فقلت له: هل سمع هذا الخبر أحدٌ غيرك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟!
فقال: الناس في قلوبهم أحقاد وضغائن.
قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس.
فحلف أنّه لم يهم بها ولم يردها، وأنّهم لو بايعوا عليّاً كان أوّل من بايعه(1).
ثمّ بيّن الشيخ المامقاني كيفيّة قتل سعد قائلاً: وسبب قتله أنّ عمر بعث محمّـد بن سلمة الأنصاري وخالد بن الوليد من المدينة ليقتلاه، فرمى إليه كلّ واحد منهما سهماً فقتلاه، وأرادت العامّة ستر ذلك فاشهروا أنّ طائفة من الجنّ قتلت سعداً; لأنّه بال قائماً.
واعتُرضَ عليهم بأنّهم يجعلون ذنب سعد بوله قائماً، مع أنّ البخاري في صحيحه عدّ ذلك من السُنن النبوية، فكيف أدّى ما ادّعوا كونه سُـنّة إلى قتل الجنّ له؟!
ولمّا تفطّنوا لذلك قالوا: إنّ السبب أنّه بال يوماً في جحر فاستلقى ميّتاً، ولم يُرَ قاتله، لكن سمعوا صوتاً من الجنّ وقد صعدت بعض الأشجار وهي تضرب بالدفّ وتقول:... ـ وذكر البيتين ـ(2).
وسعد بن عبادة صحابيّ جليل، ذكره جمع من المؤرّخين وأصحاب السير وأثنوا عليه كثيراً..
____________
1- تاريخ الطبري 3 / 221.
2- تنقيح المقال 2 / 16.
وقال الشيخ المامقاني: إنّه وقع في طريق الصدوق في باب ما يجب من التعزير والحدود(2).
وقال ابن عبـد البرّ في الاستيعاب: كان عقبيّاً نقيباً سـيّداً جواداً مقدّماً وجيهاً، له سيادة ورئاسة يعترف له قومه بها(3).
(10)
وما أنا إلاّ مِنْ غَزِيَّـةَ إنْ غَوَتْ | غَوَيْتُ وإنْ تَرْشَـدْ غَزِيَّـةُ أرْشَدِ |
استشهد به في رسالته الخراجية على وجوب اتّباع أهل البيت (عليهم السلام)والعلماء السائرين على هداهم، وذلك عند ردّه على المخالفين له والطاعنين عليه في مسألة الخراج..
قال: فها نحن قد قرّرنا لك في هذه المسألة، وأوضحنا لك من مشـكلها ما يجلي صـدى القلوب، ويزيل أذى الصدور، ويرغم أنوف ذوي الجهل، ويشوّه وجوه أُولي الحسد، الّذين يعضّون الأنامل غيظاً وحنقاً، ويلتجئون في تنفيس كربهم إلى التفكّه في الأعراض، والتنبيه على
____________
1- رجال الكشّي: 111 رقم 177.
2- تنقيح المقال 2 / 16.
3- الاستيعاب 2 / 40، وانظر: أُسـد الغابة 2 / 284.
فإنّ ما أوردناه من الأخبار عن الأئمّة الأطهار، وحكيناه عن فقهاء العترة النبوية المبرّئين من الزيغ والزلل، إن كان حقّاً يجب اتّباعه والانقياد إليه، فناهيك به، وكانوا أحقّ بها وأهلها، وأيّ ملامة على مَن اتّبع الحقّ وتمسّك بهدى قادة الخلق لولا العَمَه عن صوب الصواب والغشاء عن نور اليقين..
وإن كان باطلاً ـ مع ما أثبتناه من الأخبار الكثيرة والأقوال الشهيرة ـ فلا سبيل لنا إلى مخالفتهم وسلوك غير جادّتهم، والحال أنّهم قدوتنا في أُصول ديننا، وعمدتنا في أركان مذهبنا، وكيف نتّبعهم حيناً ونفارقهم حيناً: { يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرّمُونَهُ عاماً }(2).. ثمّ ذكر البيت الشعري الذي نحن بصدد بيانه(3).
وقد روي أوّل هذا البيت على صورتين:
* الأُولى: " وما "، كما في جميع النسخ المخطوطة التي شاهدناها واعتمدنا عليها في تحقيق الرسالة الخراجية، والعقد الفريد(4)، وحكاه
____________
1- دهماء الناس: جماعتهم. الصحاح 5 / 1924 مادّة " دهـم ".
2- سورة التوبة 9: 37.
3- الرسالة الخراجية ـ رسائل المحقّق الكركي 1 / 279.
4- العقد الفريد 6 / 32.
* الثانية: " وهل "، كما في الأغاني(2)، و شرح شواهد المغني(3)، و خزانة الأدب(4).
وهذا الشاهد جزء من قصيدة قالها دُرَيْد بن الصمّة الجشمي يرثي أخاه عبـد الله حينما أغار على بني غطفان فأصاب منهم إبلاً كثيرة وغنائم عظيمة، فنصحه دريد بالمسير وعدم المبيت لئلاّ تلحق بهم غطفان، فلم يسمع نصيحته، وبات بالقرب منهم، فأغاروا عليهم وقتلوا عبـد الله وجرحوا دريداً، فقال دريد قصيدته الدالية المعروفة التي يرثي بها أخاه ويذكر عدم سماعه نصيحته، والتي مطلعها:
أرَثَّ جَدِيـدُ الحَبْلِ مِنْ أُمّ مَعْبَـدِ | بِعَـاقِـبَـة وأخلَفَـتْ كُلَّ مَوْعِـدِ |
وقد ذُكرت هذه القصيدة ـ مع اختلاف في بعض كلماتها ـ في كثير من المصادر الأدبية، ونحن نذكر بعض أبياتها كما وردت في ديوانه المطبوع، مع الاشارة إلى الاختلاف الواقع فيها في بعض المصادر:
أعاذِلُ إنَّ الـرُّزْءَ في مِثْـلِ خالِـد | ولا رُزْءَ فيما أهْلَكَ المَرْءُ عن يَدِ |
وقُلْتُ(5) لِعارِض وأصْحابِ عارِض | ورَهْطِ بني السَّوداءِ والقَومُ شُهَّدي |
علانِيَـةً(6) ظُنُّـوا بـألـفـيْ مُدَجّـج | سُراتُهُـم في الفارِسـيَّ المُسَـرَّدِ |
وقُلْتُ لَهُمْ إنَّ الأحاليقَ أصْبَحتْ | مُطـنِّـبَـةً بيـنَ السِتـارِ فَثَـمْـهَـدِ |
____________
1- خزانة الأدب 4 / 513.
2- الأغاني 10 / 7 ـ 8.
3- شرح شواهد المغني 2 / 938.
4- خزانة الأدب 4 / 513.
5- في الأغاني: نصحتُ.
6- في الأغاني: فقلت لهم.
فما فَتِـئـوا حتّـى رأوْها مُغْـبـرةً | كَرِجْلِ الدَّبى في كُلّ رَبْع وفَدْفَـدِ |
ولمّا رَأيْـتُ الخَيْـلَ قُبْـلاً كَأنَّهـا | جَرادٌ يُباري وِجْهَةَ الريحِ مُغْتَدي |
أمَرْتُهُـمُ أمرِي بِمُنْعَـرَجِ اللِّوى(1) | فلمْ يَسْتَبينوا الرُشْدَ إلاّ ضُحى الغَدِ |
فلمّا عَصَوْني كُنْتُ مِنْهُمْ وقدْ أرى | غَوايَـتـهُـمْ وأنَنَّـي غَـيْـرُ مُهْـتَـدِ |
وهلْ(2) أنا إلاّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ | غَويْـتُ وإنْ تَرْشَـدْ غَزِيَّـةُ أرْشَـدِ |
دَعاني أخي والخَيْلُ بَيْنـي وبَيْنَـهُ | فلمّا دَعاني لَمْ يِجِدْني بِقُعْدُدِ(3) |
ودريد بن الصمّة اسمه معاوية بن الحارث بن بكر بن علقمة الجشمي، وقيل: معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر.
كان فارساً شجاعاً، جعله الجمحي أوّل الشعراء الفرسان.
قال أبو عبيدة: كان دريد سـيدّ بني جُشم وفارسهم وقائدهم، وكان مظفّـراً ميمـون النقيبة، غزا نحـو مائة غزوة ما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يُسلم، وخرج مع قومه في يوم حنين مظاهراً للمشركين ولا فضل فيه للحرب، وإنّما أخرجوه تيمّناً به وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شركه، وابنه سلمة شاعر، وبنته عمرة شاعرة أيضاً.
كان دريد معمّراً، يقول السجستاني: عاش مائتي سنة حتّى سقط حاجباه على عينيه.
وذكر السهيلي في الروض الأُنف عن ابن إسحاق: أنّ دريداً كان يوم حنين يبلغ سـتّين ومائة، ويروى من طريق آخر أنّه كان ابن عشرين ومائة
____________
1- في العقد الفريد: بمنقطع.
2- في العقد الفريد: وما.
3- ديوان دريد بن الصمّة: 18، الأغاني 10 / 9، العقد الفريد 6 / 32، شرح شواهد المغني 2 / 938.
(11)
أنـا الـذي سَمَّتْنـي أُمّي حَيْـدَرَهْ | كَلَيْـثِ غَابات شَدِيـدِ القَسْوَرَةْ |
تقدّم الحديث عنه في شرح الشاهد رقم(4).
(12)
شَتّـانَ مـا يَوْمِـي عَلـى كُـورِها | ويَوْمُ حَيّـانَ أخِي جابِـرِ |
ذكره في رسالته نفحات اللاهوت، عند إيراده خطبة الإمام عليّ (عليه السلام)المعروفة بالشقشقية(2).
ومعنى هذا البيت الذي استشهد به الإمام (عليه السلام) هو: شتّان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علَيّ من الأمر، ومُنيت به من انتشار الحبل واضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهّدة، وأركان ثابتة، وسكون شامل(3).
وهذا الشاهد جزء من قصيدة قالها الأعشى الكبير يهجو بها علقمة بن عُلاثة ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما، ومطلعها:
____________
1- الأغاني 10 / 3، العقد الفريد 6 / 32، شرح شواهد المغني 2 / 938، الروض الأُنف 2 / 287. وانظر: مقدّمة ديوانه.
2- نفحات اللاهوت: 131.
3- شرح نهج البلاغة 1 / 168.
عَلْقَـمُ ما أنْـتَ إلـى عـامِــرِ | النـاقِـصِ الأوْتـارِ والـواتِـرِ |
ومنها قوله:
وكُلِّ مِرْنـان(1) لَهُ أزْمَلٌ(2) | وَلَيّـنِ(3) أكْعُـبُـهُ حَادِرِ(4) |
وقَدْ أُسَلّي الهَمَّ حِينَ اعْتَرى | بِجَسْـرَة(5) دَوْسَرَة(6) عَاقِـرِ |
زَيّافَـة(7) بالرَّحْـلِ خَطّـارَة(8) | تُلْوى بِشَرْخي(9) مَيْسَة قاتِرِ(10) |
شَتّانَ مَا يَوْمـي عَلـى كُورِهَا | وَيَوْمُ حَيّـانَ أخِي جابِـرِ |
فِي مِجْـدَل(11) شُيّدَ بُنْيانُـهُ | يِزلّ عَنْـهُ ظُـفُـرُ الطّائِــرِ |
يَجْمـعُ خَضـراءَ لَهـا سَـوْرَةٌ | تَعْصِـفُ بِالـدّارِعِ والحاسِـرِ |
باسِـلَـةُ الـوَقْـعِ سَـرابـيِـلُـهـا | بِيِـضٌ إلـى جانِـبِـهِ الظّاهِـرِ(12) |
والأعشـى الكبير هو ميمـون بن قيس بن جَـنْدَل، ينتهي نسـبه إلى أبي بكر بن وائل، من ربيعة. لقّب بالأعشى; لسوء بصره، وكُنّي بأبي بصير; تفاؤلاً بالشفاء أو لنفاذ بصيرته، وسمّي: صنّاجة العرب; لأنّه
____________
1- المرنان: القوس إذا رمي عنها السهم، انظر: الصحاح 6 / 2202 مادّة " مرن ".
2- الأزمل: الصوت. الصحاح 4 / 1718 مادّة " زمـل ".
3- الليّن: أي الرمح. القاموس المحيط 4 / 270 مادّة " لين ".
4- الحادر: أي الغليظ. الصحاح 2 / 624 مادّة " حـدر ".
5- الجسـرة: الناقة السريعة. الصحاح 2 / 613 مادّة " جسـر ".
6- الدوسـرة: الناقة الضخمة. الصحاح 2 / 657 مادّة " دسـر ".
7- الزيّافة من النوق: المختالة. الصحاح 4 / 1371 مادّة " زيف ".
8- الخطّارة: التي تخطر بذنبها نشاطاً. انظر: الصحاح 2 / 648 مادّة " خطر ".
9- شرخا الرحْل: آخرته وواسطته. الصحاح 1 / 424 مادّة " شرخ ".
10- رحلٌ قاترٌ: أي واق لا يَعقر ظهر البعير. الصحاح 2 / 786 مادّة " قتر ".
11- المجدل: القصر. الصحاح 4 / 1653 مادّة " جـدل ".
12- ديوان الأعشى: 96.
وهو من أهل اليمامة من قرية تسمّى: منفوحة، ولد فيها نحو سنة 530 م، ولكنّها لم تكن قراراً له، بل كان ينتجع بشعره أقاصي البلاد سائلاً متكسّباً، وقد وفد على ملوك فارس.
ويجمع الرواة على أنّه أدرك الإسلام لكنّه لم يسلم، وتُضيف إليه بعضهم قصيدة مدح بها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا وفد عليه، غير أنّ قريشاً حالوا دون وصوله إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد أرّخ الرواة وفاته سنة 7 هـ; استناداً إلى قول أبي سفيان له: نحن الآن وهو في هدنة.
طرق الأعشى جميع فنون الشعر، فأجاد المدح والهجاء كما أجاد وصف الخمر والتشبيب بالنساء. وله شعر كثير مجموع في ديوان كبير، أشهره لاميّتان طويلتان كلتاهما تُعدّ من المعلّقات(1).
وكان له في كلّ موقف صولة ودولة، حتّى قيل: إنّه ما مدح أحداً في الجاهلية إلاّ رفعه، ولا هجا أحداً إلاّ وضعه. وكان الناس يتنافسون في تقريبه والتودّد إليه لعلّهم ينالون من مدحه نصيباً. وممّا يروى في ذلك أنّ المحلَّق الكلابي كان ذا بنات عوانس، فتعرّض للأعشى ونحر له ناقة، فقال فيه قصيدة أطارت به صيته، وأزْوَجَتْ بناته، وجعلته ثريّاً بعد فقر، وعزيزاً بعد ضـعة(2).
(13)
قَدْ كَعَبَ الثَّدْيُ عَلـى نَحْـرِها | في مُشْرِق ذِي صَبَـح نائِـرِ |
____________
1- انظر: أُدباء العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام 1 / 212.
2- الجامع في تأريخ الأدب العربي: 244.
قال معلّقاً على كلام العلاّمة: (وقال المفيد (رحمه الله): الكعبان هما قبّتا القدمين أمام الساقين ما بين المفصل والمشط(2). وقال ابن أبي عقيل: الكعبان ظهر القدم. وقال ابن الجنيد: الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق، وهو المفصل الذي قدّام العُرقُوب(3)(4)): قول المفيد: (هما قبّتا القدمين)، وقوله: (ما بين المفصل والمشط) أيضاً في الصراحة كما سبق.
وكذا قول ابن الجنيد: (الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق) قريب من كلامهم; لأنّ المفصل الذي يدّعي المصنّف أنّه الكعب ليس في ظهر القدم.
نعم آخر كلامه ليس في الصراحة كأوّله، فإنّ قوله: (وهو المفصل قدّام العرقوب) قد يوهم خلاف ما دلّ عليه الأوّل، إلاّ أنّه غير صريح في ذلك..
لكن الذي حكاه شيخنا في الذكرى عن ابن الجنيد لا يتطرّق إليه الاحتمال، فإنّه حكى عبارته هكذا: الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق; لاشتقاقه من قولهم: كعب إذا ارتفع، ومنه كَعَب ثدي الجارية إذا
____________
1- سورة المائدة 5: 6.
2- المقنعة: 44; والمشط: سُلامَيات ظهر القدم، وهي عظام طول إصبع في اليد والرجل. الصحاح 3 / 1160، مجمع البحرين 4 / 274 مادّة " مشـط ".
3- العُرقُوب: العصب الغليظ الموَتَّر فوق عقب الإنسان. الصحاح 1 / 180 مادّة " عرقب ".
4- حكاه عنهما الشهيد في الذكرى: 88.
ثمّ قال: ونقل عن ابن أبي عقيل أنّ الكعب ظهر القدم، وهو يدلّ على ما دلّ عليه كلام الجماعة(1).
وهذا الشاهد جزء من القصيدة التي قالها الأعشى الكبير، المذكورة في شرح الشاهد السابق.
واعلم أنّ هذا البيت موجود بهذه الصورة في النسخ المخطوطة التي رأيناها لهذه الحاشية، وهو مخالف لِما رأيناه في الديوان المطبوع للأعشى الكبير; إذ إنّ الموجود فيه: قَدْ نَهَدَ الثّدْيُ عَلى صَدْرِهَا(2).
ونَهَدَ ثدي الجارية: أشرفَ وكَعَبَ، والمرأة كَعَبَ ثديُها كَنَّهدَتْ فهي مُنَهّدٌ وناهَدٌ وناهدةٌ(3).
ونحن نذكر هنا تمام هذا البيت، والبيتين اللّذين قبله وبعده:
عَبَهْـرَةُ(4) الخَلْقِ بُلاخِـيّـةٌ(5) | تَشُوبُـهُ بِالخُـلُـقِ الطاهِـرِ |
عَهْدِي بِها فِي الحيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ | هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْـرَةِ الضامِـرِ |
قَدْ نَهَدَ الثَدْيُ على صَدْرِها | في مُشْرق ذِي صَبَح نائِـرِ |
لـو أسْنَـدَتْ مَيْتاً إلـى نَحْـرِها | عاشَ ولـمْ يُـنْقَـلْ إلـى قابِـرِ |
حتّـى يَقـولُ الناسُ مِمّـا رَأوْا | يا عَجَـباً للمَـيّـتِ الناشِـرِ(6) |
____________
1- حاشية المختلف ـ مخطوط: 97 / أ.
2- ديوان الأعشى: 92.
3- المحيط في اللغة 3 / 447، الصحاح 2 / 545، القاموس المحيط 1 / 355، لسان العرب 14 / 300; مادّة " نهـد ".
4- العبهرة: المرأة الممتلئة الجسم. الصحاح 2 / 735 مادّة " عبهـر ".
5- البلاخيّة: الطويلة. القاموس المحيط 1 / 266 مادّة " بلخ ".
6- ديوان الأعشى: 92 ـ 93.
(14)
أقُولُ للشَيْخِ إذْ طالَ الثَواءُ بهِ | يا شَيْخُ هَلْ لَكَ فِي فَتْوى ابْنِ عَبّاسِ |
هَلْ لَكَ في رَخْصَةِ(1) الأطْرافِ ناعِمَة | تَكونُ مَثْواكَ حتّى مَصْدَرِ الناسِ |
استشهد بها في رسالته خلاصة الإيجاز في المتعة، عند إيراده للأدلّة الدالّة على جوازها، وأنّها كانت في الصدر الإسلامي..
قال: وما اشتهر عن ابن عبّـاس من مناظرة ابن الزبير فيها، وقوله: سَلْ أُمّك عن بُردي عوسجة، ولاشتهاره اشتهر هذان البيتان(2).
ومناظرة ابن عبّـاس لعبـد الله بن الزبير معروفة مثبتة في كثير من المصادر:
أخرج المسعودي عن ابن عمّار، عن علي بن محمّـد بن سليمان النوفلي، قال: حدّثني ابن عائشة والعتبي جميعاً عن أبويهما، وألفاظهما متقاربة، قالا: خطبَ ابن الزبير فقال: ما بال أقوام يفتون في المتعة، وينتقصـون حواري الرسول وأُمّ المؤمنين عائشة؟! ما بالهم أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم؟! يُعَرِّض بابن عبّـاس.
فقال ابن عبّـاس: يا غلام اصمِدني صَمْدَه; فقال: يا زبير!
قَدْ أنْصَفَ القَارَةَ(3) مَنْ راماها | إنّا إذا ما فِئَـةٌ نَلقاهـا |
____________
1- الرخص: الناعم، يقال: هو رخص الجسد بيّن الرُخوصة والرخاصة. الصحاح 3 / 1041 مادّة " رخـص ".
2- خلاصة الإيجاز في المتعة: 29 ـ 30.
3- القارة: قوم رماة من العرب. لسان العرب 5 / 123 مادّة " قـور ".
وأمّا قولك: أُمّ المؤمنين، فبنا سُمّيت أُمّ المؤمنين، وبنا ضُرب عليها الحجاب.
وأمّا قولك: حواري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقد لقيت أباك في الزحف وأنا مـع إمام هـدىً، فإن يكن على مـا أقـول فقـد كفر بقتالنا، وإن يكن عـلى ما تقول فقد كفر بهربه عنّا.
فانقطع ابن الزبير ودخل على أُمّه أسماء فأخبرها، فقالت: صدق.
ثمّ قال المسعودي: وفي هذا الخبر زيادات من ذكر البردة والعوسجة، وقد أتينا على الخبر بتمامه وما قاله الناس في متعة النساء والحجّ في كتابنا الاستنصار(2).
وقال الكوفي في الاستغاثة: ومن ذلك أنّ علماء أهل البيت (عليهم السلام)ذكروا عن ابن عبّـاس ـ رضوان الله عليه ـ أنّه لمّا دخل مكّة وعبـد الله بن الزبير على المنبر يخطب، فوقع نظره على ابن عبّاس وكان قد أضرّ، فقال: معاشر الناس! قد أتاكم أعمى، أعمى الله قلبه، يسـبّ عائشة أُمّ المؤمنين، ويلعن حواري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ويحلّ المتعة وهي الزنا المحض.
فوقع الكلام في أُذن عبـد الله بن عبّـاس وكان متوكّئاً على يد غلام له يقال له عكرمة، فقال له: ادنني منه. فأدناه حتّى وقف بأزائه وقال:
____________
1- المجمر: الذي يُجعل فيه الجمر. الصحاح 2 / 616 مادّة " جـمر ".
2- مروج الذهب 3 / 89 ـ 90.
إنّا إذا ما فِئَـةٌ نَلْقاهـا | نَـرُدّ أُولاهـا على أُخـراهـا |
أمّا قولك: إنّا نسبّ عائشة أُمّ المؤمنين، فبنا صارت لأبيك ولآبائك.
وأمّا قـولك: حـواري رسـول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ الزبـير لم ينصـر الرسـول (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، إذ أخرج زوجته للحتوف والمقارعة بالسيوف وترك عرسه في بيته تصان بأذيالهن.
أمّا قولك: يحلّ المتعة وهي الزنا المحض، فوالله لقد عمل بها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يأت بعده رسول لا يحلّ ولا يحرم. والدليل على ذلك قول ابن صهاك: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنا أمنع عنهما وأُعاقب عليهما. فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه، وإنّك من متعة فإذا نزلت عن عودك هذا فاسأل أُمّك عن بردي عوسجة.
ومضى عبـد الله بن عبّـاس ونزل عبـد الله بن الزبير مهرولا إلى أُمّه، فقال: أخبريني عن بردي عوسجة. وألحّ عليها مغضباً.
فقالت له: إنّ أباك كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أهدى له رجل يقال له عوسجة بردين، فشكا أبوك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) العزوبة، فأعطاه برداً منه، فجاءني فمتّعني به ومضى، فمكث عنّي برهة وإذا به قد أتاني ببرد ثان فمتّعني به، فعلقت بك، وإنّك من متعة، فمن أين وصلك هذا؟!
قال: من ابن عبّـاس.
فقالت: ألم أنهك عن بني هاشم وأقل لك: إنّ لهم ألسنة لا تطاق(1).
____________
1- الاستغاثة: 37 ـ 38.
وأمّا البيتان الشعريان فقد ذكرهما ـ مع اختلاف في بعض كلماتهما ـ علماء المسلمين في موسوعاتهم الفقهية والحديثية والأدبية..
قال البيهقي فـي سُـننه: أخـبرنا أبو بكر بـن الحارث الفقيه، أنبأنا أبـو محمّـد بن حيّان أبو الشيخ، حدّثنا إبراهيم بن محمّـد بن الحسن، حـدّثنا أحـمد بن سعيد، حـدّثنا ابن وهب، فذكره بنحوه إلاّ أنّه قال: يعرّض بابن عبّـاس (وزاد في آخره: قال: ابن شهاب)، وأخبرني عبيد الله أنّ ابن عبّـاس كان يفـتي بالمـتعة ويغمـض ذلك عـليه أهل العلم، فأبى ابـن عبّـاس أن ينكل عن ذلك حتّى طفق بعض الشعراء يقول:
................ | يا صاح هَلْ لكَ في فتيا ابن عبّاسِ |
هل لكَ في ناعِمِ خَوْد(2) مبْتَلَّة(3) | تكونُ مثواكَ حتّى مَصْدَرِ الناسِ |
ثمّ قال: وحدّثنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّاس: ماذا صنعت؟ ذهبت الركائب بفتياك، وقال فيه الشعراء.
فقال: وما قالوا؟!
قال: قال الشاعر:
أقولُ للشيخِ لمّا طالَ مَجْلِسُـهُ | يا صاح هل لك في فتيا ابن عبّاسِ |
يا صاح هل لك في بيضاء بَهْكَنة(4) | تكون مثواك حتّى مصدرِ الناسِ |
____________
1- مستدرك الوسائل 14 / 450 ـ 451 ح 17253.
2- الخَوْدُ: الجارية الناعمة. الصحاح 2 / 470 مادّة " خـود ".
3- امرأة مبتّلة: تامّة الخلق لم يركب لحمها بعضه بعضاً. الصحاح 4 / 1630 مادّة " بتل ".
4- امرأة بهكنة: غضّة ذات شباب. الصحاح 5 / 2082 مادّة " بهكن ".
وقال في البيت الآخر: هل لك في رخصـة الأطرافِ آنسة(1).
وقال ابن قدامة في المغني: وروى أبو بكر بإسناده عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّـاس: لقد كثرت في المتعة حتّى قال فيها الشاعر:
أقولُ وقدْ طالَ الثَواءُ بنا | يا صاح هل لك في فتيا ابن عبّاسِ |
هل لك في رخصة الأطْرافِ آنِسَـة | تكون مثواك حتّى مصدر الناسِ(2) |
وأخـرج عبـد الرزّاق في مصـنّفه عن معمر، عن الزهري أنّه قال: ازدادت العلماء لها مفتاحاً (لعلّه استقباحاً) حين قال الشاعر: يا صاح هل لك في فتيا ابن عبّـاس(3).
وأخـرج السيوطي رواية سعيد بن جـبير كما أخرجها البيهقي في سُـننه، إلاّ أنّه جعل البيت الثاني هكذا:
هل لك في رخصة الأطرافِ آنسة | تكون مثواك حتّى مصدر الناسِ(4) |
وقال ابن إدريس في السرائر: وأيضاً فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جـماعة معروفـة الأقوال من الصحابـة والتابعين، كأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وابن عبّـاس، ومناظراته لابن الزبير عليها معروفة، رواها الناس كلّهم، ونظم الشعراء فيها الأشعار، فقال بعضهم:
أقول للشيخ لمّا طال مجلسه | يا صاح هل لك في فتوى ابن عبّاسِ |
هل لك في قنية بيضاء بَهْكَنة | تكون مثواك حتّى مصدر الناسِ(5) |
____________
1- السُـنن الكبرى 7 / 205.
2- المغني 7 / 572 ـ 573.
3- المصنّف 7 / 503 رقم 14039.
4- الدرّ المنثور 2 / 487.
5- السرائر 2 / 619.