والذّهبي أيضاً حكم ببطلان هذه الخرافة، حيث ذكرها في ترجمة الاشناني، وسمّاها طامّة وقدح في الاشناني، حيث نقل كونه دجّالاً وضّاعاً للحديث، وهذه عبارته في الميزان:
«محمّد بن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت أبو بكر البغدادي العنبري، هذا هو الاشناني المذكور، سمع فيما زعم من يحيى بن معين. وأحمد بن حنبل، وطائفة، وعنه ابن السماك وعليّ بن الحسين الجراحي ; قال الدّارقطني: كان دجّالاً ; وقال الخطيب: كان يضع الحديث، فمن أسمج وضعه [ على هشام بن عمار ](1) بإسناد (كالشمس هبط جبرئيل، فقال: إنّ الله يقول: حبيبي إني كسوت حُسن يوسف من نور الكرسي، وحسنك من نور العرش)، ومن طاماته: ثنا يحيى بن معين، ثنا بن إدريس، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، مرفوعاً، (في أعلى عليّين قبّة معلّقة بالقدرة، تخترقها رياح الرّحمة، لها أربعة آلاف باب، كلّما إشتاق أبو بكر إلى الجنّة انفتح منها باب ينظر الى الله)»(2).
وقد ذكر السّيوطي هذا الحديث في اللالئ المصنوعة من الطريقين الذين ذكرهما ابن الجوزي، ونقل عن الخطيب الحكم بوضعهما وبطلانهما، ولكن لم يذكر أصل الفاظ الخطيب التي هي في غاية التشنيع، على مفتري هذا الكذب الفظيع، فكأنّه استحى فأخفى، ثمّ إنّه ذكر بعد ذلك طريقاً آخر لهذا البهتان،
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
(2) ميزان الاعتدال: 6 / 214 (7801)، وانظر لسان الميزان للعسقلاني: 6 / 242 (7657).
«الخطيب، أنا محمّد بن عليّ بن يعقوب المعدل، ثنا أبو بكر محمّد بن الحضر بن زكريا بن أبي حزام المقري، ثنا محمّد بن عبد الله بن ثابت الاشناني، ثنا يحيى بن معين، عن عون بن زيادة، ثنا عبد الله بن إدريس بن يزيد الاودي، أنا شعبة بن الحجّاج، عن عمرو بن مرّة الجملي(1)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، مرفوعاً: (إنّ الله إتخذ لابي بكر في أعلى عليين قبّة من ياقوتة بيضاء معلّقة بالقدرة، تخترقها رياح الرّحمة، للقبّة أربعة آلاف باب كلّما اشتاق أبو بكر الى الله انفتح منها باب ينظر الى الله تعالى)، قال الخطيب: موضوع، صنعه الاشناني.
وقال: أنا الحسن بن الحسين البغالي، أنا أحمد بن نصر بن عبد الله الذارع، ثنا صدقة بن موسى وعبد بن حماد القطيعي، قالا: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، مرفوعاً: (إنّ الله تعالى إتخذ لابي بكر الصدّيق في أعلى عليّين قبّة من ياقوتة بيضاء معلقة بالقدرة، تخترقها رياح الرّحمة، للقبّة أربعة آلاف باب ينظر إلى الله تعالى بلا حجاب)، قال الخطيب: باطل، لا أعلم رواه سوى الذارع عن هذين الرجلين، وهما مجهولان، والحمل على الذارع وهو ممّا صنعت يداه ; قلت: أخرجه الزوزني، ثنا أبو الحسن عليّ بن محمّد الاسواري، ثنا عمر بن أحمد بن سليمان العدوي، حدثني أبو بكر الاشناني، ثنا عبد الرزاق به.
____________
(1) من المصدر [ الجمحي ].
أقول: قد دريت سابقاً من قول الخطيب، إنّ هذا الخبر في نهاية الظهور من البطلان والوضع، وأنّ واضعه عديم الحياء مفرط الوقاحة، حيث لم يبق من إطراح الحشمة والجرأة على الكذب شيئاً، وساعده على الحكم بوضعه ابن الجوزي، والذّهبي أيضاً، فإثبات طريق آخر لذلك الكذب لا يجدي أثراً، ولا يثلج صدراً، ولا ينفع غلّة، ولا يشفي علّة.
ومن هناك ترى صاحب تنزيه الشريعة وتلميذه، لم يلتفتا الى ذلك الطريق الذي ذكره السيوطي، وحكماً على الخبر بالوضع قطعاً، فأورده في مختصر تنزيه الشريعة في الفصل الاوّل من كتاب المناقب، يعني عدّه من الاحاديث التي حكم ابن الجوزي بوضعها ولم يخالف في ذلك الحكم. وهذه عبارته في ختصر تنزيه الشريعة:
«حديث (إنّ الله إتّخذ لابي بكر في أعلى عليّين قبّة من ياقوتة
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 268.
وأنظر! بعين الاعتبار والاستبصار، الى قوله: «وعصى موسى تلقف ما يأفكون»، حيث يشير الى أنّ هذا الواضع المفتري لفضيلة أبي بكر مثل أتباع فرعون، أعني السّحرة الذين جاؤوا بسحر عظيم في معارضة موسى (عليه السلام)، والله تعالى فضحهم وأخزاهم فجعل عصى موسى تلقف ما يأفكون، فكذا هذا المفتري الذي هو من أتباع فرعون هذه الامّة أتى بسحر، هو الافتراء والاختلاق على خاتم النبيّين، لاضلال الناس وتخديع العوام، ولكن الله بعث نقاداً هم المبطلون لكلّ باطل، والمميّزون بين الثمين والعاطل، فأبطلوا أكاذيبهم ودمّروا على إفتراآتهم.
وبالجملة: ظهر من هناك أنّ هذا الخبر موضوع باليقين، ليس في كذبه إرتياب، ولا يجدي تجشم السيوطي في إثبات طريق آخر لهذا الكذب البعيد عن الصّواب، مع أنّ في هذا الطريق محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، وقد نصّ عبد الله بن أحمد بن حنبل على أنّه كذّاب، وقال ابن خراش: إنّه يضع الحديث، وقال
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة: 1 / 343، وفيه بعد ذكر الحديث وقول الخطيب البغدادي وقول ابن الجوزي: ذكر قول السيوطي وقال فيه: قلت: فيه محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كذاب، وقال ابن فراش: يضع الحديث، وقال مطين: عصى موسى تلقف ما يأفكون، وعنه حمزة بن القاسم وعمر بن عمرويه البزاز، وعنهما عليّ بن إبراهيم البغدادي، وعنه عبد الواحد بن محمّد الازدي، لم أقف لهم على حال، والله أعلم.
«محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، أبو جعفر العيسي الكوفي الحافظ، سمع أباه، وابن المديني، وأحمد بن يونس، وخلقاً ; وعنه النجّار والشافعي البزاز والطبراني ; وكان [ عالماً ](1) بصيراً بالحديث والرجال، له تواليف مفيدة ; وثقة صالح جزره ; وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً، وهو على ما وصف لي عبدان لا بأس به، وأمّا عبد الله الرحمن بن أحمد بن حنبل فقال: كذّاب ; وقال ابن خراش: كان يضع الحديث ; وقال ابن مطين: هو عصى موسى تلقف ما يأفكون ; وقال الدارقطني: يقال أنّه أخذ كتاب غير محدث ; وقال البرقاني: لم أزل أسمع يذكرون أنّه مقدوح فيه.
قلت: مات سنة سبع وتسعين ومائتين، عن نيف وثمانين سنة ; قال الخطيب: له تاريخ كبير، وله معرفة وفهم ; وقال أبو نعيم بن عدي: رأيت كلاً منه ومن مطين يحطّ أحدهما على الاخر، قال لي مطين: من أين لقى محمّد بن عثمان بن أبي ليلى؟ فعلمت أنّه يحمل عليه، فقلت [ له ](2): ومتى مات محمّد؟ فقال: سنة أربع وعشرين، فقلت لابني: أكتب هذا، فرأيته قد ندم، فقال: مات بعد هذا بسنتين، ورأيته قد غلط في موت ابن أبي ليلى، ورأيته أنكر على محمّد
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) أثبتناه من المصدر.
قال ابن عقدة: سمعت عبد الله بن أسامة الكلبي وإبراهيم بن إسحاق الصوّاف، وداود بن يحيى يقولون: محمّد بن عثمان كذّاب، وزادنا داود: وقد وضع أشياء على قوم ما حدّثوا بها قط، ثم حكى ابن عقدة نحو هذا عن طائفة في حق محمّد»(1).
ثمّ إنّ في هذا الطريق روح بن عبادة، وهو مقدوح عند ابن مهدي وعفان والقواريري، قال في الميزان في ترجمة:
«قال ابن المديني: لم يزل روح في الحديث مدلساً(2)، قال عليّ: وكان ابن مهدي يطعن على روح وينكر عليه أحاديث ابن أبي ذئب عن الزهري مسائل، فلما قدّمت على معن أخرجها لي، وقال: هي عند بصري لكم سمعها معنا، فأثبت عبد الرحن فأخبرته، فأحسبه قال استحله لي ; قال يعقوب بن شيبة: سمعت [ عن ](3) عفان [ أنّه ](4) لا يرضى أمر روح بن عبادة ; وقال أبو عبيد الاجري: سمعت أبا داود يقول: أكثر ما أنكر القواريري على روح تسعمائة
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 254 (7940)، وانظر الكامل في الضعفاء لابن عدي: 7 / 556 (1782)، تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 253 (1295) وقد نقل قول أحمد وخراش وابن مطين فيه.
(2) في المصدر [ منذ نشأ ] والظاهر حدث تصحيف فيه.
(3) لا يوجد في المصدر.
(4) لا يوجد في المصدر.
وأيضاً فيه أبو صالح: قال ابن الجوزي في الموضوعات في باب في ذكر جماعة من الانبياء والقدماء، في قسّ بن ساعد:
«وأما أبو صالح، فقال ابن عدي: لا أعلم أحداً من المتقدمين رضيه، ولعل أبو إسحاق دلسه [ ببعض أهل العلم ](2)»(3).
وقال السيوطي في اللالئ المصنوعة في كتاب الانبياء والقدماء، بعد ذكر حديث قسّ بن ساعد:
«والمروي عن أبي صالح عن أبي هريرة، موضوع لا أصل له، ومحمّد بن الحجاج كذّاب خبيث، أحاديثه موضوعة، والكلبي كذّاب، وأبو صالح هو مولى اُم هاني واه»(4) إنتهى.
وقال في الميزان: «باذام أبو صالح تابعي، ضعّفه البخاري ; وقال النسائي: باذام ليس بثقة... الخ»(5).
وبالجملة: هذا الطريق الذي ذكره السيوطي ممّا لا يعتنى به، وقد حكم محمّد بن الشوكاني أيضاً على هذا الخبر بالوضع، حيث ذكره في موضوعاته، ونقل عن الخطيب أنّه موضوع، ولم يلتفت الى ماذكره السيوطي أصلاً، فقال في
____________
(1) ميزان الاعتدال: 3 / 87 (2805).
(2) أثبتناه من المصدر.
(3) الموضوعات: 1 / 153، وانظر الكامل لابن عدي: 2 / 255 (300).
(4) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 167.
(5) ميزان الاعتدال: 2 / 3 (1123)، وانظر الضعفاء الصغير للبخاري: 27 (43)، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 61 (74)، المجروحين لابن حبّان: 1 / 185، تقريب التهذيب للعسقلاني: 1 / 102 (717).
«حديث (إنّ الله إتّخذ لابي بكر في أعلا عليّين قبّة من ياقوتة بيضاء، معلّقة بالقدرة) رواه الخطيب عن البراء مرفوعاً، وقال: موضوع»(1).
فظهر ممّا بينّا أن هذا الخبر موضوع، عند الخطيب، وابن الجوزي، والذّهبي، وعليّ بن محمّد بن العراق، والشيخ (رحمه الله)، والقاضي محمّد بن الشوكاني، فقد إتّفق سابقوهم ولاحقوهم ومتأخّروهم على كذبه ووضعه، فتأمّل في وقاحة الزوزني ومحاميه السيوطي، كيف لم يحتفلا بما فيه من الرّكاكة والفظاعة، وأورداه ساكتين عليه راضين به غير منكرين له.
____________
(1) الفوائد المجموعة للشوكاني: 332.
الفصل السادس
[ في سلام الله لابي بكر وسؤاله الرضا ]
ومن جملة هذه الموضوعات التي تصمّ الاذان، وتقطع على واضعيها بالخذلان، ما يذكر أعلامهم الاعيان، ويرونه أبهى من شذور العقبان، ويثبتون به فضل إمامهم المهان، من أنّ جبرئيل (عليه السلام) نزل على الرسول الجليل فقال: (إنّ الله يقرأ على أبي بكر السلام ويسئله هل هو راض عنه في فقره أم ساخط).
ولعمري، إنّ هذا الكذب عن درجة الاعتناء ساقط، وعن مقام الاعتبار هابط، والله تعالى على مفتريه ومصدّقه ساخط، ويعلم أنّه في طريق الضلال والخسران حانط، وعن منزلة الصدق هابط.
قال ولي الله في إزالة الخفاء، في ذيل آية: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ)(1):
«روي عن ابن معمر رضي الله عنهما قال: (كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وعنّده
____________
(1) الحديد آية: 10.
أقول: هذا الرجل بلغ من عماه وتعصّبه الى أن يذكر أمثال هذه الاكاذيب البيّنة الاستحالة، ويستدل بها على فضيلة خليفته وإمامه، ثمّ يفتخر ويباهي بالاستطالة، وهذا الكذب الصريح أهون من أن يذكر في كتاب، فضلاً عن أن يحتج ويستدل به أولوا الالباب، وكلّ عاقل متدين نظر فيه بعين الامعان، ظهر عليه أنّه من أعظم البهتان، ولكن هذا الرجل رفع نقاب الحياء عن وجهه، ولم يبال بما يأتي فحشّى كتابه بكلّ غثّ وملاه بكل رثّ.
وليت شعري! كيف يجترءون على رواية مثل هذاالكذب الفضيح، ويعدّونه من أعظم المديح، ولكنّهم بحذوهم على ذلك فضل أضاعوه، وشيطان أطاعوه، ودين باعوه، وهراء راعوه.
سبحان الله!، كيف إحتاج الخبير البصير إلى الاستفسار والاستكشاف، عن أبي بكر حال رضاه وسخطه، مع أنّه عالم بالضمائر مطّلع على السّرائر.
____________
(1) خلّ الكساء: شدّه بخلال، تخليله: ثقبه ونضده.
(2) إزالة الخفاء للدهلوي: 1 / 182.
وبالجملة: هذا كذب غير نضيج، وإفتراء غير بهيج، فهو (غَيْث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ)(1).
ثمّ إنّ بعض محقّقيهم لمّا رأى في هذا الكذب بعين البصيرة، وعثر على مافيه من الشناعة الكثيرة، صرّح بكذبه وإختلاقه ; قال الذّهبي في الميزان:
«العلاء بن عمرو الحنفي الكوفي، متروك عن أبي إسحاق الفزاري وسفيان الثوري ; قال ابن حبّان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال عبد الله بن عمرو بن أبان: سمعت أنا والعلاء بن عمرو من رجل، حدّثنا عن سعيد بن مسلمة، فسألوا العلاء عنه بحضرتي، فقال: حدّثنا سعيد بن مسلمة.
العقيلي، ثنا مطين، ثنا العلاء بن عمرو، ثنا يحيى بن بريد، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عبّاس، مرفوعاً (أحبّوا العرب لثلاث، لانّي عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنّة عربيّ) هذا موضوع، قال أبو حاتم: هذا كذب.
ابن خزيمة، ثنا عمر بن حفص السيّاريّ، ثنا العلاء بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن آدم، عن ابن عمر، قال: (بيّنما النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
(1) الحديد آية: 20.
فظهر بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، إنّ هذه الخرافة المجعولة كذب وبهتان، بنصّ إمام أئمّتهم الاعيان، أعني الذّهبي الذين يحتجّون بأقواله، ويركنون الى إفاداته، ويعتمدون على تصريحاته، ويفتخرون بتنقيداته، وهذا صاحب الصواعق ومؤلف التحفة قد سمّياه إمام أهل الحديث، واحتجّا بقوله الباطل، المخالف لتنصيصات المحقّقين، وتصريح نفسه في تكذيب حديث الطّير.
فالعجب! كلّ العجب بين جمادي ورجب، من هذا الجزيل المحكّك، والغديق المرجّب، والمحدّث المهذّب، كيف وَهَل في حبّ شيخه وإمامه، بحيث طفق يذكر مثل هذا الموضوع الباطل، الذي كذّبه إمام أهل حديثه، مع أنّه يشنع على أهل الحقّ بتشنيعات عظيمة النطاق، طويلة الرواق، مرّة المذاق، منكرة السياق، لاستدلالهم بأحاديث قدحت السنّيّة فيها، مع أنّه لا يخفى على ذي لبّ أنّ هذه الاحاديث وإنْ كانت مقدوحة عند بعض السنّيّة المتعصّبين، لكن لمّا رواها ثقات أعلامهم بغير قدح وجرح، وتأيّدت بأحاديثنا المتظافرة المتواترة
____________
(1) ميزان الاعتدال: 5 / 127 (5743)، وأنظر المجروحين لابن حبّان: 2 / 185، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 375.
ثمّ ومع ذلك إستدلّ هذا الرجل بهذا الباطل، الذي كذّبه الذّهبي، وصرّح السيوطي وابن حجر بضعف سنده جدّاً، ورأى ابن كثير الاعراض عنه أولى كما ستقف عليه، ودلّ دليل العقل على وضعه وكذبه، فقد صدق عليه المثل السائر [ خود فضيحت ديگران را نصيحت ](1).
مع أنّ الفرق ظاهر بين تمسّكنا وتمسّكه من وجوه:
أمّا أوّلاً: فإنّنا نستدلّ بما روته السنّيّة لا برواياتنا، وهذا الرجل إستدلّ بحديث أهل نحلّته لا بما روته الشيعة.
وأمّا ثانياً: فإنّ هذا الحديث مقدوح عند إمام أئمّته وشيخ شيوخه، والاحاديث التي نحن نستدلّ بها وردّها هو لم يقدح فيها منّا قادح، ولم يجرح فيها منّا جارح، ولو كان من أداني العلماء، فضلاً من أكابرهم وأعاظمهم وأئمّتهم.
وأمّا ثالثاً: فإنّ نبذاً من الاحاديث التي ردّها وكذّبها، لها شواهد ومتابعات تقتضي صحّته وثبوته، ونبذ منها قد أعتمد عليه جمع من السنّيّة، وصحّحته ووثّقت رواته، وهذا الكذب البارد ليس من هذا القبيل أصلاً، [ فانظر الى وسعة هذا التفاوت ](2).
____________
(1) كقولهم: طبيب يداوي الناس وهو عليل.
(2) في المتن [ ببن تفاوت ره از كجا تا كجا ].
ومن البدائع! أنّ السيوطي أيضاً ذكر هذا البهتان من غير ردّ وإبطال، في كتابه جمع الجوامع، مع مافي حقه بعض المنامات الدّالّة على قبول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاه، وأفتخر به وأبتهج كثيراً، كما في مفتاح كنز الدراية(3).
قال في جامع الاحاديث، مسند عبد الله بن عمر: «(بَيْنَا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)جالس، وعنده أبو بكر الصدّيق عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال، إذ نزل عليه جبرئيل (عليه السلام)فأقرأه من الله السلام، وقال له: يا رسول الله، مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال؟ فقال: يا جبرئيل، أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال: فأقرئه من الله السلام، وقل له: يقول لك رَبّك: أراض أنت عنّي في فقرك أم ساخط؟ فبكى أبو بكر وقال: على ربي أغضب! أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض) أبو نعيم في فضائل الصحابة»(4) إنتهى.
فهذا عالمهم النحرير، ومنقدهم الشهير، لهج بهذه الاكاذيب الذميمة، وعدّها من الاحاديث النبويّة الكريمة، فيالله! وللمسلمين من تلك المصيبة
____________
(1) قرة العينين في تفضيل الشيخين ألفه الدهلوي بالفارسيّة وطبع في الهند.
(2) في المتن [ ذلك ].
(3) ذكرت قصة المنام في أول كتاب الجامع في ترجمة حياة السيوطي فانظر جامع الاحاديث: 1 / 12.
(4) جامع الاحاديث للسيوطي: 20 / 356 (17147)، وانظر حلية الاولياء لابي نعيم: 7/105.
وأتعجّب! من شدّة غفول السيوطي وعظمة ذهوله، إنّه نقل في كتاب جمع الجوامع عن أئمته وأعلامه، حديثين صريحين في أنّ أبا بكر اعترف بأنّ الله لم يقرأه السلام، وجعل إقراء الله السلام لعمر دليلاً على أفضليّته وخيرته منه.
ففي جامع الاحاديث:
«قال عباس الرقفي في جزئه: حدّثنا عثمان بن سعيد الحمصي، حدّثنا محمّد بن المهاجر، عن أبي سعيد خادم الحسن، عن الحسن (رضي الله عنه)قال: (جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) فقال: من خير الناس؟ قال: ذاك أبو بكر بعد نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ أتى أبا بكر بعد فقال: يا أبا بكر من خير الناس؟ قال: ذاك عمر بن الخطّاب بعد نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وأنى علمت ذلك؟ قال: لانّ الله باهى بعمر بن الخطّاب الملائكة وأقرأه جبرئيل (عليه السلام) السلام مرتين، ولم يكن لي شيء من ذلك) كر وقال: مرسل وقد روي من حديث موصول».
وفيه أيضاً: «ابن عساكر، أنا أبو بكر بن المنصور بن رزيق، أنا أبو بكر الخطيب، أنا أبو بكر عبد الرحمن بن عمر بن القاسم النرسي، أنا أبو بكر محمّد ابن عبد الله الشافعي، أنا الدارقطني، أنا يوسف بن موسى بن عبد الله المروزي، ثنا سهيل بن إبراهيم الجارودي أبو الخطاب، ثنا يحيى بن محمّد الصنعي، ثنا عبد الواحد بن أبي عمرو الاسدي، عن عطاء بن أبي رياح عن ابن عباس (رضي الله عنه)قال: (قام رجل إلى أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا خليفة رسول الله! من خير الناس؟ فقال: عمر بن الخطّاب، قال: ولايّ
وهذا الحديث كما تراه صريح في أنّ أبا بكر عرف بأنّ الله تعالى لم يقرأه
____________
(1) التحريم الاية: 5.
(2) الاحزاب الاية: 53.
(3) البقرة الاية: 125.
(4) في المصدر [ قال خط: كذا كان في الاصل بخطّ قط: الصبغي مضبوطاً ].
(5) جامع الاحاديث للسيوطي: 13 / 62 (212 و 213)، وأنظر كنز العمّال: 13 / 3 (36088)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 44 / 119.
فيا للعجب! كيف يكذب السيوطي أبا بكر، وتفضيحه ونكير سخفه، حتى ينقل هذه الخرافة الصريحة في أنّ الله تعالى أقرأ السلام أبا بكر أيضاً.
وسيجيء فيما بعد حديث آخر صريح في إعتراف أبي بكر بأن الله لم يقرأه السلام فترقّب!
ولكن السيوطي قد أفاق في تاريخ الخلفاء من غشيته، وأنتبه من نعسته، وأنتصب من نكسته، فإنّه وإن عدّ هذا البهتان في هذا الكتاب المهان من فضائل راكب متن العدوان، لكن مع ذلك كبح العنان عن الانصياع في إمامه بالطغيان، وخاف مؤاخذة أهل الاسلام والايقان، فذكر أنّ سنده ضعيف جداً، بل نقل عن ابن كثير أنّه لولا تداول كثير من الناس إيّاه لكان الاعراض عنه أولى، وهذه عبارته في تاريخ الخلفاء:
«أخرج ابن شاهين في السنّة، والبغوي في تفسيره، وابن عساكر، عن ابن عمر، قال: (كنّت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر الصدّيق وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال، فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام)فقال: يا محمّد، مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال؟ فقال: يا جبرئيل أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال: فإنّ ألله يقرأ عليه السلام، ويقول: قل له: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربّي؟ أنا عن ربّي راض [ أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض ](1))، غريب وسنده ضعيف جداً.
____________
(1) أثبتناه من المصدر.
وأخرج الخطيب بسند واه أيضاً، عن ابن عباس، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (هبط عليَّ جبرئيل (عليه السلام) وعليه طنفسة، وهو متخلّل بها، فقلت له: ياجبرئيل، ما هذا؟ قال: إنّ الله أمر الملائكة أن تتخلّل في السماء كتخلّل أبي بكر في الارض)، قال ابن كثير: منكراً جداً، وقال: ولولا أنّ هذا والذي قبله يتداوله كثير من النّاس لكان الاعراض عنهما أولى»(1) إنتهى.
فهذا صريح في أنّ إسناد هذا الخبر المكذوب مقدوح، وإنّ ابن كثير مع كثرة تعصّبه وغلوّه في حبّ أبي بكر أعترف بشناعته وسخافته، حيث قال: إنّ الاعراض عن ذكره لولى تداوله أولى، فالعجب! من السيوطي كيف عدّ مع ذلك هذه الخرافة من فضائل إمامه، ومناقبه ومفاخره.
وأمّا تداول كثير من الناس الذين هم همج رعاع، أتباع كلّ ناعق، وأشياع كلّ ناهق، لهذا الباطل، فلا يغني ولا يسمن من جوع، فإنّ الباطل باطل وإن كثر أهله وناصروه، والحقّ حقّ وإن قلّ ناقلوه وذاكروه.
وابن حجر صاحب الصواعق، أيضاً سلك مسلك السيوطي وحذا حذوه، حيث عدّ هذا الباطل من فضائل أبي بكر، لكنّه قدح فيه بتضعيف السند جداً،
____________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 29، وانظر معالم التنزيل للبغوي: 5 / 309، تاريخ دمشق لابن عساكر: 3 / 71 ـ 73، حلية الاولياء لابي نعيم: 7 / 105، تاريخ بغداد للخطيب: 3 / 60 (1035)، وفيه بعد ذكر الحديث: «ما أبعد الاشناني من التوفيق، تراه ما علم أن حنبلاً لم يروي عن وكيع، ولا أدركه أيضاً، ولست أشك أن هذا الرجل ما كان يعرف من الصنعة شيئاً، وقد سمعت بعض شيوخنا ذكره فقال: كان يضع الحديث...».
«في فضائل أبي بكر: الحديث الخامس والستّون: أخرج البغوي وابن عساكر، عن ابن عمر، قال: (كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر الصدّيق وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال، فنزل عليه جبرئيل، فقال: يامحمّد، مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال؟ فقال: يا جبرئيل، أنفق ماله عليَّ قبل الفتح، قال: فإنّ الله يقرأ عليه السلام، ويقول: قل له أراض أنت عنّي في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربّي أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربي راض) وسنده غريب، ضعيف جدّاً.
وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة وابن مسعود مثله، وسندهما ضعيف جداً، وابن عساكر نحوه من حديث ابن عبّاس.
وأخرج الخطيب بسنده، عن ابن عباس، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (هبط جبرئيل (عليه السلام) وعليه طنفسة [ وهو ](1) متخلّل بها، فقلت: يا جبرئيل، ما هذا؟ قال: إنّ الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلّل من السماء لتخلّل أبي بكر في الارض) قال ابن كثير: وهذا منكر جدّاً، ولولا أن هذا والذي قبله يتداوله كثير من الناس لكان الاعراض عنهما أولى»(2) إنتهى.
وهذا الباطل الذي نصَّ الذّهبي على كونه كذباً، وضعّفه السيوطي وابن حجر، قد رواه صاحب الصّفوة، وأبو عبد الله محمّد بن مسدي، والحافظ ابن
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) الصواعق المحرقة لابن حجر: 1 / 113 (65).