(تتمة الباب الثاني عشر)
(في الطعن فيمن تقدمه بظلمه وعدوانه)
النوع الثاني
* (في عمر) *
وهو أمور. منها: أن النبي صلى الله عليه وآله طلب دواة وكتفا ليكتب لهم كتابا لا يختلفون بعده، وأراد النص على علي عليه السلام وتوكيد ما قال في حقه يوم الغدير وغيره، فلما أحس عمر بذلك منعه وقال: إنه يهجر (1) هذه روايتهم فيه قالوا: إنما أراد أن يكتب بخلافة أبي بكر إذ أسر الحديث المضمون في
____________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم (ج 1 ص 32 ط دار إحياء الكتب العربية) ولفظه:
حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله وجعه قال:
ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر الله قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول، إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كتابه.
وهكذا في كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني (ج، ص 7) ولفظه: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن معمر وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وآله هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا الاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله قال رسول صلى الله عليه وآله:
قوموا: قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
قال السيد شرف الدين في كتابه النص والاجتهاد - وقد بحث عن ذلك أحسن بحث - وهذا الحديث أخرجه مسلم في آخر كتاب الوصايا (ص 325 من الجزء الأول) وسائر أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرفوا فيه فنقلوه بالمعنى لأن لفظه الثابت: (إن النبي يهجر) لكنهم ذكروا أنه قال إن النبي قد غلب عليه الوجع، تهذيبا للعبارة، واتقاء فظاعتها.
ويدلك على هذا أن المحدثين حيث لم يصرحوا باسم المعارض يومئذ نقلوا المعارضة بعين لفظها، قال البخاري في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير (ج 2 ص 178) من صحيحه:
حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سلمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس) ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: واشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله، قال صلى الله عليه وآله: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيروا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة!
قلنا: من أين لكم العلم بهذا المراد، استفدتموه من عزله عن براءة؟ أم من تأخيره عن الصلاة، أم من فراره بالراية حين ولاه؟ ولو علم عمر النص على أبي بكر لسارع إلى فعله، لا إلى منعه.
____________
(1) سورة التحريم الآية 3: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا).
ألقي في نفسه شئ من الخلافة يزعم أن رسول الله جعل له، قلت: نعم قال: أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت إشفاقا على الاسلام، وعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك فدل على أنه نسب النبي صلى الله عليه وآله إلى أنه أشفق منه على الاسلام وعلى أنه علم خلافة علي، وعلى معاندته للنبي وأنه كان مترقبا لموته ليغصب الحق من أهله وهذه من أفحش المطاعن وأوجبها للبعد عن الإمامة، وعلى الاجماع في خلافة أبي بكر لمخالفة علي ومن في جانبه.
وقد حدث علي ابن طلحة بأنه لما خرج عمر حدثه النبي بما أراد أن يكتب ومنه أنه سيلي الأمر اثنا عشر إمام ضلالة عليهم مثل أوزار الأمة إلى يوم القيامة وأوصى إليه بالإمامة وأن يدفعها إلى أولاده إلى تكملة اثني عشر إمام هدى.
وفي رواية أبي ذر أنه لما جمع القرآن أتى به إلى أبي بكر فوجد فيه فضايحهم فردوه، وأمر عمر زيد بن ثابت بجمع غيره، قال زيد: فإذا أخرجه بطل عملي فبعث ليريد من علي ليحرفه مع نفسه، فأبى ذلك فدبروا قتله على يد خالد وهو مشهور.
قالوا: أشفق على النبي حيث كان مجهودا وكثرت الغوغاء عنده فقال: فينا كتاب الله يكفينا.
قلنا: أول ما فيه أنه خالف النبي صلى الله عليه وآله الذي (لا ينطق عن الهوى (2)).
وثانيا أنه لم يرض بحكمه، ووجد؟ الحرج من قوله، وقد نفى الله الإيمان عند مخالفة حكمه، وعدم التسليم لحتمه، في قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (3) فعمر حاد الله ورسوله، وأبو بكر واده حيث نصبه خليفة بعده وقد نفى الإيمان عن
____________
(1) شرح النهج ج 3 ص 114.
(2) النجم: 3.
(3) النساء: 65.
وثالثا أن الغوغاء لم تكن بطلب الكتاب بل بالمخالفة كما أخرجه البخاري وغيره من قول بني هاشم: قربوا إليه كتابا، وقول عمر ومن معه: لا ندعه يكتب وإنه قد هجر، وفي رواية: ولا يعلم ما يقول، فعندها قال: اخرجوا عني، وهذا أذى لرسول الله، وقد قال الله: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) الآية (2).
قالوا: اعتقد عمر الصواب في ترك الكتاب، وكان ذلك في مستقبل الأزمان بويع أبو بكر فلم يختلف عليه اثنان.
قلنا: أول ما فيه أنه اجتهاد بحضرة الرسول صلى الله عليه وآله، والاجماع في منعه للعدول إلى الطعن في اليقين الحاصل، وثانيا قبح اعتقاده أن الصواب في عقله وتدبيره، و الخطأ في عقل النبي وتدبيره، وثالثا ورد في كتبهم ما أجمعوا عليه من قول ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين كتابه.
ورابعا قولهم: لم يختلف عليه اثنان وقد خالف سعد سيد الخزرج، حتى قتل لأجل خلافه، وخالف علي حتى قالوا: نضرب عنقك، وخالف أهل الردة في ولايته، وقوم جبلة في ولاية عمر، واجتمع أكثر الصحابة على قتل عثمان، و خالف الفرق الثلاث لعلي عليه السلام، هذا وقد تلقت الأمة بالقبول، قول الرسول ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية، والباقون في النار.
قالوا: ليس في قوله: يهجر منقصة لأن المراد بالهجر الخارج عن حد الصحة من حيث الكثرة والقلة، لانغمار قلبه بجهد المرض، وقد سها في حال صحته، فسلم في العصر على ركعتين كما في خبر ذي اليدين.
قلنا: أما ما ذكرتم في تعريف الهجر فخارج عن اللغة، قال الجوهري:
الهجر الهذيان، وروى أبو عبيد (3) في قوله: إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا
____________
(1) المجادلة: 22.
(2) الأحزاب: 57.
(3) في الصحاح ص 851: قال أبو عبيد: يروى عن إبراهيم - يعني إبراهيم بن زيد النخعي - ما يثبت هذا القول في قوله تعالى: إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الخ.
وجواز السهو على النبي يرفع الثقة بقوله، وحديث ذي اليدين من الكذب والمين. وقد تمسكوا بخلافه أبي بكر بقول عائشة عنه عليه السلام مروا أبا بكر فليصل فلم يهجرهما ويقل غير الحق وجعلوا منعه من الكتاب الذي كان أساس الضلالة و الذهاب حسنة من حسنات عمر (1) مع وضوح مخالفته لسيد البشر، ولو احتمل هذا الرد التأويل، لم يجزم بحديث لأن تحريم رد قول النبي مع وضوحه إذا قبل التأويل، قبله كلما جاء عنه من الأقاويل، فكأن عمر قال: إن الله يهجر لأن كلام النبي صلى الله عليه وآله إنما هو يوجبه كما في كتابه.
تذنيب:
هذه المخالفة مجمع عليها، ذكرها مسلم والبخاري ورواها عبد الرزاق عن الزهري عن ابن عباس والطبري والبلاذري ورووه عن سعيد بن جبير بطريقين وعن جابر الأنصاري (2) وكيف يصح وصفه بالهجر، وقد صح أنه قال: تنام عيناي ولا ينام قلبي، وكان يتوضأ وينام، حتى يسمع غطيطه، ثم يصلي من غير استئناف وضوء.
قال الديلمي:
وصى النبي فقال قائلهم | قد ظل يهجر سيد البشر |
ورووا أبا بكر أصاب ولم | يهجر وقد أوصى إلى عمر |
وقال:
وما رأيت من الآيات معتبرا | إن كنت مدكرا أو كنت معتبرا |
____________
(1) كذا. والظاهر أن هنا سقطا.
(2) راجع صحيح مسلم ج 1 ص 222 و 325، شرح النهج لابن أبي الحديد، عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري ج 2 ص 20، مسند أحمد ج 1 ص 355.
والطبراني في الأوسط كما في ج 3 ص 138 من كنز العمال.
أوصى النبي أمير النحل دونهما | وخالفاه لأمر عنده اشتورا |
وقال هاتوا كتابا لا تضلوا به | بعدي فقالوا رسول الله قد هجرا |
تعصبا لأبي نصر فحين ثوى | وفا فوصى به من بعده زفرا |
تحمل الوزر فيها ميتا عجبا | وقال حيا أقيلوني بها ضجرا |
إن قال إن رسول الله غادرها | شورى فهلا اقتفى من بعده الأثرا |
وقال أوصى فلم تقبل وصيته | يوم الغدير فلا تعجل فسوف ترا |
ومنها: أنهما خالفا لنبي الله حال صحته فيما لا يتهم فيه (1) فقد ذكر الموصلي في مسنده وأبو نعيم في حليته، وابن عبد ربه في عقده، وأبو حاتم في زينته، والشيرازي في التفسير المستخرج من الاثني عشر تفسيرا أن الصحابة مدحوا رجلا بكثرة العبادة فدفع النبي سيفه إلى أبي بكر وأمره بقتله، فدخل فرآه يصلي، فرجع، فدفعه إلى عمر وأمره بقتله، فدخل فرجع، ودفعه إلى علي فدخل فلم يجده.
فقال عليه السلام: لو قتل لم يقع بين أمتي اختلاف أبدا، وفي قول آخر: لو قتل لكان أول الفتنة وآخرها، فالعجب من الأول كيف تركه وقد وصفوا للنبي صلى الله عليه وآله عبادته، وأعجب منه الثاني أفكانا أعلم من النبي بباطنه، و كانت تلك المخالفة سبب هلاك الأمة وضلالها، والرجل المأمور بقتله ذو الثدية رئيس الخوارج (2).
ومنها: الحديث التاسع والسبعين بعد المائة من الجمع بين الصحيحين (3)
____________
(1) وممن أخرج الحديث أحمد بن حنبل في مسنده ج 3 ص 15. وذكره ابن حجر في الإصابة نقلا عن أبي يعلى في مسنده في ترجمة الرجل بعنوان ذي الثدية وهكذا ابن الأثير في أسد الغابة، نقلا عن البخاري تحت عنوانه لذي الخويصرة ج 2 ص 139.
(2) هو ذو الخويصرة التميمي: حرقوص بن زهير، صار بعد ذلك قائد الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
(3) رواه مسلم في صحيحه أوائل جزئه الأول باب من لقي الله تعالى بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار. وهكذا شرح صحيح مسلم للنووي ج 1 ص 44.
ومنها: ما ذكره صاحب العقد في المجلد الأول منه أن عمر عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله، وعزل الحارث بن وهب وشاطره ماله، و كتب إلى عمرو بن العاص: بلغني أنه قد فشت لك فاشية من خيل وإبل وبقر وعبيد فمن أين لك هذا؟ فكتب إني أعالج من الزراعة ما لا يعالجه الناس فشاطره ماله حتى أخذ إحدى نعليه، فغضب ابن العاص وقال: قبح الله زمانا عمل فيه ابن العاص لابن الخطاب، والله إني لأعرف الخطاب يحمل على رأسه حزمة من حطب وعلى ابنه مثلها.
ومنها: أنه وضع الطلاق ثلاثا في مجلس واحد (1) حين قال: أرى ألسنة الناس قد استعذبوا الإيمان بالطلاق والوجه أن يغلب عليهم الحنث، لعلهم يرتدعون واشتهر عنه أنه أتي برجل طلق ثلاثا، فأوجع رأسه وردها عليه، وقد ذكر الله (الطلاق مرتان (2)) فمن قال: أنت طالق ثلاثا، فالثلاث لغو لأن الواحدة لا تكون ثلاثا، كما أن من سبح مرة وقال ثلاثا أو قرأ مرة وقال عشرا، أو قال الملاعن: أشهد بالله أربعا لم يكن كذلك اتفاقا، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وآله
____________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 70، الدر المنثور ج 1 ص 279، سبل السلام ج 3 ص 173، أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 459، سنن أبي داود ج 2 ص 509 تحت الرقم 2200 سنن النسائي ج 6 ص 142، وهكذا أخرجه الحاكم في مستدركه ج 2 ص 196، وابن حنبل في مسنده ج 1 ص 314، والبيهقي في سننه ج 7 ص 336، و القرطبي في تفسيره ج 3 ص 130 وغيرهم.
(2) البقرة: 229.
وذكر الجاحظ في كتاب النساء أن رجلا طلق ثلاثا جميعا (1) فقام عليه السلام غضبان وقال: يلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ (2) وفي سير ابن ماجة وأبي داود ومسند أحمد وأبي يعلى والشافعي وإحياء الغزالي وكشف الثعلبي أن ابن عمر طلق ثلاثا حائضا فأمره النبي بمراجعتها وإن أراد طلاقها للسنة (3).
قال ابن المغربي:
ولو رخص الله في دينه | لأوشك من مكره أن يزيله |
ولكن أتيح له حية | وعاجله الله بالقتل غيلة |
وغادر من فعله سنة | يجر الزمان عليها ذيوله |
وسيأتي شئ من ذلك في باب الأحكام إن شاء الله.
ومنها: أن عمر وأصحابه أخذوا عليا أسيرا إلى البيعة، وهكذا لا ينكره عالم من الشيعة وقد أورد ابن قتيبة وهو أكبر شيوخ القدرية في المجلد الأول في كتاب السياسة (4) قوله له حين قال: إن لم أبايع: نضرب عنقك، فأتى قبر النبي باكيا قائلا: (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)، وهذا فيه غاية
____________
(1) لم يذكر في الحديث اسم الرجل، ولعله عبد الله بن عمر بن الخطاب أو هو عبد يزيد أبو ركانة.
(2) رواه من سنن النسائي ج 6 ص 142، وبعده: حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله.
(3) وتراه في تفسير الكشاف ج 3 ص 240، تفسير الإمام الرازي ج 3 ص 30 و في نيل الأوطار ج 6 ص 241 نقلا عن المنتقى بإسناده إلى الحسن عن عبد الله بن عمر قال:
إنه طلق امرأة تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى: إنك أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء.
(4) راجع الإمامة والسياسة ج 1 ص 13.
تذنيب:
سئل الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم - إلى قوله -: ومكر السئ) قال: (2) مرض علي عليه السلام فأعاده النبي صلى الله عليه وآله في أناس فسأله أبو بكر ثلاثا بأمر عمر: كنت قد عهدت إلينا في علي فإن حدث أمر فإلى من؟ فقال عليه السلام: إنه لن يموت حتى تملئانه غضبا، وتوسعانه غدرا.
قالوا: فما ذكرتم من أخذه أسيرا نسبة خسة وعجز إلى الشجاع الأعظم وإلى شجعان بني هاشم، ذوي الآنفة والحمية.
قلنا: قد قتل وغصب جمع من الأنبياء، ولم ينسب إليهم بذلك خسة، هذا نوح قال: رب إني مغلوب (3)) ولوط (لو أن لي بكم قوة (4)) وموسى (ففررت منكم لما خفتكم (5)) وعيسى فر من اليهود والفجار، والنبي هرب من الكفار إلى الغار، فإذا جاز ذلك للأنبياء، فالأولى جوازه على الأولياء وعصابة بني هاشم لم تكن لتقاوم الكثرة في جانب الغاشم، ولجاز تركهم القيام بوصية علي المستندة إلى وصية النبي صلى الله عليه وآله هذا.
____________
(1) أخرجه البحراني في غاية المرام ص 557، وقد ذكر ذلك بنحو آخر في نهج البلاغة في الخطبة الشقشقية وأخرجه علم الهدى السيد المرتضى في الشافي كما في تلخيصه ج 3 ص 75، فراجع.
(2) الأحزاب: 57.
(3) القمر: 10 والآية: فدعا ربه إني مغلوب فانتصر.
(4) هود: 80.
(5) الشعراء: 21.
قال حذيفة له: فلم أعلم تأويل كلامك إلى أن قام عتيق مقام الرسول، وأوله عين ثم عمر وأوله عين، ثم عثمان، وأوله عين، فقال له: علي عليه السلام نسيت عبد - الرحمن وقد عدل بها إلى عثمان، ثم عمرو بن العاص، ثم أخوهم عبد الرحمن ابن ملجم.
ولما تظلم عليه السلام قال له الأشعث بن قيس: لم لم تقاتل؟ فأجاب بأن لي أسوة بسنة الأنبياء، وقد صرحنا منهم بخمسة وأشرنا إلى هارون (استضعفوني) (1) وقد نطق القرآن بأحوالهم، والإمام أعذر منهم.
وأجاب عليه السلام الأشعث مرة أخرى بأنه عهد النبي إلي أن لا أجاهد إلا إذا وجدت أعوانا فلو وجدت أعوانا لجاهدت، وقد طفت على المهاجرين والأنصار فلم أحد سوى أربعة، ولو وجدت أربعين يوم بويع لأخي تيم لجاهدتهم.
ومنها: ما رواه البلاذري (2) واشتهر في الشيعة أنه حصر فاطمة في الباب حتى أسقطت محسنا مع علم كل أحد بقول أبيها لها: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني.
____________
(1) الأعراف: 105.
(2) روى البلاذري بإسناده إلى أبي عون أن أبا بكر أرسل إلى علي يريده على البيعة فلم يبايع، ومعه قبس، فتلقته فاطمة عليها السلام على الباب، فقالت: يا بن الخطاب أتراك محرقا على بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك، وجاء على فبايع.
والروايات بهذا المضمون كثيرة وفي بعضها التعرض لذكر المحسن وسقطه، راجع الإمامة والسياسة ج 1 ص 12، العقد الفريد ج 2 ص 250 تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156 أعلام النساء ج 3 ص 1027، تاريخ الطبري ج 3 ص 202 (ط دار المعارف) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 131، مروج الذهب ج 1 ص 414، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 105.
وأما كتاب البلاذري، فالمطبوع منه يبدأ من بعد الشورى، ولم يطبعوه كاملا.
قلنا: هذا لا يضرنا لأن المراد أذيته بغير حق، وإذا كان هدا زجره عن أذية ذمي علم كل عاقل أن جميع أهل الذمة وكثير من الأمة لا توازي أذية بضعته والفلذة من جسده، ولم يقل: بضعة مني لأحد غيرها، لتنبيهه على عظيم شأنها، و تفخيم أمر الإساءة إليها.
قال الحميري:
ضربت واهتضمت من حقها | وأذيقت بعده طعم السلع |
قطع الله يدي ضاربها | ويد الراضي بذاك المتبع |
لا عفى الله له عنه ولا | كف عنه هول يوم المطلع |
وقال البرقي:
وكللا النار من بيت ومن حطب | والمضرمان لمن فيه يسبان |
وليس في البيت إلا كل طاهرة | من النساء وصديق وسبطان |
فلم أقل غدرا بل قلت قد كفرا | والكفر أيسر من تحريق ولدان |
وكل ما كان من جور ومن فتن | ففي رقابهما في النار طوقان |
إن قيل: يجوز للإمام تهديد مخالف الاجماع بذلك وغيره.
قلنا: لا خلاف أن ذلك كان قبل مبايعة علي، وحينئذ لا إجماع.
قالوا: عائشة لم تكن ابنة محمد، وحين عقر جملها حمت المسلمون لحرمة زوجها فتطايرت الرؤس والأكف حولها، وما فعل بفاطمة من النكير أعظم من عقر البعير فكيف لم يتحم المسلمون لها؟
قلنا: أين كانت حمية المسلمين حيث قتل أصحاب عائشة رسول علي إليهم بكتاب الله يعظهم كما أخرجه ابن مسكويه وابن قتيبة وغيرهما (1) وثنوا بقتل حكيم
____________
(1) قال الطبري: ج 3 ص 522 من تاريخه: ورجع على إلى أصحابه فقال لهم: أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أيضا أخذه بأسنانه قال فتى شاب: أنا. فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم فلم يقبله إلا ذلك الشاب، فقال له علي، اعرض عليهم هذا وقل هو بيننا وبينكم من أوله إلى آخره، الله الله في دمائنا ودمائكم، فلما جاءهم الفتى حملوا عليه وفي يده المصحف فقطعوا يديه فأخذه بأسنانه حتى قتل وقد ذكر هو وغيره من المؤرخين ومؤلفي التراجم قصة حكيم بن جبلة وعثمان بن حنيف كما في شرح النهج ج 2 ص 500.
على أن عليا سب ألف شهر على المنابر، ولم يوجد لذلك حمية من البر والفاجر، أما الأول فلعذره، وأما الثاني فلغدره.
قالوا: فتأذى عمر لسوقي من ملك غسان جبلة (1) فكيف يتحمل أذية فاطمة.
قلنا: فما له يحمل أذاها في بعلها عند قوله: نضرب عنقك وقوله لأبي بكر:
ألا تأمر فيه بأمرك كما ذكره ابن قتيبة.
ومنها: أنه جاهل بالأحكام فأمر برجم حامل أقرت بالزنا فقال له علي (2): إن
____________
(1) قال ابن عبد ربه في العقد ج 1 ص 187 أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني وفد على عمر بن الخطاب في 500 من فرسان عك وجفينة وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة وعلى رأس جبلة تاجه، وفيه قرط جدته مارية فأسلموا جميعا، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا.
وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة، فبينما يطوف جبلة بالبيت إذ وطئ إزاره رجل من فزارة فحله، فلطمه جبلة، فاستعدى الفزاري عمر، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين.
(2) المعروف بينهم أن الذي نبهه على ذلك معاذ بن جبل، راجع الإصابة ترجمة معاذ بن جبل، ج 3 ص 427، شرح النهج ج 3 ص 150 وفتح الباري لابن حجر ج 12 ص 120، التمهيد للباقلاني ص 199، سنن البيهقي ج 7 ص 443.
قالوا: لم يكن عارفا بالحمل قلنا: اعترافه ينفي جهله إذ لا إثم يتوجه مع الجهل بالحمل، ولأن عليا عرفه بما يترتب ولم يعرفه بنفس الحمل، ولما كان عمر أقر عليه بل كان اعتذر بأني لم أعرف.
وكذا أمر برجم مجنونة شهد عليها بالزنا فأخرج البخاري أن عليا قال له:
أما علمت أن النبي صلى الله عليه وآله قال: رفع القلم عن المجنون حتى يفيق؟ فقال: لولا علي لهلك عمر (1).
قالوا: لم يكن عارفا بالجنون قلنا: قد سلف الجواب عن هذا الباب، وقد ثبت رجوعه إلى علي رغاما بعد عجزه، وعجز الصحابة في ثلاث وعشرين مسألة.
وأصاب رجل من بني كنانة مأمومة فأراد الاقتياد منه، فقال العباس: سمعت النبي يقول: لا قود في جائفة ولا مأمومة ولا منقلة فأغرمه العقل.
وفي إحياء الغزالي أن عمر هو الذي سد باب الكلام والجدل وفي تفسير النقاش وابن بطة والأنباري أنه ضرب رجلا اسمه ضبيع حين سأله عن (الذاريات) و (النازعات) و (المرسلات) وحبسه طويلا ثم نفاه إلى البصرة وكتب لا تجالسوه.
ومنها: ما ذكره الحميدي في فصل مفرد في آخر الجمع بين الصحيحين أنه منع المغالاة في المهور وقال: من غالى في مهر ابنته جعلته في بيت المال (2) بشبهة
____________
(1) رواه البخاري في كتاب المحاربين، باب لا يرجم المجنونة ج 4 ص 176 ط دار إحياء الكتب العربية وترى القصة في مستدرك الحاكم ج 4 ص 389، ج 2 ص 59 شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 150، سنن أبي داود ج 2 ص 227 وسنن ابن ماجة ج 2 ص 227. سنن البيهقي ج 8 ص 264، تذكرة سبط ابن الجوزي ص 57 وغير ذلك من الكتب.
(2) تعرض لذلك الزمخشري والرازي والسيوطي وابن كثير والنيسابوري، والنسفي في تفسيرهم عند تفسير آية النساء: 20، وتراه في كتب الحديث في مجمع الزوائد ج 4 ص 284، سنن البيهقي ج 7 ص 233، كنز العمال ج 8 ص 298، شرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 61 و ج 3 ص 96، مستدرك الحاكم ج 2 ص 177.
قالوا: طلب الاستحباب في ترك المغالاة قلنا: المروي أنه حرمه حتى قالت المرأة: كيف تمنعنا ما أحله الله لنا في محكم كتابه.
قالوا: تواضع بقوله: كل أفقه من عمر قلنا: لو كان ذلك حقا لكان هو المصيب دونها، ورووا أن عمر مر بصبيان يلعبون فقال: ما رأينا خيرا منذ فارقناكم، فقال واحد منهم: أتقول هذا وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو الخير كله؟ فأخذ ترابا فجعله في فيه، وقال: كل أعقل من عمر حتى الصبيان.
أبو أيوب السختياني وإسماعيل بن علية: حكم عمر بين خصمين فقال رجل:
أصبت، فقال: والله ما يدري زفر أصاب أم أخطأ.
وروى عاصم بن سمرة أن غلاما ادعى أمومة امرأة فأنكرته أمه فأمر عمر بحده فصاح إلى علي فطلب عليه السلام أن يزوجها منه، فأقرت به فقال: لولا علي لهلك عمر.
الأصبغ بن نباته: جئ عمر بخمسة زنوا فأمر برجمهم فخطأه علي، وقتل واحدا ورجم ثانيا، وحد ثالثا،، وحد رابعا، منصفا، وعزر خامسا فقال المردبود كيف ذلك؟ فقال عليه السلام: ذمي زنى بمسلمة، والثاني محصن بكر، والثالث غير محصن والرابع عبد، والخامس مجنون فقال زفر: لا عشت في أمة لست فيها يا أبا الحسن (3).
وأتي برجل قال لامرأته: يا زانية قالت: أنت أزنى مني، فأمر بجلدهما فقال
____________
(1) المائدة: 44.
(2) ترى هذه الروايات في البحار مستخرجة عن كتب الأصحاب وغيرها الباب 97 من تاريخ أمير المؤمنين ج 40 ص 218 - 317 من طبعته الحديثة.