الصفحة 49

(15)


تقولُ بنتي وقدْ قَرَّبتُ مُرْتَحِلايا ربّ جنّبْ أبي الأوْصابَ والوَجَعا
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغْتَمِضييوماً فإنّ لجَنْبِ المرءِ مُضْطَجَعا

اسـتشهد بهما في كتابه جامع المقاصد في أنّ معنى الصلاة لغةً: الدعاء..

قال: المعروف والشائع أنّ الصلاة لغةً: الدعاء; قال تعالى: { وصَلِّ عليهم }(1). أي: ادع لهم.

وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: " وصلّت عليكم الملائكة "(2).

وقال الشاعر:... ـ وذكر البيتين ـ.

ثمّ قال: وقد صرّحوا بأنّ لفظها من الألفاظ المشتركة، فهي من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء، وزاد في القاموس: حسن الثناء من الله على رسوله(3)، ولعلّه من الاستعمالات المجازية لتضمّنه معنى الرحمة; لأنّ كتب اللغة تجمع الحقيقة والمجاز من غير تمييز غالباً(4).

وقال الجوهري فى الصحاح: الصلاة: الدعاء; قال الأعشى:


وقابلها الريحُ في دَنِّها(5)وصلّى على دَنّها وارتسم(6)

____________

1- سورة التوبة 9: 103.

2- الكافي 6 / 294 ح 10، التهذيب 9 / 99 ح 430.

3- القاموس المحيط 4 / 510 مادّة " صـلا ".

4- جامع المقاصد 2 / 5.

5- الدن، واحد الدنان: وهي الحِباب. الصحاح 5 / 2114 مادّة " دنـن ".

6- الصحاح 6 / 2402 مادّة " صـلا ".


الصفحة 50
والبيتان جزء من قصيدة قالها الأعشى الكبير يمدح فيها هوذة بن علي الحنفي، مطلعها:


بانَتْ سُعادُ وأمْسى حَبْلُها انْقَطَعاواحْتلّتِ الغَمْرَ فالجُدّينِ فالفَرَعا

وقد تقدّمت ترجمة مختصرة لهذا الشاعر عند شرحنا للشاهد رقم (12)، وبما أنّ هذين البيتين لم يردا متعاقبين في الديوان، لذا نذكرهما مع ما بينهما من الأبيات:


تقولُ بنتي وقد قرّبت مرتحلايا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
واستشفعتْ من سُراة الحيّ ذا شرففقد عصاها أبوها والذي شفعا
مهلا بُنيّ فإنّ المرء يبعـثُـهُهمٌّ إذا خالطَ الحيزومُ والضِلعا
عليكِ مثلُ الذي صلّيْتِ فاغتمضييوماً فإنّ لجنْبِ المرءِ مُضطجَعا
واستخبري قافلَ الركبانِ وانتظريأوْبَ المسافرِ إن ريْثاً وإن سَرَعا(1)

(16)


وأرَيْتُـكُـمْ أنّ الحُسـيـنأُصيبَ في يوم السَقيفه

ذكره في رسالته نفحات اللاهوت، عند حديثه عن السقيفة وكيفية بيعة أبي بكر، وأنّ ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من الظلم يعود سببه الرئيسي إليها(2).

وهذا البيت جزء من مقطوعة شعرية تقع في ثلاثة عشر بيتاً، مشهورة ومعروفة في أوساط الأُدباء والشعراء والخطباء، قالها ابن قريعة في بيان

____________

1- ديوان الأعشى: 105 ـ 106.

2- نفحات اللاهوت: 72.


الصفحة 51
مظلومية الزهراء (عليها السلام)، ذكر الصفدي في الوافي بالوفيات منها تسعة أبيات فقط مبتدئاً من الخامس منها، وذكرها بكاملها الإربلي في كشف الغمّة، وهي:


يا منْ يسائـلُ دائبـاًعن كلّ مُعْضِلة سخيفه
لا تـكشفـنّ مُغَـطَّـئـاًفلربّـمـا كشّفْـتَ جـيفه
ولـرُبَّ مـسـتـور بـداكالطبلِ من تحت القطيفه
إنّ الـجـواب لحـاضــرٌلكنّـنـي أُخْـفـيـه خـيـفـه
لـولا اعـتـذارُ رعـيّـةألغـى سـياسـتـها الخـليـفه
وسيـوفُ أعداء بهـاهاماتُـنـا أبداً نقـيفه
لكشفتُ(1) من أسرار آلِ محمّد جُملا ظريفه
تغنّى بها(2) عمّا رواهُ مالكٌ وأبو حنـيـفـه
ونشرتُ طيّ صحـيفـةفيها أحاديثُ الصحيفه
وأريتُـكُـمْ أنّ الحسـينَأُصيبَ في يوم السقيفه
ولأيّ حال أُلْحِـدَتْبالليلِ فاطمـةُ الشريـفه
ولِما حمتْ(3) شيخيكمُعن وطءِ حجرتِها المنيفه
آهِ لبنـتِ محـمّـدماتتْ بغُصّـتِها أسيفه(4)

وابن قريعة هو القاضي أبو بكر محمّـد بن عبـد الرحمن البغدادي، سمع الحديث من أبي بكر الأنباري، ولا يعرف له رواية حديث مسند.

____________

1- في كشف الغمّة: لنشرت.

2- في كشف الغمّة: تغنيكم.

3- كذا في كشف الغمّة، وفي الوافي بالوفيات: ختت; وأختّ فلان، أي: استحيا. الصحاح 1 / 247 مادّة " خـتت ".

4- الوافي بالوفيات 3 / 227، كشف الغمّة 1 / 505.


الصفحة 52
ولاّه أبو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي قضاء مدينة السندية التابعة لبغـداد.

كان فصيحاً، لطيف الطبع، جميل المعاشرة، كثير النوادر، حسن الخاطر، عجيب الكلام، يسـرع بالجواب المسجوع المطبوع من غير تأمّل له ولا تعمّق فيه، له أخبار مستفيضة وقصص ظريفة، دوّنت في كتاب لطيف..

وكان مختصّاً بالوزير أبي محمّـد المهلّبي، ونادم عزّ الدولة ابن بابويه فكان لا يفارقه.

قال الذهبي في العبـر: اجتمع به الصاحب بن عبّـاد عند قدومه بغداد في مجلس الوزير أبي محمّـد المهلّبي، فلمّا رأى من ظرفه وسرعة جوابه أُعجب به، فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتاباً يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يُعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في عدّة مسائل(1).

ومدحه وأثنى عليه كثيراً الصفدي في الوافي بالوفيات، وقال عنه: إنّه كان يتشيّع، وذكر له عدّة أشعار تدلّ على تشيّعه، منها المقطوعة الشعرية المذكورة، ومنها قوله:


إنْ كان عندي درهمٌأو كان في بيتي دقيقْ
فبرئتُ من أهلِ الكساوكفرتُ بالبيتِ العتيقْ
وظلمْتُ فاطمةَ البتولَ كما تحَيّفَها عتيقْ(2)

____________

1- العبر في خبر من غبر 2 / 127.

2- الوافي بالوفيات 3 / 227.


الصفحة 53
مات يوم السبت في العشرين من جمادى الآخرة سنة 367 هـ(1).

(17)


تسيلُ على حدِّ الظُباتِ نُفوسُـنا....................

استشهد به في كتابه جامع المقاصد في أنّ معنى ذو النفس السائلة: أي ذو دم سائل..

قال في تعليقه على قول العلاّمة: (المقصد الثالث في النجاسات: وفيه فصلان: الأوّل: في أنواعها، وهي عشرة: البول والغائط من كلّ حيوان ذي نفس سائلة): النفس هنا هي الدم; قال:... ـ وذكر الشاهد ـ.

ثمّ قال: والمراد من النفس السائلة: الدم الذي يجتمع في العروق ويخرج إذا قطع شيء منها بقوّة ودفع، بخلاف دم ما لا نفس له، فإنّه يخرج ترشيحاً(2).

والظبات، جمع ظبة: وهي الحدّ والطرف; قال الجوهري: ظبة السيف وظبة السهم: طرفُهُ، قال بشامة بن حري النهشلي:


إذا الكماةُ تنَحَّـوْا أنْ ينالُهُـمحدُّ الظُباتِ وصَلْناها بأيْدينا(3)

وقال ابن فارس: الظبة: حدّ السيف(4).

وقال الصاحب بن عبّاد: الظبة: حدّ السيف وحرفه، والجمع:

____________

1- انظر: وفيات الأعيان 4 / 382 ـ 384، تاريخ بغداد 2 / 317 ـ 318، البداية والنهاية 11 / 292، شذرات الذهب 2 / 60، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك 14 / 258 رقم 2739، الأعلام 6 / 190، الكنى والألقاب 1 / 388.

2- جامع المقاصد 1 / 160.

3- الصحاح 6 / 2417 مادّة " ظبى ".

4- معجم مقاييس اللغة 3 / 474.


الصفحة 54
الظبات والظبى(1).

وقال الزبيدي: وظبات: بالضم والتاء مطوّلة كما في النسخ، وأيضاً مقصورة وهو الصحيح(2).

وقال ابن منظور: الظبة: حدّ السيف والسنان والنصل والخنجر وما أشـبه ذلك; قال الكميت:


يرى الراؤونَ بالشفراتِ مِنّاوَقودَ أبي حُباحِبَ والظُبينا

والجمع: ظُبات وظِبون وظُبون(3).

وهذا الشاهد هو شطر بيت قاله السموأل من قصيدة له مطلعها:


إذا المرءُ لم يدْنَسْ من اللؤمِ عِرْضُهُفـكلُّ رداء يرتـديـهِ جمـيـلُ

وهو البيت الثاني عشر منها، نذكره بتمامه مع عدّة أبيات منها، كما في ديوانه المطبوع:


وما ماتَ منّا سيّدٌ حتْفَ أنفِهِولا طُلَّ منّا حيثُ كان قتيلُ
تسيلُ على حدّ الظُباتِ نُفُوسُناوليس على غير الظُباتِ تسيلُ
صفَوْنا فلم نَكْدُرْ وأخْلَصَ سِرَّناإناثٌ أطابَتْ حَمْلَنا وفُحولُ
عَلَوْنا إلى خيرِ الظُهورِ وحَطَّنالوقت إلى خيرِ البُطونِ نُزولُ
فنحنُ كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِناكهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ(4)

علماً بأنّ ابن عبـد ربّه الأندلسي قد جعل عجز هذا الشاهد هكذا:


وليس على غير السيوف تسيلُ(5)

____________

1- المحيط في اللغة 10 / 47 مادّة " ظبو ".

2- تاج العروس 10 / 231. مادّة " ظبا ".

3- لسان العرب 8 / 247 ـ 248 مادّة " ظـبا ".

4- ديوان السموأل: 91، شرح شواهد المغني 2 / 532.

5- العقد الفريد 1 / 93.


الصفحة 55
والشاعر هو السموأل بن غريض بن عاديا اليهودي، صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء، وبه يضرب المثل في الوفاء; لأنّه أسلم ابنه ولم يخن أمانته في دروع أودعها عنده امرؤ القيس لمّا صار إلى القسطنطينية يطلب معونة القيصر، وقد توفّي نحو سنة 560 م(1).

وقال السـيوطي: السَمَوْأل، بفتح المهملة والميم وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة ولام: اسم عبراني، وقيل: عربي مرتجل، وهو منقول من اسم طائر، واسمه فعوعل بن عريض بن عاديا ـ بالمدّ والقصر ـ ابن قبا(2).

(18)


فما في حَريم بَعْدَها مِنْ تَحَرِّجِولا هَتْكِ سِتْر بَعْدَها بِمُحَرَّمِ

ذكره في رسالته الخراجـية، عند بحثه لهذا الموضوع، وردّه على القائلين بحرمته، واتّهامهم بالحقد والحسد له..

قال: على أنّ الحاسد لا يرضى وإن قرعت سمعه الآيات، والمُغمّض لا يبصر وإن أُتي بالحجج البيّنات، ولو راجع عقله وتفكّر لم يجد فرقاً بين حـلّ الغنائم وحـلّ ما نحـن فيه، بل هذا إنّما هو شعبة من ذلك، فإنّه إذا كان المبيح له والإذن في تناوله واحداً، فأي مجال للشكّ، وأي موضع للطعن؟! لولا عين البغضاء وطوية الشحناء.

____________

1- الأغاني 22 / 122، العقد الفريد 1 / 93، الجامع في تاريخ الأدب العربي: 282.

2- شرح شواهد المغني 2 / 535.


الصفحة 56
وجدير بمن علم كيف كان طعن الحاسدين، وإنكار المغمضين عن سـيّد الكونين وإمام الثقلين، ونسبتهم إليه الأباطيل ونداءهم عليه في الأندية بالأفاعيل، ممّا يُذيب المرائر(1) ويفتّت قلوب ذوي البصائر; أن يهون عليه مثل هذه الأقوال السخيفة والإنكارات الفاسدة. ثمّ ذكر البيت(2).

(19)


فِيها اثْنَتانِ وأرْبَعـونَ حَلُوَبـةً....................

استشهد به في كتابه جامع المقاصد، في بحث الإقرار، بالاكتفاء بمفسّر واحد ـ وهو الأخير ـ واستهجان الإتيان بعدّة مفسّرات في كلام واحد فيه عدّة مبهمات..

قال معلّقاً على كلام العلاّمة الحلّي: (ولو قال: ألف وثلاثة دراهم أو وخمسون درهماً، أو ألف ومائة وخمسة وعشرون درهماً أو وخمسة عشر درهماً، أو ألف ومائة درهم، فالجميع دراهم على إشكال): ينشأ من أنّ الاستعمال لغةً وعرفاً جار على الاكتفاء بمفسّر الأخير في كونه تفسيراً لِما قبله، قال الله تعالى: { إنَّ هذا أخي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعونَ نَعْجَةً }(3).

وفي الحديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفّي وهو ابن ثلاث وستّين

____________

1- المرائر، جمع المرارة: وهي كيس أصفر معلّق مع الكبد، فيه ماء أخضر، يكون لكلّ ذي روح، إلاّ البعير فإنّه لا مرارة له. انظر ترتيب كتاب العين 3 / 1692، مجمع البحرين 3 / 481 مادّة " مـرر ".

2- الرسالة الخراجية ـ رسائل المحقّق الكركيّ 1 / 279 ـ 280.

3- سورة ص 38: 23.


الصفحة 57
سنة(1)، وقال الشاعر:... ـ وذكر البيت ـ.

وغير ذلك من الاستعمالات في الأخبار وكلام العرب التي لا تنحصر.

وأمّا الاستعمالات العرفـية فظهورها مغـن عن التعرّض لبيانها، وكأنّهم لمّا كرهوا الإتيان بالمفسّرات المختلفة في الكلام الواحد اكتفوا بأحـدها، وآثروا مفسّر المبهم الأخير على غيره; لأنّ المفسّر إنّما يفسّر به ما قبله(2).

وهذا الشاهد هو جزء من قصيدة رائعة، تعدُّ من المعلّقات، قالها عنترة العبسي، ذكر فيها بنت عمّه عبلة وبُعد دارها، ثمّ وصف ناقته وصفاً جميلاً، ووصف نفسه بأنّه لا يظلم ولا يجرؤ أحد على ظلمه، ثمّ وصف بطشه، وصوّر فرسه تصويراً رائعاً رفعه فيه إلى درجة الإنسانية..

وفيها من شرف المعاني، وسهولة اللفظ، وحسن الانسجام، ومتانة التعبير والنظم; ما جعل العرب يسمّونها بالذهبية(3)، والتي مطلعها:


هَلْ غادَرَ الشُعَراءُ مِنْ مُتَرَدّمِأمْ هَلْ عَرَفْتِ الدارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

وهذا الشاهد هو البيت الثاني عشر منها، نذكره بتمامه مع بيتين قبله وبيتين بعده:


إنْ كُنْتِ أزْمَعْتِ(4) الفِراقَ فإنَّمازُمَّـتْ ركابُكُـمُ بِلَيْل مُظْلِـمِ

____________

1- الكافي 1 / 365.

2- جامع المقاصد 9 / 263 ـ 264.

3- شرح المعلّقات السبع: 136.

4- أزمعتِ: أي ثَبَتَ عليه عزمكِ، الصحاح 3 / 1225 مادّة " زمـع ".


الصفحة 58

ما راعَنـي إلاّ حَمُـولَـةُ أهْلِـهـاوَسْطَ الدِيارِ تَسَفّ(1) حَبَّ الخِمْخِمِ(2)
فِيها اثْنَتانِ وأرْبَعُـونَ حَلُوَبـةًسُوداً كَخافِيَةِ(3) الغُرابِ الأسْحَمِ(4)
إذْ تَسْتَبِيكَ بِذي غُروُب واضِحعَذْبِ مُقَيَّلَـهُ لَذيـذِ المَطْعَـمِ
وكـأنَّ فارَةَ تَاجِـر بِقَسـيمَـةسَبَقَتْ عَوارِضَها إليكَ مِن الفَمِ(5)

وسـبب قـول عنترة لهـذه القصـيدة ـ كمـا ذكره السـيوطي ـ هـو أنّ أُمّ عنترة كانت أمَة حبشية تدعى زبيبة، فوقع عليها أبوه فأتت به، فقال لأولاده: إنّ هذا الغلام ولدي.

قالوا: كذبت، أنت شيخ قد خرفت تدّعي أولاد الناس.

فلمّا شبَّ قالوا له: اذهب فارْعَ الإبل والغنم، واحلب وصر.

فانطلق يرعى، وباع منها ذَوداً(6)، واشترى بثمنه سيفاً ورمحاً وترساً ودرعاً ومِغْفَرة، ودفنها في الرمل، وكان له مهر يسقيه ألبان الإبل.

وكان في الجاهلية من غلب سبى، وأنّ عنترة جاء ذات يوم إلى الماء فلم يجد أحداً من الحيّ، فبهت وتحيّر حتى هتف به هاتف: أدرك الحيّ في موضع كذا. فعمد إلى سلاحه فأخرجه، وإلى مهره فأسرجه، واتّبع القوم الّذين سبوا أهله، فكرَّ عليهم ففرّق جمعهم، وقتل منهم ثمانية نفر،

____________

1- تسفّ: أي تنخل، والسفسفة: انتخال الدقيق ونحوه. الصحاح 4 / 1375 مادّة " سـفف ".

2- الخمخم: نبت يُعلف حبّه الإبل، الصحاح 5 / 1916 مادّة " خـمم ".

3- الخوافي: ما دون الريشات العشر من مقدّم الجناح. الصحاح 6 / 233 مادّة " خفى ".

4- الأسحم: الأسْود. الصحاح 5 / 1947 مادّة " سـخم ".

5- ديوان عنترة: 15 ـ 17، شرح المعلّقات السبع: 137.

6- الذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر. الصحاح 2 / 471 مادّة " ذود ".


الصفحة 59
فقالوا له: ما تريد؟

قال: أُريد العجوز السوداء والشيخ الذي معها. يعني أُمّه وأباه، فردّوهما عليه.

فقال له عمّه: يا بني كرّ.

فقال: العبد لا يكرُّ، لكن يحلب ويصرّ.

فأعاد عليه القول ثلاثاً، وهو يجيبه كذلك. فقال له: إنّك ابن أخي، وقـد زوّجـتك ابنتـي عـبلة. فكَـرَّ عـليهم فصـرع منهم عشـرة، فقالوا له: ما تريد؟

قال: الشيخ والجارية. يعني عمّه وابنته. فردّوهما عليه.

ثمّ قال لهم: إنّه لقبيح أن أرجع عنكم وجيراني في أيديكم، فأبوا، فكَرَّ عليهم حتّى صرع أربعين رجلاً قتلى وجرحى، فردّوا عليه جيرانه، فأنشد هذه القصيدة يذكر فيها ذلك(1).

والشاعر هو عنترة بن شـدّاد بن قُراد العبسي، يكنّى بأبي المُغلّس، لسيره إلى الغارات في الغلس، ويلقّب بعنترة الفلحاء، وبعنترة الفوارس; لأنّه من فرسان العرب المعدودين.

وهو بطل شجاع، جريء الفؤاد، حليم الطباع، رقيق القلب، دقيق الإحساس، رحب الصدر، عفيف النظر واللسان، كريم جواد، عاشق محروم، يتألّم ويشكو.

وشعره يجمع بين الرقّة والشـدّة، وشرف المعاني وسهولة اللفظ، وحسن الانسجام ومتانة التعبير.

____________

1- شرح شواهد المغني 1 / 481 ـ 482.


الصفحة 60
مات عنـدما أغار عـلى بنـي نبهان وهو شـيخ كبير، وكان وِزر بن جابر النبهاني الملّقب بالأسـد الرهيص في فتوّة، فرماه وقال: خذها وأنا ابن سلمى، فرجع إلى أهله مجروح ومات بعدها(1).

(20)


قَوْمِـي هُمُ قَتَلوا أُمَيْـمَ أخيوإذا رَمَيْـتُ يُصِـيبُنـي سَهْمـي

استشهد به في كتابه جامع المقاصد على أنّ معنى القوم: هم الرجال من قبيلة الرجل، حاكياً ذلك عن ابن إدريس..

قال معلّقاً على قول العلاّمة: (والقوم: أهل لغته): أمّا القوم فقد اختلف الأصحاب فيهم:

فقال سلاّر: هم أهل لغته(2).

وقال الشيخان(3)، وابن البرّاج(4)، وابن حمزة: إنّهم الذكور من أهل لغته(5).

وقال ابن إدريس: إنّهم الرجال من قبيلته ممّن يطلق العرف بأنّهم أهله وعشيرته دون مَن سواهم; لأنّه الذي تشهد به اللغة، قال الشاعر:... ـ وذكر البيت ـ.

ثمّ قال: وذكر في كلامه أنّه قد روي أنّ قوم الرجل جماعة أهل لغته

____________

1- شرح شواهد المغني 1 / 482، شرح المعلّقات السبع: 136.

2- المراسم: 198.

3- المقنعة: 655، النهاية: 599.

4- المهذّب 2 / 91.

5- الوسيلة: 371.


الصفحة 61
من الذكور دون الإناث(1). وذلك هو مختار الشيخين وأكثر الأصحاب.

ولا ريب أنّ ما قاله ابن إدريس أقرب وأوفق لكلام أهل اللغة(2).

وهذا الشاهد جزء من قصيدة قالها الحارث بن وَعْلَة، أوّلها:


لِمَنْ الدِيـارُ بِجانِـبِ الرَضْـمِ(3)فمدافع الترتـاعِ فالـرُخْـمِ

والبيت الذي بعد الشاهد هو:


فلَئِنْ عَفَوْتُ لأعْفُوَنْ جَلَلاًولَئِنْ سَطَوْتُ لأُوهِنّنَ عَظْمِي(4)

أي أنّ قومي هم الّذين فجعوني بأخي، فإذا رمتُ الانتصار منهم عاد ذلك بالنكاية على نفسي; لأنّ عزّ الرجل بعشيرته، فإنْ تركت طلب الانتقام صفحت عن أمر عظيم، وإذا انتقمتُ منهم أوهنت عظمي.

والشاعر هو الحارث بن وَعْلَة بن الحارث بن ذهل بن شَيبان الذُهلي، كان سـيّداً شريفاً، ومن ولده الحُصين بن المنذر بن الحارث بن وَعْلَة، صاحب راية ربيعة بصفّين مع الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وله يقول (عليه السلام):


لِمَنْ رايَةٌ سَوْداءُ يَخْفقُ ظِلُّهاإذا قِيلَ قَدِّمْها حُصَيْنُ تَقَدَّما(5)

ومن الأبيات الشعرية التي يستشهد بها في أنّ كلمة القوم تشمل الرجال دون النساء من القبيلة، هو قول زهير بن أبي سلمى يهجو حِصن ابن حذيفة الفزاري:


وما أدْري وسَوْفَ إخال أدْريأقَومٌ آلُ حِصْـن أمْ نِساءُ

____________

1- السرائر 3 / 163 ـ 164.

2- جامع المقاصد 10 / 69 ـ 70.

3- الرَضْـم: موضع في ديار بني تميم. شرح شواهد المغني 1 / 364.

4- شرح شواهد المغني 1 / 363 رقم 170.

5- العقد الفريد 3 / 313 ـ 314، شرح شواهد المغني 1 / 363 رقم 170.