الصفحة 207

الفصل السادس
صلاةُ التراويح..
اجتهاد في مقابلِ السُنَّة


1ـ اختصاص التشريع باللهِ تعالى

2ـ تبريران لإقحام التراويحِ ضمنَ السُنَّة

      التبرير الأول: التراويح دعوة إلى الصلاةِ وتشدّد في حفظِ القرآن

     التبرير الثاني: التراويح تشبهُ اختراعَ الإنسانِ لعبادةٍ نافعة



الصفحة 208

الصفحة 209

نظرة
على الفصل السادس

إنَّ من الأسرارِ العظيمةِ التي تقفُ وراءَ حفظِ تعاليمِ الشريعةِ الإسلاميةِ من التحريفِ والتشويه هو اختصاصُ أمرِ التشريعِ باللهِ تعالى، والتأكيدُ على عدمِ جوازِ الاجتهاد في مقابلِ النصوصِ الإلهيةِ من قبلِ جميعِ البشرِ بشكلٍ قاطعٍ؛ ولذا نلمسُ اللهجةَ الحادةَ في محاربةِ البِدعِ، باعتبارِ أنَّها لونٌ من ألوانِ الكذبِ والافتراءِ على اللهِ (جَلَّ وَعَلا) ورسولهِ الأمين (ص).

وقد حاولَ بعضُ المدافعينَ عن (التراويح) إقحامها ضمنَ السُنَّةِ من خلالِ ادِّعائهم بأنَّها من قبيل الاجتهادِ الجائزِ المستندِ على الأُصولِ الشرعيةِ، فكانَ التبريرُ الأولُ يستندُ في مشروعيةِ (التراويح) على القولِ بأنَّ فيها دعوةً إلى الصلاةِ وتشدداً في حفظ القرآنِ الكريمِ، وفاتَ هؤلاءِ أنَّ هذا التبريرَ صالحٌ لإدخالِ آلافِ البِدعِ المحدثةِ في الدينِ، والزيادةِ على كلِّ النوافلِ المسنونةِ، بل والمفروضة، وابتكارِ المزيدِ من العبادات!!

والتبريرُ الثاني مبنيٌّ على القولِ بأنَّ بإمكانِ الإنسانِ أنْ يبتكرَ عباداتٍ وصلواتٍ من عند نفسهِ، ولا يُقالُ أنَّ ذلك (بدعة)، و(التراويح) كذلك، وسوفَ نثبتُ بطلانَ هذا الكلامِ من جهةِ أنَّ الصلوات عباداتٌ توقيفيةٌ في جوهرها وأساسياتها، كما أنَّ الإتيانَ بالعملِ العبادي المشمولِ بالعموميات الشرعيةِ يتحولُ إلى (بدعةٍ) إذا ما نُسبَ بكيفيتهِ المخصوصة المبتكرةِ الجديدةِ إلى الدين.

صلاةُ التراويح


الصفحة 210

الصفحة 211

(1)
اختصاص التشريع باللهِ تعالى

إنَّ التشريعَ الإلهي أمرٌ توقيفي لا يجوزُ الاجتهادُ في مقابله، أو الإدلاء برأي شخصي في شأنه؛ لأنَّه صادرٌ من الكمال المطلق المحيطِ بكلِّ جزئيات الحياة، والمستوعبِ لمختلف أجوائها وظروفها، ولذلك شدَّدت الشريعةُ الإسلاميةُ على أيةِ ظاهرةٍ تشريعية تحاولُ أنْ تُحدثَ منفذاً في هذا الإطار العام، أو تضعَ نفسها بديلاً عن القوانين الإلهية الشاملة، وكانَ بسبب ذلك أنْ حذَّرت الشريعةُ الإسلاميةُ تحذيراً شديداً من الكذب والافتراء على اللّه ورسوله، من خلال حشدٍ كبير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.

فمن ذلك قوله (جَلَّ وَعَلا):

(فَمن أظَلمُ مَمنِ افترى عَلى اللّهِ كَذِباً أو كَذَّبَ بِآيَاتهِ إِنَّهُ لا يُفلحُ المُجرِمونَ)(1) .

وقوله (جَلَّ وعَلا):

(قُل أَرأيتُم مَّا أَنزَل اللّهُ لَكُم مِن رِزقٍ فَجَعلتُم مِنُه حَرَاماً وَحَلالاً قُل ءآللّه أذِنَ لَكُم أم عَلى اللّهِ تَفترونَ)(2) .

وقوله (جَلَّ وَعَلا):

(إنّمَا يَفترِي الكَذِبَ الَّذينَ لا يؤمِنونَ بِآيَاتِ اللّهِ)(3) .

وقوله (جَلَّ وَعَلا):

____________

(1) يونس / 17.

(2) يونس / 59.

(3) النحل / 105.


الصفحة 212

(وَلا تَقولُوا لِما تَصِف ألسنتُكم الكَذِبَ هَذَا حَلال وَهَذَا حَرام لِتفترُوا عَلَى اللّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفترُون عَلَى اللّهِ الكَذِب لا يُفلحُون)(1) .

وقوله (جَلَّ وَعَلا):

(وَيَومَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذبُوا عَلَى اللّهِ وُجُوههُم مُّسوَدّة أليسَ فِي جَهنَّم مَثوى لِلمُتكَبرِينَ)(2) .

وعن رسول اللّه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ) انه قال:

ـ (اتقوا تكذيب اللّه!، قيل:

ـ يا رسول اللّه وكيف ذاك؟ قال:

ـ يقول أحدكم: قال اللّه، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: كذبت لم أقله، ويقول لم يقل اللّه، فيقول عزَّ وجلَّ: كذبت قد قلته)(3) .

وعنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ) أنه قال:

(مَن قال عليَّ ما لم أقله فليتبوأْ مقعده من النار)(4) .

وفي حديث آخر بنفس المعنى عنه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ) أنه قال:

(مَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)(5) .

وعن الامام علي الرضا (عَليهِ السَّلامُ) أنه قال:

(واللّه ما أحد يكذّب علينا إلاّ ويذيقه اللّه حرَّ الحديد)(6) .

____________

(1) النحل / 116.

(2) الزمر / 60.

(3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، باب: 16، ح: 16، ص: 117.

(4) البرقي، أبو جعفر، المحاسن، ج 1، ح 374، ص: 209.

(5) ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج: 1، باب التغليظ في تعمّد الكذب على رسول اللّه صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ، ص: 13 ح: 30 و 33.

(6) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، باب: 16، ح: 18، ص: 117.


الصفحة 213

كما حذَّرت الشريعة تحذيراً شديداً من أي لونٍ من ألوان الاستدلال العقلي الذي لا يحمل غطاءاً شرعياً، ولا يستند إلى أساس راسخٍ في الدين، من أمثال الرأي والقياس والاستحسان، وغلَّظت على هذه الحالة الدخيلة في مجموعة كبيرة من الآيات والروايات أيضاً، كما قال (جَلَّ وعَلا):

(وَمَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللّهِ)(1) .

وقال (جَلَّ وَعَلا):

(وَلا تَتبعِ الهَوى فَيضلكَ عَن سَبيلِ اللّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضلّونَ عَن سَبيلِ اللّهِ لَهُم عَذاب شَدِيد بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسابِ)(2) .

وقال (جَلَّ وَعَلا):

(أَم لَهُم شُركَاء شَرعُوا لَهمُ مِن الدِينِ مَا لَم يَأذَن بِهِ اللّهُ)(3) .

وعن رسول اللّه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ) أنه قال:

(قال اللّه جلَّ جلاله: ما آمن بي مَن فسَّر برأيه كلامي، وما عرفني مَن شبَّهني بخلقي، وما على ديني مَن استعمل القياس في ديني)(4) .

وعن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلامُ) أنه قال:

(لا رأيَ في الدين)(5) .

وعن أبي جعفر الباقر (عَليهِ السَّلامُ) أنه قال:

____________

(1) القصص / 50.

(2) ص: 26.

(3) حمعسق / 21.

(4) الصدوق، أبو جعفر، أمالي الصدوق، المجلس الثاني، ح: 3، ص: 15.

(5) البرقي، أبو جعفر، المحاسن، ج: 1، ح: 78، ص: 333.


الصفحة 214

(إنَّ السُنَّةَ لا تُقاس، وكيف تُقاسُ السُنَّةُ والحائضُ تقضي الصيامَ ولا تقضي الصلاةَ)(1) .

وعن سعيد الأعرج قال: قلتُ لأبي عبد اللّه (عَليهِ السَّلامُ): إنَّ من عندنا ممن يتفقه يقولون: يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب اللّه ولا في السُنَّة، فنقول فيه برأينا، فقال أبو عبد اللّه (عَليهِ السَّلامُ):

(كذبوا، ليس شيء إلا وقد جاءَ في الكتاب، وجاءت فيه السنة)(2) .

وعن (سماعة) قال: قلت لأبي الحسن (عَليهِ السَّلامُ): إنَّ عندنا مَن قد أدرك أباك وجدَّك، وانَّ الرجل منّا يُبتلى بالشيء لا يكون عندنا فيه شيء، فيقيس؟ فقال (عَليهِ السَّلامُ):

(إنَّما هلكَ مَن كان قبلكم حين قاسوا)(3) .

(2)
تبريران لإقحام التراويحِ ضمنَ السُنَّة

وبعد أن انهار الأصل الرئيسي الذي بنى على أساسه علماء مدرسة الخلفاء مشروعية (التراويح)، وهو تقسيم البدعة إلى ممدوحة ومذمومة، وبما أن الفريقين اللذين قالا بالتقسيم ولم يقولا به قد أخفقا في هذه المهمة؛ فقد طلعت علينا تبريرات

____________

(1) المحاسن، أبو جعفر، ج: 1، ح: 95، ص: 338.

(2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج: 2، باب: 34، ح: 47، ص: 304.

(3) البرقي، أبو جعفر، المحاسن ج: 1، ح: 86، ص: 335.


الصفحة 215

أخرى لتوجيه (التراويح)، وهي تصبُّ في التخفيف من حدة التشريع الشخصي في مقابل النص الإلهي، وسوف نتناول أهم تبريرين ضمن هذا الفصل من الدراسة.

التبرير الأول
التراويح دعوة إلى الصلاة وتشدد في حفظ القرآن

من الغريب حقاً ما قامَ به صاحب كتاب (المغني) من محاولات متعسّفة لتبرير هذهِ (البدعة) حيث يقول:

(وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة، والتشدد في حفظ القرآن، فما الذي يمنع أن يعمل به على وجه أنه مسنون)(1) ؟!!

فهل أنَّ الأمر المختلف فيه أمرٌ ذوقي يمكن بشأنه الإرجاع إلى حكم العقل البشري القاصر عن إدراك المصالح والمفاسد بأبعادها وتفاصيلها الغائبة عنه؟!

على أنَّ الأدلة الشرعية القاطعة تضافرت على نبذ هذا النمط من الاستدلال الذي يعتمد على العقل والذوق، والردع عن ذلك، باعتبار أنَّ دين اللّه لا يُصابُ بالعقول.

وهل هذا إلا تحكيم للرأي الذي يتقاطع مَعَ تعاليم الشرع المبين، ويخالف فلسفة التشريع من الأساس؟ وهل يمكن لنا من خلال إدراك مصلحة معيّنة في فعلٍ معين من أن نشرّع ذلك العمل، ونعدّه مندوباً؟!

(وهل كان عمر أشفق على المسلمين، وأعرف بمصلحتهم من ربِّهم ونبيِّهم)(2) ؟

____________

(1) نقله الشريف المرتضى في الشافي في الإمامة، ج: 4، ص: 217.

(2) ابن طاووس الحسني، رضي الدين علي بن موسى، الطرائف في معرفة المذاهب والطوائف، ص: 456.


الصفحة 216

ثم ما أدرانا أنَّ الدعاء إلى الصلاة، والتشدد في حفظ القرآن الكريم، يتوقف على الالتزام بمثل هذا العمل، وإضفاء صفة الشرعية عليه؟ ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم يكن أصل الائتمام بالنافلة مشروعاً ومندوباً؟ ولماذا هذا التخصيص بنافلة شهر رمضان دون بقية النوافل الأخرى؟ أليس في بقية النوافل دعاء إلى الصلاة، وتشدد في حفظ القرآن الكريم؟؟!

يقول اللّه (جَلَّ وَعَلا):

(وَما كانَ لِمُؤمِنٍ ولا مُؤمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرسُولُه أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الِخيَرةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً)(1) .

وقال رسول اللّه (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ) في الحديث المتفق عليه:

(من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ)(2) .

إنَّ هذا الاستدلال لا يعدو أن يكون محاولة يائسة، وخارقة لجميع الأسس التي اتفق عليها المسلمون بمختلف المذاهب والمشارب.

يقول الدكتور (يوسف القرضاوي) بشأن التوقيف في العبادات:

(قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أنَّ العبادات التي أوجبها اللّه، أو أحبَّها، لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا الحظر منه إلا ما حظره اللّه سبحانه وتعالى؛ وذلكَ لأنَّ الأمر والنهي هما شرع اللّه، والعبادة

____________

(1) الأحزاب / 36.

(2) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1101، ص: 219.


الصفحة 217

لا بدَّ أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنَّه مأمور به كيف يحكم عليه بأنَّه محظور)؟

وعلَّقَ على قولِ (ابنِ تيميةَ) بالقول:

(ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إنَّ الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه اللّه، والا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُم مّنَ الدينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللّهُ)(1) .

فهل غابت كل هذهِ الأدلة عن بال صاحب (المغني) فادّعى ذلكَ غفلةً، أو علم بذلك إلا أنَّه كابر متعسفاً؟!

التبرير الثاني
التراويح تشبه اختراعَ الإنسانِ لعبادةٍ نافعة

على أنَّ الأكثر غرابةً من ادّعاء صاحب (المغني) المذكور حول (التراويح)، هو المغالطة التي حاول من خلالها (ابنُ أبي الحديد المعتزلي) تبريرَ بدعة (التراويح)، والانتصار إلى مُحدِثها، وإقحامها ضمنَ مفرداتِ الشريعةِ؛ حيثُ يمهِّدُ للتغطيةِ على عدم مشروعيتها بالقول:

(أليس يجوز للإنسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة وأعداد ركعات مخصوصة، ولا يكون ذلك مكروهاً ولا حراماً؟ نحو أن يصلّي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة،

____________

(1) القرضاوي، د. يوسف، الحلال والحرام في الإسلام، ص: 36.


الصفحة 218

ويقرأ في كل ركعة منها سورةً من قصار المفصل! أفيقول أحد إنَّ هذا بدعة، لأنه لم يرد فيه نص ولا سبق إليه المسلمون من قبل)؟!

ثم يضيف مبرراً لبدعة (التراويح) دخولها في دائرة الجواز بزعمه:

(فإن قال: هذا يسوغ، فإنَّه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة، قيل له: والتراويح جائزة ومسنونة لأنَّها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة)(1) .

ولنا على كلام (المعتزلي) هذا ملاحظتان:

الملاحظة الاولى:

إنَّ العمل العبادي الذي نعته (ابن أبي الحديد) بالجواز، وادّعى انَّه ليس بمكروه ولا حرام باتفاق الجميع، لا يخلو من نقاش، إذ أنَّ هناك خلافاً مستفيضاً بين الفقهاء في أنَّه هل يجوز الإتيان بالنوافل على أية هيئة كانت، أو أنَّ صلاة النافلة لا بدَّ أن تُراعى فيها الشروط التوقيفية التي ذكرتها الشريعة الإسلامية لها؟؟

فالرأي الذي عليه أتباع مدرسة أهل البيت (عَليهِمُ السَّلامُ) هو عدم جواز الإتيان بالنافلة التطوعية إلا بصورتها التوقيفية التي رويت عن النبي الخاتَم (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ)، وأهل بيته الطاهرين (عَليهِمُ السَّلامُ)، وهي أن تكون ركعتين ركعتين.

قال السيّد (محمد كاظم اليزدي) في (العروة الوثقى):

(يجب الإتيان بالنوافل ركعتين ركعتين)(2) .

وقال الشيخ (الطوسي) في (الخلاف):

____________

(1) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج: 12، ص: 283.

(2) اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، ج: 1، ص: 515، مسألة: 1.


الصفحة 219

(ينبغي لمن يصلي النافلة أن يتشهد في كل ركعتين ويسلِّمُ بعدَهُ، ولا يصلّي ثلاثاً ولا أربعاً ولا مازاد على ذلك بتسليم واحد ولا بتشهد واحد، وأن يتشهد في كل ركعتين ويسلِّم، سواءٌ كانَ ليلاً أو نهاراً، فإن خالفَ ذلكَ خالفَ السنة)(1) .

فصلاة النافلة وان كان أصلها عملاً تطوعياً مندوباً، وداخلاً في صميم التشريع، إلا أنَّ الإتيان بها بقصد التقرب إلى اللّه جل ثناؤُه لا بدَّ أن تُلحظ فيه المقومات الدخيلة في أصل ماهيتها، فمثلاً من شروط إيقاع النافلة أن تكون مَعَ فاتحة الكتاب، وأن يكون المصلّي على طهور، فقد وردَ أنَّه:

(لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتاب)(2) .

وورد أيضاً:

(لا صلاة إلا بطهور)(3) .

ولا يمكن تعدّي هذهِ الشروط، والإتيان بصلاة النافلة من دون فاتحة الكتاب، أو من دون طهورٍ مثلاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى تحديد ركعات النافلة، إذ لا يمكن على رأي مدرسة أهل البيت (عَليهِمُ السَّلامُ) أنْ يُؤتى بها بأية هيئة أو كيفية كانت، وإنما يجب التقيد بالإتيان بها ركعتين ركعتين.

نعم هناك أفعال مرنة ضمن إطار صلاة النافلة نفسها، يمكن للمكلَّف أن يتحرك في ظلِّها باختياره، كالتحكّم في طبيعة (السورة) التي يقرأها بعد فاتحة الكتاب، أو

____________

(1) الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن، الخلاف، ج: 1، ص: 527، مسألة: 267.

(2) الحفيد، ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج: 1، ص: 104.

وانظر: ابن قدامة، المغني، ج: 1، ص: 520.

وانظر: سيد سابق، فقه السنة، ج: 1، ص: 135.

وانظر: علي بن الحسين المحقق الكركي، رسائل الكركي، تحقيق: محمد الحسون، ج: 3، ص: 27.

(3) الحفيد، ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج: 1، ص: 275.


الصفحة 220

نوع الدعاء الذي يدعو به، أو كميّة الذكر الذي يأتي به.. أو غير ذلك من الأمور التي أُوكل التصرف فيها إلى نفس المكلَّف، شريطة أن تبقى محتفظة بسمة الشرعية، ومندرجة تحت العموميات الثابت ورودها عن الشريعة المقدسة.

يبقى أمر يجدر التنبيه عنه، وهو أنَّ الخروج من كيفية الركعتين في النافلة لا يتم إلا عن طريق الدليل الشرعي؛ إذ الأصل هو الركعتان إلا ما خرجَ بالدليل، ومثال ما خرجَ بالدليل ركعة الوتر التي تُختم بها صلاة الليل.

وأما أبناء العامة، فعلى مستوى الرأي الفقهي فقد اختلفوا في ذلك أيضاً، وإن كان أكثرهم على الجواز، إلا أنَّ بعضهم نصَّ على أنَّ الزيادة على الركعتين أمر مكروه، وبعضهم قصر الزيادة على الأربع.. وهكذا.

قال (النووي) في (المجموع) عن كيفية أداء (التراويح):

(وليصلها ركعتين ركعتين كما هو العادة، فلو صلى أربع ركعات بتسليمة لم يصح، ذكره القاضي حسين في فتاويه لأنه خلاف المشروع)(1) .

وقال (الخطيب الشافعي) في (الإقناع) عن عدد ركعات (التراويح):

(ولو صلى أربعاً بتسليمة لم يصح؛ لأنه خلاف المشروع، بخلاف سنة الظهر والعصر)(2) .

وقال (المليباري الهندي) في (فتح المعين):

____________

(1) النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف، المجموع شرح المهذب، ج: 4، ص: 32.

وانظر: أبو زكريا النووي، روضة الطالبين، ج: 1، ص: 437.

(2) الشربيني الخطيب الشافعي، شمس الدين أحمد بن محمد ، الإقناع في حلِّ ألفاظ أبي شجاع، ج: 1، ص: 107.


الصفحة 221

(وصلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات، في كل ليلة من رمضان.. ويجب التسليم من كل ركعتين، فلو صلى أربعاً منها بتسليمة لم تصح)(1) .

وقال الإمام (القندوزي الحنفي):

(ونوافل النهار إن شاءَ صلّى ركعتين بتسليمة واحدة، وإن شاءَ أربعاً، وتُكره الزيادة على ذلك، فأمّا نافلة الليل فقال أبو حنيفة: إن صلّى ثمان ركعات بتسليمة واحدةٍ جاز، وتُكره الزيادة على ذلك)(2) .

وقال (أبو يوسف ومحمَّد):

(لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة واحدة)(3) .

وقال في (المهذَّب):

(والسُنَّةُ أنْ يسلّمَ من كل ركعتين، لما روي عن ابن عمر (رضي الله عنه): أنَّ النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسِلَّمَ قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت أنَّ الصبح تداركك فأوتر بواحدة، وإن جمع ركعات بتلسيمة جاز، لما روت عائشة رضي اللّه عنها أنَّ رسول اللّه صَلّى اللهُ عَليهِ وسِلَّمَ: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس، يجلس في الآخرة ويسلِّم، وانَّه أوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهنَّ بسلام، وإن تطوَّع بركعةٍ جاز لما روي

____________

(1) المليباري الفناني، زين الدين، فتح المعين لشرح قرة العين بمهمات الدين، ج: 1، ص: 307.

(2) الحنفي، عبد الغني، اللباب في شرح الكتاب ، ج: 1، ص: 91 - 92.

وانظر: (الفقه الإسلام وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، ج: 2، ص: 50

(3) الحنفي، لعبد الغني، اللباب في شرح الكتاب، ج: 1، ص: 91 - 92.

وانظر: (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، ج: 2، ص: 50.


الصفحة 222

أنَّ عمر رضي اللّه عنه:مرَّ بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل، فقال يا أمير المؤمنين إنَّما صليت ركعة، فقال: إنَّما هي تطوع فمن شاء زاد ومَن شاء نقص).

وعقَّب على ذلك (النووي) بالقول في مذاهب العلماء في ذلك:

(قد ذكرنا أنَّه يجوز عندنا أن يجمع ركعات كثيرة من النوافل المطلقة بتسليمة، وأنَّ الأفضل في صلاة الليل والنهار أن يسلّم من كل ركعتين؛ وبهذا قال مالك وأحمد وداود وابن المنذر، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وقال أبو حنيفة: التسليم من ركعتين أو أربع في صلاة النهار، سواء في الفضيلة، ولا يزيد على ذلك، وصلاة الليل ركعتان وأربع وست وثمان بتسليمة، ولا يزيد على ثمان، وكان ابن عمر يصلي بالنهار أربعاً، واختاره إسحاق)(1) .

وأما رواياتهم في ذلك فهي ظاهرةٌ في اختصاص النافلة بالركعتين، ففي ( البخاري) وغيره من (الصحاح) لديهم:

(روى مالك عن نافع عن ابن عمر: أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ عن صلاة الليل، فقال (عَليهِ السَّلامُ): صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعةً واحدةً توتر له ما قد صلى)(2) .

وروي عن (ابن عمر) عن النبي (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ):

____________

(1) النووي، أبو زكريا، المجموع من شرح المهذب، ج: 4، ص: 49 - 51.

(2) الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن، الخلاف، ج: 1، ص: 527، مسألة: 267، عن: صحيح البخاري: 2، 29، وصحيح مسلم، 1، ص:516، ح:145، وموطأ مالك، 1، ص:123، ح:13، والسنن الكبرى: 2، ص:486، ومسند أحمد، 2، ص: 5 و 9 و 10.


الصفحة 223

(صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)(1) .

فكيف يمكن أن يُدَّعى بعد كل هذهِ الأقوال والآراء أنَّ أحداً لم يقل بكراهة أو حرمة صلاة ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، كما قال ذلك (المعتزلي) بشكل قاطع، وأرسله إرسال المسلَّمات؟

وهذا كلّه طبعاً لو جاء المكلّف بالعمل على سبيل القربة المطلقة، ولم ينسبه إلى الشريعة الإسلامية المقدسة، وأما إذا تمت نسبة هذا العمل العبادي المخترع بكيفيته المذكورة والمخصوصة هذهِ إلى الشريعة، وادُّعي أنَّه مستفاد منها، وأنَّه جزء من تعاليمها، فلا شكَ ولا ريب في كونه عملاً محَّرماً، بل هو من أبرز مصاديق قوله (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ):

(مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)(2) .

ولا شكَّ في أنَّ نسبة العمل الى الدين تتوقف على ورود النص الإسلامي الصريح الذي يذكره بالتفصيل، ويعينه على نحو الخصوص، كما هو الأمر في نسبة العبادات والمعاملات والأحكام الشرعية المسلّمة الأخرى إلى الشريعة، والقول بأنَّها مأخوذة منها.

كما أنَّ العمل الذي يشمله الدليل العام يمكن أن ينتسب الى التشريع عن طريق تلك العموميات أيضاً، ولكن لا يصحّ أن تتجاوز هذهِ النسبة أصل العمل الى حيث الخصوصيات والتفاصيل غير المذكورة في لسان الدليل.

وبعبارة أخرى أنَّ العمل الذي يشمله العنوان العام يتصف بعنوانين:

____________

(1) الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن، الخلاف، ج: 1، ص: 527، مسألة: 267، عن: موطأ مالك: 1، ص:119، ح: 7، وسنن الترمذي، 2، ص: 491، ح: 491 و 597، والسنن الكبرى: 2، ص: 487، ومسند أحمد، 2، ص: 26.

(2) المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمال، ج: 1، ح: 1101، ص: 219.


الصفحة 224

الأول: هو العنوان العام الذي يكون مشمولاً بالدليل الشرعي الذي يبرر صدوره من المكلَّف بصورة مشروعة.

الثاني: هو العنوان الخاص الذي أتى به المكلف، والذي قد يحمل عناوين تفصيلية غير مذكورة في الدليل.

فمن جهة العنوان الأول يمكن نسبة العمل الى الشريعة، وأمّا من جهة العنوان الثاني فلا يصح نسبة العمل الى الشريعة، وإذا ما نُسب العمل الى الشريعة كذلك، فهو يدخل في حيِّز (الابتداع)؛ لأنه إدخال ما ليس من الدين فيه، وهو ما يُطلق عليه عادةً بـ (قصد التشريع).

فمثلاً نجد في الأدلة الشرعية العامة أنَّها تندب المسلمين الى الصيام طيلة أيام السنة، باستثناء يومي العيدين المحرّم صيامهما بالدليل الخاص، فلو أنَّ شخصاً صامَ يوماً معيناً غير مشمول بأي دليل معين يذكره على نحو الخصوص، فقد امتثل ذلك الدليل العام، واستمد صيامُه لذلك اليوم الشرعيةَ من خلال هذا الدليل، فيستطيع أن ينسب صيامه الى الشريعة، ويقول بأنَّ هذا الصيام مستفاد من الشريعة الإسلامية وهو جزء من تعاليمها الثابتة. وأمّا إذا نُسب خصوص العمل الذي مارسه الى الدين، وقال بأنَّ صيام هذا اليوم بعينه وخصوصياته مطلوب من قبل الشريعة، في الوقت الذي لا يوجد بشأنه أي دليل خاص؛ فقد قصد التشريع، ولا يُشك في كونه قد أدخل في الدين ما ليس منه، إذ انَّ الشريعة لم تطلب صيام ذلك اليوم بعنوانه الخاص، وإنَّما ندبت الى الصيام بشكل عام.

وهكذا لو اتخذ الإنسان ذكراً، أو دعاءاً، أو نسكاً معيناً، لم يرد به دليل خاص، ولكنّه يندرج تحت عموميات التشريع، كأن ألزم نفسه بالاستغفار في كل يوم، أو بعد كل فريضة (أربعين مرةً) مثلاً، أو بالصلاة عدداً من الركعات تطوعاً للّه مثلاً، فإن ادّعى أنَّ هذا العمل مطلوب بخصوصه من قبل الشرع، وقصد نسبته الى الدين بالعنوان


الصفحة 225

الخاص فهو مبتدع، وإن كان يأتي به بعنوان الامتثال والجري على مقتضى الأدلة العامة، فهو داخل في دائرة الندب.

ومن الطبيعي أنَّ كل تلك الممارسات المشروعة والمنسوبة الى الدين عن طريق الدليل العام يجب أن لا تصطدم مَعَ أي عنوان تحريمي آخر، ولا تكتسب هذا الطابع بأي نحو كان، وإلا فإنّ التحريم يشملها من هذا الوجه، كما لو شقَّ الإنسان على نفسه بالعبادة والنوافل والأذكار المشروعة بالدليل العام الى درجة الرهبنة والقسوة بالنفس والإضرار بها، فإن العمل يخرج بذلك عن نطاقه المشروع، ويكتسب عناوين ثانوية أخرى.

ونفس الأمر يقال بصدد الأعمال المباحة التي لم يرد فيها دليل خاص أو عام، فحين يأتي بها المكلف من دون قصد التشريع، ولا تكتسب عنواناً تحريمياً معيَّناً، فهي باقية على وضعها الأولي، وأمّا إذا قصد المكلف نسبتها الى الشريعة، فإنها تتحول الى (بدعة)؛ لأنه أدخل في الدين ما ليس منه.

ومثال ذلك ما لو نام الشخص في وقت معيَّن من النهار لم يرد بشأنه دليل خاص، وأدّعى أنَّ هذا الأمر مطلوب بخصوصيته التفصيلية من قبل الشريعة، أو أكلَ طعاماً معيناً لم يرد بخصوصه دليل شرعي خاص، وادّعى استحبابه، أو كراهته، أو حرمته مثلاً، ونسبَ ذلك الى التشريع.

والخلاصة أنَّ نسبة العمل الذي لم يرد بشأنه الدليل الخاص الى التشريع بخصوصياته التفصيلية، والقول بأنَّه مطلوب مَعَ هذهِ الخصوصيات من قبل الشريعة، يعدّ من (الابتداع)، لأنَّه إدخال لما ليس من الدين فيه. من هنا ندرك أنَّ بعض مَن حاول معالجة موضوع (الابتداع) قد خلط بين هذين العنوانين، وحاول أن يرمي المسلمين بذلك غفلة عن جواز نسبة هذهِ الأمور إلى الدين من جهة الأدلة العامة الشاملة لها، وأنّ الأمر غير مقتصر على القول بتشريعه من حيث الخصوصيات التفصيلية.


الصفحة 226

ونجد الجذور العميقة لهذا النحو من الخلط أيضاً تمتد الى صدر الإسلام الأول؛ حيث كان يظن البعض أنَّ الإتيان بأي أمرٍ حادث لم يرد بشأنه الدليل الخاص، أو انَّه لم يكن موجوداً في عصر التشريع، يعدّ من الابتداع، ولم يلتفتوا إلى إمكانية نسبة مثل هذهِ الأمور الحادثة الى الدين عن طريق الأدلة العامة الواردة بشأنها.

وفي الحقيقة أنَّ هذا الأمر راجع الى نوايا المكلفين ودوافعهم النفسية نحو القيام بالممارسات التي تنضوي تحت العموميات والأدلة الكلية المشروعة، ولا يصح التسرّع بإطلاق لفظ (البدعة) على تلك الممارسات بمجرد وقوعها؛ لأنَّ هذا سيؤدي الى الخلط في المفاهيم، والاضطراب في تطبيقاتها على مواردها الحقيقية.

ولولا أن يطول بنا المقام لاستعرضنا نماذج كثيرة من أقوال البعض حول رمي مثل هذه الممارسات المشروعة بالابتداع، مَعَ إمكانية تصحيح صدورها عن طريق النية المذكورة.

على أنّا نكتفي بإيراد مظاهر وقوع هذا الخلط في حياة المسلمين الأوائل، والتي نقلها البعض في كتبهم من دون أن يوردوا عليها تعليقاً، أو أنَّ البعض كان يعدّ معالجتها بهذهِ الطريقة الخاطئة ناتجة من دوافع الحرص على التشريع، وأنَّها كانت من حالات (الابتداع) المحرَّمة في حياة المسلمين.

فمن تلك المظاهر ما أورده (ابن الجوزي) في (تلبيس إبليس):

(إنَّ سعد بن مالك سمع رجلاً يقول:

ـ لبّيكَ ذا المعارج فقال:

ـ ما كنّا نقول هذا على عهد رسول اللّه)(1) !!

فمن الواضح أنَّ هذهِ المقولة يمكن أن تدرج تحت عموميات التشريع، ولا تكون من قبيل الابتداع.

____________

(1) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص: 25.


الصفحة 227

وجاءَ في (المدخل) لـ (ابن الحاج):

(ومن كتاب الإمام أبي الحسين رزين قال: وعن نافع قال: عطسَ رجل الى جنب عبد اللّه بن عمر، فقال:

ـ الحمد للّه والسلام على رسول اللّه، فقال ابن عمر:

ـ وأنا أقول الحمد للّه والسلام على رسول اللّه، ما هكذا علَّمنا رسول اللّه أن نقول إذا عطسنا، وإنما علَّمنا أن نقول: الحمد للّه ربِّ العالمين)(1) .

فقد يكون هناك ذكر مخصوص لأمر معيَّن يصح التوجيه له، والمحافظة عليه، ولكنَّ هذا لا يعني إلغاء ما تشمله عموميات الشريعة من أدعية وأذكار تشتمل على الحمد والثناء على اللّه (عَزَّ وَجَلَّ)، والصلاة على رسوله الخاتَم (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ).

وذكر في (المدخل) أيضاً نظير ذلك قائلاً:

(وقد كان عبد اللّه بن عمر (رضي اللّه عنهما) ماراً في طريق بالبصرة، فسمع المؤذن، فدخل الى المسجد يصلّي فيه الفرض، فركع، فبينما هو في أثناء الركوع، وإذا بالمؤذن قد وقف على باب المسجد وقال:

ـ حضرت الصلاة رحمكم اللّه.

ففرغ من ركوعه، وأخذ نعليه، وخرج وقال:

ـ واللّه لا اُصلي في مسجد فيه بدعة)(2) .

____________

(1) ابن الحاج، المدخل، ج: 2، ص: 251.

(2) ابن الحاج، المدخل: ج: 2، ص: 262.


الصفحة 228

وهنا يتضح كل الوضوح أنَّ مجرّد القول (حضرت الصلاة رحمكم اللّه)، لا يشكِّل ظاهرة مخالفة للدين، لو لم يقصد منها التشريع على النحو المتقدم، وإنَّما تبقى محتفظة بالعنوان الأولي لها، والتسرع بوصفها بالابتداع في غير محلِّه.

وروي في (المدخل) كذلك أنَّه:

(سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة قل هو اللّه أحد، لا يقرأ غيرها كما يقرأها، فكرهها وقال:

ـ إنَّما أنتم متبعون، فاتبعوا الأولين، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا، وإنما نزل القرآن ليُقرأ، ولا يخص شيئاً دون شيء)(1) .

فتخصيص شيء دون شيء من القرآن إن كان بقصد الجزئية والتشريع وادّعاء نسبة الأمر إلى الدين من دون دليل شرعي خاص، فهو من باب (الابتداع) وإلا فلا يكون كذلك، فإطلاق القول بكراهة الأمر، وعدِّه على خلاف الاتباع أمر غير مقبول.

ويأتي في نفس هذا الاتجاه ما جاءَ في (تلبيس إبليس) أنَّه:

(أخبر رجل عبد اللّه بن مسعود أنَّ قوماً يجلسونَ في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبّروا اللّه كذا وكذا، وسبّحوا اللّه كذا وكذا، واحمدوا اللّه كذا وكذا، قال عبد اللّه:

ـ فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني وأخبرني بمجلسهم.

فأتاهم فجلس، فلما سمع ما يقولونَ، قامَ فأتى ابنَ مسعود، فجاءَ وكان رجلاً حديداً، فقال:

ـ أنا عبد اللّه بن مسعود! واللّه الذي لا اله غيره، لقد جئتم ببدعة ظلماً، ولقد فضّلتم أصحاب محمد علماً، فقال عمرو بن عتبة:

____________

(1) القرطبي، ابن وضّاح، البدع والنهي عنها، ص: 43.


الصفحة 229

ـ استغفر اللّه، فقال:

ـ عليكم بالطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلنَّ ضلالاً بعيداً)(1) .

فهذهِ المعالجة غير صحيحة على إطلاقها لما ذكرناه من تفصيل، على الرغم من أنَّ أغلب مَن ذكر هذهِ الواقعة من علماء العامة عدَّها من مصاديق محاربة (الابتداع) ومواجهته، ولكنَّ تأثيرها كان عكسياً على الدين الإسلامي المبين.

قال الشيخ (يوسف البحراني) في (الحدائق الناضرة):

(لا ريب في أنَّ الصلاة خير موضوع، إلا أنه متى اعتقد المكلف في ذلكَ أمراً زائداً على ما دلَّت عليه هذهِ الأدلة من عددٍ مخصوص، وزمانٍ مخصوص، أو كيفية خاصة، ونحو ذلك، مما لم يقم عليه دليل في الشريعة، فإنَّه يكون محرَّماً، وتكون عبادته بدعة، والبدعية ليست من حيث الصلاة، وإنَّما هي من حيث هذا التوظيف الذي اعتقده في هذا الوقت، والعدد، والكيفية، من غير أن يرد عليه دليل)(2) .

ومن الواضح لدينا أنَّه حينما سَنَّ (عمر) صلاة (التراويح)، وأمر المسلمين بها، وعيِّنَ لهم إماماً خاصاً يقيمها، واستَحسنَ ذلك بعد ذلك، فإنّه لم يَعمد إلى هذا العمل بما هو عمل عام، يأتي به الشخص بنية القربة المطلقة، وامتثال عموميات الأدلة التي تحث المسلمين على صلاة النوافل، أو صلاة الجماعة - على الرغم من أننَّا لا نسلم حتى هذا المقدار لما ذكرناه آنفاً - وإنَّما الملاحظ أنَّه قد أريد لهذا العمل أن يكون عملاً

____________

(1) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص: 25.

(2) البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة، ج: 6، ص: 80.


الصفحة 230

دورياً وثابتاً؛ وبهذا فهو مقصود بكيفيته الخاصة، ومنسوب إلى التشريع بما يحمل من مواصفات وخصوصيات معيّنة، وهذا يعني قصد التشريع المنافي والمبطل لاندراجه تحت العموميات المشار إليها في كلام (ابن أبي الحديد)، هذا فيما لو توافقنا معه جدلاً بشأنها.

وقد حصل هذا الأمر فعلاً، وجيء بهذهِ النافلة تحت عنوان الندب الشرعي، وأخذ بعض المسلمين يتعاهدون هذا العمل دهراً بعد دهر على أنَّه سنَّة ثابتة من صميم التشريع؛ ولذا رأينا فيما سبق أنَّ المصلين الذين نهاهم أمير المؤمنين علي (عَليهِ السَّلامُ) عن أداء هذهِ الصلاة وأوضح لهم أنَّها (بدعة)، ومخالفة لحكم اللّه تعالى، وسنَّة رسوله الخاتَم (صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسِلَّمَ)، قد اعترضوا عليه ونادوا: (واعمراه)! ومن بعد ذلك أصرّوا على مزاولتها، والإقامة عليها.

الملاحظة الثانية:

إنَّ ما يمكن أن تشمله عموميات ما ورد في فضل صلاة الجماعة، والدعوة إلى إقامتها على ما ذكره (المعتزلي) هو خصوص الأمر القابل للاتصاف بهذا العنوان، والذي يمكن بشأنه ذلك، لا الأمر المنهي عنه والخارج عن دائرة الصلوات بشكل عام (إمّا لورود الدليل على عدم صحة الإتيان به، أو لعدم الدليل عليه)، أو الخارج عن دائرة الصلوات التي تُسنُّ فيها صلاة الجماعة، على أحسن التقديرين.

وقد ورد عن الشريعة الإسلامية ثبوت بعض الصلوات المستحبة التي يجوز أن تُصلّى جماعةً بالأصالة أو بالعارض، ولم نرَ فيما بين هذهِ الصلوات صلاةً يُقال لها (التراويح)، على أنَّ هناك نهياً عاماً يشمل الصلاة جماعة في النافلة غير ما ذُكر بخصوصه من استثناء.

قال السيّد (محمد كاظم اليزدي) في (العروة الوثقى):


الصفحة 231

(لا تشرع الجماعة في شيء من النوافل الأصلية وإن وجبت بالعارض بنذرٍ أو نحوه، حتى صلاة الغدير على الأقوى، إلا في صلاة الاستسقاء، نعم لا بأس بها فيما صارَ نفلاً بالعارض، كصلاة العيدين، مَعَ عدم اجتماع شرائط الوجوب، والصلاة المعادة جماعةً، والفريضة المتبرّع بها عن الغير، والمأتي بها من جهة الاحتياط الاستحبابي)(1) .

ونفس أعلام مدرسة الخلفاء اختلفوا في مشروعية أداء (التراويح) جماعةً، ولم تتفق كلمتهم على ذلك، فإليك قول (النووي) في ( المجموع) بخصوص ذلك:

(وأما التراويح، فإن قلنا: لا يُسنُّ فيها الجماعة، فالرواتب أفضل منها، وإن قلنا: يسنُّ فيها، فكذلك على الأصح)(2) .

إذن لا يوجد إطلاق في مشروعية أداء (التراويح) جماعةً، فهناك قولان معتبران في الموضوع، وعلى كلا هذين القولين يختار (النووي) أفضلية النوافل الرواتب عليها.

____________

(1) اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، ج: 1، ص: 764 - 765، مسألة: 2.

(2) النووي، أبو زكريا، روضة الطالبين، ج: 1، ص: 434.