وأما ماذكره من إنه عليه السلام كان أقوى شجاعة فنقول نعم لكن بمعنى إنه أشجع من آحاد شجعان الدنيا لا عن جميع الناس مجتمعاً ومزدحماً عليه وإلا لزم إنثلام عصمة النبي صلى الله عليه وآله في عدم قتل الكفار في أول الأمر ثم في عام الحديبية حيث صالح معهم واعطاهم الذمة كما زعمه عمر مع حضور من معه من علي عليه السلام وحلق كثير من الصحابة حتى أبي بكر الأشجع كما يتناقض هذا الشيخ المكابر بدعواه له فيما سيأتي والجواب
24 ـ قال: ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر علي والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور
منها إنهم رأوا إن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد
ومنها إنهم لما جاءوا وبايعوا إعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع إن لهم فيها حقاً لا للقدح في خلافة الصديق هذا مع الإحتياج في هذا الأمر لخطره الى المشورة التامة ولهذا مر عن عمر بسند صحيح إن تلك البيعة كانت فلتة لكن وقى الله شرها انتهى.
اقول: أولاً إن عدم القدح مقدوح كيف والإجماع إتفاق جميع أهل الحل والعقد فإذا تخلف البعض لا ينعقد الإجماع
وثانياً إنما ذكره في وجه عدم القدح أولاً من إنهم رأوا إن الأمر بمن تيسر حضوره من أهل الحل والعقد غير متجه بل هو رأي فاسد لا دليل عليه من العقل والنقل
وثالثاِ إن ماذكره من إنهم لما جاءوا وبايعوا إعتذروا الخ مردود بما مر من إن بيعتهم في ثاني الحال لم يكن عن طيب النفس والرضا والتسليم وعلى تقدير التسليم يلزم أن تكون خلافته قبل ذلك واقعة على غير سبيل المؤمنين وكفى به منقصة
وأما ماذكره كذباً وإفتراء من إعتذارهم بأنهم أخروا عن المشورة مع إن لهم فيها حقاً مدخول بأن المشورة لم تقع في بيعة أبي بكر اصلاً كما يذكره هذا الشيخ الجاهل متصلاً بذلك من قوله وعن عمر بسند صحيح إن تلك البيعة كانت فلتة فكيف يتوقعون هم إدخالهم في المشوررة دون سائر المهاجرين والأنصار حتى يعتذروا بالتأخير بذلك العذر الواهي بل لا معنى لتأخرهم عن المشورة أصلاً ولا لكونهم فيها حقاً قطعاً.
ثانياً بعد موتها على المنبر لازالت هذه الشبهة انتهى.
اقول: سيفرق هذا الجمع ماسيذكره قبيل الفصل الخامس حيث قال: إن أبا بكر أرسل اليهم بعد ذلك يعني الى علي والعباس والزبير والمقداد فجاءوا فقال للصحابة هذا علي ولا بيعة لي على عنقه وهو بالخيار في أمره إلا فإنكم بالخيار جميعاً في بيعتكم إياي فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من بايعه الخ وأيضاً لا وجه لتجديد البيعة الواقعة على رؤوس الأشهاد لأجل إنقطاع المبايع وعزلته في بيته في بعض الأغراض من غير إظهاره لمن بايعه ليخلعه وينكر عليه وإلا لوجب تجديد بيعة كل من سافر عن أبي بكر مثلاً بعد البيعة الى مدة ثم رجع اليه وهل هذا إلا إضحوكة يتلهى بها الصبيان كما إن فساد تقييد ذلك التجديد ووقوعه على المنبر مما يكاد يبصره العميان.
26ـ قال: وحى النووي بأسانيد صحيحة عن سفيان الثوري إن من قال: إن علياً كان أحق بالولاية فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين وما أراه يرفع له عمل الى السماء إنتهى.
اقول: النووي عندنا أحقر من نواة الحشف البالي، والثوري عجل جسد له خوار عالي؛ وتخطئة أبي بكر وعمر واتباعهما مما وافق فيه السماوات والأرض فلا يبالي بها
الرد على النصوص المزعومة من القرآن والسنة في خلافة ابي بكر
27 ـ قال:
الفصل الثالث في النصوص السمعية الدالة على خلافته من القرآن والسنة
أما النصوص القرآنية فمنها قوله (يا أيها الذين آمنوا من يتردد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) أخرج البيهقي عن الحسن البصري انه قال: هو والله أبو بكر لما إردت العرب جاهدهم هو وأصحابه حتى ردهم الى الإسلام انتهى.
اقول: ليس لأحد ممن حاربهم ابو بكر باصحابه من اهل الردة كما ذكره إبن حزم في مسئلة احكام المرتدين من كتابه الموسوم بالمجلى حيث قال: ان المتسمين باهل الردة قسمان قسم لم يؤمن قط كأصحاب مسيلمة وسجاح فهؤلاء حربيون لم يسلموا قط لايختلف أحد في إنه يقبل توبتهم وإسلامهم والثاني قوم أسلموا ولم يكفروا بعد إسلامهم لكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها الى أبي بكر فعلى هذا قوتلوا ولم يختلف الحنفيون والشافعيون في إن هؤلاء ليس لهم حكم المرتد أصلاً وهم قد خالفوا فعل أبي بكر فيهم ولا نسميهم أهل الردة ودليل ماقلناه شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه:
قال الرواي فلما توطأ الأمر لأبي بكر بعث خالد بن الوليد في جيش وقال علمت ماقال إبن نويرة في المسجد على رؤوس الأشهاد وما أنشده من شعره ولسنا نأمن من أن ينفتق علينا منه فتق لا يلتأم والرأي أن تخدعه وتقتله وتقتل كل من يبارزك دونه وتسبي
27 ـ قال: قال النووي في تهذيبه: واستدل أصحابنا على عظيم علم الصديق بقوله في الحديث الثابت في الصحيحين «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه وآله لقاتلتهم على منعه» واستدل الشيخ ابو إسحاق بهذا وغيره في طبقاته على إن أبا بكر أعلم الصحابة لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو ثم ظهر لهم بمباحثته لهم إن قوله هو الصواب فرجعوا اليه انتهى.
اقول: قد بينا سابقاً نقلاً عن إبن حزم إن من منع أبا بكر عن إداء الزكاة اليه لم كونوا مرتدين حقيقة إتفاقاً وإنهم لم يمنعوا الزكاة مستحلين في الدين بل منعوه عن أبي بكر لإعتقادهم عدم إستحقاقه للخلافة كما مر فحكمه بقتالهم يكون جهلاً لا علماً وبالجملة إن اراد بذلك العلم العلم الذي كان يسدعيه إنتظام خلافته وحصول مصلحته بالإنتقام منهم فهو مسلم لكن لا يجدي نفعاً وإن اراد العلم المطابق لحكم الله تعالى ورسوله فهو ممنوع كيف وقد روى صاحب الفتوح ما سيعترف به هذا الشيخ الجامد عند تقرير
29 ـ قال: ومن الآيات الدالة على خلافته أيضاً (قل للمخالفين من الأعراب ستدعون الى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وأن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً اليماً) فإن قلت يمكن ان يراد بالداعي في الآية النبي صلى الله عليه وآله أو علي عليه السلام قلت لايمكن ذلك مع قوله تعالى (قل لن تتبعونا) ومن ثم لم يدعوا الى محاربة في حياته صلى الله عليه وآله إجماعاً كما مر وأما علي عليه السلام فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام بل لطلب الإمامة ورعاية حقوقها وأما من بعده فهم عندنا ظلمة وعندهم كفار فتعين إن ذلك الداعي الذي يجب بإتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب أحد الخلفاء الثلاثة وحينئذ سيلزم عليه خلافة ابي بكر على كل تقدير لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها النانشئان عنها المتربتان عليها.
اقول: قد علم مما قدمنا في تقرير الآية السابقة إن هذه الآية أيضاً إنما تنطبق على علي عليه السلام في قتاله الطوائف الثلاثة ولو سلم إن مفاد هذه الآية مافهمه هذا الشيخ الجامد فغاية مايلزم منه ترتب الثواب على فعل المأمور به في الآية والعقاب على تركه من حيث إنه كان إطاعة أو مخالفة لله تعالى ولا يلزم منه ترتبها على مجرد إطاعة الداعي المذكور في الآية أو على مجرد مخالفته من حيث إنه إطاعته أو مخالفته حتى يلزم منه فضيلة الداعي وكون إطاعته مثلاً من حيث إنه إطاعته مستلزمة للثواب
منها الحديث المشهور المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وآله «من مات ولم يعرف أمام زمانه مات ميتة جاهلية» لظهور إن الجاهل لشيء من الفروع لا يكون ميتة كذلك قال الشريف الرضي رضي الله عنه: قد تعلق أبو علي الجبائي من المعتزلة على عدم كون المراد من الآية من حاربهم امير المؤمنين عليه السلام من أهل الجمل وأهل صفين وأهل النهر بقوله تعالى فيها (أو يسلمون) وإنهم كانوا مسلمين وأول ما فيه إنهم غير مسلمين عنده وعند اصحابه لأن الكبائر تخرج عن الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام على مذهبهم ثم مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام معروف لأنهم عندنا كانوا كفاراً
لوجوه منها إن من حاربه كان مستحلاً لقتله مظهراً لأنه في إرتكابه على حق ونحن نعلم إن من أظهر إستحلال شرب جرعة خمر فهو كافر بالإجماع وإستحلال دم المؤمن فضلاً عن أفاضلهم وأكابرهم أعظم من شرب الخمر واستحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفاراً
ومنها وإنه صلى الله عليه وآله قال له عليه السلام بلا خلاف بين أهل النقل «حربك ياعلي حربي وسلمك سلمي» ونحن نعلم إنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام ومن أحكام محاربي النبي صلى الله عليه وآله الكفر بلا خلاف
ومنها إنه صلى الله عليه وآله قال له بلا خلاف أيضاً «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» وقد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة إنتهى فلا يلزم إسلام هؤلاء قطعاً ولا مزاعمه من خلافة ابي بكر وأما تعليله لذلك بأن حقية خلافة الآخرين
30ـ قال: ومن تلك الآيات أيضاً قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم وليمكننهم دينهم الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئاً) قال إبن كثير هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق انتهى.
اقول: لا إنطباق له بما قصده اصلاً إذ لم يتحقق الى يومنا هذا تبديل الخوف بالأمن في أكثر الأقطار ولا إنتفاء الشرك بالكلية كما يدل عليه قوله تعالى(لا يشركون بي شيئاً) وإنما تنطبق الآية على خلافة المهدي المنتظر عليه السلام لما دل عليه الحديث المتواتر المتفق عليه في أنه من إنه عند ظهوره يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
31 ـ قال: ومنها قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون) وجه الدلالة إن الله سماهم صادقين ومن شهد الله سبحانه له بالصدق لا يكذب فلزم إنما أطبقوا عليه من قولهم لأبي بكر ياخليفة رسول الله صادقون فيه فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته انتهى.
اقول: فيه نظر ظاهر لأنه قد وصف الله تعالى بالصدق من تكاملت له الشرائط المذكورة
ومنها ما هو مشاهد كالهجرة والإخراج من الديار والأموال
ومنها ماهو باطن لايعلمه الا الله تعالى وهو إبتغاء الفضل والرضوان من الله ونصرة الله ورسوله ولا ريب إن الإعتبار في
32 ـ قال: ومنها قوله تعالى (إهدنا السراط المستقيم، سراط الذين أنعمت عليهم) قال الفخر الرازي: هذه الآية تدل على إمامة أبي بكر لأنا ذكرنا إن تقدير الآية إهدنا سراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى إن الذين أنعم عليهم من هم بقوله تعالى (اولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) ولا شك إن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر فكان معنى الآية إن الله تعالى أمر أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الإقتداء به فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر انتهى.
اقول: تسمية أبي بكر بالصديق إنما كان من عند أولياءه الكذابين الذين صدقوه لأغراض لا تخفى على أولي النهى وقصدوا بهذه التسمية ترويج أمره لا من عند الله
33 ـ قال: وأما النصوص الواردة عنه المصرحة بخلافته والمشيرة اليها فكثيرة جداً.
أقول ـ إن كان مرجع الضمير في عنه هو أبا بكر كما هو الظاهر فتوجه التهمة والمصادرة اليه ظاهر؛ وإن كان المرجع هو النبي صلى الله عليه وآله فجميع ماروي في شأنه عنه صلى الله عليه وآله موضوعات عندنا لا تنهض أيضاً حجة علينا خصوصاً وقد ساعدنا في ذلك إمام محدثي أهل السنة وأفضل متأخريهم الشيخ مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس في كتابه المشهور الموسوم بسفر السعادة حيث قال: إنما ورد في فضائل أبي بكر فهي من المفتريات التي يشهد بديهية العقل بكذبها إنتهى فتدبر.
34 ـ قال: الأول أخرج الشيخان عن جبير بن مطعم قال: أتت أمرأة الى النبي صلى الله عليه وآله فأمرها أن ترجع اليه فقالت أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تقول الموت قال «إن لم تجديني فأتي ابا بكر» وأخرج إبن عساكر عن إبن عباس قال جائت إمرأة الى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله شيئاً فقال لها تعودين فقالت يارسول الله صلى الله عليه وآله إن عدت فلم أجدك تعرض بالموت فقال إن جئت فلم تجديني فأتي أبا بكر فإنه الخليفة من بعدي.
اقول: لانسلم صحة الحديث كسائر ما رووه في مدحه ولو سلم جاز حمل الخليفة على المعنى اللغوي كما مر إذ لم يتبين في الحديث إن أمر النبي صلى الله عليه وآله برجوع السائل اليه أولاً والى أبي بكر ثانياً كان في أمر ديني يتعلق بالخلافة الشرعية فجاز أن
35 ـ قال: الثاني، أخرج أبو القاسم البغوي بسند حسن عن عبدالله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول «يكون خلفي إثنى عشر خليفة ابو بكر لا يلبث إلا قليلاً» قال الأئمة صدر هذا الحديث مجمع على صحته وارد من عدة طرق اخرجه الشيخان وغيرهما فمن تلك الطرق «لايزال هذا الأمر عزيزاً ينصرون على من ناواهم عليه الى إثني عشر خليفة كلهم من قريش» رواه عبدالله بن أحمد بسند صحيح ومنها «لا يزال هذا الأمر صالحاً» ومنها «لايزال هذا الأمر ماضياً» رواه أحمد ومنها «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم إثنى عشر رجلاً» ومنها «إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم إثني عشر خليفة» ومنها لايزال الإسلام عزيزاً منيعاً الى إثني عشر خليفة» رواها مسلم ومنها للبنرار «لايزال أمر أمتي قائماً حتى يمضي إثنى عشر خليفة كلهم من قريش» زاد ابو داود فلما رجع الى منزله أتته قريش فقال ثم يكون ماذا ؟ قال: ثم يكون الهرج» ومنها لأبي داود «لايزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم إثني عشر خليفة كلهم يجتمع عليه الأمة» وعن إبن مسعود بسند حسن إنه سئل «كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إثني عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» قال القاضي عياض: لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها إنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة وقد وجد هذا فيمن إجتمع عليه الناس الى أن إضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة في زمن الوليد بن يزيد فاتصلت تلك الفتن بينهم الى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم. قال شيخ الإسلام في فتح الباري: كلام القاضي هذا أحسن ماقيل في هذا الحديث وارجحه لتأييده بقوله في بعض طرقه صحيحة كلهم يجتمع عليه الناس والمراد باجتماعهم إنقيادهم لبيعته والذي إجتمعوا عليه هم الخلفاء الثلاثة ثم علي الى أن وقع أمر
وأما إستدلال هذا الشيخ الجامد بها على خلافة الثلاثة وعلي والحسن وبعض من بعدهم من بني أمية وبني العباس ففيه نظر من وجوه
أما أولاً فلمنع صحة الحديث الأول سيما واول راويه عبدالله بن عمر الذي لم يعمل بحديثه أبو حنيفة قط كما مر سابقاً بشهادة
وأما ثانياً فلأن ما في روايته عن أبي داود من وصف الإثني عشر بكون كلهم مجمعاً عليه الأمة مخل في مطلوبه لأن أحداً من الخلافاء الثلاثة بل الأربعة لم يجتمع عليه الأمة إجتماعاً حقيقياً شرعياً بل تخلف عن كل واحد جماعة وإنما ثبتت خلافتهم عند أهل السنة ببيعة الواحد الإثنين كما مر وإن اردا بذلك الإجتماع الإجتماع اللغوي فعلى تقدير تحققه في بعضهم فهو لايصلح إمارة على الخلافة الحقيقة حتى يليق من النبي صلى الله عليه وآله أن يجعل ذلك إمرة عليه وبهذا يضعف كلام قاضيهم وشيخ إسلامهم كما يظهر عند التأمل.
وأما ماذكره شيخ إسلامهم من إن المراد بإجماعهم إنقيادهم لبيعته فهو إصلاح
وأما ثالثاً فلأنه يلزم على تأويل قاضيهم أن يكون معاوية الباغي، وجروه الخمير العاوي، داخلاً في الخلفاء الذين يكون الإسلام بهم عزيزاً
ومما إفتخر النبي صلى الله عليه وآله بوجودهم بعده وفساد ذلك ظاهر جداً هذا مع إعتراف محققي الجمهور بأن معاوية وجروه لن يكونا من الخلفاء بل كانا من ملوك الإسلام وكذلك الكلام في إبن الزبير فقد قال إبن عبد البر الشافعي في كلام الإستيعاب «إنه كانت فيه خلال لا تصلح معها للخلافة لأنه كان بخيلاً ضيق العطن، سيء الخلق، حسوداً كثير الخلاف، أخرج محمد بن الحنفية ونفي عبدالملك بن العباس الى الطائف» وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:«مازال الزبير يعد منا أهل البيت حتى نشأ عبدالله؛ انتهى» ومع ظهور بغيه وفساده لم يلحقه الندامة على ذلك أصلاً وكان مصراً على عداوة أهل البيت عليهم السلام حتى ذكر في كتاب كشف الغمة ذلك وغيره «إنه في أيام إمارته كان يخطب ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وآله فقيل له في ذلك فقال: إن له أهيل سوء إذا ذكرته اشروا وشمخوا بإنوفهم» وأيضاً يلزم خلوا الأزمنة الفاصلة بي الخليفتين الصالحين المنتجبين لهم من بني أمية وما بعد تمام الإثني عشر منهم عن الخليفة والإمام فيلزم عليهم أن يكون الأحكام المنوطة على آراء الخلفاء خصوصاً عند الشافعي معطلة في تلك الأزمنة الخالية وهو كما ترى.
وأما رابعاً فلأن قوله «لم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك» مدخول بأن الحسين عليه السلام كان إماماً معصوماً ولطفاً عظيماً من الحق سبحانه الى الخير وهم أختاروا النار، بإطفاء نوره في هوى يزيد الخمار كما إن زكريا ويحيى كان لطفين من الله تعالى الى الخلق واختار الخلق في قتلهما الضلالة على الهدى (اولئك الذين إشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت
ولقد إتضح بما قررناه بقاء هذه الأحاديث صريحة في إن خلفاء النبي صلى الله عليه وآله ونقباءهم الأئمة الإثنى عشر من اهل البيت عليهم السلام كما اشرنا اليه سابقاً وإن كل مانقله هذا الشيخ إلا برد من التأويلات الباردة لايوجب برد الخاطر ولقد أنضف حيث شهد بما ذكرنا المولى فصيح الدين الدشتبياضي الذي كان إستاذ الأمير علي شير المشهور برسالته الموسومة بإلجام البغاة وإلزام الغلاة حيث قال: وقد أشكل على مفهوم الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وآله «إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم إثنى عشر خليفة كلهم من قريش» وفي رواية «لايزال الإسلام عزيزاً الى إثني عشر خليفة كلهم من قريش» قال في شرح المشارق والمصابيح «يريد بهذا الأمر الخلافة وأما العدد فقيل: ينبغي أن يحمل على العادلين منهم فإنهم إذا كانوا على سنة الرسول صلى الله عليه وآله وطريقته يكونون خلفاء وإلا فلا ولا يلزم أن يكون على الولاء هذا ماقالوه لكن لإمتنع فيه والله أعلم بما هو المراد منه» انتهى كلام الفصيح، وكفى بهم نصح النصيح، لمن سلك الإعوجاج الفضيح
ومما ينبغي أن ينبه عليه ان قوله «ولكن لإمتنع فيه» قد وقع على سبيل رعاية الأدب لأصحابه وإلا فبطلانه ظاهر جداً كما عرفت
والحاصل إنه إن اعتبر خلافة إثني عشر على الولاء يلزم أن يكون معاوية الباغي، وجروه الغاوي والوليد الزنديق المرتد المريد، المستهدف لمصحف المجيد، وأمثالهم من الخلفاء والأئمة الذين يكون بهم الإسلام عزيزاً وهذا مما لا يتفوه به مسلم
وايضاً يلزم أن تكون الأحكام المنوطة على آراء خلفاء الدين خصوصاً على مذهب الشافعي معطلة بعد إنقضاء هؤلاء الإثني عشر الى يوم الدين وإن لم يعتبر ذلك واعتبر إنتخاب العادلين منهم فمع لزوم خطائهم في بعض الإنتخابات يلزم خلوا الأزمنة الفاصلة بين الخليفتين العادلين منهم عن
36 ـ قال: الثالث اخرج أحمد والترمذي وحسنه أبن ماجه والحاكم وصححه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر انتهى.
اقول:
يتوجه عليه القدح من وجوه
أما أولاً فلأن في إسناده خللاً لأنه يعري الى عبدالملك بن عمر عن ربعي بن خداش ثم يرفعونه منهما تارة الى حذيفة اليماني؛ وتارة الى حفصة بنت عمر، فأما عبدالملك فهو من أهل الشام، واخلاف محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، ومن المشهورين بالنصب والعداوة له، ولم يزل يتقرب الي بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر، والطعن على أمير المؤمنين عليه السلام حتى قلدوه القضاء وكان يقبل فيه الرشى ويحكم بالجور والعدوان وكان متظاهراً بالفجور والعبث بالنساء، وله مع كلثم بنت سريع حيث قاضى بينها وبين أخيها الوليد بن سريع قصة مشهورة مذكورة في كتب الجمهور نقلها صاحب كتاب الأنوار من أصحابنا، طويناها على غرها لضيق المقام ثم إن ربعي بن خداش عند اصحاب الحديث من المعدودين في جملة الروافض المتهمين على أبي بكر وعمر فأضافته اليه مع ماوصفناه ظاهر البطلان
وأما روايته عن حفصة بنت عمر فهي من أظهر البراهين على فساده ووجوب سقوطه في الإحتجاج لأن حفصة متهمة فيما روته من فضل أبيها وصاحبه لعداوتهما لأمير المؤمنين عليه السلام وظاهرها ببغضه لهوى أختها عائشة ولما تضمنه من جر النفع اليها والى أبيها.
وأما ثانياً فلأنه إن اريد به تخصيص الإقتداء بهما من كل وجه فيلزم نفي إمامة
وان أريد به الإقتداء بهما في الجملة فجاز أن يكون المراد الإقتداء بهما في بعض الأمور بل يكون قضية في واقعة فلا يجب إستحقاقهما للإمامة.
وأما ثالثاِ فلأنه قد ظهر إختلاف كثير بين أبي بكر وعمر فيلزم أن يكون الناس مأمورين بالعمل بالمختلفين وذلك لا يليق بحال النبي صلى الله عليه وآله.
وأما رابعاً فلأنه لو صح هذا الحديث بالمعنى الذي فهموه منه لكان نصاً على إمامتهما، ولم وقعت المنازعة بين الصحابة في تعيين الإمام بعد النبي صلى الله عليه وآله وقد وقعت؛ فمال بعضهم الى علي عليه السلام، وبعضهم الى أبي بكر، وقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، ولما إحتاج أبو بكر في مدافعة الأنصار الى الإحتجاج عليهم بعشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وقومه، وما شاكل ذلك كان يقول «يامعشر الأنصار قد أمركم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيركم بالإقتداء بنا في جميع الأمور فليس لكم مخالفة أمره عليه السلام
ونحن نعلم قطعاً إنه مع وجود مثل هذه الحجة لا يتمسك بغيرها فلما لم يذكرها علمنا إنه موضوع.
وأما خامساً فالتطرق تهمة التحريف في روايه ولعله صلى الله عليه وآله قال «إقتدوا بالذين من بعدي ابا بكر وعمر» على أن كونا مأمورين بالإقتداء واللذن بعد النبي صلى الله عليه وآله كتاب الله وعترته كما ذكر في الخبر المشهور المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم «إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي» هذا وقال شيخنا الأجل إبن بابويه القمي رحمه الله في كتاب أخبار عيون الرضا «إنهم لم يرووا إن النبي صلوات الله عليه قال إقتدوا بالذين من بعدي ابي بكر وعمر وإنما رووا أبا بكر وعمر منهم من روى أبو بكر وعمر فلو كانت
لا يقال على هذا التقدير يكونان داخلين تحت مطلق الأمر في قوله صلى الله عليه وآله إقتدوا فما الفائدة في افرادهما لأنا نقول الفائدة ماعلمه صلى الله عليه وآله وسلم من شدة خلافهما في ذلك وقد نطق القرآن بإفراد مادخل تحت مطلق العموم كقوله تعالى (فاكهة ونخل ورمان) وقوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) فإنه ليس يمتنع أن يؤتي في الأمر بلفظ الجمع ثم يتبعه بالإشارة الى إثنين على التخصيص بوجهين؛
أحدهما التأكيد كما ذكرناه
والثاني أن تكون العبارة عن الإثنين بمعنى الجمع إتساعاً لتبيينه به عن الواحد وليس فيه من معاني الجمع شيء كما قال سبحانه (هذان خصمان إختصموا) وقال (هل آتيكم نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (الى قوله) خصمان) وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط ما تعلقت به الناصبة في الحديث ولم يبق لهم فيه شبهة كما لا يخفى.
37 ـ قال: الرابع، أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ذلك العبد ما عند الله فبكى ابو بكر وقال بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا لبكائه ان يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان ابو بكر اعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ام من آمن الناس علي في صحبته وماله ابو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لأتخذت ابا بكر خليلاً ولكن اخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب الا سد الا باب أبي بكر» وفي لفظ لهما «لا يبقين في المسجد خوخة الى خوخة ابي بكر» وفي آخر للبخاري «ليس في الناس أحد