أنَّهما قالا:
(حجَّ عمرُ أولَ سنةٍ حجَّ وهو خليفةٌ، فحجَّ تلك السنةِ المهاجرونَ والأنصارُ، وكانَ علي عَليهِ السلامُ قد حجَّ تلكَ السنة بالحسن والحسين عَليهما السلامُ وبعبد اللّه بن جعفر، قالَ: فلما أحرمَ عبدُ اللّه، لبس إزاراً وردَاءً ممشقينِ مصبوغينِ بطين المشق، ثمَّ أتى، فنظرَ إليه عمر وهو يلبّي، وعليهِ الإزارُ والرداءُ، وهو يسيرُ إلى جنب علي عَليهِ السلامُ، فقالَ عمر من خلفهم:
ـ ما هذه البِدعةُ التي في الحرم؟ فالتفت إليه علي عَليهِ السلامُ فقالَ له:
ـ يا عمرُ، لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعلّمنا السُنَّةَ، فقالَ عمرُ:
ـ صدقتَ يا أبا الحسن، لا واللّهِ ما علمتُ أنَّكم هم)(2) .
____________
(1) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، كتاب العلم، باب: 34، ح: 79، ص: 315. (2) العياشي، تفسير العياشي، ج: 2، ص: 38.
فنرى في هذا الحديث أنَّ عمر يستعملُ لفظَ (البِدعة) في مورد الذم بنظره، إلاّ أنَّ أميرَ المؤمنين (عَليهِ السلامُ) يبيِّنُ له أنَّ هذا العمل ليس ببِدعة كما يتصور، وإنَّما هو من صميم السُنَّة، فيعتذرُ لأجل ذلك، وينسحبُ عمّا تفوه به من كلام.
* روى (البخاري) عن (مجاهد) أنَّه قالَ:
(دخلتُ أنا وعروةُ بنُ الزبير المسجدَ، فإذا عبدُ اللّه بن عمر جالسٌ إلى حجرة عائشة، وإذا أُناسٌ يصلّون في المسجد صلاةَ الضحى، قالَ: فسألناه عن صلاتهم، فقالَ:
ـ بِدعة)(1) .
وقالَ (ابن حجر) في (فتح الباري) بصدد عدد الأقوال الواردة في (صلاة الضحى)، وهي ستة:
(السادس: إنَّها بِدعة، صحَّ ذلك من رواية عروة عن ابن عمر، وسئُلَ أنس عن صلاة الضحى، فقالَ: الصلوات خمس، وعن أبي بكرة أنَّه رأى ناساً يصلّون الضحى فقالَ:
ـ ما صلاها رسولُ اللّه، ولا عامةُ أصحابه)(2) .
وهذا يدلُّ أنَّ الاستعمال كانَ في موردَ الذم، وأنَّه في خصوص الأمر الذي يُدخل إلى الدين من دون أنْ يستندَ إلى أصلٍ شرعي، من خلال إطلاق لفظ (البِدعة) في كلام (عبد اللّه بن عمر).
قالَ (الشاطبي) في (الاعتصام): وخرَّج (أبو داود) وغيرُه عن (معاذ بن جبل) (رضيَ اللهُ عنه) أنَّه قالَ يوماً:
____________
(1) البخاري، صحيح البخاري، ج: 2، كتاب الحج، باب: العمرة، ح: 4، ص: 198 - 199. (2) العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج: 3، ص: 55.
(إنَّ من ورائكم فتناً يكثرُ فيها المال، ويُفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمنُ والمنافق، والرجلُ والمرأة، والصغيرُ والكبير، والعبدُ والحر، فيوشك قائلٌ أنْ يقولَ: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأتَ القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدعَ لهم غيره، وإيّاكم وما ابتُدعَ فإنَّ ما ابتُدع ضلالة)(1) .
فاستعملت (البِدعةُ) هنا أيضاً مذمومةً، وأُطلق القولُ بأنَّ كلَّ ما ابتُدعَ وأُحدث فهو ضلالة.
* نقل (ابنُ وضاح) عن (حذيفة):
(أنَّه أخذَ حجرين فوضعَ أحدهما على الآخر، ثمَّ قالَ لأصحابه:
ـ هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالَوا:
ـ يا أبا عبد اللّه، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قالَ:
ـ والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدعُ حتى لا يُرى من الحقِّ إلاّ بقدر ما بين هذين الحجرين من النور، واللّهِ لتفشونَّ البدعُ حتى إذا تركَ منها شيء قالَوا: تُركت السُنَّة)(2) .
* وخرَّجَ (ابنُ وضّاح) عن (ابن عباس) أنَّه قالَ:
(ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بِدعةً، وأماتوا سُنَّةً، حتى تحيا البدعُ، وتموتُ السُّنن)(3) .
وعنه أيضاً أنَّه قالَ:
(عليكم بالاستفاضة والأثر، وإيّاكم والبدع)(4) .
____________
(1) الشاطبي، أبو إسحاق، الاعتصام، ج: 1، ص: 82. (2) القرطبي، ابن وضّاح، البدع والنهي عنها، ص: 58. (3) القرطبي، ابن وضاح، البدع والنهي عنها، ص: 39. (4) الشاطبي، أبو إسحاق، الاعتصام، ج: 1، ص: 81.
ولسانُ المقولتين واضحٌ في ذم البدع، وعدِّها في مقابل السُنَّة، والتحذير منها، وهذا يعني أنَّها استُعملت في كلام (ابن عباس) في مورد الذم أيضاً.
* قالَ (الكانَدهلوي) في (حياة الصحابة):
(أخرج الطبراني عن عمرو بن زرارة قالَ: وقفَ عليَّ عبدُ اللّه ـ يعني ابن مسعود رضيَ اللهُ عنه ـ وأنا أقصُّ، فقالَ:
ـ يا عمرو، لقد ابتدعتَ بِدعةَ ضلالة، أو انَّكَ لأهدى من محمدٍ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأصحابه؟ ولقد رأيتُهم تفرقوا عني، حتى رأيتُ مكانَي ما فيه أحدٌ)(1) .
والكلامُ في قول (ابن مسعود): (لقد ابتدعتَ بِدعةَ ضلالة) كالكلام في قول النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ): (ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالة)(2) ، وقد تقدمَ أنَّ هذا القيد لا يدلُّ على المفهوم، ولا يُخرج (البِدعة) عن أصل وضعها لخصوص الموارد الحادثة المذمومة، كما هو الحال في معالجة (ابن مسعود) هذه وفقاً لوجهة نظره الخاصة.
* روي أنَّه لمّا عاقبَ أميرُ المؤمنين علي (عَليهِ السلامُ) المغالينَ الذين ادّعوا الوهيّتَهُ، وأنكروا نبوةَ الرسول الخاتَم (صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ)، بأنْ قتلَهم بالدخان، قدمَ عليه يهودي من أهل (يثرب)، قد أُقرَّ له في (يثرب) من اليهود أنَّه أعلمُهم، وكانَ معه عدةٌ من قومه وأهل بيته، فبادرَ علياً (عَليهِ السلامُ) بالقول:
ـ (يابنَ أبي طالب ما هذهِ البِدعة التي أحدثتَ في دين محمّد؟ فقالَ عَليهِ السلامُ:
ـ وأيةُ بِدعةٍ؟ فقالَ اليهودي:
____________
(1) الكاندهلوي، حياة الصحابة، ج: 4، ص: 77. (2) الدارمي، سنن الدارمي، ج: 5، كتاب العلم، باب: 16، ح: 2677، ص: 44.
ـ زعمَ قومٌ من أهل الحجاز أنَّكَ عهدتَ إلى قومٍٍ شهدوا أنْ لا إلهَ إلا اللّه، ولم يقرّوا أنَّ محمداً رسوله، فقتلتهم بالدخان، فقالَ أميرُ المؤمنين عَليهِ السلامُ:
ـ فنشدتُكَ بالتسع الآيات التي أُنزلت على موسى بطور سَيناء، وبحق الكنائس الخمس القدس، وبحق السمت الديان، هل تعلم أنَّ يوشعَ بن نون أُتيَ بقومٍٍ بعد وفاة موسى عَليهِ السلامُ شهدوا أنْ لا الهَ إلا اللّه، ولم يُقرّوا أنَّ موسى عَليهِ السلامُ رسولُ اللّهِ، فقتلهم بمثل هذهِ القتلة؟ فقالَ اليهودي:
ـ نعم.. إلى آخر الحديث)(1) .
فمن الواضح أيضاً من خلال هذهِ الواقعة أنَّ المرتكز في أذهان هؤلاءِ المحاجّين عن (البِدعة) هو أنَّها لا تردُ إلاّ مذمومة، ولا تُستعمل إلّا في هذا المجال؛ ولذا نراهم يوجهون النقدَ إلى أمير المؤمنين (عَليهِ السلامُ) من خلال وصف عمله بالابتداع بادئَ بذي بدء، إلاّ انَّهم يتراجعون عن ذلك، بعد أنْ يبيِّنَ لهم علي (عَليهِ السلامُ) دوافعَ هذا الإجراء، وبعد أن يعلموا أنَّ عملَه (عَليهِ السلامُ) إنما كانَ نابعاً من صميم التشريع، ومتخذاً من أجل صيانته والذبِّ عنه.
المرحلة الثانية:
استعمال مَن يلي الصحابةَ للبِدعة في خصوصِ الموردَ المذموم
طُبقت كلمةُ (البِدعة) على الجدال في القرآن بغير علم، فعن (اليقطيني) أنَّه قالَ: كتبَ أبو الحسن الثالث (عَليهِ السلامُ) إلى بعض شيعته ببغداد:
____________
(1) الكليني، محمّد بن يعقوب، الفروع من الكافي، ج: 4، كتاب الصيام، باب: النوادر، ح: 7، ص: 181.