وما أحسن قول بعض المؤمنين: لو بعث النبي اليوم أين كان ينزل برحله؟
قال السامع: مع أهله؟ قال: فأنا أضع محبتي حيث ينزل النبي برحله.
قالوا: فالعباس أقرب منه فإن كان بالميراث فله: قلنا: قد أجمعنا وإياكم على أنه طلب مبايعة علي، وفي ذلك نفي استحقاقه، وقد رويتم في مسند ابن حنبل قول علي في حياة النبي: والله إني لأخوه وابن عمه ووليه ووارثه، ومن أحق به مني؟ ولا نسلم أقربية العباس لأنه عم للأب وعلي ابن عم للأبوين.
إن قيل: فعقيل أخوه قلنا: لا خفاء في امتياز علي عنه بشدة الملازمة والتربية والتزويج وغير ذلك لا يحصى.
قالوا: لم يخص النبي أحدا حيث قال: الأئمة من قريش، فرجحت الأمة المتقدمين من الأئمة قلنا: الخبر من طرقكم فليس حجة علينا، مع أن عليا أقرب قريش وأفضل، هذا مع قولكم: إن النبي لم يوص، فيكون الأحق بميراثه بمنطوق الكتاب ابنته وباقيه، للأقرب إليه.
قالوا: فقد استخلف موسى يوشع بن نون دون أولاد هارون، قلنا: هذا لنا لا لكم، لأنه إذا استخلف، ولا شك أن النبي أشفق منه، فكيف لم يستخلف عندكم؟ وأيضا فالكلام في استخلاف الأمة لا في استخلاف الأنبياء والمعصومين الأئمة.
على أن مقاتل ذكر في تفسيره أن يوشع ابن أخت موسى، وهو أفضل من أولاد هارون وهذا ما نقوله في علي والعباس
____________
(1) الأنفال: 75.
فصل
قالوا: قدم في الصلاة قلنا: هي عندكم جائزة خلف كل بر وجافر، مع أن الصلاة خاص وهو لا يدل على العام، على أن الأمر بالصلاة كان من عائشة لا غير، وإن اختلف طرقه إليها ولهذا لما عرف خرج غلى ما به من الجهد، وعزله كما أخرجه البخاري وغيره ورواه منهم إبراهيم بن ميمون والواقدي والشاذ - كوني ورواه أبو حنيفة عن إبراهيم النخعي، ومن هذا الرسول الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله إليه يأمره بالصلاة؟ كان ينبغي ذكره باسمه وقبيلته، لأنه عندهم من المهمات.
ثم إن كانت صلاته أمارة ظنية دالة على خلافته كان عزل النبي له برهانا قاطعا على عدم إمامته.
إن قالوا: لا يدل عزله على عدم أمره كما في براءة، فإنه أمره ثم عزله قلنا: كفانا ما في عزله من عدم صلاحه، ويكون أمر النبي له في الجماعة اليسيرة لينبه بعزله على عدم صلاحه في المحافل الكثيرة، وإنما رواه عن النبي الحسن البصري حيث أجاز النص الخفي مستدلا بصلاة أبي بكر عن أمر النبي.
قالوا: لما أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر بالصلاة، قالت عائشة: لا يحتمل أن يقوم مقامك، فدل قولها على أن الأمر ليس منها، قلنا: هذا يبطله ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى بالناس عند خروج النبي صلى الله عليه وآله إلى الصلح بين بني عمرو بن عوف فحضر عليه السلام فأخره عنها.
وفي الحديث الثاني والسبعين من الجمع بين الصحيحين قالت عائشة: لما اشتد وجع النبي استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن فحمل.
وفي الحديث الثالث والسبعين عنها أنه كان يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا، استبطاء ليوم عائشة وفي مسلم والبخاري أنها وضعت له الماء ثلاث مرات و يغمى عليه في كل مرة، ويقول: أصلى الناس؟ ثم أرسل إلى أبي بكر يصلي
وفي هذا الحديث دلالة على أنه كان يكره صلاة أبي بكر بالناس، وأنه ساء به ظنه أن يتقدم بغير إذنه في مرضه، كما تقدم بغير إذنه في صحته، وأنه كان يسئ الظن بهم أن يصلوا قبل إذنه وفي حديثها أن أباها لما أتته الرسالة بالصلاة أشار إلى عمر أن يصلي، فإن كان عرف أن الرسالة من النبي حرمت مخالفتها، و إن عرف أنها ليست منه لم يسع له فعلها، وفي حديثها أنها راجعت النبي صلى الله عليه وآله فاعتقد أن رأيها لأبيها أصلح له من رأي النبي، وكيف لم يصل النبي على حالة مرضه في بيته.
هذا وقد استخلف جماعة من الصحابة ولم يدع أحدهم إمامة ولا ادعاها لهم أحد من العامة فاستخلف أبا لبابة في غزاة بدر، وغزاة قينقاع، وابن أم مكتوم في عام الفتح، وفي غزاة الكدر، مع أنه لا يتحرز من أكثر النجاسات لكونه أعمى وفي حنين أبا ذر وفي الحديبية سباع بن عرفطة وفي ودان سعد بن عبادة، وفي بواط سعد بن معاذ، وفي طلب كرز زيد بن حارثة وفي بدر الموعد عبد الله بن رواحة وفي غزاة العشيرة أبا سلمة واستخلف عتاب ابن أسيد على مكة والنبي مقيم بالأبطح.
قالوا: صلاته متأخرة وقد علم وجوب الأخذ بالأقرب فالأقرب، قلنا:
قد جاءت رواياتكم أن المأمور بالصلاة على فقد روى علي بن بشر عن الصادق عليه السلام وابن المبارك عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله أمر عليا بالصلاة فخشي أن تفوته نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فأمر أبا بكر بالصلاة ورجع، فقال: أصليت بالناس قال:
أمرت أبا بكر وخشيت أن تفوتني نفسك فقال: أخرجني فخرج فعزله وفي حديث عبد الله بن زمعة: لئلا يصلي بهم ابن أبي قحافة.
إن قيل: فما ورد على أبي بكر من رد رسالة النبي صلى الله عليه وآله يرد على علي قلنا:
إنما جاء من طرقكم، فذكرناه إلزاما لكم فلا ورود، وقد روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: مروا بعض القوم أن يصلي بالناس، فقالت عائشة لبلال:
قل لأبي يصلي، وقالت حفصة: مر أبي يصلي فأفاق النبي صلى الله عليه وآله فقال: إنكن
وعن الباقر عليه السلام أنه أخره آخر الصفوف وصلى ثم قال: ما بال قوم تقدموا بغير أمري حسدا لأهل بيتي، ملأ الله أجوافهم نارا وقلوبهم نارا فعاد بالتوبيخ عليهن، وهو دليل أن الأمر منهن.
قالوا: إنما قال: صويحبات يوسف عند قول عائشة: أبا بكر لا يحتمل القيام مقامك قلنا: لو كان كذلك لم يحسن تشبيههن بهن لأن نساء يوسف لا يخالفن يوسف، وإنما طلبت كل واحدة لنفسها كما طلبت كل من عائشة وحفصة الفخر لنفسها، ثم نقول: كيف يأمره بالصلاة وقد أنفذه في جيش أسامة لما خاف منه و من جماعة أن يبدلوا أمره.
قالوا: لم يكن أبو بكر فيه، قلنا: روى الواقدي عن ابن زياد عن هشام عن أبيه عروة قال: كان فيهم أبو بكر وروى عن عمرو بن دينار مثله، وقد اشتهر قول أسامة: أمرني النبي صلى الله عليه وآله على أبي بكر، وقد أسلفنا ذلك في المطاعن.
والصلاة وإن صحت لم توجب الإمامة، وإلا لاحتج بها على الأنصار و لوجبت إمامة صهيب حيث قدمه عمر يصلي بالمهاجرين والأنصار، وقد يؤمر المفضول على الفاضل عندكم، كما في أسامة، ولم يدع له أحد إمامة وقد قلتم أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة من الصبح، ولم توجب له إمامة، مع أن صلاته به أقوى دلالة لأنه أم سيد الأمة في رواية أبي شيبة وابن الإصبهاني وغيرهما وإن لم ينتظر النبي حتى يتطهر لا غير، كما في الحديث الأول من الجمع بين الصحيحين فإذا تقدموا بغير إذنه في صحته فكيف حال اليأس منه لمرضه.
إن قلت: لا يلزم من تسرع ابن عوف إلى ذلك تسرع غيره، قلت: قد ذكر البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أبا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي صلى الله عليه وآله حين مضى ليصلح بين بني عوف فجاء النبي فتأخر فكيف يقال: إنه يتوقف عن التقدم إلى الرياسة و [ لا ] يصلي بغير إذن.
تذنيب:
نقلنا من الأطراف لابن طاوس: سأل عيسى بن المستفاد الكاظم عليه السلام عن الصلاة فقال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله دعا عليا ووضع رأسه في حجره، فأغمي عليه فحضرت الصلاة فأذن لها فخرجت عائشة وقالت، يا عمر صل بالناس، فقال: أبوك أولى فقالت: صدقت ولكنه لين وأكره أن يواثبه القوم، فقال: بل يصلي وأنا أكفيه من يثب عليه، مع أن محمدا مغمى عليه، لا أراه يفيق منها والرجل مشغول به، يعني عليا فبادر بالصلاة قبل أن يفيق منها فإن أفاق خفت أن يأمر عليا بها، فقد سمعت مناجاته منذ الليلة وفي آخر كلامه: الصلاة الصلاة.
فخرج أبو بكر ليصلي، فلم يكبر حتى أفاق النبي صلى الله عليه وآله فخرج متكيا على العباس وعلي، فصلى ثم حمل على المنبر، واجتمع أهل المدينة حتى خرجت العواتق فبين باك وصائح ومسترجع وصارخ، فخطب على جهد، وكان في خطبته: خلفت فيكم كتاب الله فيه النور والبيان، وخلفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدى، هو حبل الله فاعتصموا به ولا تتفرقوا عنه، ألا وإنه كنز الله اليوم، وما بعد اليوم، ومن أحبه وتولاه اليوم وما بعد اليوم، فقد أوفى بما عاهد عليه الله ومن عاداه اليوم وما بعد اليوم جاء يوم القيامة أعمى أصم لا حجة له عند الله، ألا ومن أم قوما إمامة عمياء، وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر.
قال البرقي:
لقد فتنوا بعد موت النبي | وقد فاز من مات عبدا رضيا |
غداة أتى صائحا للصلاة | بلال وقد كان عبدا تقيا |
وأحمد إذ ذاك في حضرة | يعالج للموت أمرا وحيا |
فقامت من الدار شيطانة | تنادي بلالا نداء حفيا |
يصلي عتيقك بالمسلمين | فجاءت بذلك أمرا فريا |
فلما توسط محرابه | أتى جبرئيل ينادي النبيا |
محمد قم فتن المسلمون | فقام النبي ينادي عليا |
توكا على عمه والوصي | سريعا على ضعفه منحنيا |
فنحاه عنه مزيلا له | وقد كان - لا كان - داء غبيا |
وما قدموه بأمر النبي | وما كان يوما له مرتضيا |
فصل
قالوا: صحبة الغار دليل الأفضلية، قلنا: قد أسند ابن حنبل إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله ما أصحبه إلى غاره ولا اطلعه على أسراره، حيث قال أبو بكر:
فجئت وعلي نائم فحسبت أنه رسول الله فقال علي: إنه قد انطلق نحو بئر ميمون فهذا يشهد أن اتباعه لم يكن بأمره، على أنه قد وردت رواية أنه إنما أخذه خوفا منه وقد سلف ذلك في مبيت علي للفداء مستوفى ولئن سلم اصطحابه فالصحبة لا توجب الفضيلة لقول الله: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت) (1) (وما صاحبكم بمجنون) (2) وقال أمية بن الصلت:
إن الحمار مع الحمير مطية | وإذا خلوت به فبئس الصاحب |
وقال الشنفري:
وإني كفاني فقد من ليس جاريا | بحسبي ولا في قومه متعلل |
ثلاث صحاب لي فؤاد مشيع | وأبيض إصليت وصفراء عيطل |
وأبلغ من هذا أن الصحبة تصدق مع الكراهة والبغضاء، فقد سمي الزوجة صاحبة (3) وهي عدو (وإن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) (4)
____________
(1) الكهف: 37.
(2) التكوير: 22.
(3) في قوله (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) الأنعام: 101، وقوله:
(ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) الجن: 3، وقوله (وصاحبته وبنيه) عبس: 36.
(4) التغابن: 14.
قالوا: هي أفضل من النوم على الفراش، لأن نفسه كالمساوية لنفس النبي صلى الله عليه وآله ونفس علي كالفادية لها، قلنا: جاز أن يكون خادمه ولا مساواة للخدمة مع أن فيه ردا لما أجمع المفسرون عليه (وأنفسنا وأنفسكم (2)) أنها في علي دون كل أحد، وقد نزل فيه، إنه الأذن الواعية، والهادي، وصالح المؤمنين وغير ذلك كثير قد ذكرناه في بابه، ولم ينزل في أبي بكر شئ لما في صحيح البخاري أن عائشة قالت: ما أنزل الله فينا شيئا إلا أنه أنزل عذري ولو نزل في أبيها شئ لعلمته مع حرصها على علوه قالوا: وجاء النوم في التواريخ والسير فهو مظنون والغار مقطوع، قلنا: قد عرف نقل النوم بالتواتر وجميع العلماء يسندون إلى التواريخ والسير على أنه مقطوع الدلالة على الأفضلية وقصة الغار مظنون الدلالة، لعدم تصريحها باسم أبي بكر.
قالوا: عتب الله على كل الأمة غير أبي بكر بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار (3)) ولم يقل: إذ نام على فراشه، قلنا: تلك حكاية حال تحتمل عدم الفضيلة بخلاف النوم المصرح فيه بالفضيلة في قوله: (ومن الناس من يشري نفسه) (4) الآية ولا نسلم عتب الله على كل الأمة، فإن الآية مختصة بقوم تثاقلوا في الجهاد، ويلزم على القول بالعموم دخول عمر وعثمان فيها، والعتب على الكل ينفي ما استدلوا به على عدالة الأمة في قوله:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا (5)) قالوا: نصر أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت
____________
(1) غافر: 43.
(2) آل عمران: 61.
(3) براءة: 40.
(4) البقرة: 207.
(5) البقرة: 143.
قالوا: أنزل الله سكينته على أبي بكر لأنها لم تفارق النبي قط قلنا: لو نزلت عليه لكان في المحاربين، وقد عرفت أنه من جملة الهاربين، والسكينة أجل قدرا وأعظم خطرا من أن يطيش محلها أو يهرب من وصف بها، وهذه كتب المغازي لم يذكر في شئ منها ثابتا، ولا لضعيف فضلا عن غيره قاتلا ولا جارحا، بل المشركون بريئون من محاربته، مبتلون بعلي ونكايته، وقد وسمه النبي صلى الله عليه وآله بالفرار كما سمى عليا بالكرار، وهما من أسماء المبالغة وأيضا فلو كانت لم تفارق النبي صلى الله عليه وآله قط فما بالها نزلت بعد ذلك في قوله: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين (2)) بل نقول: اختصت في الغار بالنبي إذ لو كان معه مؤمن لشركه فيها كغيرها، وما هذا إلا كتنبيه الغافلين، وإرشاد الضالين، ولأن (الهاء) كناية عن النبي من أول الآية إلى آخرها، ولم يأت بالتثنية في نزولها.
إن قالوا: جازت العناية بالواحد عن الاثنين في (انفضوا إليها (3)) (ولا ينفقونها) (4) قلنا: معلوم عند السامع الرجوع إليها بخلاف ما نحن فيه إذ لا يعلم السامع بدخول أبي بكر معه كما تدعيه، فيكون ملغزا غير لايق بقوله: (تبيانا لكل شئ (5).
قالوا: اختص أبو بكر بالحزن فاختص بالسكينة لحاجته قلنا: جاز مشاركة النبي له فيه فهو أولى بها منه، على أن السكينة لم ترتبط بالحزن لنزولها على النبي صلى الله عليه وآله في بدر وحنين.
إن قالوا: خاف ولم يظهره، قلنا: وفي الغار خاف ولم يظهره.
____________
(1) براءة: 40.
(2) الفتح: 26.
(3) الجمعة: 11.
(4) براءة: 34.
(5) النحل: 89.
قالوا: نهى الله نبيه في قوله: (فلا تحزن عليهم (1)) ونحوها فما ذكرتم ورد فيه، قلنا: ثبوت عصمته يوجب حمله على التنزيه.
قالوا: فليحمل نهي النبي صلى الله عليه وآله لصاحبه على التنزيه، قلنا: النهي حقيقة في التحريم، فلا يعدل عنها لغير دليل، فالمعصية لازمة دائما إذ لم تنقل التوبة وقد روى أبو إسحاق وهو من أمنائهم أن أبا بكر قال:
فلما ولجت الغار قال محمد | أمنت فثق من كل ممس ومدلج |
بربك إن الله ثالثنا الذي | وثقنا به في كل مثوى ومفرج |
ولا تحزنن فالحزن لا شك فتنة | وإثم على ذي البهجة المتحرج |
فقد شهد في شعره على نفسه أن النبي جعل حزنه فتنة، وهي أكبر من القتل.
إن قلت: لم تخص الفتنة في المعصية، لأن لها معان متكثرة، قلت: حيث إنه عليه السلام بالإثم قرنها، ارتفع باقي وجوهها.
قالوا: أخبر أن الله معهما في قوله: (إن الله معنا) قلنا: جاز كون الجمع للعظمة، وقد ذكر البيهقي أنه قال له: على ما تحزن؟ قال: على ابن عمك النائم على فراشك فقال: (إن الله معنا) أي معي ومعه، ولأن الله مع كل لقوله:
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم (2)) الآية.
قالوا: إنما كان حزنه على النبي فإن الحزن ما كان على الغير، والخوف ما كان على النفس، والنبي صلى الله عليه وآله لم يقل: لا تخف، قلنا: ذكر الزمخشري في كشافه أن الخوف غم يلحق الانسان لمتوقع، والغم حزن يلحقه لواقع، وأيضا فالقرآن عاكس ما قالوا، قال لأم موسى: (فإن خفت عليه (3)) وقال: (لا يحزنهم
____________
(1) النحل: 127، النمل: 70.
(2) المجادلة: 7.
(3) القصص: 7.
قالوا: جمعهم الله في كلمة وهي قوله: (إذ هما في الغار) وهي شدة المناسبة بينهما، ولهذا ذم النبي الخطيب الجامع بين الله ورسوله في قوله: (ومن عصاهما) قلنا: لا شك في رفع المناسبة بين الله ورسوله، فلهذا حسن ذمه، أما بينه وبين أبي بكر فالمناسبة ثابتة في الجسمية والامكان والحاجة ونحو ذلك فجاز الجمع بهذه الأشياء لا للمناسبة في الفضيلة.
قالوا: جمعهما الغار فهو دليل الملازمة قلنا: المسجد أفضل من الغار وقد اجتمع فيه مع النبي الكفار في قوله: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين (2)) فقد صار ما تمسك به المخالف (كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف)
إذا جاء تيمي يريد تفاخرا | فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب |
ولو سلمت له تلك الأمور، فقد زالت بما أحدثه من الشرور، في سلب وصيه قميص خلافته، وما تبع ذلك من مخالفته، وفد؟ ورد في حديث الحوض عند قوله عليه السلام: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقال عثمان للصحابة: ألم تعلموا أني جهزت جيش العسرة، واشتريت بئر أرومة، وفعلت وفعلت؟ قالوا: بلى إلا أنك غيرت وبدلت، وأيضا فإن الناكثين سلبتهم محاربة أمير المؤمنين ثمرة صحبة سيد المرسلين ولهذا اعتذروا لهما (3) بالتوبة وهي رواية فلا تخرجهما من الحوبة لأن المحاربة دراية.
____________
(1) الأنبياء: 103.
(2) المعارج: 37.
(3) يعني طلحة والزبير.
فصل
لما قلنا: نرى من السنة من تشيع، ولا نرى من الشيعة من يتسنن، وذلك دليل على حقية التشيع.
قالوا: هذا يدل على بطلان التشيع، ولأن جميع الأديان إنما فسد في آخرها بالخروج إلى الأصنام وغيرها عنها، ودين الاسلام إنما فسد بحدوث الرفض فيه، وتقوم الساعة على هذا الفساد، حتى يعود الدين غريبا كما في الحديث فالرفض منقصة.
قلنا: أول ما فيه أنه معارض بقول المسلمين: نرى من الكفار من أسلم فالاسلام منقصة.
وثانيا أن حدوث الفساد إنما هو بفعل السنة حيث قتلوا أولاد نبيهم، و شردوهم عن أوطانهم، ومنعوهم عن ميراثهم، وسبوا عليا في زمان إمامته بالاتفاق على منابرهم.
قال شيعي:
يا أمة كفرت وفي أفواهها | القرآن فيه صلاحها ورشادها |
أعلى المنابر تعلنون بسبه | وبسيفه نصبت لكم أعوادها |
وثالثا أن التشيع لم يكن كما ذكرته لك فيما سلف حادثا، والإمامية لم تفارق كتاب ربها وذرية نبيها، فلينظر ذو البصيرة والدين أبفعلهم فسد الدين أم بفعل الناصبين؟
ورابعا بالمنع من قيام الساعة على فساد الدين بل على إصلاحه لإجماع المسلمين على قوله عليه السلام: (يملأها عدلا كما ملئت جورا).
قالوا: أفسدتم الدين بسب الصحب الصالحين قلنا: لا إنما تبرأنا من الفاسقين المتغيرين كما ذكرته في كتبهم من حديث الحوض، لم يزالوا مرتدين فقال النبي:
سحقا لمن غير بعدي، فاتبعنا سيد المرسلين.
افترقوا أربعا بلا نكر | وكل فرقة تضلل الأخرى |
إذ عثروا عثرة لها بتر | وأمرضوا مرضة فلا تبرى |
وأما الشيعة فلم تخالف أدلة العقول، ولزمت مع ذلك قول الله والرسول فما أحقها بقول الأعرابي لناقته حيث سلكت أوسط السبل به:
أقامت على ملك الطريق فملكه | لها ولمنكوب المطايا جوانبه |
فالشيعة صبرت على موالاة الله ورسوله، وأهل بيته، ورأت الذل معهم خيرا من الغز؟ بمخالفتهم، والفقر بحفظهم خيرا من الغنى بإضاعتهم، والخوف مع قضاء حقهم خيرا من الأمن مع كفرانهم، والقتل معهم خيرا من الحياة مع أعدائهم، و سيأتي أقوال محررة في باب تخطئة الأربعة.
فصل
* (في روايات اختلقوها ليستدلوا على خلافتهما بها) *
منها: قولهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة رووه عن ابن عمر وهو عن أهل البيت منحرف، وبذكر أبيه متهم معتسف، مع أن الجنة لا كهول فيها كما أجاب به أبو جعفر عليه السلام ليحيى بن أكثم ولاتفاق المفسرين أنهم يحشرون جردا مردا مكحلين. قال الطبرسي أبناء ثلاث وثلاثين، وإنما أرادوا بهذا معارضة قول النبي صلى الله عليه وآله المتواتر: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
____________
(1) الأحزاب: 33.
قالوا: يلزم كونهما سيدا أبيهما وجدهما قلنا: خرج النبي بقوله: أنا سيد ولد آدم وعلي بقوله: وأبوهما خير منهما.
قالوا: فلزم كونهما خيرا من الأنبياء قلنا: لا يبعد ذلك وإن بعد جاز إطلاق العام وإرادة الخاص مثل (وأوتينا من كل شئ (1)) على أنه يلزمهم كون أبي بكر وعمر سيدا من مات كهلا من الأنبياء، ولم يقل به أحد.
قالوا: المراد من قوله: سيدا شباب أهل الجنة من مات شابا وفي أبي بكر وعمر من مات كهلا، وقد مات الحسنان كهلين فيكون الشيخان لهما سيدين.
قلنا: هذا خلاف ما أجمع عليه قال العاقولي في شرحه للمصابيح: لم يرد سن الشباب لأن الحسنين ماتا كهلين، بل ما يفعله الشاب فيقال: فلان فتى إذا كان ذو مروة وفتوة وإن كان شيخا، فعلى هذا هما سيدا الشباب والكهول، وسيدا الشيخين إن كان لهما فتوة، وفيه تصريح بكذب سيدا كهول أهل الجنة فالمخالف يجتهد بإبطال تلك الفضائل، ويلزم النبي بمناقضة كلامه، وهي من أعظم الرذائل.
على أنه روي عن عائشة وقيس بن حازم الإصفهاني والشيرازي وابن مردويه والخوارزمي وابن حنبل والبلاذري وابن عبدوس والطبراني أن عليا خير البشر من أبى فقد كفر، وخير البرية وخير الخليقة وخير من أخلف، وخير الناس ولا يقاس، وهذه الأخبار تنقض ما قالوه، فيجب المصير إليها للاتفاق عليها.
إن قالوا: فتنقض سيادة الحسنين، قلنا: خرج والدهما بقوله: أبوهما خير منهما.
إن قالوا: فليخرج الشيخان بما ذكرنا، قلنا: لا اتفاق عليه.
قالوا: الحسنان لم ينفقا قبل الفتح ولا بعده ولم يقاتلا، فلا يعدلان من فعل ذلك لآية (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من
____________
(1) النمل: 16.
قالوا: فيلزم أن يكون أول منفق كان قبل الفتح أفضل من الحسنين، قلنا: جاز أن يكون الخطاب في الآية متناولا لمن كان له أهلية الإنفاق في ذلك الوقت فلا يدخل الحسنان فيه، فلا يكون لمن تقدم إنفاقه فضل عليهما.
إن قالوا: لا يستوي سالبة كلية، قلنا: لا، فإن الأرجح في الأصول أن نفي (لا يستوي) أعم من نفيه من وجه ومن كل وجه، ولو سلم فتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة جائز.
ومنها: ما قاله أنس بن مالك: أن النبي أمره أن يبشر أبا بكر بالجنة والخلافة بعدة، وعمر بالجنة والخلافة بعد أبي بكر، قلنا: أنس مشهور بالإعراض عن علي عليه السلام وهو الذي كتم فضيلته ورده يوم الطائر، وفي دون هذا تتهم روايته وتسقط عدالته.
قالوا: فلترد روايته في خبر الطائر لعلي بتفضيله قلنا: تلقته الأمة بقبوله ولم يكن أحد منكرا لصحته، وقد رواه غيره: أم أيمن وسفينة واحتج علي يوم الدار والشورى به، فاعترف الجميع بصحته، ولئن سلمت عدالته لم يفد خبره علما لكونه آحاديا ولو سلم ذلك كله فهو موقوف على الوفاة.
ومنها: أنه لما أسري بالنبي رأى على العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق قلنا: قال الصادق عليه السلام: غيروا كل شئ حتى هذا، إنما كتب مع الشهادتين عليا أمير المؤمنين، وكتب ذلك على اللوح، وعلى جناحي جبرئيل وعلى السماوات والأرضين، وعلى رؤس الجبال، وعلى الشمس والقمر، وهو السواد الذي يرى فيه.
ومنها: قوله: اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر وعمر. قلنا: أول ما فيه أنه
____________
(1) الحديد: 10.
ولو سلم لم يمكن العمل به، لأنه إن أريد الاقتداء بهما في كل الأمور فلا شك في أنهما اختلفا وهو يمنع عموم الاقتداء بهما، ولو اتفقا لم يؤمن الخطأ منهما لإجماع الأمة على سلب العصمة عنهما، وإن أريد بعضها وهو ما يعلم حسنه منها قلنا: بطل اختصاص الاقتداء بهما، ولأن علم الحسن إن استفيد من غيرهما استغني عنهما، ويلزم الدور إن استفيد منهما.
ولأن الخبر روي بنصب (أبا بكر وعمر) اقتديا باللذين من بعدي، وهما كتاب الله وعترتي، فإنه حث عليهما ونفى الضلالة عند التمسك بهما ورواه أهل المذاهب في الجمع بين الصحاح وسنن أبي داود وصحيح مسلم والترمذي وابن عبد ربه والثعلبي وابن حنبل وابن المغازلي.
قالوا: لفظة (اقتدوا) جمع فلو كان ذلك نداء لهما لم يصح الجمع فيهما قلنا: إن جعلنا أقل الجمع اثنين سقط كلامكم، وإن لم نجعله جاز وضع الجمع على الاثنين كما جاز على الواحد.
على أنا لا نسلم أنه حال الخطاب لم يكن معهما ثالث، وأقله الراوي، و أنتم قلتم يراد به كل الأمة.
إن قالوا: نعم أريد الكل وحينئذ يسقط النداء لأنه لا اختصاص لهما بالنداء
لو كانا داخلين في الأمة فعلم أن المراد الاقتداء بهما لا اقتداؤهما قلنا: وجه اختصاص
النداء بهما تأكيد الحجة عليهما، لعلمه أنهما يليان الأمر بعده، فلذلك أفردهما
كما رويتم أنه عليه السلام قال لعائشة: إن أباك يلي الأمر من بعدي، ثم عمر، مع أنه