الصفحة 59
في الظلمات، ينادي (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (1)) وفي عنقه طوق من نار، له ثلاثمائة شعبة، على كل شعبة شيطان يتفل في وجهه.

فصل


رفع أبو العتاهية يده بحضرة المأمون وقال لثمامة: من رفعها؟ قال: من أمه زانية، قال: شتمتني؟ قال ثمامة: تركت مذهبك فانقطع.

قيل لأبي الهذيل: من جمع بين الزانيين قال: القواد، فسكت السائل.

قال أبو الهذيل لحفص: هل شئ غير الله وغير خلقه؟ قال: لا قال: فعذب على أنه الله؟ أو على أنه خلقه؟ قال: لا على واحد منهما بل على أنه عصى، قال:

فكونه عصى قسم ثالث؟ قال: لا، فأعاد السؤال فانقطع.

قال النظام - وكان حاضرا: قد عذبه على الكسب، قال: فالكسب شئ غير الله وغير ما خلق؟ قال: فأعاد السؤال فانقطع.

قيل لأبي يعقوب المجبر: من خلق المعاصي؟ قال: الله، قال: فلم عذب عليها؟ قال: لا أدري.

قال عدلي لمجبر: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (2)) فلا بد أن يكون الذي أوقدها غير الذي أطفأها.

أتي إلى بعض الولاة بطرار أحول فقال لعدلي: ما تفعل فيه؟ قال: أضربه خمسة عشر سوطا لكونه طرارا، ومثلها لكونه أحول، فقال مجبر: لا صنع له في الحول، وكيف يضرب عليه؟ قال العدلي: إذا كان الكل من الله فالطرار والحول سواء، فانقطع.

قال عدلي لمجبر: هل تملك من أهلك ومالك شيئا؟ قال: لا، قال: كل ما تملك جعلته في يدي؟ قال: نعم، قال اشهدوا أن نساءه طوالق، وعبيده أحرار

____________

(1) الزمر: 56.

(2) المائدة: 64.


الصفحة 60
وماله صدقة فتحولت زوجته عنه، وسألت الفقهاء فأفتوا بوقوع ذلك كله، فصارت قضية ضحكة.

وقال بعض الظرفاء: إذا سئلت يوم الحساب عما فعلت طلبت العفو من ربي وإن سئلت عما خلق في، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ما هنا منه قليل ولا كثير.

قال عدلي لمجبر: ما تقول فيمن غرس في بستانه نوع فاكهة ثم قال لغلامه:

آتني منه بكل فاكهة، فذهب وجاء، وقال: ليس فيه سوى نوع واحد فقال: اذهب فأحرقه لم لم يكن فيه سوى نوع، أهذا فعل حكيم؟ فانقطع.

احتضر مجبر مديون فقال لأولاده: لا تقضوا لأحد شيئا لأني قد علمت أني من إحدى القبضتين فإن كنت من أهل الجنة، لم يضرني، وإن كنت من أهل النار لم ينفعني شئ.

فصل
* (وفيه أطراف) *


1 - روى كثير من المسلمين أن الصادق عليه السلام قال لمجبر: هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من الله؟ قال: لا، قال: فإذا كان الله علم من خلقه عدم القدرة على طاعته، وقالوا: أنت منعتنا منها، أما يكون عذرهم صحيحا؟ قال: بلى، قال:

فيجب قبوله، وأن لا يؤاخذهم بشئ أبدا، فتاب الرجل من القول بالجبر.

2 - استعظم قول المشركين في قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (1)) وإذا كان ذلك من فعل نفسه كيف يليق إنكاره به.

3 - قال عدلي لمجبر: ممن الحق؟ قال: من الله قال: فمن الحق؟ قال:

____________

(1) مريم 90.


الصفحة 61
الله قال: فممن الباطل؟ قال: من الله قال: فمن المبطل؟ فانقطع وكان يلزمه أن يقول: هو الله.

4 - طلب الله التوبة من عباده، فمنهم من أقر وأناب، ومنهم من أصر و خاب، فمن التائب والخائب؟ إذا لم يكن له فعل، إنما هو الله.

5 - يلزم أن كل ما في الوجود من الكفر والمناقضات، والسب والمنازعات والرذايل والمجاحدات إنما وقعت من الله لنفسه، فهو الذي سبها وناقضها ونازعها.

6 - يقال للمجبر: المناظرة التي جرت لي معك إن كانت مني ومنك بطل مذهبك، وإن كانت من الله لنفسه، فهل تقبل العقول أنه يناظر نفسه ليغلب نفسه فيصير الله غالبا مغلوبا، عالما جاهلا، محقا مبطلا؟

7 - الإنسان ينقل من جهل إلى علم، ومن شك إلى يقين. فهذه الأفعال إن كانت من الله لزم الكفر والجهل به، وإن كانت من العبد فالمطلوب.

8 - في الوجود عبد ومعبود، فإن كان الكل من الله، فالعبد المتخشع المتذلل هو المعبود المتكبر المتجلل.

فصل


لعل أحدا يقول هذه لا يعتقدها علماؤهم، وإنما هو في عوامهم، قلنا: ذكر الرازي وهو من أعاظمهم في المسألة الثالثة والعشرين من كتاب الأربعين الذي صنفه لولده العزيز عليه أنه لا يخرج شئ إلى الوجود إلا بقدرة الله، وفي الرابعة والعشرين أنه مريد لجميع الكائنات، لأن كلما علم وقوعه فهو مراد الوقوع، و كلما علم عدمه فهو مراد العدم.

قال: فعلى هذا إيمان أبي جهل مأمور به وغير مراد، وكفره منهي عنه و هو مراد.

قلنا: لو كان كذا لزم أن يقطع أبو جهل وكل كافر حجة النبي بأن يقول:

اتباع إرادة الله أولى وأوجب من اتباع إرادتك لأن الذي أرسلك لا يريد إيماننا

الصفحة 62
فعلام تحاربنا؟ وإن كان الرازي يزعم أن النبي صلى الله عليه وآله أيضا لا يريد إيمانهم قويت بذلك حجتهم حيث تبعوا الإرادتين.

ولقد كان الجاحدون أقل كفرا من اعتقاد المجبرة فإنهم لم يعرفوه فنسبوا إليه من الشر والقبايح والفساد ما لا نسبته المجبرة، ولما أعجب الرازي علمه تحدى به العلماء، فبلغ زاهد ذلك فقال: إنه لا يعرف الله، فجاء إليه وقال: من أين عرفت أني لا أعرف الله؟ فقال: لو عرفته حق معرفته شغلتك خدمته ومراقبته عن الدنيا الفانية التي تعبدها، فانقطع الرازي، ومن وقف على وصيته، عرف أن ما صنفه لم يكسب منه دينا، ولا حصل منه يقينا، بل كان في سيره ليلا ونهارا كالحمار يحمل أسفارا.

وذكر الغزالي في الإحياء وفي منهاج العابدين أنه لا يجري في الملك طرفة عين، ولا لفتة خاطر، ولا فلتة ناظر، إلا بقضاء الله وإرادته ومشيئته من الخير و الشر والنفع والضر، والطاعة والعصيان، والكفر والإيمان، ومن تصفح الكتابين، وجد الحث على استعمال الزهد [ وهو ] يوجب قدرة العبد كما هو مقتضى العقد وقد صرح في العارض الثاني من الباب الرابع في منهاج العابدين أن الصحيح عند علمائه أن كون العبد مختارا لا يقدح في تفويضه.

فصل


اشتهر في الحديث: القدرية مجوس هذه الأمة فقالوا: هم أنتم لأنكم جعلتم لكم قدرة على الفعل قلنا: ليس من أثبت القدرة للعبد، قدريا إنما هو (قدري) بضم القاف بل أنتم القدرية بدليل اللغة والمعنى والأثر:

أما اللغة فالاسم إنما يشتق لمن أثبت الشئ لا لمن نفاه، كما أن الموحد من أثبت الوحدة والمجسم من أثبت الجسم فالقدري من أثبت القدر، ولو اشتق اسم المعنى لمن نفاه صدق على المنزهين لله أنهم ثنوية ومجسمة إلى غير ذلك من

الصفحة 63
السلوب ولو كان من أثبت لنفسه قدرة قدريا، لكان الله قدريا وقد رأيناهم يلهجون في كل واقعة بالقدر، ومن أكثر من شئ عرف به، كما جاء في الخبر.

وأما المعنى فلأن النبي صلى الله عليه وآله ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود الشيطان، وخصماء الرحمن، وجعل شبه المجوس فيهم، وهذه النعوت صادقة عليهم فالذم أحق بهم، لإضافتهم القبيح إلى ربهم.

وأما النهي عن مجالستهم فلما فيها من الاغراء بالمعاصي، حيث يقولون:

ما قدره الله كان، وما لم يقدره لم يكن، فلا وجه للتحفظ من المعصية، ويؤيسون جليسهم من رحمة الله، حيث يقررون له أن الله يعذب من غير ذنب وأنه خلق للنار خلقا لا تنفعهم الطاعات، وللجنة خلقا لا تضرهم المعصيات، فلا تسكن نفس بطاعة ولا تخاف بمعصية، وأساءوا الثناء على الله بنسبة كل ثناء إليه، وأحسنوا الثناء على العصاة بقولهم: لا حيلة لهم فيه.

وأما كونهم شهود الشيطان وخصماء الرحمن فإن الله إذ قال له: (ما منعك أن تسجد (1)) فيقول: قضاؤك، فيقول: هل من شاهد؟ فلا يجد غير أولئك.

وحكى الحاكم أنه كان بالبصرة نصراني فكتب أن الله فعل الكفر فيه، و منعه من الإيمان، وقضاه عليه، وأتى المجبر فأخذ خطوطهم ليشهدون له يوم القيامة والعدليون يسخرون منهم.

وأما شبه المجوس فإنهم يقولون: الإله القادر على الخير لا يقدر على الشر، وبالعكس، وهؤلاء يقولون: الكافر يقدر على الكفر لا الإيمان، و المؤمن بالعكس، والمجوس يمدحون ويذمون بما لا اختيار في فعله وتركه:

كما يحكون أنهم يرمون بالبقرة من شاهق، ويقولون: انزلي لا تنزلي!

فإذا وقعت قالوا: عصت وأكلوها وهؤلاء يقولون مثل ذلك، والكافر والمؤمن و المجوس علقوا المدح والذم بما لا يعقل، وهو الطبع، وهؤلاء علقوهما بما لا يعقل وهو الكسب، والمجوس ينكحون المحارم، ويقولون: أرادها الله منا، وهؤلاء

____________

(1) ص: 75.


الصفحة 64
يفعلون المعاصي ويقولون: قضاها الله علينا.

وتشاجر عدلي ومجبر من المجوس؟ فقال المجوسي: ممن المجوسي؟ قال:

من الله، فقال العدلي: للمجبر أينا يوافقه؟

إن قالوا: بل أنتم المجوس لإضافتكم الشرور إلى الشيطان دون الله، وكذا المجوس قلنا: الشرور التي أضافوها إلى الشيطان هي الأمراض والمصائب، ونحن نضيف هذه إلى الله والشرور التي هي الاغواء ونحوه نضيفها إلى الشيطان ولما كان هذا ليس مختصا بالمجوس، بل قال به الكتابيون كافة لم يكن التشبيه لأجل هذا، لعدم اختصاص المجوس به، بل وقد أضافه الله ورسوله إليه، وهو ظاهر.

وقد قال أبو بكر في مسألة: هذا ما رأيته فإن يك صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ومثله عن عمر وابن مسعود.

وأما الأثر فقد روى في الفائق قوله عليه السلام لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا قيل: ومن القدرية؟ قال قوم يزعمون أن الله قدر المعاصي عليهم وعذبهم عليها.

وقال في الفائق أيضا: وأما المجبرة فإن شيوخنا كفروهم، وحكى قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي أن المجبر كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي بإسناده أن فارسيا قدم إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:

أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت قوما ينكحون محارمهم، ثم يقولون: قضاه الله وقدره قال النبي: سيكون في أمتي صلهم؟ أولئك مجوس أمتي وذكر ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم في رواية الأصبغ أن شيخا سأل عليا بعد انصرافه من صفين أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال: نعم، قال:

عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئا، قال لعلك ظننت قضاءا لازما وقدرا حاتما، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب، قدرية هذه الأمة ومجوسها، فنهض الشيخ مسرورا وقال:


أنت الإمام الذي نرجو بطاعتهيوم الحساب من الرحمن غفرانا


الصفحة 65


أوضحت من ديننا ما كان ملتبساجزاك ربك عنا فيه إحسانا

وعن الحسن البصري: بعث الله محمدا والعرب قدرية مجبرة لقوله تعالى فيهم:

(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا؟ عليها آباءنا والله أمرنا بها (1)) ولقوله (سيقول (الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا (2)).

وعنه أيضا أن من المخالفين قوما يقصرون في أمر دينهم، ويحملونه على القدر ولو أمرتهم في شئ قالوا: لا نستطيع قد جفت الأقلام، وقضي الأمر، ولا يرضون في أمر دنياهم إلا بالاجتهاد والحذر، ولو قلت لهم: لا تشقوا نفوسكم، ولا تخاطروا في الأسفار بها، ولا تسقوا زروعكم واتركوا أنعام من حراستها، فإنه لا يأتيكم إلا ما قدر لكم لأنكروا ذلك، ولم يرضوه لأنفسهم، وقد كان ذلك في الدين أولى بهم

فصل


قال عدلي لمجبر: قاتل معاوية عليا على شئ قضاه الله له أو لعلي؟ قال:

بل له، قال: فمعاوية أحسن حالا من علي، حيث رضي بالقضاء ولم يرض علي فانقطع المجبر.

قال عدلي لمجبر: كان قتل الأنبياء بقضاء الله؟ قال: نعم، قال: أفترضون به فسكت.

قال عدلي لمجبر: تقول بالقدر إذا ناظرت أحدا، وإذا رجعت إلى منزلك فوجدت جاريتك كسرت كوزا يساوي فلسا شتمتها وضربتها وتركت لأجل فلس واحد مذهبك.

وقال مجبر لعدلي: لي خمس بنات لا أخاف على فسادهن غير الله.

ورأى مجبر غلامه يفجر بجاريته، فضربه فقال: القضاء ساقنا فرضي وعتقه.

رأى شيخ رجلا يفجر بأهله فضربها، فقالت: القضاء ساقنا تركت السنة و

____________

(1) الأعراف: 28.

(2) الأنعام: 148.


الصفحة 66
أخذت مذهب ابن عباد فتنبه، وألقى السوط واعتذر إليها وأكرمها.

قال عمرو بن عبيد لأبي عمر وابن العلى: ما معنى (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله (1)) فسكت أبو عمرو.

وقال سلام لتلميذه: قول موسى: (هذا من عمل الشيطان (2)) يوهم الجبر وقال التلميذ: وقول يوسف: (من بعد أن نزع الشيطان بيني (3)) يدل على القدر، فقال ثالث: قال موسى: (لا أملك إلا نفسي وأخي (4)) فقال عدلي: ما رضيتم بمذهب موسى ويوسف حتى تزروا عليهما فسكتوا.

وحكى الحاكم أن جبريا قال: زنية أحب إلي من عبادة الملائكة، لأن الله قضاها علي، ولا يقضي إلا ما هو خير لي.

وأدخل عدلي على محمد بن سليمان فأمر بضرب عنقه فضحك فقال: كيف تضحك في هذا الحال؟ قال: لو قال رجل: محمد بن سليمان يقضي بالجور، ويفعل الظلم، ويريد الفساد، فقال آخر: كذبت بل يفعل ضد ذلك، أيهما أحب إليك؟

قال: الذي دفع عني، وأحسن الثناء علي، قال: فلا أبالي أحسنت الثناء على ربي، فانقطع من القدرية من حوله وخلى سبيله.

تذنيب:

اعترف الشيطان في القيامة بأنه أضلهم في قوله: (ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (5)) وشهد الله عليه بذلك في قوله: (الشيطان سول لهم وأملى لهم (6)) فردوا اعترافه بإضلالهم وشهادة ربهم بتسويله، وسيعترفون كما حكاه القرآن عنهم في قوله: (أطعنا سادتنا وكبراءنا

____________

(1) الزمر: 56.

(2) القصص: 15.

(3) يوسف: 100.

(4) المائدة: 25.

(5) إبراهيم: 22.

(6) القتال: 25.


الصفحة 67
فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم (1)) ولو عرفوا أن الله أضلهم فلمن كانوا يطلبون العذاب واللعن (وقالوا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الإنس والجن نجعلهما تحت أقدامنا (2)) فإن علموا يوم كشف الأسرار وعلم الأشياء بالاضطرار أن الله أضلهم، فلمن يجعلون تحت أقدامهم؟ ومن أكبر المكابرات أن منهم من ينكر الشرك في القيامة كما حكاه الله عنهم في قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين (3)) فلو علموا أن شركهم منه لكانت إضافته إليه أقطع وأولى، من كذبهم على أنفسهم، حتى يعجب الله منهم في قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم (4)) ولو كان هو أضلهم وألجأهم إلى إنكار الشرك لم يتعجب منهم.

قالوا: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قلنا: فيها إضافة فعلهم إليهم، وإلا ارتفع السؤال، إذ لا يسألون عما يفعل

فصل


يقال لهم: أراد الله كفر الكافر، فإن أردتموه كفرتم، وإن أردتم إيمانه فإن كان ما أراد الله خيرا له كفرتم، وإن قلتم: ما أردنا خير فأنتم أحق بالمدح منه.

وأيضا يلزم كون إبليس يوافق إرادة الله والنبي يخالفها، وإذا أراد كفره وأمره بالإيمان، فإن كان الأولى بالوقوع الكفر كان أولى من الإيمان، وإن كان الإيمان أولى كان الأمر بما فيه تعجيزه عندكم أولى بالوقوع.

قال الجاحظ لأبي عبد الله الجدي: هل أمر الله المشرك بالإيمان؟ قال:

إي والله، قال: فهل أراد منه؟ قال: لا والله، قال: فيعذبه عليه؟ قال: إي والله قال: فهل هذا حسن؟ قال: لا والله.

قال عدلي لمجبر: ما تقول فيمن قال: كلما كان في زمن النبي وصحابته من

____________

(1) الأحزاب 67.

(2) فصلت: 29.

(3) الأنعام: 23 (4) الأنعام: 24.


الصفحة 68
الكفر والفتن، فمنهم وبإرادتهم، قال: كافر لطعنه فيهم، قال: فلو قال: ذلك من الله فسكت.

طب نصرني عين مسلم فصحت فقال: قد وجب علي حقك وأريد نصيحتك بأن تسلم، قال: فهل يريد الله إسلامي؟ قال: لا قال: فأيكما أحق أن أعبد.

قالوا: الإرادة مطابقة للعلم فما لا يعلم وقوعه لإيراد، قلنا: هذا مصادرة لأنه نفس الدعوى، ولم لا ينعكس بأن يكون العلم هو المطابق للإرادة.

قالوا: إرادة ما لا يكون تمن قلنا: التمني في قبيل الكلام لا الإرادات.

قالوا: خلاف المعلوم مستحيل فلا يراد، قلنا: لو كان خلاف المعلوم مستحيلا كان المعلوم واجبا فلا اختيار لله في وقوعه، ولو كان مستحيلا لم نصف الله بالقدرة على إقامة الساعة.

قالوا: لو وقع في ملكه ما لا يريد، كان عاجزا كالشاهد قلنا: باطل عند قياس الغالب على الشاهد، ويعارض بأنه لو وقع في ملكه خلاف ما أمر به، دل على عجزه بل المعصية منسوبة إلى الآمر عندكم كقوله: (أفعصيت أمري (1)).

قالوا: أخبر الله بالكفر، ولا يكون خبره صدقا إلا به، فيرده لئلا يكذب نفسه قلنا: أخبر النبي صلى الله عليه وآله بقتل الحسين عليه السلام وأمر بالاغتسال من الزنا، فيجب أن يريد قتل الحسين ليكون الصدق في خبره، والزنا لتحصل الفائدة في أمره.

تذنيب:

ذكر الغزالي في الإحياء قوة الله على خليقته، وشبهه بالأسد في سطوته وبطشته، روى أنه قبض من ظهر آدم قبضة وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وقبض أخرى وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي قلنا: كيف يليق بمن وصف نفسه مع تحتم صدقه، بأنه أرحم الراحمين، أن يقول في كتبكم ما ينافيه ففي الجمع بين الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله رأى امرأة من السبي ترضع ولدا لها فقال: أترونها طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: فالله أرحم لعباده منها بولدها.

____________

(1) طه: 93.


الصفحة 69
وفي الجمع أيضا أن لله مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى خلقه يتراحمون بها وبها تعطف الوحوش على أولاده، وأخر لنفسه تسعة وتسعين، يرحم بها عباده يوم القيامة وفيه أيضا يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني، فيقول: كيف ذلك وأنت رب العالمين؟ فيقول: مرض فلان فلم تعده، واستطعمك فلان شيئا فلم تطعمه، واستسقاك فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو فعلت ذلك لوجدته عندي، فانظر ما في شفقته عليهم أن جعل كالواصل إليه ما يصل إليهم.

وفيه لو نام رجل في أرض دوية (1) فانتبه فلم يجد راحلته ولا زاده، فطلبهما حتى اشتد جهده، فرجع فنام ليموت فانتبه فرأهما عنده، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده، فكيف يليق بالرحيم المتعالي أن يقول: هؤلاء إلى النار ولا أبالي.

فصل
* (فيما يلزمهم من القول في عدم الاستطاعة) *


يلزمهم أن لا يقدر الكافر المأمور بالإيمان عليه، وأن يذهب الفرق بين كفره وسواده، ويلزم أن يكون فقده لقدرة الإيمان، كفقده لآلة الفعل، فيكون معذورا كفاقد الآلة ويلزم أن يتساوى الزمن والصحيح في العذر، لترك المشي، ويتساوى الكائن على نهر بالعاجز عن الماء، فيعذر في التيمم، فإذا صلى وحلف بطلاق زوجته أنه لا يقدر على الماء أن تصح صلاته، ولا تطلق امرأته.

وألزم سلام الفارسي بذلك فالتزم بطلاق امرأته، ويلزم أن لو حملت ذرة خردلة عجز جبريل القادر على قلب المدن عن حملها، ويلزم أن الأنبياء لو قدروا على الكفر لكانوا أكفر خلق الله وأن إبليس والطغاة لو قدروا على الإيمان لكانوا أفضل عباد الله، وذلك من أسوء الثناء عليهم، وأحسن الثناء على العصاة.

____________

(1) أي غير موافقة وذات أدواء.


الصفحة 70
ولو قيل لرجل منهم: إنك لا تترك المعاصي إلا عجزا ولو قدرت كنت أعصى خلق الله، لنفاه عن نفسه نفي مضطر إلى قبحه، ويقال لهم: هل عفى ملك عن جان وهو قادر على عقابه؟ فإن قالوا: عفى وهو يقدر، تركوا أصلهم، وإن قالوا: وهو لا يقدر لزم أن يكون ملك الروم قد عفى عن المسلمين وإن لم يقدر عليهم.

ولو قال الله للعاصي لم لا تطيع؟ فقال: لا أقدر، فقد صدق فينفعه صدقه لقوله تعالى: (يوم ينفع الصادقين صدقهم) (1) ويلزم سقوط الحج عن كل أحد لأن الله أو جبه بشرط الاستطاعة فإذا انتفت انتفى.

مناظرات
* (في ذلك) *


قال عدلي لمجبر: ما معنى قوله تعالى: (لو استطعنا لخرجنا معكم (2)) قال:

صدقوا، قال: فما معنى تكذيبهم؟ قال: لا أدري؟.

وقال الواثق ليحيى ابن كامل: ما التوبة؟ قال: الندم، قال: فتقدر عليها؟

قال: لا، قال: فما التوبة حينئذ؟ فانقطع.

وقال مجبر: (فاتقوا الله ما استطعتم (3)) تكسر قولنا في عدم الاستطاعة فقال عدلي: كسره الله.

وقيل لصفو المجبر: أكان فرعون يقدر على الإيمان؟ قال: لا، قيل: أفعلم موسى ذلك قال: نعم، قال: فلم بعثه الله؟ قال سخرية.

قال النجار للنظام: بم تدفع تكليف ما لا يطاق؟ فسكت، فقيل: لم سكت قال: كنت أريد ألزمه تكليف ما لم يطق، فإذا التزمه ولم يستحي فبم ألزمه.

ومر أبو الهذيل راكبا على النجار فقال: انزل حتى أسألك قال: هل أقدر

____________

(1) المائدة: 119.

(2) براءة: 42.

(3) التغابن: 16.


الصفحة 71
أن أنزل أو تقدر أن تسألني؟ قال: لا.

وقال مجبر لعدلي: ما دليلك على تقدم الاستطاعة على الفعل؟ قال: الهرة والفارة لولا أن الهرة والفارة تعلم قدرتها على أخذها لم تهرب منها.

قالوا قوله تعالى: (فلا يستطيعون سبيلا (1)) قلنا: المراد لا يستطيعون تصحيح ما نسبوه إليه من الشعر والجنون والسحر، والمراد كأنهم لا يستطيعون مثل (صم بكم عمي فهم لا يرجعون (2)) ولأن الآية جاءت للتوبيخ، ولولا الاستطاعة انتفى المعنى.

واجتمع إلى بحر الخاقاني جماعة من اليهود، قالوا: كيف تأخذ منا الجزية وفي بلدك علماء مجبرة وأنت على قولهم، يقولون: إنا لا نقدر على الاسلام، فجمعهم فقالوا: نعم نقول بذلك، فطالبهم بالدليل فلم يقدروا عليه فنفاهم.

تذنيب:
بحث في التقية

قال الله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة (3) إن أكرمكم عند الله أتقاكم (4) وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه (5)) وقال الصادق عليه السلام:

التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، التقية ترس الله في الأرض، ليس منا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعية، خالطوا الناس بالبرانية وخالفوهم بالجوانية، ما دامت الإمرة صبيانية.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله أسر أبو جهل عمارا وألزمه بسب النبي وضربه عليه فسبه وهرب إلى النبي صلى الله عليه وآله باكيا فقال قوم: كفر عمار، فقال النبي صلى الله عليه وآله:

كلا؟ إنه ملئ إيمانا فقال: عمار أيفلح من سب النبي؟ فقال عليه السلام: إن عاد ذلك فعد لهم بما قلت (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (6).

____________

(1) الفرقان: 9.

(2) البقرة: 18.

(3) آل عمران: 28.

(4) الحجرات: 13.

(5) غافر: 28.

(6) النحل: 106.


الصفحة 72
ابن مسعود في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين أتوا الكتاب (1)) قال:

حرفوا التوراة، وأعرضوها على ذي القرن أفضل أحبارهم، وقالوا: إن لم يقبل قتلناه فعلم فجاء بها في عنقه تحت ثوبه فلما أعرضوا عليه المحرف وضع يده على صدره، وقال، هذا كتاب الله فلما مات أفشى سره خلصاؤه فاختلفت بنوا إسرائيل فرقا وكانت الناجية أصحابه.

وسعي برجل إلى فرعون أنه يقول: بوحدانية الله فجئ به، فقال: أشهد أن ربهم ربي، وخالقهم خالقي، لا رب لي ولا خالق سوى خالقهم وربهم، فعذب السعاة وذلك قوله تعالى: (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب (2).

تذنيب:

في التوراة ذكر الدينوري في محاسن الجوابات، وابن عبد ربه في العقد أن معاوية أعطى عقيلا جملة دراهم ليصعد المنبر ويلعن عليا، فصعد وقال: إن معاوية أمرني أن ألعن عليا فالعنوه، فقال: أخذت مالي ولعنتني؟ قال: فاستر لئلا ينكشف للناس.

وفي العقد إن معاوية أمر الأحنف يشتم عليا فأبى، فقال: اصعد وأنصف فقال: إن عليا ومعاوية كل منهما ادعى بغي الآخر عليه، اللهم العن الفئة الباغية.

وذكر الكشي أن معاوية أمر صعصعة بن صوحان أن يلعن عليا فصعد المنبر وقال: إن معاوية أرني أن ألعن عليا فالعنوه، فقال: والله ما عنيت غيري، ارجع حتى تذكره باسمه واسم أبيه، فرجع، وقال: العنوا من لعنه الله ولعن علي ابن أبي طالب فقال معاوية: والله ما عنى غيري أخرجوه عني لا يساكنني.

____________

(1) البقرة: 101.

(2) غافر: 45.


الصفحة 73
ولقي الطاقي خارجي فقال: لا أفارقك أو تتبرأ من علي فقال: أنا من علي ومن عثمان برئ فسلم منه.

مسلم إلياس المعدل على قوم فلم يردوا، فقال: لعلكم تظنون في ما قيل من الرفض؟ إن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا من أبغض واحدا (1) منهم فهو كافر فسروا بذلك ودعوا له.

وكان بعضهم يلعن السلف فسعي به إلى الوالي فقال: قد خسرت في السلف كثيرا يريد السلم.

ودخل الصادق عليه السلام على أبي العباس في يوم شك وهو يتغدى فقال: ليس هذا من أيامك فقال الصادق عليه السلام: ما صومي إلا صومك ولا فطري إلا فطرك فقال:

ادن فدنوت وأكلت، وأنا والله أعلم أنه من رمضان.

وقيل للصادق عليه السلام: ما تقول في العمرين؟ فقال: إمامان عادلان قاسطان كانا على الحق فرحمة الله عليهما، فلما خف المجلس سئل عن التأويل فقال: (و جعلناكم أئمة يدعون إلى النار (2) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (3)) وعدلا عن الحق وهو علي، فالرحمة وهو النبي صلى الله عليه وآله عليهما (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (4)).

وفي تفسير العسكري قال رجل لشيعي بحضرة الصادق عليه السلام ما تقول: في العشرة فقال: أقول فيهم الخير الجميل الذي تحط به سيئاتي، وترفع به درجاتي فقال: كنت أظنك رافضيا تبغضهم، فقال: من أبغض واحدا منهم أو بعضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقبل الرجل رأسه وقال: اجعلني في حل فقال:

أنت في حل أي غير حرم.

____________

(1) يعني بالواحد عليا عليه السلام.

(2) القصص: 41.

(3) الجن: 15.

(4) الأنبياء: 107.