وأخرج أيضا قتاله الفرق الثلاث صاحب شرح السنة مسندا إلى ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وأخرجه نظام الدين الشافعي في شرح الطوالع، وابن حنبل في مسنده.
فقد بان لك أن قتاله لهم حسنة وأنه تمهيد للدين في زمان ولايته، كما كان في ابتدائه، وكل من أخرج الحديث أخرجه في فضائله والمعاند الشقي يقول: إن الدين وهن بتوليته، فما أحسن قول بعضهم:
إذا محاسني اللاتي أمن بها | صارت ذنوبا فقل لي كيف أعتذر |
على أنا نرجع ونقول: النبي صلى الله عليه وآله ذكر حديث المنزلة في عدة مواطن آخرها ما أكده له في خروجه إلى تبوك، وذكره ابن حنبل في مسنده عن الخدري وعن سعد بن أبي وقاص بطريقين.
وذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل بطرق آخر والحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الثامن من المتفق عليه من طرق عدة، والبخاري في الربع الأخير من الجزء الرابع من صحيحه، وفي الجزء الخامس أيضا في الكراس السادس ومسلم في صحيحه في أول الجزء الرابع، وعلى حد كراسين في آخره منه.
ومجاهد في تفسيره والنطنزي في خصائصه والخطيب في تاريخه، والعكبري في فضائله وابن التلاج وابن المغازلي وعلي بن الجعد والتنوخي - حتى أن التنوخي وأحمد بن سعيد صنفا كتابين في طرقه - وابن عبد ربه في عقده والجوزي في تحقيقه وفي الجزء الثالث من أجزاء ثلاثة من الجمع بين الصحاح الستة وفي صحيح أبي داود والترمذي وذكر ابن حنبل أيضا أنه قال له ذلك يوم إيخائه له.
فهذه أخبار أئمة القوم واضحة، وأعلام الحق اليقين عليها لائحة، وهي لفساد اعتقادهم فاضحة، ورواه من الصحابة والقرابة نحو من ستة وعشرين ذكرهم التنوخي في كتابه وأسانيده وابن قرطة في مراصد عرفانه.
قلنا: الاستثناء معيار العموم إلا الشركة في النبوة والأخوة من الأبوين، وبقيت الخلافة، وفرض الطاعة، وشد الأزر.
ولأن الأمة بين قائلين فمنهم من قال: أراد جميع المنازل، ومنهم من قال:
خرج على سبب، فلا يعم.
قلنا: قد صح في الأصول أن السبب لا يخص، على أن المسبب المذكور غير معلوم بالتواتر، فلا يقصر الخبر المتواتر في عدة مواضع عن سبب مظنون فذهب ما يهولون به من أن خلافته تختص بالمدينة فإنه متى كان إماما على البعض كان إماما على الكل إذ لا قائل بجمع إمامين.
تذنيب:
قيل: ابن أم مكتوم(1) كان يصلي بالناس، فلا عموم لخلافة علي على المدينة فضلا عن غيرها. قلنا: إنما أراد الله أن يفضح المخلفين عن النبي صلى الله عليه وآله بجعل الأعمى الذي لا يتحرز من النجاسات وغيرها إماما لهم، ونزه عليا عن كونه إماما لهؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، فلا يظن بذلك في إمامته إلا الملحدون.
إن قيل: استثناء النبوة، يتبعه استثناء الخلافة، لأن هارون إنما كان خليفة لكونه نبيا، فإذا خرجت النبوة خرج ما يقتضيه وهو الخلافة.
قلنا: لا نسلم التبعية، ولهذا لو صرح النبي صلى الله عليه وآله بقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى في خلافته إلا أنك لست بنبي) لم يكن مناقضا، ولو خرجت الخلافة من النبوة كان مناقضا.
إن قيل: إنه شبه خلافة علي بخلافة هارون، ولم تحصل الخلافة لهارون بعد الموت، فالتشبيه بها دليل نفيها.
قلنا: لا ملازمة لحصول مانع الموت في الأولى دون الثانية، فإن من أوصى إلى غيره حصل له في حياته استحقاق تصرفه بعد وفاته.
____________
(1) ابن أم كلثوم خ.
قلنا: لا خلاف بين الأمة أنه كان خليفة، وظاهر [ لفظ ] (اخلفني) ينافي أنه ليس خليفة حقيقة، إذ لا يقال للشخص (اخلفني في مصالحك).
إن قيل: فلعل لفظ (اخلفني) حكاية من الله عن موسى، لا نفس كلام موسى، فلا يدل ظاهره على الخلافة. قلنا: لو كان كذلك لم يفهم بحكايته عن موسى شيئا، إذ يجوز طلبه وزارته وشركته، حكاية عن الفضلاء تقتضي ذلك.
على أنا نقول وإن كان شريك موسى في النبوة، جاز اختصاص موسى بإقامة الحدود وغيرها، فليكن استخلافه لها.
إن قيل: فقوله (اخلفني) أمر لا يقتضي التكرار قلنا: المراد بيان أهلية هارون للخلافة واستحقاقه لها، وهو حاصل بذلك.
إن قيل: قوله (لا نبي بعدي) معناه لا نبي بعد نبوتي، وهارون لم يكن له منزلة النبوة بعد موت موسى، فكأن النبي استثنى ما ثبت من منزلة هارون و هو النبوة حال حياة موسى، فيكون لعلي الخلافة حال حياة النبي خاصة.
قلنا: بل لفظة (بعدي) حقيقة فيما بعد الوفاة، فإن من قال لغيره (أنت وصيي تتصدق على الفقراء بعدي) فهم منه بعد الوفاة، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وآله منزلة هارون من موسى في زمانها بل التشبيه بين المنزلتين لا بين أوقاتهما، فكأنه قال أنت مني بمنزلة هارون من موسى بعدي إلا أنه لا نبي بعدي واستغنى بالبعدية الثانية عن الأولى، وهذا من أفصح الكلام ولو صرح بقوله (بعد وفاتي) أو (في حياتي وبعد وفاتي) لم يكن خارجا عن الاستقامة.
إن قيل: الخبر دال على نفي خلافة علي لأنه شبهه بمن لا خلافة له. قلنا:
لا يصح التشبيه بالمسلوب، إذ لا يحسن أن يقال: فلان مني بمنزلة فلان في كونه
____________
(1) الأعراف: 141.
إن قيل: فهارون لو بقي بعد موسى لم يتجدد له منزلة لم يكن حال حياة موسى، فكذا علي لم يتجدد له منزلة بعد النبي لم تكن حال حياة النبي صلى الله عليه وآله وقد علمنا أنه لم يكن إماما في حياة النبي فكذا بعده.
قلنا: لا يمتنع أن يكون إماما حال حياة، وإن لم نسمه بها لعدم تصرفه على أنه يجوز خلافة علي بإحدى شقي خلافة هارون وهو ما بعد الوفاة. لمانع هو الحياة، فإن من قال لغيره: (أنت مني بمنزلة وكيلي) يقتضي كونه بمنزلته في المستقبل دون الماضي.
قالوا: لو أراد الإمامة لقال: بمنزلة يوشع. قلنا: اقتراح الأدلة فاسد، إذ يلزم أن يقال لكل من استدل بأمر هلا استدللت بغيره، فالدليل على هارون كاف عن يوشع بن نون، وخلافة يوشع لا تعلم صحتها لأنها من نقل اليهود وقد قيل إنه كان نبيا، وكانت الخلافة في أولاد هارون ولأن النبي أراد أن يثبت لعلي جميع منازل هارون من الاستخلاف حال الحياة وبعد الوفاة.
على أن النبي صلى الله عليه وآله إنما ذكر هارون لورود القرآن به المزيل للشبهة فيه بخلاف يوشع إذ ليس ذلك حاصلا ليوشع بن نون.
على أن ابن جبر في نخبه وعلي بن مجاهد في تاريخ أسند إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام عند وفاته: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى.
قال الجاحظ: لا يجوز أن يستثني ما لا يملكه وهو النبوة مما يملكه وهو الخلافة. قلنا: بلى ولأنه لا يملك الخلافة بل هي من الله أيضا وإنما استثنى النبوة لئلا يتوهم الشركة فيها كهارون.
قالوا: الخبر يوجب إمامته في حال حياة النبي، قلنا: الظاهر ذلك لولا الاجماع، فيبقى على مقتضاه بعد وفاته صلى الله عليه وآله.
قالوا: فيحمل على ما بعد عثمان. قلنا: لم يقل به أحد لأن المخالف أثبتها
قالوا: فرجوع النبي إلى المدينة يقتضي عزله. قلت: ليس الرجوع عزلا عادة كيف ذلك وقد يجتمع الخليفة والمستخلف في البلد الواحد، ولأن الحضور لم يكن عزلا إلا مع شرطه، ولم ينقل أحد أن النبي شرط ذلك لعلي.
تذنيب:
لما بغض عبدة العجل هارون ومن معه، سموهم رافضة، فأجري ذلك الاسم على شيعة علي عليه السلام لمناسبته لهارون وشيعته، وهموا بقتل هارون، فكذلك العمران واطئا خالدا على قتل علي فبعثت أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر خادمتها تقول له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فقال عليه السلام: رحمها الله ومن يقتل الطوائف الثلاث قبل ذلك، فندم أبو بكر وأطال الجلوس، ثم نهاه فرأى علي السيف مع خالد، فقال له: أو كنت فاعلا؟ قال خالد: إي والله، قال علي عليه السلام: كذبت أنت أجبن خلقه، لست من ذلك، أما والله لولا سبق به القضاء لعلمت أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا.
ثم قال عليه السلام أفبعد قول النبي: (من كنت مولاه فعلي مولاه - أنت مني بمنزلة هارون من موسى)؟ قال: نعم. فقبض على صدره فرغا كالبكر(1) وانساغ في المسجد ببوله.
فاجتمع الناس ليخلصوه فقال الأول: والله لو تمالأ عليه أهل الأرض لما استنقذوه، ولكن نادوه بحق صاحب هذا القبر، ففعلوا فخلى عنه وقال عليه السلام:
لو عزمت على ما هممت به لشققتك شقين.
روى ذلك الحسن بن صالح، ووكيع، وعباد عن أبي المقدام عن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سفيان وابن جبير ووكيع وكان ذلك سيئة
____________
(1) أي ضج وصاح.
وأسند العرفي إلى خالد بن عبد الله القسري قال على المنبر: لو كان في أبي تراب خيرا ما أمر أبو بكر بقتله، وهذا يدل على كون الخبر مستفيضا، ولولا وصية النبي صلى الله عليه وآله لكان علي بالقبض على رؤوس أعدائه، وضرب بعضها في بعض حتى ينشر دماغها مليا.
[ وفي رواية أبي ذر أنه عصر حلقه بين الوسطى والسبابة حتى صاح صيحة منكرة ] وفي رواية البلاذري شاله بهما، وضرب به الأرض فدق عصعصه، فأحدث مكانه، وبقي يقول: هما والله أمراني، فقال عبد اللات لزفر: هذه مشورتك المنكوسة قال ابن حماد في ذلك:
تأمل بعقلك ما أزمعوا | وهموا عليه بأن يفعلوه |
بهذا فسل خالدا عنهم | على أي ما خطة وافقوه |
وقال الذي قال قبل السلام | حديثا رووه فلم ينكروه |
حديثا رواه ثقات الحديث | فما ضعفوه وما عللوه |
أتى ابن معاوية في الصحيح | وركى الرواة الذي أسندوه |
هذا، وقد أسلفنا نصوصا في الباب الثامن فيما جاء في تعيينه من كلام ربه عند قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما(1)) وغيره.
نكتة:
اتصاف علي عليه السلام بهذه المنازل، ليس سلبيا ولا نقيض الاتصاف، فهو ثبوتي فمحله ليس غير علي برواية الفريقين، فقد بان الحق من المين، لكل ذي قلب وعين، وفي ذلك قال علي بن الحسين، وقد سمع من يقدم الشيخين:
فمن شرف الأقوام يوما برأيه | فإن عليا شرفته المناقب |
وقول رسول الله والحق قوله | وإن رغمت منه أنوف كواذب |
____________
(1) البقرة: 124.
بأنك مني يا علي معالنا | كهارون من موسى أخ لي وصاحب |
وقال الحماني:
وأنزله منه على رغمة العدى | كهارون من موسى على قدم الدهر |
فمن كان من أصحاب موسى وقومه | كهارون لا زلتم على طلل الكفر |
وقال منصور:
رضيت حكمك لا أبغي به بدلا | لأن حكمك بالتوفيق مقرون |
آل الرسول خيار الناس كلهم | وخير آل رسول الله هارون |
ومنها قوله صلى الله عليه وآله يوم الدار: (أنت أخي ووصيي وخليفتي) لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين(1)) فجمع النبي صلى الله عليه وآله منهم أربعين رجلا وقال: قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، من يوازرني؟ قال ذلك ثلاثا وعلي يقوم في كل مرة ويقول: أ؟ ا ذكر ذلك الفراء في معالمه وهو بهذا الفن أعلم الصحابة، و الثعلبي بإسناده في تفسيره، وغيره من طرق كثيرة.
وقد ذكر ابن حنبل في مسنده قول النبي صلى الله عليه وآله لسلمان: وصيي ووارثي علي بن أبي طالب، وأسنده إلى ابن عباس أيضا وإلى علي عليه السلام أيضا وذكره ابن إسحاق في كتابه وأبو رافع والشيرازي والخركوشي ورواه الطبري في موضعين من تاريخه والجرجاني في صفوته وابن جبر في نخبه.
وفي مناقب ابن المغازلي: لما انقض الكوكب في دار علي قال النبي صلى الله عليه وآله من انقض في داره فهو الوصي بعدي، قالوا: غوي في حب علي، فنزلت (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى)(2).
وفي مجمع البيان للإمام الطبرسي أخبر السيد أبو الحمد عن الحاكم الحسكاني عن جماعة تاسعهم الضحاك ابن مزاحم أنه لما رأت قريش تقديم النبي عليا قالوا:
فتن به، فنزلت (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون(3)).
____________
(1) الشعراء: 214.
(2) النجم: 1 و 2.
(3) القلم: 6.
وفيها أيضا: اختارني نبيا واختار عليا وصيا، وفيها عن أنس قال النبي صلى الله عليه وآله: إن خليلي، ووزيري، وخليفتي في أهلي، وخير من أترك بعدي، ينجز موعدي، ويقضي ديني، علي بن أبي طالب.
قال الحميري:
وقيل له أنذر عشيرتك الأولى | وهم من شباب أربعين وشيب |
فقال لهم إني رسول إليكم | ولست أراني عندكم بكذوب |
وقد جئتكم من عند رب مهيمن | جزيل العطايا للجزيل وهوب |
فأيكم يقفي مقالي وأمسكوا | فقال ألا من ناطق مجيب |
ففاز بها منهم علي وسادهم | وما ذاك من عاداته بغريب |
وقال أيضا:
ويوم قال لهم جبريل قد علموا | أنذر عشيرتك الأدنين إن نذروا |
فقام يدعوهم من دون أمته | فما تخلف عنه منهم بشر |
ومنهم آكل في مجلس جذعا | وشارب ملء عس وهو محتقر |
فصدهم عن نواحي قصعة شبع | فيها من الحب صاع فوقه الوذر |
فقال يا قوم إن الله أرسلني | إليكم فأجيبوا الله وادكروا |
فأيكم يجتبي قولي ويؤمن بي | أني نبي رسول فانبرى عذروا |
فقال تبا أتدعونا لتلفتنا | عن ديننا ثم ثاب القوم واشتمروا |
من ذا الذي قال منهم وهو أحدثهم | سنا وخيرهم في الذكر إن سطروا |
آمنت أنك قد أعطيت نافلة | لم يعطها أحد جن ولا بشر |
وإن ما قلتها حق وإنهم | إن لم يجيبوا فقد خابوا وقد خسروا |
ففاز منهم بها والله أكرمه | فكان سباق غايات إذا ابتدروا |
قلنا: قد أنذرهم ثم خص بطلب الوزارة واحدا منهم، زيادة في ترغيبهم لوفور علمه أن الرسالة يسارع إليها كل منهم، ولا منافاة بين إنذارهم وطلب الوزارة من بعضهم.
قال: الايصاء والاستخلاف على قوم، لا يكون إلا بعد انقيادهم، وهم كانوا حينئذ بخلاف ذلك.
وكيف يليق من النبي تحكيم واحد عليهم، ويقول: استمعوا له وأطيعوا وهم حينئذ لم يسمعوا للنبي ولم يطيعوا وهل هذا إلا كالمثل المضروب، فمن قال لآخر: أعطني دينارا بعلامة أن استادي طلب منك فلسا فلم تعطه.
قلنا: النبي لا ينطق عن الهوى، وإنما فعل ذلك بوحي من الله تعالى، ولا منافاة بين أن ينذرهم ثم يقول هذا خليفتي عليكم، وأما ذكر (اسمعوا وأطيعوا) فمختلف منهم، فإن نازع في اختلافه أحد قلنا له قد أنكرت أصل الرواية الواردة به، و حيث عارض بالمثل قول النبي صلى الله عليه وآله فهو بإثمه يبوء، قال تعالى (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء(1)) فقد تبع رؤساء الشياطين الذين حذر العلماء عنها طلاب اليقين، شوائب الطبيعة، ووساوس العادة، ونواميس الأمثلة.
قال: ذكر صاحب المعالم عن علي عليه السلام أن الرواية التي فيها ذكر الوصية لعلي مرسلة وليس فيها ذكر الانذار المطابق للآية، فهي مضادة لها، وذكر ثلاث روايات عن غيره مسندة وخالية عن ذكر الوصية فهن معارضات لها.
قلنا: تقرر في الأصول قبول الزيادة، وقد جاز العمل بالمرسل إذا علم من طريق آخر أنه مسند كمراسيل ابن المسيب، وقد جاء في صحيح البخاري مراسيل
____________
(1) النحل: 60.
ومن العجب أنه يضعف قول أصحابه طلبا للشبهة ونحن لا نذكر قول أصحابنا طلبا للزوم الحجة.
قال: رويتم أن عليا لم يزل مسلما أو أسلم قبل يوم الدار، وهو المأمور بجمع العشيرة الكفار، فلا معنى لإجابته إلى الموازرة، والخطاب ليس له مع بلاغته، بل للكفار.
قلنا: أما أنه لم يزل مسلما، فلا معنى لاختصاصنا به إذ أجمع المسلمون عليه وجاءت روايات الخصم فيه، قال الزمخشري في كشافه قال النبي: صلى الله عليه وآله سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، و مؤمن آل فرعون. ورواه صاحب الوسيلة وزاد: أكرمهم وأفضلهم علي بن أبي طالب وبهذا يندفع قولهم إن أبا بكر صديق لأنه أول من صدق، وقد سبقه علي وخديجة وورقا وغيرهم.
قوله: لم يحسن جوابه بالموازرة إذ لم يتناوله الخطاب، قلنا: فقد رويتم قول النبي صلى الله عليه وآله يوم الخندق: من يبرز إلى عمرو بن [ عبد ] ود ويكون جاري في الجنة فلم يجبه أحد، فقام علي فقال له: إنه عمرو، فقال علي: وإن كان عمرا، فقد أجاب ولم يتناوله الخطاب.
وقد ذهب أكثر المحققين إلى أن إبليس لم يكن من الملائكة، وتناوله الأمر بالسجود، لأجل حضوره فيهم، وجاز أن كلام علي بالموازرة ابتداء لا جواب قول النبي، فلا منافاة للبلاغة.
قال: شرط الوصية والاستخلاف، الجزم بهما، لا تعليقهما بشرط يوجد ولا يكونان إلا لمعين، والنبي صلى الله عليه وآله قال: من يوازرني؟ فلا تعيين، قلنا: ذلك وعيد بالوصية، فلا يشترط الجزم بالوعيد، ولا التعيين، ولم تحصل الوصية لأحد في حال الخطاب، بل لعلي خاصة بعد الجواب.
قال: إجابة واحد تنفير الباقين، قلنا: لا تنفير مع الانقياد التام، وعندكم أن الله يفعل لا لغرض، فلم نفيتموه هنا.
قال: جمعهم يقتضي ترغيبهم، فطلب الوزارة من بعضهم يقتضي تزهيدهم، فلا فائدة في جمعهم، قلنا: إيمانهم يرغبهم فيه بما يعمهم، وهو قوله جئتكم بخير الدنيا والآخرة ونحوه.
قال: الوصية هي الاستخلاف، فكيف عطفه عليها. قلنا: لا ترادف إذ بينهما عموم من وجه، ولو سلم الترادف جوزنا العطف مثل (صلوات من ربهم ورحمة(1)) على أن كتبهم قد نطقت بالوصية فإذا سلم الترادف التزم بالاستخلاف.
قال: علي كان مؤمنا فلا معنى لوزارته في ذلك اليوم. قلنا: أليس كل مؤمن خليفة.
قال: إن كان غرض النبي صلى الله عليه وآله الوصية لأحدهم استحال أن يكون لعلي ويلزم تحصيل الحاصل إن كان الغرض ثبوتها لعلي. قلنا: قد يكون الغرض لهم ولم يقع وقد أراد شيئا ولم يقع، ويجوز أن يكون الغرض إظهار أن الوصية لعلي لجواز التأكيد مرة بعد مرة.
قال: من الحاضرين من آمن كالعباس، وقد بايع أبا بكر. قلنا: قد تركها أولا فجاز وقوعها تقية.
قالوا: رواية الاستخلاف لم ترد إلا من علي فهو متهم، قلنا: قد جاءت من طرقكم عن ابن حنبل، والبراء بن عازب وغيرهما، وليس ذلك شهادة بل رواية ولم يفرق أحد بين الروايتين لنفسه وغيره، بعد ثبوت عدالته، فضلا عن الثابتة
____________
(1) البقرة: 157.
قال: إن سلمت الرواية، اقتضت كونه خليفة على العشيرة، قلنا: لا قائل بالفرق، ويلزم اجتماع إمامين، ولم يقل به أحد، ولهذا قال عمر للأنصار (سيفان في غمد لا يجتمعان) ولا يلزم من تخصيصهم بالانذار تخصيصهم بالاستخلاف إذ أحدهما غير الآخر.
قال: كان علي صبيا فإسلامه غير معتبر ولا بالتبعية لأصلية الكفر من أبويه، والاستخلاف لا يكون إلا للبالغ. قلنا: لم يشترط أحد من المسلمين البلوغ في استخلاف الله ورسوله، وقد قال تعالى (وآتيناه الحكم صبيا(1)) وقال (ففهمناها سليمان(2)) وقد كان حينئذ ابن أحد عشر سنة، وعند أصحابنا أن عليا أسلم و هو ابن خمسة عشر سنة أو أربعة عشرة، وروى الخمس عشرة العاقولي منهم في شرحه للمصابيح، وروى الأربعة عشرة منهم شارح الطوالع، وقد ذكر البخاري عن المغيرة قال: احتلمت وأنا ابن اثنى عشر سنة.
ولأن النبي صلى الله عليه وآله دعاه إلى الاسلام صبيا فلو لم يكن يحكم بإسلامه، لزم العبث في دعائه، وإن لم يكن بدعائه كان إسلامه من خصائصه، لكمال عقله حال صغره دون غيره، وقد عرف أن التكليف العقلي لم يشترط فيه البلوغ الشرعي وقد أخرج صاحب الوسيلة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين قبل أن يسلم بشر.
وأخرج أبو نعيم في حليته قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: لك سبع خصال لا يحاجك أحد فيهن يوم القيامة، أنت أول المؤمنين بالله إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم
____________
(1) مريم: 11.
(2) الأنبياء: 79.
فقد مدحه على سبق إيمانه، ودل على عظم شانه، والمعاند يقول لا يحكم بإيمانه، مع انتشار ذلك في كتب إخوانه، وقد سلف ذلك في الفصل الثاني والعشرين من الباب السابع مستوفى، اخترنا هنا إيراد طرف منه فإن لكل مقام مقالا.
قوله: (لكفر أبويه) مردود بما أخرجه صاحب كتاب بشائر المصطفى أن أمه فاطمة بنت أسد انشق لها ظهر الكعبة، فدخلت إليها وولدت عليا فيه، فلما خرجت قالت: فضلت على آسية ومريم، بدخول البيت الحرام، والأكل من ثمار الجنة، دون كثير من الأنام، وهتف بي هاتف سميه عليا فهو علي والله العلي شققت له اسما من اسمي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام عن بيتي، ويؤذن فوق ظهره، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه.
هذا وقد ربت أمه النبي صلى الله عليه وآله ورأت كراماته حال صغره، والنبي بقميصه كفنها، ونزل بنفسه إلى قبرها، وشفع إلى الله فيها، وكان ذلك من دلائل إيمانها وأما أبوه فربما تمسك في كفره بقوله تعالى (وهم ينهون عنه وينأون عنه(1)) قيل: المراد أبو طالب ينهى عن أذى النبي وينأى عنه، فلا يؤمن به، والمخالف يزعم أن لفظ الجمع لا يطلق على الواحد، حيث قالوا (الذين يقيمون الصلاة(2)) هو علي، وهنا يطلقه على أبيه.
وفي تفسير الثعلبي أن قريشا تنهى أبا طالب عن نصر النبي صلى الله عليه وآله وكلامه في الذب عنه مشهور، حتى أتوه بعمارة بن الوليد يتخذه خادما عوضه، فقال: ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أربيه وأغذوه، وأعطيكم ابني تقتلونه، رواه الواقدي وغيره ثم قام إليه وأنشأ الأبيات الآتية.
____________
(1) الأنعام: 26.
(2) المائدة: 58.
والله لا يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وأبشر بذاك وقر منه عيونا |
ودعوتني وزعمت أنك ناصح | ولقد صدقت وكنت ثم أمينا |
وعرضت دينا لا محالة أنه | من خير أديان البرية دينا |
وقد اتفق على نقلها مقاتل والثعلبي وابن عباس وابن دينار وزاد أهل الضلال فيها بيتا ظلما وزورا إذ لم يكن في جملتها مسطورا:
لولا الملامة أو حذاري سبة | لوجدتني سمحا بذاك مبينا(2) |
والعجب من صاحب الكشاف كيف ضمه إليها، ولم يتنبه لمنافاته لها، و إذا أخذ الله قوما بما يظلمون أتاح لبهم تناقض الكلام، من حيث لا يعلمون.
وحث أخاه حمزة على نصره، فقال:
فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن | جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا |
وحض النجاشي على نصرة النبي صلى، الله عليه وآله فقال:
ليعلم مليك الحبش أن محمدا | وزير لموسى والمسيح بن مريم |
أتى بهدي مثل الذي أتيا به | وكل بأمر الله يهدي ويعصم |
وإنكم تتلونه في كتابكم | بصدق حديث لا حديث المترجم |
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا | فإن طريق الحق ليس بمظلم |
____________
(1) المائدة: 25.
(2) قوله (مبينا) حال من قوله (سمحا) أي لولا مخافة قريش ومعرتهم لوجدتني أعلن بالاقرار، وهذا يقتضي بمفهومه أن الإيمان كامن في قلبه لم يبرزه لأجل التقية ليتمكن بذلك من حفظ النبي صلى الله عليه وآله. كما؟ لا يخفى.