ومنهم: أنس بن مالك ذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الخامس عشر بعد المائة من المتفق عليه أن إنسانا سأل النبي صلى الله عليه وآله عن الساعة فقال: إن آخر هذا لم يدرك الهرم، حتى تقوم الساعة، وفي حديثين آخرين عنه نحو ذلك فكيف يسمع مع قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة [ أيان مرسيها ] قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) (1) (إلى ربك منتهاها) (2) (إن الله عنده علم الساعة) (3) مع روايتهم عن نبيهم أنه أخبر بدولة بني أمية وبني هاشم و المهدي وغيرهم مما يقتضي كون القيامة أبعد من أعمار شتى.
____________
(1) الأعراف: 187.
(2) النازعات: 44.
(3) لقمان: 34.
(2)
فصل
* (آخر فيهم) *
منهم: أبو إسحاق السبيعي خرج إلى قتال الحسين عليه السلام.
ومنهم: الشعبي خرج مع ابن الأشعث وتخلف عن الحسين، وأسند الشاذ - كوني أنه سرق من بيت المال مائة درهم في خفية، وإن شريحا ومسروقا ومرة كانوا لا يؤمنون على دعائه.
وأسند العطار إلى بهلول إلى أبي حنيفة قال: دخلت على الشعبي وبين يديه شطرنج ونبيذ، وروى أبو بكر الكوفي عن المغيرة أن الشعبي كان لا يهون عليه أن تقوم الصلاة، وهو يلعب بالشطرنج والنرد، وروى الفضل بن سليمان عن النضر بن محارب أنه رأى الشعبي يلعب بالشطرنج، فإذا مر عليه من يعرفه أدخل رأسه في قطيفته.
ومنهم: سفيان الثوري روي أنه قيل له: كيف تروي عن أبي مريم وهو يسكر؟ فقال: لأنه لا يكذب في الحديث (1).
____________
(1) روى الكليني عن علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال: مر. سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله عليه السلام وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان فقال: والله لآتينه ولأوبخنه.
فدنا منه وقال: يا ابن رسول الله! والله ما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله مثل هذا اللباس ولا على ولا أحد من آبائك. فقال له أبو عبد الله عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله في زمن قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره واقتاره وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها، فأحق أهلها بها أبرارها، ثم تلا: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق).
فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أني يا ثوري ما ترى على من ثوب إنما لبسته للناس، ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، فقال هذا لبسته لنفسي غليظا، وما رأيته للناس.
ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن، وداخل ذلك ثوب لين، فقال: لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسرها.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر وليس فيها ذيل الخبر، راجع الكافي ج 6 ص 442 ج 5 ص 65، مطالب السؤول ص 82.
وعنونه ابن حجر في التقريب قال: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة عابد إمام حجة من رؤس الطبقة السابعة، وكان ربما دلس، والعجب من ابن حجر الناقد، يمدحه بالوثوق والحجية والإمامة ثم يقول كان يدلس، فكيف يكون المدلس إماما حجة ثقة؟ نحن لا ندري.
ورووا فقهاؤهم مثل حماد ابن زيد وغيره أنا لنرى عليا بمنزلة العجل الذي اتخذه بنو إسرائيل.
فهؤلاء رواة المنكرات، مثل قولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما أبطأ عني جبرائيل إلا ظننته بدأ بعمر، وقد روى علماؤهم أنه كان ممن نخس برسول الله العقبة، رواه عبيد الله بن موسى عن الوليد بن جبير عن أبي الطفيل عن حذيفة وعمار أنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعمرو بن العاص، و ابن مسعود، وأبو موسى، وجماعة أخرى.
فهذا اختلاف من أخذوا عنهم أمر دينهم واعتمدوا في الاحتجاج على قولهم، وقد ذكر علماؤهم، أن عامة من تعلق بهم علم الحديث مبتدعة.
فقالوا: من قدرية المدينة محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومحمد ابن أبي ذؤيب، وإبراهيم الأسلمي، وشريك بن عبد الله، وعطاء بن يسار، ومن مكة عبد الله بن أبي نجيح، وهشام بن حجير، وإبراهيم بن نافع، ومن الشام مكحول وثور، وغيلان.
ومن البصرة قتادة، ومعبد، وعون، وسعيد، وعمرو بن عبيد، وهشام
فهؤلاء رواة حديثهم، وقد رموهم بالبدعة والضلالة.
وممن نسب من أهل الكوفة إلى الرفض، سلمان، وأبو ذر، والمقداد، و عمار، وجابر بن عبد الله، والخدري، والبراء، وعمران ابن حصين، وحذيفة وذو الشهادتين، وعبد الله بن جعفر، وابن عباس، وحبشي، وأبو رافع، وأبو جحيفة وزيد بن أرقم، ومجاهد، وابن المسيب، وسويد، والحارث، وعلقمة، والربيع وأويس القرني، والأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وابنه القاسم.
فهؤلاء عندهم رافضة، (1) وقد اقتدى بهم جماعة لا تحصى من أكابر أهل العراق، سمى الطبري منهم نحو مائة وخمسين، من أرادهم وقف عليهم في كتاب المسترشد قال: وجماعة كثيرة لم نذكرهم.
ونسبوا من أهل الكوفة قوما إلى البدعة منهم سفيان الثوري، وأبو بكر بن عياش، ويعلى بن عمر، ويحيى بن اليمان، ومن واسط عشيم بن بشير، وخالد بن عبد الله، وعباد بن العوام ومحمد بن يزيد، ومحمد بن الحسن وجعفر بن أياس، والأصبغ بن بريد وعمران بن أبي عطاء وأبو الحكم ويعلى بن مسلم وأيوب بن مسكين و سفيان بن حسين ومن البصرة يحيى بن سعيد القطان.
____________
(1) زاد في بعض النسخ: وحديث العراق متعلق. ولم نفهم المراد.
(3)
فصل
وممن كان يطعن على علي من أهل الكوفة مسروق ومرة الهمدانيان، و عمر بن بشر الحنبلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن عقبة، وهمام النخعي وسويد بن حازم، وأبو وائل الأسدي، وعبد الله الجهني، وعلي بن عبد الله، و أبو بكر وأبو بردة ابنا أبي موسى الأشعري، وعبد الله الأنصاري، وعامر الشعبي ويزيد التميمي، وإبراهيم التميمي.
ثم عد الطبري جماعة أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة بها.
ونسب إلى الرفض من أهل البصرة علي بن جدعان التميمي، وأبو الأسود الدؤلي، وحرب بن أبي الأسود، والجارود الهذلي، وربعي الهذلي، و عبد الله ابن يحيى، وأبو يعقوب، وحارثة بن قدامة السعدي، وعمار بن أبي عمار، و يونس بن إبراهيم، وجعفر بن سليمان، ونوح بن قيس الطاخي وأبو الوليد الجهضمي، وعميرة الضبي.
ومن أهل مصر وشأم، مشرح بن هاعان، وجبريل بن عاهان، وعلي بن رباح، وأبو راشد، وأبو مسلم الخولاني، وأبو يحيى الغساني.
ونسب إلى الإرجاء من أهل مكة طلق بن حبيب، وعبد العزيز بن أبي رواد وعبد المجيد ومن الكوفة ذر الهمداني، ومسعر الهلالي، وحماد الأشعري، و مالك البجلي وعمر الجملي، وأبو جحيفة، وزهير الجعفي، ومحمد الضرير، وأبو يحيى الحماني، وحماد، وأبو يوسف القاضي، وخالد الطحان، ومحمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، ومن الخوارج أبو الشعثا، وأبو لبيد، ومن البصرة محمد بن الأشعث، ومسلم بن بشار، وأبو الحوراء السعدي، والحسن وسعيد ابنا أبي الحسن، وجماعة أخر.
فهؤلاء جلة علمائهم وفقهائهم، من أهل الأمصار، لا نعلم أحدا سلم من عيبهم
ورووا أن أول من بايع أبا بكر عمر، ثم قال: كانت فلتة، فانظر إلى هذه المناقضات، تارة يبنون، وتارة يهدمون ورجالهم الذين أخذوا عنهم دينهم بنقلهم كذابون، وبزعمهم مدلسون، وقد شرحنا طرفا من أحوالهم وطرفا من أقوالهم.
وأسند الشاذكوني أن شعبة قال: أخذت من أربعمائة شيخ ثلاثمائة وثمانية وتسعين يدلسون إلا رجلين أبو عون وعمر بن مرة.
وروي أن سفيان الثوري سئل عن ابن المهاجر، فقال: ضعيف، وعن سماك ابن حرب، فقال: ضعيف، وعن طارق، فقال: ضعيف، ثم قال: لو سألتموني عن عامة الذين أخذتم عنهم ما زكيت كذا وكذا منهم.
وأسند إسحاق بن إبراهيم إلى سلمة إلى محمد بن إسحاق إلى عمير بن عبديد إلى الحسن إلى العوفي قول أبي بن كعب: والله ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجوهها منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ولئن بقيت الجمعة لأقومن مقاما أقتل فيه وقال: هلك أهل العقدة ألا أبعدهم الله، والله ما ساؤني، وإنما أساؤا على الذين يهلكون من أمة محمد صلى الله عليه وآله فمات في الأربعاء.
قلت: ستر الله عليه إذ لم يقم ذلك المقام، وهذا أبو بكر في رواية الواقدي أنه نهى أبا رافع الطائي عن الولاية، حيث لم يطمع فيها فلما أمكنه وثب عليها وقد ارتد قوم موسى وهو بين ظهرانيهم وشريكه في نبوته قائم فيهم، ولولا أن الله شرح من حالهم لأنكروا واستنكفوا من ردتهم كما أنكروا ردة عامة أصحاب نبيهم، الذين آمنوا في رجوعه إليهم.
ولولا أنهم لم يدخلوا بغض أصحاب موسى في قلوبهم كما أدخلوا بغض علي لأنكروا ذلك منهم، ولو فعل أحد بغير علي ما فعل به، لسارعوا إلى تضليله كما ضللوا قاتلي عثمان، وقد علموا وضعه الأموال في قبيله، وادعوا أن ذلك كله جرى على الصواب، فسبحان من أنطقهم بهذا الاضطراب.
تذنيب:
اختلف الصحابة في الأقوال والأحكام فقد سأل سليم بن قيس عليا عليه السلام عن ذلك فقال: اسمع الجواب: في أيدي الناس حق وباطل، وقد كذب على النبي صلى الله عليه وآله في حياته حتى قام خطيبا وقال: قد كثرت الكذابة علي!
فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
فرواة الأحاديث أربعة:
منافق لا يتأثم أن يكذب، ولو علم الناس ذلك منه لم يصدقوه، ولكن قالوا:
صاحب رسول الله، ورآه وسمع منه.
ورجل سمع من النبي صلى الله عليه وآله ولم يحفظ، فأوهم ولم يتعمد، ولو علموا أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.
ورجل سمع منه المنسوخ دون الناسخ، ولو علم هو والناس أنه المنسوخ لرفضوه.
ورجل لم يكذب عمدا ولا وهم ولا جهل، بل حفظ ما سمع على جهته، ولم يزد فيه، ولم ينقص منه، ولكن لم يعلم ما عنى الله ورسوله به.
وكنت رجلا أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وأدور معه، إذا سألته أجابني، و إذا سكت ابتدأني، فما نزلت آية إلا أقرأنيها، وكتبتها بخطي، ودعا الله لي أن يفهمني، فما نسيت من كتاب الله من علمني منذ وضع يده على صدري، وأخبرني أن الله أخبره أنه استجاب له (1).
فهذه أمور القوم قد أوضحناها، فيجب على كل ذي فهم أن لا يثق بما جاء عنها، ويتهمها في نقلها، وقد أنكر الحجة التي دل الله ورسوله عليها، فجعلها سفينة نجاتها، وقد نفرت المنافقون وغيرهم من الفجار إلى الملوك، وإلى دعاة النار بالكذب والبهتان، واتباع خطوات الشيطان، فقلدوهم الولايات، والأعمال، و حملوهم على رقاب المسلمين، وأكل الأموال، والناس مع الملوك والدنيا إلا من
____________
(1) راجع نهج البلاغة قسم الخطب تحت الرقم 208.
أبو حنيفة عند القوم متبع | وباقر العلم فيهم ليس يتبع |
وجعفر عندهم في الصدق متهم | والشافعي إمام صادق ورع |
ومالك مالك للأمر عندهم | مصدق قوله في الفقه متبع |
وكل ما جاءهم عن أحمد قبلوا | فيما يقول وما يأتي وما يدع |
هذا يحلل ما هذا يحرمه | وذاك يرفع في الفتوى وذا يضع |
وكل مخط مصيب عندهم أبدا | هذا لعمرك بئس المذهب الشنع |
ويتركون المصابيح التي عرفت | بها الشرايع والأعياد والجمع |
وقد أجازوا المعاصي على أنبيائهم، وأولوا خطايا علمائهم، فقد صنف ابن الفراء الحنبلي كتاب تنزيه معاوية، وصنف الجاحظ كتاب درأ الحد عن اللائط وكيف ضاق التأويل عن الأنبياء، واتسع للأشقياء، وما أحسن ما قال عامر البصري في عروض نظم السلوك في قبيل آخر من الشناعة فيهم شعرا:
قضاتهم في حكمها تقبل الرشا | حراما ترى من أخذها ما استحلت |
وعالمهم من جهله غير عامل | وفاضلهم من نقصه في غباوة |
لرغبتهم في جذب مال وزخرف | تمسك منهم كل قوم ببدعة |
فمنهم رئيس بالتفلسف مولع | بديع إشارات لطيف عبارة |
وآخر منهم في الأصولين ناظر | يناظر عن وهم بلج وجرأة |
ومنهم بتقرير الخلاف مسفسط | يغالط في ألفاظه الجدلية |
وآخر منهم قد رأى صرف عمره | بتصريف صيغات بفعل وفعلة |
ومنهم أخو طمران وقف تصوف | يدلس تهنيقا بصمت وخلوة |
ومنهم فقيه ليس يفقه ما الذي | يراد به من نسك حج وعمرة |
وآخر منهم بالقراءة قد بلي | معنى بقول الشاطبي وحمزة |
وكلهم قفرا من العلم باطنا | وإن أصبحوا في ظاهر أهل ثروة |
تجافوا عن القرآن واتبعوا الهوى | ومالوا إلى الدنيا بحرص وشهوة |
إلحاق:
رووا أن الأول لما تولى خرج إلى السوق فقيل له في ذلك، فقال: لا تعروني من عيالي فإنه لا بد لي ولهم من كرى تعطونيه على القيام بأمركم، والحكم بما أنزل الله من عباداتكم، والأمر والنهي فيكم، ففرض له كل يوم ثلاثة دراهم ونصيب من شاة.
ورووا أنه قال: إن لم تعطوني شيئا تصرفت في معاشي، فكانت أعمال بره بالأجرة، والاجماع على فساد أعمال البر بالأجرة، فجرت السنة في أتباعه من المؤذنين والقضاة، ورواة الحديث، والفقهاء، والقصاص، والقراء، وما كفى حتى أخذ الحكام الرشاء، وهي حرام بغير خفاء.
وحيث انتهيت إلى هنا فنسأل الله أن يعيذنا من رعونة الحشوية، ولجاج الحرورية، وشك الواقفية، وإرجاء الحنفية، وتخالف الشافعية ومكاره البكرية ونعت المالكية، وإجبار النجارية، وإلجاء الجهمية، وكسل الداودية، و روايات الكيسانية، وجحد العثمانية، وتشبيه الحنبلية، وكذب الغلاة والخطابية.
ونتضرع إليه أن يحشرنا مع من أحببنا، ويرزقنا شفاعة من توالينا، إذا دعي كل أناس بإمامهم، وسعي بكل فريق تحت لوائهم، بمنه وكرمه.
(17)
(باب)
* (في رد الاعتراضات على شئ من شرائع أتباع الإمام عليه السلام) *
قالوا: أول ما تكذبون أنكم تسندون ما جاء عن أئمتكم إلى نبيكم، لقول الصادق: حديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله (1) فلا حرج أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وآله.
قلنا: هذا حديث غير مشهور، ولئن سلم جاز نسبته إلى الرسول لقول الصادق عليه السلام: والله ما نقول بأهوائنا، بل ما قال ربنا، وهذا حق لثبوت عصمته، و أقل أحواله ثبوت عدالته، وما المانع من قول الراوي كل حديث أرسلته، ففلان طريقي فيه، فيسنده عند سماعه إلى ما ذكر للعلم السابق به.
وقد سئل الباقر عليه السلام عما يرسله فقال: كل حديث لم أسنده فسندي فيه أبي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل، وقد أسلفنا في باب تخطئة الأربعة أن أهل السنة رضوا بنسبة جملة مذهبهم إليهم مع تخطئة بعضهم بعضا، وعدلوا عن نسبة المذهب إلى نبيهم، مع كونها أوكد لتعظيمه ولحرمتهم، ثم فصلوا في الرد علينا أمورا:
منها: مسح الرجلين في الوضوء، احتجوا بقراءة النصب في الرجلين على
____________
(1) قال الشيخ المفيد قدس سره في الارشاد ص 257: وكان عليه السلام يقول: إن حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث حدى حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عز وجل.
قالوا: وقراءة الجر تحتمل العطف عليهما، وعلى مسح الرأس، لكن الغسل أولى، لأن قراءة الجر بالمجاورة، كجحر ضب خرب، وعذاب يوم أليم.
قلنا: أنكر الكسائي إعراب المجاورة، ومنع الزجاج وغيره من محققي النحو وروده في القرآن، وتأولوا الخرب بأنهم أرادوا (خرب جحره) و (أليم عذابه) مثل مررت برجل حسن وجهه، ولأن في الآية حرف العطف الموجب تساوي المعطوف والمعطوف عليه، ولم يرد الإعراب بالمجاورة مع حرف العطف كما سلف في المثالين، وكقول الآخر:
كأن ثبيرا في عرانين وبله | كبير أناس في بجاد مزمل (2) |
قالوا: جاء القرآن والشعر بجر المجاورة مع حروف العطف، فإن حمزة والكسائي قرءا: (وحور عين (3)) - والحور لا يطاف بهن حتى يعطفن على المجرور
____________
(1) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب والكسائي وحفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (وأرجلكم) بالنصب، والباقون بالجر. أما قراءة الجر فهو نص على وجوب مسح الأرجل كالرأس وأما النصب فبالعطف على محل (برؤوسكم) إذ الجار والمجرور محله النصب على المفعولية كقولهم: (مررت بزيد وعمرا) وعليه قراءة (تنبت بالدهن وصبغا للآكلين (المؤمنون: 20).
وسيأتي مزيد توضيح لذلك في كلام المصنف رحمه الله.
(2) الشعر لإمرء القيس الشاعر المعروف الجاهلي، والشاهد في وقوع (مزمل) صفة لكبير، وهو مرفوع خبر كأن ولكن الشاعر جره بالمجاورة للبجاد، وفيه أن البيت من قصيدته المعروفة الطويلة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل | بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
وقافية القصيدة ورويها اللام المكسورة، وإنما جر ((مزمل) للضرورة الشعرية رعاية للقافية، نعم يحتمل الجر بالمجاورة، فليس بحجة.
(3) الواقعة: 22، وقراءة حمزة والكسائي بالجر في حور عين.
قلنا: معناه وقرناهم بهن، وقد ذكر نحوه أبو علي الفارسي في كتاب الحجة، ونمنع أنه لا يطاف بهن إذ قد يطاف بهن على الأزواج وأما الشعر:
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل | إلى آل بسطام بن قيس فخاطب |
قلنا: (خاطب) فعل أمر لا عطف، ويمكن أن يكون (فخاطب) مرفوعا بالعطف على راحل، فخفض الراوي وهما منه (1).
قالوا: قال الشاعر:
لم يبق إلا أسير غير منفلت | وموثق في عقال الأسر مكبول |
فجر موثوق بالمجاورة، مع الواو أيضا، إذ التقدير لم يبق إلا أسير أو منفلت (2) ولو جر بغير ذهب التمدح. إذ يصير لم يبق إلا غير منفلت وإلا غير موثق.
قلنا: لا بل المعنى لم يبق غير أسير غير منفلت، ولم يبق غير موثق.
سلمنا الإعراب بالمجاورة لكنه إنما يصح مع عدم الاشتباه، كما في المثال فإنه لا لبس في كون الخرب صفة الجحر، وهنا الأرجل جاز كونهما ممسوحة فجرها بالمجاورة تلتبس.
هذا وقد ذكر صاحب تقريب المتدارك وهو من أكبر شيوخهم وممن يوجب الغسل دون المسح، قال مكي: قراءة الجر تقتضي المسح، لكن نسخ بفعل النبي صلى الله عليه وآله الغسل، وحكى معناه عن الشعبي ثم قال: وقد أوردنا من حديث مالك حديثين صحيحين بمسح النبي صلى الله عليه وآله على الرجلين. والعجب منه مع
____________
(1) أو هو على الاقواء، والاقواء: اختلاف قوافي الشعر، برفع بيت وجر آخر قال الفيروزآبادي: وقلت قصيدة لهم بلا اقواء وأما الاقواء بالنصب فقليل.
(2) كذا في النسخ ولعل الصحيح: إذ التقدير: لم يبق إلا أسير غير منفلت: وموثق في عقال الأسر.
وحكى ابن المغربي وغيره عن أنس ابن مالك أنه صلى الله عليه وآله كان يمسح رجليه، و حكاه ابن عباس وقتادة، وخير الحسن والجبائي والطبري بين الغسل والمسح ثم قال الطبري: والمسح نص القرآن لأن قراءة الجر عطف على مسح الرأس بلا خلاف بين أهل اللسان، ومن زعم أنه خفض بالجوار فقد جهل وأخطأ وحمل كتاب الله على أضعف اللغات، ومستهجن التأويلات.
ثم قال: وقراءة النصب محمولة على الخفض بالعطف على الموضع كقول الشاعر:
معاوي إننا بشر فأسجح | فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1) |
وهذا فصيح مشهور، ومنه (حاش لله ما هذا بشرا (2) (واختار موسى قومه سبعين رجلا (2)) لما حذفت الباء و (من) نصب بشرا وقومه، ومنه (أحل لكم
____________
(1) هو من أبيات لعقبة بن الحارث الأسدي، أو عقبة بن هبيرة الأسدي، يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان وبعده:
أكلتم أرضنا فجردتموها | فهل من قائم أو من حصيد |
ذروا خون الخلافة واستقيموا | وتأمير الأراذل والعبيد |
معاوي إننا بشر فأسجح | فلسنا بالجبال ولا الحديد |
ذكر ذلك البغدادي في الخزانة ج 2: 82 وهكذا في جامع الشواهد فعليه فلا يصلح للاستشهاد، لكن قال ابن الأنباري في كتاب الإنصاف: 333 بعد نقل الشعر: ومن زعم أن الرواية (ولا الحديد) بالخفض، فقد أخطأ، لأن البيت الذي بعده:
أديروها بني حرب عليكم | ولا ترضوا به الغرض البعيدا |
والروي المخفوض لا يجتمع مع الروي المنصوب في قصيدة واحدة.
(2) يوسف، 31.
(3) الأعراف: 155.
قال ابن عباس: الوضوء غسلتان ومسحتان، وقال: في كتاب الله المسح ويأبى الناس إلا الغسل، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وقال الشعبي:
نزل جبرئيل بالمسح دون غيره (2).
وروى أبو عبيدة في غريب الحديث والزمخشري في الفائق أن النبي صلى الله عليه وآله أتى كظامة قوم فتوضأ ومسح على قدميه، ونحوه عن ابن عباس وعلي عليه السلام وعن عثمان أيضا وإنما الحجاج خطب وقال: أقرب شئ من ابن آدم خبث قدميه، فاغسلوا، فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج.
وقد قال بعضهم: إن في الآية تقديما تقديره اغسلوا وجوهكم وأيديكم و أرجلكم وامسحوا برؤوسكم، قال: وهذا أبعد شئ من تنزيل الآية ولو جاز هذا التقدير لم يترتب المعطوفات في لسان العرب.
قالوا: الآية أوجبت المسح، والسنة أوجبت الغسل، والمسح داخل فيه وقد غسل في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده، ولم ينقل عن أحد من الصحابة غيره، حتى أن أعرابيا ترك لمعة من رجليه وصلى، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بالإعادة، وقال: ويل للأعقاب [ من النار ].
قلنا: قد عرفتم فيما سلف من كتبكم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله والصحابة في المسح، وقد أمر الله بالمسح إلى الكعبين، وهما قبتا القدم، فلو وجبت الغسل إلى الأعقاب لكان النبي صلى الله عليه وآله متعديا أمر الله، وهو محال.
قالوا: الواجب الغسل فعبر بالمسح عنه لاشتراكهما في البلل، وقد جاء مثله في تسمية التبن والماء علفا، علفتها تبنا وماء باردا (2) وأشركوا الرمح في التقليد الموضوع للسبق:
____________
(1) البقرة: 187.
(2) تفسير الطبري ج 6 ص 128. ذيل آية المائدة.
(3) آخره: حتى شتت حمالة عيناها.
ورأيت بعلك في الوغى | متقلدا سيفا ورمحا (1) |
قلنا: لا مانع من حمل المسح على حقيقته، ولو جاز ذلك في الرجلين جاز مثله في الرأس، وهو باطل إجماعا، وقد حكى صاحب التقريب اختيار أبي المعالي أن الأرجل نصبت بفعل مستأنف. ثم قال: وهذا قول من يترك كلام رب العالمين على معتاد المتكلمين.
قال وهب: إنهم تكلفوا القراءة النصب وجها، فما قولهم في قراءة الجر و هي متواترة؟ فقد رد صاحب التقريب قولكم من قريب.
قالوا: في الغسل يحصل المسح، دون العكس قلنا: قد قال صاحب [ التقريب عن ] المالكية أن الغسل لا يراد به المسح أبدا، والمسح لا يراد به الغسل أبدا، فهما حقيقتان فلا تداخل قالوا: غسلهما يجزئ عن الوضوء في الحدث الأكبر، فيجزئ من الأصغر قلنا: عندكم لا يجزئ الغسل عن الوضوء، وعندنا يجزئ في الجنابة لا غيرها، فلو صح ذلك التقدير لا طرد في غيرها.
قالوا: رخص النبي صلى الله عليه وآله في مسح الخف، ولولا أن العزيمة في الغسل انتفت الرخصة. قلنا: أتى مسح الخف من طرقكم فلا حجة فيه علينا، والمشقة في نزع الخف كافية في الفرق بين الرخصة والعزيمة، فلا دلالة من الثلاث على تعيين الغسل.
ومن العجب تجويز مسح الخفين، ومنع مسح الرجلين، مع مجئ القرآن بالرجلين دون الخفين.
وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أن عمر جمع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسألهم عن مسح الخفين، فقال المغيرة بن شعبة: رأيت النبي صلى الله عليه وآله مسحهما، فقال علي نسخت المائدة ذلك، وبذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين: منهم أنس بن مالك.
____________
(1) وفي بعض الكتب صدر البيت هكذا. يا ليت زوجك قد غدا.