وأخرج عن محمّـد بن عقير، قال: كانت بنو أسد تقول: فينا فضيلة ليست في العالم منزلاً منّا إلاّ وفيه بركة وراثة الكميت; لأنّه رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في النوم فقال له: " أنشدني طَرِبْتُ... " فأنشده، فقال له: " بُوركت وبورك قومك ".
ويقال: ما جمع أحدٌ من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت، فمَن صحّح الكميتُ نسبه صـحّ، ومَن طعن فيه وهن.
وقال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال، لم تكن في شاعر: كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخطّ، وكان نسّابة، وكان جدلاً وهو أوّل من ناظر في التشيّع، وكان رامياً لم يكن في بني أسد أرمى منه، وكان فارساً، وكان شجاعاً، وكان سخيّاً ديّناً. أخرجه ابن عساكر، وقال: ولد سنة ستّين، ومات سنة ستّ وعشرين ومائة(1).
وذكره حنّا الفاخوري جاعلاً اسم جدّه (الأخنس) بدل خنيس(2).
(7)
وما سَهَّلَتْ تِلكَ المَذاهِبَ فيِهُمُ | على الناسِ إلاّ بَيْعَةُ الفَلَتاتِ |
استشهد به في رسالته نفحات اللاهوت على مظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام)
____________
1- شرح شواهد المغني 1 / 34. وانظر: خزانة الأدب 1 / 99.
2- الجامع في تأريخ الأدب العربي: 457.
وهذا الشاهد جزء من قصيدة شعرية تائية رائعة، قالها دعبل الخزاعي في أهل البيت (عليهم السلام)، وأنشدها أوّل مرّة بحضور الإمام الرضا (عليه السلام) في خراسان، بعد أن بويع بولاية العهد في زمن المأمون.
وتعتبر هذه القصيدة من أحسن الشعر وأسنى المدائح المقولة في أهل البيت (عليهم السلام)(2).
وقد ذكر العلاّمة الأميني (رحمه الله) أنّ عدد أبياتها هو مائة وواحد وعشرون بيتاً(3)، والموجود في ديوانه المطبوع مائة وخمسة عشر بيتاً فقط(4).
علماً بأنّ كثيراً من المصادر لم تذكر القصيدة كاملة، بل من البيت الثلاثين منها: (مَدَارِسُ آيات...); لأنّ دعبل أنشدها الإمام الرضا (عليه السلام) من هذا البيت، ولم ينشدها من أوّلها، والذي هو في التشبيب والغزل.
قال ابن شهرآشوب: قيل لدعبل: لِمَ بدأت بـ: (مَدَارِسُ آيات...)؟
قال: استحييتُ من الإمام أن أنشده التشبيب فأنشدته المناقب(5).
وقد وصفت الكثير من الموسوعات التاريخية والأدبية كيفية إنشادها، وما حصل للإمام (عليه السلام) حين سماعها، وما جرى لدعبل بعد ذلك من أحداث..
____________
1- نفحات اللاهوت: 72.
2- انظر: الأغاني 20 / 142، معجم الأُدباء 11 / 103.
3- الغديـر 2 / 349.
4- ديوان دعبل الخزاعي: 124 ـ 145.
5- المناقب 2 / 394، وانظر: الغدير 2 / 362.
إذا وُتِروا مَدّوا إلى واتِريهُمُ | أكُفّاً عن الأوْتارِ مُنْقَبِضاتِ |
فبكى الإمام حتّى أُغمي عليه، وأومأ إليّ خادم كان على رأسه: أن اسكت. فسكتُّ ساعة..
ثمّ قال لي: " أعـد ". فأعدت حتّى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل الذي أصابه في المرّة الأُولى، وأومأ الخادم إليّ: أن اسكت. فسكتُّ، ومكثت ساعة أُخرى..
ثمّ قال لي: " أعـد ". فأعدتُ حتّى انتهيت إلى آخرها.
فقال لي: " أحسـنت " ثلاث مرّات.
ثمّ أمر لي بعشرة آلاف درهم ممّا ضُرب باسمه، ولم تكن دفعت إلى أحد بعد، وأمر لي مَن في منزله بحليّ كثير أخرجه إليّ الخادم، فقدمتُ العراق فبعتُ كلّ درهم منها بعشرة دراهم اشتراها منّي الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم.
قال ابن مهرويه: وحدّثني حُذيفة بن محمّـد: أنّ دعبلاً قال له: إنّه استوهب من الرضا (عليه السلام) ثوباً قد لبسه; ليجعله في أكفانه، فخلع جبّة كانت عليه فأعطاه إيّاها..
فبلغ أهل قم خبرها، فسألوه أن يبيعهم إيّاها بثلاثين ألف درهم، فلم يفعل، فخرجوا عليه في الطريق فأخذوها منه غصباً، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، وإلاّ فأنت أعلم.
فقال لهم: إنّي والله لا أُعطيكم إيّاها طوعاً، ولا تنفعكم غصباً،
فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين ألف درهم وفرد كُمّ من بطانتها، فرضي بذلك، فأعطوه فرد كُمّ، فكان في أكفانه.
وكتب قصيدة: (مدارسُ آيات...) في ما يقال على ثوب وأحرم فيه، وأمر بأن يكون في أكفانه(1).
وفي مكان آخر من الأغاني قال: قال دعبل: لمّا هربتُ من الخليفة، بتُّ ليلة بنيسابور وحدي، وعزمتُ على أن أعمل قصيدة في عبـد الله بن طاهر في تلك الليلة، فإنّي لفي ذلك إذ سمعتُ ـ والباب مردود علَيَّ ـ: السلام عليكم ورحمة الله، أُنج يرحمك الله.
فاقشعرّ بدني من ذلك ونالني أمر عظيم.
فقال لي: لا تجزع عافاك الله، فإنّي رجل من إخوانك من الجنّ، من ساكني اليمن، طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك: (مدارسُ آيات...) فأحببتُ أن أسمعها منك.
قال: فانشدته إيّاها، فبكى حتّى خرَّ.
ثمّ قال: رحمك الله، ألا أُحدّثك حديثاً يزيد في نيّتك ويعينك على التمسّك بمذهبك؟
قلت: بلى.
قال: مكثتُ حيناً أسمع بذكر جعفر بن محمّـد (عليه السلام)، فصرتُ إلى المدينة فسمعته يقول: " حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، أنّ رسول الله قال: عليّ وشيعته هم الفائزون ".
____________
1- الأغاني 20 / 162 ـ 163.
قال: أنا ظبيان بن عامر(1).
وقال ياقوت الحموي ـ بعد أن ذكر قريباً ممّا في الأغاني ـ: كتب دعبل القصيدة في ثوب وأحرم فيه، وأوصى بأن يكون في أكفانه(2).
وحكى العلاّمة الأميني في الغدير عن الحافظ ابن عساكر في تاريخه قوله: إنّ المأمون لمّا ثبتت قدمه في الخلافة وضرب الدنانير باسمه، أقبل يجمع الآثار في فضائل آل الرسول، فتناهى إليه ـ في ما تناهى ـ من فضائلهم قول دعبل: (مدارسُ آيات...) فما زالت تردّد في صدر المأمون حتّى قدم عليه دعبل، فقال له: أنشدني قصيدتك التائية ولا بأس عليك، ولك الأمان من كلّ شيء فيها، فإنّي أعرفها وقد رويتها، إلاّ أنّي أُحبّ أن أسمعها من فيك.
قال: فأنشدته حتّى صرتُ إلى هذا الموضع:
ألَمْ تَرَ أنّي مُذْ ثَلاثينَ حِجّةً | أروحُ وأغْدو دائِمُ الحَسَراتِ |
أرى فَيْئَهُمْ في غَيرِهُمُ مُتَقَسِّماً | وأيْديهُمُ مِنْ فَيْئهِمِ صَفِراتِ |
فآل رَسُولِ اللهِ نحفٌ جُسومُهُمْ | وآل زياد غُلّظُ القَصِراتِ |
بَناتُ زِياد في القُصُورِ مَصُونَةٌ | وبِنْتُ رَسولِ اللهِ في الفَلَواتِ |
إذا وُتِروا مَدّوا إلى واتِرِهم | أكُفّاً عَنْ الأوْتارِ مُنْقَبِضاتِ |
فلولا الّذي أرْجُوهُ في يَوْم أوّ غَدِ | تَقَطّعَ نَفْسي إثرهم حَسَراتِ |
____________
1- الأغاني 20 / 155.
2- معجم الأُدباء 11 / 103.
وعن شيخ الإسلام أبي إسحاق الحموي، عن أحمد بن زياد، عن دعبل، قال: أنشدتُ قصيدة لمولاي علي الرضا (عليه السلام) (مدارسُ آيات...) فلمّا وصلت إلى:
وقَبْرٌ بِبَغْدادَ لِنَفْس زَكِيَّة | تَضَمَّنَها الرحمنُ في الغُرُفاتِ |
قال لي الرضا: " أفلا أُلحق بيتين بقصيدتك "؟!
قلت: بلى يا بن رسول الله.
فقال:
وقَبْرٌ بِطـوُس يا لَها مِنْ مُصِـيبَة | ألَحَّـتْ بِهـا الأحْـشاءُ بالـزَفَـراتِ |
إلى الحَشْرِ حتّى يَبْعَـثُ اللهَ قائِمـاً | يُفَـرّجُ عنّـا الهَمَّ والكُرُبـاتِ |
قال دعبل: ثمّ قرأت باقي القصيدة، فلمّا انتهيت إلى قولي:
خُروُجُ إمام لا مَحـالـةَ واقِعٌ | يَقـومُ على اسْمِ اللهِ بالبَـرَكاتِ |
بكى الرضا بكاءً شديداً، ثمّ قال: " يا دعبل! نطقَ روح القدس بلسانك، أتعرف من هذا الإمام؟! ".
قلت: لا، إلاّ أنّي سمعتُ بخروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
فقال: " إنّ الإمام بعدي محمّـد، وبعد محمّـد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. أمّا متى يقوم فإخبارٌ عن الوقت، لقد حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ،
____________
1- الغدير 2 / 352، عن الحافظ ابن عساكر في تاريخه 5 / 334.
والشاعر هو أبو علي، وقيل: أبو جعفر، دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، وقيل: إنّ دعبلاً لقبه واسمه الحسن، وقيل: عبـد الرحمن، وقيل: محمّـد.
وهو شاعر مطبوع مفلّق، من أهل الكوفة، ولد فيها سنة 148 هـ، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر إلى غيرها من البلدان كدمشق ومصر وخراسان.
كان (رحمه الله) متفانياً في حبّ أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الذي يقول: حملتُ خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لستُ أجد أحداً يصلبني عليها(2).
أخذ الشعر عن أُستاذه صريع الغواني مسلم بن الوليد واستقى من بحره، وله عدّة مؤلّفات، منها: كتاب الواحدة (في مناقب العرب ومثالبها)، وكتاب طبقات الشعراء، وله ديوان شعر مجـموع(3).
ذكر النجاشي في رجاله عن ابن أخيه أنّه رأى الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولقي الإمام الرضا (عليه السلام)(4).
وعدّه ابن شهرآشوب في المعالم من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (عليهما السلام)(5).
____________
1- عيون أخبار الإمام الرضا (عليه السلام) 2 / 263، الغدير 2 / 355.
2- الأغاني 20 / 133.
3- انظر: شذرات الذهب 2 / 11، تاريخ بغداد 8 / 382، وفيات الأعيان 2 / 266، لسان الميزان 2 / 430، معجم الأُدباء 11 / 99، الغدير 2 / 363.
4- رجال النجاشي 1 / 371.
5- معالم العلماء: 139.
أمّا وفاته فـقد ورد في المصادر أنّه قـتل وهو شـيخ كبير في سنة 246 هـ بعد أن عاش سبعاً وتسعين سنة وعدّة شهور من السنة الثامنة، وسبب قتله أنّ مالك بن طوق بعث رجلاً ليقتله وأعطاه عشرة آلاف درهم، فلحقه إلى الأهواز وقتله هناك(2).
ونذكر هنا عدّة أبيات من هذه القصيدة الرائعة، مع ترقيم كلّ بيت حسب التسلل الوارد في ديوانه:
(1) تَجَاوَبْـنَ بِالإرنـانِ(3) والـزَّفَراتِ | نَوائِحُ عُجْـمُ اللَّفْـظِ(4) والنَطِـقاتِ |
(2) يُخَبِّرْنَ بالأنْفاسِ عَنْ سِرِّ أنْفُس | أُسارَى هَوىً مَاض وآخرَ آتِ |
(3) فَأسْعَدْنَ أو أسْعَفْنَ حَتّى تَقَوَّضَتْ | صُفْـوفُ الدُجى بالفَجْـرِ مُنْهـزِماتِ |
(4) على العَرَصاتِ الخاليات مِنْ المَهَا(5) | سَلامُ شَبح صـبّ(6) على العَرَصاتِ |
(18) رَزايا أرَتْنا خُضْرةَ الأُفْقِ حُمْرَةً | ورَدَّتْ أُجاجـاً(7) طَعْـمَ كُلِّ فُراتِ |
(19) وما سَهَّلَتْ تِلْكَ المَذاهِبُ فِيهُمُ | علـى الناسِ إلاّ بَيْـعـةُ الفَلَـتـاتِ |
(20) ومـا نالَ أصْحابُ السَقيفَةِ إمْرَةً | بدَعْـوَى تُراث بَلْ بأمْرِ تِراتِ(8) |
____________
1- الخلاصة: 70، رجال ابن داود: 147.
2- انظر: ميزان الاعتدال 2 / 27 رقم 2673، تنقيح المقال 1 / 417، الغدير 2 / 385.
3- الإرنان: الصياح، وهو صوت البكاء، يقال: رنّت المرأة ترنّ رنيناً، أي صاحت. الصحاح 5 / 2127 مادّة " رنـن ".
4- عجم اللفظ: التي لا تفصح. الصحاح 5 / 1981 مادّة " عجـم ".
5- المها، جمع مَهَاة: وهي البقرة الوحشية. الصحاح 6 / 2499.
6- الصبّ: العاشق المشتاق. الصحاح 1 / 161 مادّة " صـبب ".
7- ماء أُجاج: مالح مرّ. الصحاح 1 / 297 مادّة " أجـج ".
8- التِرات، جمع تِرَة، يقال للموتور الذي قُتل فلم يُدرك بدمه. انظر: الصحاح 2 / 843 مادّة " وتـر ".
(21) ولَوْ قَلُّدوا الموصى إليهِ زِمَامَها | لَزُمَّـتْ بِمـأمـون مِن العَثَـراتِ |
(30) مَدارسُ آيات خَلَتْ مِنْ تِلاوَة | ومَنْـزِلُ وَحْي مُـقْـفَـرُ العَرَصَـاتِ |
(31) لآلِ رَسولِ اللهِ بالخَيْفِ(1) مِنْ مِنى | وبالـرُّكْنِ والتَّعـرَيِـفِ وَالجَمَـرَاتِ |
(32) ديارُ عَلـيّ والحُسَيْنِ وَجَعْـفَـر | وَحَمْـزَةَ وَالسَّجـادِ ذيِ الثَّفِـنـاتِ |
(53) أفاطُمِ لَوْ خِلْتِ الحُسَيْنَ مُجَدَّلاً | وقَدْ ماتَ عَطْـشـانـاً بِشَطِّ فُراتِ |
(54) إذَنْ لَلَطَمْتِ الخَدَّ فاطِمُ عِنْدَهُ | وأجْرَيْـتِ دَمْعَ العَيْـنِ في الوَجَنـاتِ |
(55) أفَاطِمُ قُومِي يا بْنَةَ الخَيْرِ وانْدُبي | نُجُـومَ سَمـاوات بـأرْضِ فَلاةِ |
(56) قُبُـورٌ بِـكُوفـان وأُخْرى بِطَيْـبَة | وأُخرى بِفَـخ(2) نالَـهـا صَلَـواتي |
(57) وقْبْرٌ بأرْضِ الجَوزجِانِ(3) مَحلّهُ | وقَبـرٌ بِبـاخـمـرا(4) لَـدى الغُـرَبـاتِ |
(58) وقْبْـرٌ بِبَـغْـدادَ لِنَفْـس زَكِيَّـة | تَضَـمَّـنَـها الرحْمـنُ فـي الغُـرُفـاتِ |
(8)
.................... | مُـحَـلاَّ عَـنْ سَـبِـيـلِ المـاءِ مَـطْروُدِ |
استشهد به في رسالته نفحات اللاهوت، في بيان معنى قول النبيّ
____________
1- الخيف: ما انحدر من غِلَظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء، ومنه سمّي مسجد الخيف من منى. معجم البلدان 2 / 412.
2- الفخ: واد بمكّة، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن المثلّث ابن الحسن المثنّى. معجم البلدان 4 / 237.
3- الجوزجان: كورة واسعة من كور بلخ بخراسان، قتل فيها يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام). معجم البلدان 2 / 182.
4- باخمرا: موضع بين الكوفة وواسط، وهو إلى الكوفة أقرب، قتل فيه إبراهيم بن عبـد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام). معجم البلدان 1 / 316.
قال: لا ريب أنّ الصحابي مَن لقي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا ريب أنّ الإيمان والعدالة لا يكونان فيهم باعتبار أصل الجبلّة، بل هما مكتسبان، فكما لا يثبت إيمان غير الصحابي وعدالته إلاّ بحجّة فكذلك الصحابي.
وممّا يدل على بطلان ذلك أنّه عُلم ضرورة أنّ المنافقين كانوا في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبلده، يجلسون في مجلسه ويخاطبهم ويخاطبونه ويدعون من الأصحاب ولم يكونوا معروفين ولا متميّزين; لقوله تعالى: { ولو نَشاءُ لأرَيْناكَهُمْ فَلَعرَفْتهُم بسيماهُمْ ولَتَعْرِفَنّهُمْ في لَحْنِ القَوْلِ }(1)، ومع وجود المنافقين يمتنع الحكم بعموم العدالة لكلّ من يُدعى صحابيّاً، إلاّ أن يقوم عليها دليل من خارج(2).
ثمّ قال: وأخرجه البخاري من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يحدّث عن بعض أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: " يرد علَيّ الحوض رجال من أُمّتي فيحلاّون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى "..
قال: وأخرجه أيضاً تعليقاً من حديث ابن أبي شهاب مثله(3).
قلت: قال في الصحاح: حلاّتُ الإبلَ عن الماء تحلئةً وتحليئاً: إذا طردتها عنه ومنعتها أن ترده، قال الشاعر:
____________
1- سورة محمّـد 47: 30.
2- نفحات اللاهوت: 50 ـ 51.
3- صحيح البخاري 8 / 150.
أقول: وإذا كان الارتداد قد وقع من الصحابة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يكونون كلّهم على الإيمان والعدالة(2)؟!
وقد شرح جمع من علماء اللغة هذه الكلمة كما شرحها الجوهري، ككافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في محيطه(3)، والفيروز آبادي في قاموسـه(4)، وابن منظور في لسانه(5).
وهذا الشاهد هو عجز بيت قاله إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، وتمام البيت والذي قبله:
يا سَرْحَةَ(6) الماءِ قَدْ سُدَّتْ مَوارِدُهُ | أما إليكَ سَبيلٌ غَيْرُ مَسْدودِ |
لِحَائِم حامَ حتّى لا حَوامَ بـهِ | مُحَلاّ عن سبيلِ الماءِ مَطْرودِ |
ذكرهما بهذه الصورة ابن منظور مع نسبتهما إلى إسحاق، ثمّ قال: هكذا رواه ابن برّي وقال: كذا ذكره أبو القاسم الزجّاجي في أماليه(7).
وذكر الجوهري البيت الثاني فقط دون نسبته إلى إسحاق(8).
____________
1- الصحاح 1 / 45 مادّة " حـلأ ".
2- نفحات اللاهوت: 52.
3- المحيط في اللغة 3 / 207 مادّة " حـلأ ".
4- القاموس المحيط 1 / 115 مادّة " حـلأ ".
5- لسان العرب 3 / 274 مادّة " حـلأ ".
6- حكى ابن منظور في لسان العرب 6 / 230 ـ 231 مادّة " سرح " قول الأزهري: العرب تكنّي عن المرأة بالسرحة النابتة على الماء، ومنه قوله: ـ وذكر البيتين ـ ثمّ قال: كُنّي بالسرحة النابتة على الماء عن المرأة; لأنّها حينئذ أحسن ما تكون.
7- لسان العرب 3 / 274 مادّة " حـلأ "، الأمالي ـ للزجّاجي ـ: 114.
8- الصحاح 1 / 45 مادّة " حـلأ ".
يا مْشَرعَ الماءِ قَدْ سُدَّتْ مَسالِكُهُ | أما إليكَ سبيلٌ غيرُ مَسْدودِ |
لِحائِم حارَ حتّى لا حياةَ لـهُ | مُشرّد عن طَريقِ الماءِ مَطْرودِ(1) |
وكذا فعل أبو الفرج الأصفهاني، حيث جعل كلمة (طريق) بدل (سبيل) و (لا حيام له) بدل (لا حوام به)(2).
ولهذين البيتين قصّة ظريفة بين إسحاق الموصليّ والمأمون العبّاسي، يرويها لنا أبو الفرج الأصفهاني وابن عبـد ربّه الأندلسي، قالا: قال إسحاق ابن إبراهيم الموصليّ: لمّا أفضت الخلافة إلى المأمون، أقام عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الغناء، ثمّ كان أوّل مَنْ تغنّى بحضرته أبو عيسى، ثمّ واظب على السماع، وسأل عنّي فجرّحني عنده بعض مَن حَسدني، فقال: ذلك رجل يتيه على الخلافة، فقال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً. وأمسك عن ذكري، وجفاني كلّ من كان يصلني; لِما ظهر من سوء رأيه، فأضرّ ذلك بي، حتّى جاءني يوماً علّوية فقال لي: أتأذن لي اليوم في ذكرك فإنّي اليوم عنده؟!
فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنّه سيبعثه على أن يسألك من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء.
فمضى علّوية فلمّا استقرّ به المجلس غنّاه الذي أمره به، وهو:... ـ وذكر البيتين السابقين ـ.
____________
1- العقد الفريد 7 / 35.
2- الأغاني 5 / 394.
قال: يا سيّدي! لعبد من عبيدك جفوته وأطرحته!
قال: إسحاق؟!
قلت: نعم.
قال: ليحضر الساعة.
قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرتُ إليه، فلمّا دخلتُ قال: ادن، فدنوت، فرفع يديه مادّهما فانكفأت عليه، فاحتضنني بيديه، وأظهر من إكرامي وبرّي ما لو أظهره صديق لي مواس لسرّني(1).
والشاعر هو: إسحاق بن إبراهيم بن ميمون، أبو محمّـد، فارسي الأصل، من بيت شريف وعائلة كريمة.
هرب جدّه ميمون من جور بعض عمّال بني أُميّة، فنزل بالكوفة في بني عبـد الله بن دارم، وتزوّج منهم، ثمّ مات وخلّف إبراهيم طفلاً، فكفله آل خزيمة بن خازم.
وإنّما لُقّب بالموصليّ; لأنّه في أول شبابه صحبَ الصعاليق وتعلّم منهم الغناء، فمنعه أخواله من ذلك، فهرب إلى الموصل وبقي فيها سنة كاملة، فلمّا رجع إلى الكوفة تلقّاه الفتيان وقالوا له: مرحباً بالفتى الموصليّ.
عاصر إسحاق خمسة من خلفاء بني العبّـاس، وكان نديماً ومغنّياً لهم: الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكّل. ومات في أواسط خلافة المتوكّل في رمضان سنة 235 هـ.
عُرف بجودة الغناء، حتّى طغت عليه هذه الصفة، مع أنّه قد درس
____________
1- الأغاني 5 / 394، العقد الفريد 7 / 35 ـ 36.
وأراد المأمون أن يولّيه القضاء، فمنعه من ذلك جماعة; لشهرته بالغناء(1).
(9)
نحـنُ قَتَـلْـنا سيّـدَ الخَزْ | رَجِ سعــدَ بــنَ عُبــادَهْ |
ورَمَيْـنـاهُ بسَهْـمَـيْـنِ | فَلَــمْ نُـخْــطِ فُــؤادَهْ |
استشهد بهما في كتابه جامع المقاصد على كراهة البول في جِحَرة الحيوان; لاحتمال وجود حيوان فيه فيلسعه; فقد علّق على قول العلاّمة: (يكره البول في الصلبة... وجِحَرةِ الحيوان) قائلاً: هي بكسر الجيم وفتح الحاء والراء المهملتين، جمع جحر; للنهي عنه(2)، ولأنّه لا يؤمن خروج حيوان يلسعه، فقد حُكي أنّ سعد بن عبادة بال في جحر بالشام فاستلقى ميّتاً، فسُمعت الجنّ تنوح عليه بالمدينة وتقول:... ـ وذكر البيتين ـ(3).
وقد اختلف المؤرّخون في نسبة هذين البيتين للجنّ وموت سعد بهذه الطريقة، مع اتّفاقهم على عدم بيعته لأبي بكر في السقيفة وخروجه إلى الشام..
____________
1- الأغاني 5 / 169 و 278 و 444.
2- سنن أبي داود 1 / 8 ح 29، المستدرك على الصحيحين 1 / 186.
3- جامع المقاصد 1 / 104.
فقال عمر: اقتلوه قتله الله!
ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممتُ أن أطأك حتّى تُنْدرَ عَضُدك(1).
فأخذ سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصتَ منه شعرة ما رجعتَ وفي فيك واضحة(2).
فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ; فأعرض عنه عمر.
وقال سعد: أما والله لو أنّ بي قوّة ما، أقوى على النهوض لسمعتَ منّي في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحرِك(3) وأصحابك، أما والله إذاً لألحقنّك بقوم كنتَ فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان.
فحملوه فادخلوه في داره، وتُرك أياماً ثمّ بعث إليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس وبايع قومك.
فقال: أما والله حتّى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضّب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومَن أطاعني من قومي، فلا أفعل..
وأيْمُ الله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم، حتّى أُعرَض على ربّي وأعلم ما حسابي.
فلمّا أُتي أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتّى يبايع.
____________
1- أي: تزال عن موضعها. الصحاح 2 / 824 مادّة " ندر ".
2- وهي الأسنان التي تبدو عند الضحك. الصحاح 1 / 416 مادّة " وضـح ".
3- أي: يدخلكم المضائق. الصحاح 2 / 623 مادّة " حجـر ".
فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لِما بدا لهم منه.
فكان سعد لا يُصلّي بصلاتهم ولا يجمع معهم، ولا يحجّ ولا يُفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتّى هلك أبو بكر(1).
وأخرجه ابن الأثير بألفاظ مقاربة لما في الطبري(2).
وحكى ابن أبي الحديد عن قاضي القضاة في المغني قوله عند مطاعن الشيعة في أبي بكر: الطعن الثالث عشر: قولهم إنّه كتب إلى خالد ابن الوليد ـ وهو على الشام ـ يأمره أن يقتل سعد بن عبادة. فكمن له هو وآخر معه ليلاً، فلمّا مرّ بهما رمياه فقتلاه، وهتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن ألقيا سعداً في بئر هناك فيها ماء:... ـ وذكر البيتين ـ يُوهم أنّ ذلك شعر الجنّ، وأنّ الجنّ قتلت سعداً.
فلمّا أصبح الناس فقدوا سعداً، وقد سمع قوم منهم ذلك الهاتف، فطلبوه فوجـدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد اخضرَّ، فقالوا: هذا مسيس الجنّ.
وقال شيطان الطاق! [بل مؤمن الطاق] لسائل سأله: ما منع عليّاً أن يُخاصم أبا بكر في الخلافة؟
فقال: يا بن أخي! خاف أن تقتله الجنّ.
____________
1- تاريخ الطبري 3 / 222.
2- الكامل في التاريخ 2 / 331.
وقال أبو القاسم الكوفي في الاستغاثة: إنّ سعداً خرج من المدينة إلى الشام في أيّام عمر، وكان في قرى غسّان من بلاد دمشق فنزل فيهم; لأنّ غسّان من عشيرته، وكان خالد بن الوليد بالشام يومئذ، وكان من الموصوفين بجودة الرمي، وكان معه رجل من قريش يُعدُّ أيضاً بجودة الرمي، فاتّفقا على قتل سعد بن عبادة; لامتناعه من البيعة لقريش، فجلسا في مسيره بين شجر كرم، فلمّا مرَّ بهما على فرسه رمياه بسهمين فقتلاه، وقالا بيتين من الشعر ونسباهما إلى الجنّ فطرحاهما بين العامّة، فنسبت العامّة قتل سعد إلى الجنّ(2).
وأوضح الشيخ المامقاني علّة عدم بيعة سعد لأبي بكر، بأنّه كان يريد الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام) لا لنفسه، واستدلّ على ذلك بما أخرجه الطبري عن أبي علقمة أنّه قال: قلت لابن عبادة ـ وقد مال الناس إلى بيعة أبي بكر ـ ألا تدخل في ما دخل فيه المسلمون؟!
قال: إليكَ عنّي، فوالله لقد سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " إذا أنا
____________
1- شرح نهج البلاغة 17 / 223 ـ 224، المغني 1 / 391.
2- الاستغاثة: 8.