«في ذكر اختصاصه بمواسات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه وماله، عن ابن عمر، قال: (كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر وعليه عباءة، قد خلّها في صدره بخلال، فنزل جبرئيل، فقال: يا محمّد، مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال، فقال: يا جبرئيل أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال: فإنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليه السلام، ويقول لك: قل له: أراض أنت عنّي في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربي، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض) أخرجه الحافظ ابن عبيد، وصاحب الصّفوة، والفضائلي»(1).
وأيضاً قال في مناقبه: «ذكر رضاه عن الله وسلام الله عليه: عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أبابكر، هذا جبرئيل يُقرئك من الله السلام، ويقول لك: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فبكى أبو بكر، وقال: أسخط على ربّي، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض) خرّجه الحافظ عليّ بن نعيم البصري»(2) إنتهى.
وذكر الوصابي هذا الكذب أيضاً عن أكابره، حيث قال في الاكتفاء:
«وعن ابن عمر، قال: (كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال، فنزل جبرئيل، فقال: يا محمّد، مالي
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 20 (419)، وانظر صفة الصفوة لابن الجوزي: 1 / 249.
(2) الرياض النضرة للطبري: 2 / 136 (596) وانظر حلية الاولياء لابي نعيم: 7 / 105.
وعنه: (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لابي بكر الصدّيق: يا أبا بكر، هذا جبرئيل يقرئك من الله السلام، ويقول لك: أراض أنت عنّي في فقرك أم ساخط؟ فبكى أبو بكر، وقال: أأسخط على ربّي، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض، أنا عن ربّي راض) أخرجه أبو عبد الله الفضائلي في نزهة الابصار.
وفي رواية أخرى (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: هنيئاً يا أبا بكر، هذا جبرئيل (عليه السلام) يخبرني عن الله تعالى، أنّه يقول: يا أبا بكر، أنت راض عنّي، فخرّ أبو بكر ساجداً، فقال: اللهمّ لك الحمد، أنت هديتني ورزقتني، فلك الحمد كثيراً، حسبيّ حسبيّ قد رضيت) أخرجه ابن سبع في الشفاء»(1).
وقال الشعبي في الكفاية: «والثالث: الرضا عنه، إذ قال (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ)(2) وقال (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(3) وروي عن
____________
(1) الاكتفاء للوصابي مخطوط.
(2) الفتح الاية: 18.
(3) المجادلة الاية: 22.
وبالجملة: ظهر ممّا بينّا أنّه وإنْ روى هذا الخبر جمّ غفير، وجمع كثير من شيوخ السنّيّة وأئمتهم، كابن عبيد، وصاحب الصفوة، والفضائل، والحافظ عليّ ابن نعيم البصري، وأبو نعيم، وابن شاهين، وابن عساكر، وابن سبع، وأقبح الشعبي، وأعجب الطبري، وأثبت بزعمه أعظم فضيلة لابي بكر، وكذا البغوي إستدلّ به وصدّقه وأورده في تفسيره الذي لخص فيه الصحّاح، وكذا صاحب إزالة الخفاء صدّقه وآمن به وتشبّث بذيله،وعدّه السيوطي وابن حجر أيضاً من فضائل أبي بكر، التي يفتخران ويباهيان ويماريان بها ويبطران ويأثران عليها.
لكنّه بحمد الله تعالى موضوع باطل، وبهتان افتراه متروك خاتل، قد نصّ على كذبه إمام أهل حديثهم الذّهبي، عمدة الاماثل، فبيّن أنّ تهالكهم على هذه الخرافة جرم قبيح، وصنيع فضيح، وقدح عملهم وجهدهم في إثبات فضل إمامهم سفيح.
ثمّ إنّك تراهم لم يكتفوا بما أفتروه في سؤال جبرئيل عن عباءة أبي بكر، وتبشيره إيّاه بما بشّر، حتى وضعوا أنّ الله أمر جبرئيل وسائر الملائكة أن يتخلّلوا كتخلّل أبي بكر.
ولعمري إنّ ذلك من عجيب الكذب والهذيان، الذي لا يصغيه إلاّ جهلة
____________
(1) لم نجد المصدر.
وقد نصّ ابن نجدتهم وأبو عذلهم، الذي على يديه يعرف الرائج من المغشوش، ويميّز السليم من المخدوش، أعني ابن الجوزي(1)، على كونه موضوعاً مختلقاً فقال في كتاب الموضوعات:
«الحديث السادس: أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد القزّاز، قال أخبرنا أحمد بن عليّ الحافظ، قال: حدّثني الحسن بن محمّد الخلاّل، قال: حدّثنا أبو بكر بن شاذان، قال: ثنا محمّد بن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت الاشناني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن شعبة، عن الحجّاج، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (هبط عليَّ جبرئيل وعليه طنفسة(2) وهو متخلّل بها، فقلت: ياجبرئيل، ما نفرت إليّ في مثل هذا الزيّ؟ قال: إنّ الله أمر الملائكة أن تخلّل في السّماء كتخلّل أبي بكر في الارض) ـ قال المصنّف ـ هذاممّاعملته يد الاشناني الذي ذكرناه آنفاً، وكان مع كونه يضع الحديث، جاهلاً بالنقل بعيداً عن معرفته، فإنّه لو علم أنّ حنبلاً لم يدرك وكيعاً ولم يرو عنه، ماذكر هذا»(3).
ثمّ إنّ السيوطي وإنْ ذكر هذا الكذب في تاريخ الخلفاء في مدائح إمامه، وأقتصر على نقل ما قال ابن كثير في حقّه، لكنّه قد وافق في اللالئ المصنوعة ابن
____________
(1) انظر مدحه في منهاج السنة لابن تيمية: 1 / 268.
(2) الطنفسة ـ مثلة الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس، واحدة الطنافس للابسط والثياب وكحصير من سعف عرضه ذراع.
(3) الموضوعات: 1 / 223.
«الخطيب، ثنا الحسن بن محمّد الخلاّل، ثنا أبو بكر بن شاذان، ثنا محمّد ابن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت الاشناني، ثناحنبل بن إسحاق بن حنبل، ثنا وكيع، عن شعبة بن الحجّاج، عن مقسم، عن ابن عباس، مرفوعاً: (هبط عليَّ جبرئيل وعليه طنفسة وهو متخلّل بها، فقلت: ياجبرئيل، ما نزلت إليّ في مثل هذا الزيّ؟ قال: إنّ الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلّل في السماء لتخلّل أبي بكر في الارض) موضوع: عمله الاشناني»(1) إنتهى.
وعليّ بن محمّد بن العراق، والشيخ (رحمه الله)، أيضاً حكما على هذاالخبر بالوضع، وصرحا بأنّه ممّا عملت يد الاشناني، ففي مختصر تنزيه الشريعة:
«حديث: (هبط عليّ جبرئيل وعليه طنفسةوهو متخلّل بها، فقلت: ياجبرئيل، ما نزلت إليّ في مثل هذاالزيّ؟ قال: إنّ الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلّل في السماء كتخلّل أبي بكر في الارض) خطّ، وفيه الاشناني وهو ممّا عملت يداه»(2).
وقد نصّ القاضي محمّد بن الشوكاني أيضاً على أنّ الحديث موضوع، فقال في الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة:
«حديث (هبط جبرئيل وعليه طنفسة وهو متخلّل بها، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): ياجبرئيل، ما نزلت إليّ في مثل هذا الزيّ؟ فقال: إنّ الله أمر الملائكة أن تتخلّل في السماء بتخليل أبي بكر في الارض)، رواه
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 268.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 343.
فتأمّل ـ رحمك الله تعالى ـ إلى عصبيّة هؤلاء المعاندين، وخرافة هؤلاء الجاحدين عن الانصاف والدين، كيف مال بهم الهوى وركبهم الغوى، حتى تداول كثير منهم مثل هذا الموضوع المجعول، الذي صرّحت بوضعه نقّادهم وأئمتهم، ولم يخالف أحد من النقاد، وليس له إلاّ سند واه مقدوح مجروح غير حريّ للالتفات والاعتماد.
ولعمري! لو عرض عليهم بعض فضائل عليّ (عليه السلام)، وإن كانت مرويّة عن الائمّة الاطهار وأهل بيت الرسول المختار، بروايات ثقات رجالنا ومعتمدي رواتنا، لم يقبلوها سجير الليالي، وأعرضوا عنها وأشمئزوا، ولم يحتفلوا بها أصلاً، بل حسروا قناعهم لتكذيبها وإبطالها، بل لايلتفتون اليها وإن كانت رواها رجالهم أيضاً، فضلاً عن أن تكون مختصّة برواتنا.
ثم أنظر! إلى خرافة ابن كثير، مع إعترافه بنكارته جداً، وإعترافه بأولويّة الاعراض عنه حقيقة، يرى تداول كثير من الناس إيّاه موجباً لعدم أولويّة الاعراض عنه، على ما تدلّ عليه كلمته «لولا»، مع أنّه لا يخفى على أهل الدين والبصائر، إنّ تداول الناس وإن كانواكثيراً بل أكثر لبعض الاكاذيب والافتراآت لا يوجب الاقبال عليه، والاعتماد والالتفات إليه، بل يظهر بذلك قلّة دينهم، ورقّة يقينهم، وسخافة عقولهم، وعماء بصائرهم، وخبث ضمائرهم، وكثره عنادهم، وعظمة لدادهم، وتقاحمهم في الحرام الممنوع، وإرتكابهم لغير المشروع، حيث رووا مثل ذلك الباطل الموضوع، الذي هو بتصريح النقاد مكذوب مردوع،
____________
(1) الفوائد المجموعة للسيوطي: 332، وفيه تجلّل بدل تخلّل.
____________
(1) الروم الاية: 7.
الفصل السابع
[ في أن دخول الجنّة مشروط بمحبّة أبي بكر ]
ومن سخائفهم التي أبقوا في إفتعالها الورع والصّدق ورائهم ظهريّاً، وجعلوا الاكتراث من عقاب الله نسياً منسياً، ما أفتروا على الله أنّه أثنى وأطرى على أبي بكر عند ولادته، وأقبل مخاطباً على جنّة عدن، حالفاً بعزّته وجلالته، وقال: (لا دخلك إلاّ من يحبّ هذا المولود)، يعنون به إمامهم أبا بكر، المقتحم زماناً طويلاً في الشرك والجحود، وهذا من أسخف الاكذوبات المبائنة للتقوى والصدق، ذاهب إلى أقصى الغايات في الهتك والفسق.
وقد رواه عليّ بن نعيم البصري، والملاّ في سيرته، وزاهر بن طاهر الشحامي(1)، وقد عاب المحبّ الطبري كتابه بإخراجه، ووصم وجزم بتصديقه حبل التقى وصرم، قال في الرياض النضرة، في فضائل أبي بكر، في ذكر ماجاء في الترغيب في محبته:
____________
(1) ذكره زاهر بن طاهر في كتابه (الالهيات) كما ذكر ذلك السيوطي في اللالئ المصنوعة: 1/268.
أقول: إنّي لاقضي العجب! طويلاً، وأتحيّر كثيراً، إنّ المحب الطبري كيف ينقل هذه الاكذوبات مرّة بعد أخرى، ويكسب له خزياً وخسراً، أو ما يعلم أنّ تصديق المكذوبات إثم حرام، ورواية الافتراآت والاعتناء بشأنها يجانب الدين والاسلام، ماللعلم والاقتحام في هذه المقاحم!، وما للفضل والاقدام على هذه العظائم!، ثم يروم أن يثبت بها فضل إمامه وقائده، ويوقع في القلوب الرّغبة في وداد رائده.
وإنّ هذا نفخ في ضرام، وطمع في محال، ولا يثبت الباطل بالزخرفة والاحتيال، ولا يخفى على الناقد البصير والنبيه الخبير، أنّ هذه الرواية كذب بلا إرتياب، وإفتراء بلا شبهة على ربّ الارباب.
ولو حرم الدخول في الجنّة على من لم يحبّ أبا الفصيل، للزمهم الحكم بالخلود في النّار على مثل سعد بن عبادة الجليل، وهذا على سبيل التمثيل، وإلاّ فهناك جمّ غفير وعدد كثير لا يحبّون أبا بكر، بل يبغضونه، ولا يمكن لاهل السنّة الحكم بعدم دخولهم الجنّة، أوّلهم وأفضلهم إمام الانس والجنّة، وهكذا سائر
____________
(1) في المصدر [ كان ].
(2) الرياض النضرة للطبري: 2 / 155 (631)، وسيلة المتعبّدين للملا: 5 / 2 (106) عن أبي هريرة.
وهذا المحبّ الطبري نفسه روى في كتابه هذا الرياض النضرة، في ذكر بيعة أبي بكر وما يتعلّق بها:
«قال أبو عبيد في كتاب الاحداث: بايع أبا بكر جميع الانصار غير سعد ابن عبادة، وقد كانت الانصار أرادت أن تجعل البيعة له، فقال عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير، وكان أوّل من صفق بيد أبي بكر ـ ولعلّه أراد من الانصار توفيقاً بينه وبين حديث ابن عباس في أن أوّل من بايع عمراً ثمّ المهاجرون، ثمّ الانصار ـ إنّه ليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فإن تركتموه فليس تركه بضائركم إنّما هو واحد، فقبل أبو بكر نصيحة بشير ومشورته، فكف عن سعد ; قال: وكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يصوم بصيامهم، وإذا حجّ لم يفضّ بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتى خرج مجاهداً إلى الشام، فمات بحوران في أوّل خلافه عمر، ولم يبايع أحداً ; وهذا لا يقدح فيما تقدّم ذكره من دعوى الاجماع، بل نقول: خلاف الواحد مع ظهور العناد والحميّة الجاهليّة لا يعدّ خلافاً ينتقض به الاجماع، والله أعلم»(1).
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 216.
«إنّ سعد بن عبادة قال في مخاطبة عمر بن الخطّاب: أم والله لو أنّ بي قوّة ما أقوى على النهوض، لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ; أم والله إذاً لالحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه في داره، وترك أياماً ثمّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضّب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل ; وأيمُ الله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم، حتى أعرضكم(1) على الله ربّي وأعلم ما حسابي»(2) إنتهى.
فظهر من هناك أنّ سعد بن عبادة كان يبغض أبا بكر ويشنئه أشدّ البغض والشنان، بحيث ما بايعه مدّة حياته، وكان يرى أبا بكر على الباطل، متقمصاً لقميص الخلافة بالغصب والعدوان، بل ظهر أنّه كان يكفّره، لانّه لم يصلّي بصلاته، والصلاة جائزة عندهم خلف كلّ مسلم ولو كان فاجراً مرتكباً لانواع العصيان، وعدم صيامه بصيامهم أوضح دليل على أنّه كان يفسّقهم ويضلّلهم، وما كان يعتمد عليهم، وما يراهم ثقات عدولاً من عباد الرحمن.
ثمّ إنّ صاحب الرياض قد أعترف بنفسه، إنّ ابن عبادة كان صاحب الحميّة
____________
(1) في المصدر [ أعرض ].
(2) التاريخ الكبير للطبري: 3 / 222.
وإن لم يحصل للناهلين بهذا البيان رواء، ولا للمعتلة قلوبهم شفاء.
فأقول: إنّ هنا الخبر قد حكم عليه شيوخهم الذين هم عندهم حماة الشرع بالكذب والافتراء، والاختلاف والوضع، منهم الخطيب، وابن الجوزي، والذّهبي، والسيوطي، والشيخ عليّ بن محمّد بن العراق، والشيخ (رحمه الله)، والقاضي محمّد بن الشوكاني(1).
فهذا ابن الجوزي شيخهم السناد وناقدهم العماد، الذي يرجعون إلى أقواله، ويحكمون بمقاله، قد ضيّق على المعاندين فسحة المجال، وبرز في مضمار إبطال فضائل إمامه وجال، فكشف الاستار وأبدى العوار، وأبان أنّ هذه الرّواية من موضوعات الكذبة الاشرار، أصلاهم الله بأليم النار، ومنّاهم بما يستحقّونه من الهوان والصّغار ; فقال في كتاب الموضوعات:
«الحديث السابع: أخبرنا عبد الرحمن بن محمّد، قال: ثنا أحمد بن عليّ ابن ثابت، قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي، ثنا أبو عمرو عثمان بن محمّد المقرّي، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن صالح المقرّي، قال: ثنا محمّد بن
____________
(1) انظر تاريخ بغداد للخطيب: 4 / 78 (1719)، والموضوعات لابن الجوزي: 1 / 234، وميزان الاعتدال للذّهبي: 1 / 260 (466)، واللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 269، وتنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 343، والفوائد المجموعة للشوكاني: 332، وكذا صرّح ابن عساكر بتاريخه ببطلان هذا الحديث: 30 / 146.
[ قال المصنّف ]: قلت: وقد أخبرنا به محمّد بن عبد الباقي بن سليمان، قال: أنا الحسن بن عبد الملك بن يوسف، قال: ثنا أبو محمّد الخلال، قال: ثنا أبو بكر بن شاذان، قال: ثنا أبو شاكر مسرة بن عبد الله الخادم [ قال أخبرنا أحمد ابن عصمة، قال: حدثنا ابن راهويه ; قال أبو بكر الخطيب مسرّة ليس بثقة.
قال المصنّف: قد أخبرنا به سعيد بن أحمد ](1) البنا، قال: ثنا أبو نصر الزينبي، قال: أنا محمّد بن عمر بن عليّ بن خلف، قال: أننا محمّد بن السري التمار، قال: ثنا أحمد بن عصمة بن نوح النيسابوري، قال: ثنا إسحاق بن راهويه، فذكره ; والتمّار قد أنكروا عليه شيئاً، ولا صحّة لهذا الحديث»(2).
أقول: لا يخفى أنّ أحمد الهروي الذي وقع في الطريق الاوّل لهذا الحديث، قد أورده الذّهبي في المقدوحين، وصرّح بأنّه روى حديثاً باطلاً حيث قال في الميزان:
«أحمد بن محمّد بن سعيد الهروي، روى بسمرقند حديثاً باطلاً، في
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) الموضوعات: 1 / 234، وانظر تاريخ بغداد: 4 / 78 (1719).
وأمّا محمّد بن السري التمّار، فهو أيضاً مقدوح عند النقاد الاحبار، يروي المناكير والبلايا، والخرافات والخطايا، وقد نصّ الذّهبي على أنّه ليس بشيء، وقد حكم على حديثه بأنّه مخبّط، حيث قال في الميزان:
«محمّد بن السري التمّار، عن غلام الزهري(2)، وجماعة ; يروي المناكير والبلايا، ليس بشيء، ولحق الحسن بن عرفة ; حدّث عنه الدارقطني ومحمّد بن زنبور، يكنى أبا بكر، روى له الدارقطني حديثاً مخبّطاً، فقال: لعلّ هذا الشيخ دخل عليه حديث في حديث»(3).
وأمّا مسرّة الذي وقع في الطريق الثاني، وقال الخطيب في حقّه: إنّه ليس بثقة، فهو واضع كذّاب(4)، وقد صرّح الذّهبي بكونه واضعاً، حيث ذكر بعض موضوعاته، قال في الميزان:
«مسرة بن عبد الله الخادم، عن أبي زرعة ; قال أبو بكر الخطيب: ليس بثقة ; قلت: من موضوعاته عن أبي زرعة، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، ثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، مرفوعاً (في كلّ جمعة مائة ألف عتيق من النار
____________
(1) ميزان الاعتدال: 1 / 282 (548).
(2) في المصدر [ خليل ].
(3) ميزان الاعتدال: 6 / 162 (7584)، وانظر العلل للدارقطني: 4 / 331 (603)، تاريخ بغداد للخطيب: 2 / 365 (872)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي: 3 / 63 (3003)، لسان الميزان للعسقلاني: 6/130 (7450).
(4) انظر تاريخ بغداد للخطيب: 13 / 270 (7228).
ثمّ إنّ مدار هذين الطريقين على أحمد بن عصمة، وهو هالك يفتري الاكاذيب على صاحب الرّسالة والعصمة، وقد نصّ الذّهبي في ترجمته على أنّ هذا الخبر موضوع، وهذا الهالك آفته ـ يعني واضعه ـ قال في الميزان:
«أحمد بن عصمة النيسابوري، عن إسحاق بن راهويه، متّهم هالك، روى خبراً موضوعاً هو آفته.
أخبرنا أحمد بن هبة الله، أنبأنا أبو روح، أنا زاهر، أنا أبو سعيد الكنجرودي، أنا أبو بكر الطرازي، أنا أحمد بن عليك الحافظ، ثنا أحمد بن عصمة بن الفضل، ثنا ابن راهويه، ثنا سفيان، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (لمّا وُلد أبو بكر في تلك الليلة، اطّلع الله على جنّة عدن، فقال: وعزّتي وجلالي لا أدخلك إلاّ من أحبّ هذا المولود)»(2) إنتهى.
فظهر من هناك لا كوضوح النهار، وسطوح لا كاشراق الانوار، أنّ الذّهبي أيضاً يصرّح بأقصى التصريح، على وضع هذا الخبر القبيح، ويرى راويه متهماً هالكاً، وعلى الوضع والافتراء متهالكاً، ولطريق الغواية والضلالة سالكاً، ووجهه باقتراف مثل هذه الجريمة كالحاً حالكاً.
والسيوطي ذكر هذا الخبر في اللالئ المصنوعة، ونقل عن الخطيب أنّه باطل، ثمّ ذكر أنّ التمّار ومسرّة أيضاً روياه لكنّهما ضعيفان، ثمّ قال: أنّهما
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 405 (8463).
(2) ميزان الاعتدال: 1 / 260 (466).
«وقال ـ يعني ابن الجوزي ـ أبو العلاء الواسطي، أنا أبو عمر وعثمان بن محمّد المقري، ثنا أبو بكر أحمد بن صالح بن عمر المقري، ثنا أبو جعفر محمّد ابن محفوظ المخرمي، ثنا أحمد بن محمّد الهروي، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً (لمّا ولد أبو بكر الصدّيق، أقبل الله تعالى على جنّة عدن، فقال: وعزّتي وجلالي لا أدخلك إلاّ من يحبّ هذا المولود) قال الخطيب: باطل وفيه مجاهيل، وتابعه محمّد بن السرّي التمّار ومسرّة بن عبد الله الخادم، عن أحمد بن عصمة بن نوح، عن ابن راهويه، والتمّار ومسرّة ضعيفان ; قلت: وتابعهما أيضاً أحمد بن عليك المطيري الحافظ، عن أحمد بن عصمة به، وأخرجه زاهر بن طاهر الشحامي في الالهيّات.
وقال الخطيب: أنا القاضي أبو العلاء الواسطي، ثنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن سليمان المقري، ثنا محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الاشناني، ثنا هشام ابن عمّار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا محمّد بن عبد الله الشعيثي، ثنا مكحول، عن عوف بن مالك الاشجعي، عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ليلة ولد أبو بكر الصدّيق، تباشرت الملائكة، وأطلع الله الى جنّة عدن، فقال: وعزّتي وجلالي لا أدخلها إلاّ من أحبّ هذا المولود الذي ولد الليلة)،
أقول: لا ريبة في أنّ الله أعلم، وعلمه أعلى وأحكم، ولكن لا شبه في أنّ الارتياب والتشكيك في بطلان هذا الكذب الركيك لم ينشأ إلاّ من عصبيّة، فإنّ المعرفة ببطلان هذه الاكاذيب وهبيّة، وقد بينّا أنّ الطريقين الذين رواهما مسرّة والتمّار مدارهما على أحمد بن عصمة، وهو هالك متّهم بوضع الاخبار، ليس بصالح للوثوق والاعتبار، وصرّح الذّهبي بأنّ هذا الخبر موضوع، وهذا الهالك آفته ـ يعني أنّه وضعه ـ ولم يحجزه عن الكذب والبهت هيبة عقاب الله جلّ جلاله ومخافته، فمتابعة أحمد بن عليك الحافظ عن أحمد بن عصمة به ماذا يفيد، فإنّ كلاًّ من التابع والمتابع عن الصدق والوثوق بعيد، ولذا ترى الذّهبي لم يلتفت إلى رواية أحمد بن عليك الحافظ لهذا الكذب عن أحمد بن عصمة، بل مع تصريحه بأنّ ذلك رواه ابن علّيك عن أحمد، حكم عليه بالوضع.
وأمّا خبر أبي هريرة الذي نقله السيوطي عن الخطيب، فهو أيضاً مثل الاوّل ليس عليه معوّل، فإنّ فيه الاشناني وهو دجّال شيطان كما علمت آنفاً، وأيضاً فيه محمّد بن عبد الله الشعيثي، وهو وإن وثّقه بعضهم، لكن قد قال أبو حاتم: لا يحتجّ به، قال في الميزان:
«محمّد بن عبد الله بن مهاجر الشعيثي النصري الدمشقي، عن خالد بن معدان ومكحول، وعنه الوليد بن مسلم والمقري وحجاج المصيصي، وثقة دُحيم وغيره ; وقال أبو حاتم: لا يحتج به... الخ»(2).
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 268، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 4 / 78 (1719).
(2) ميزان الاعتدال: 6 / 203 (7755)، وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 7 / 204 (1654)، وفيه: قال عبد الرحمن: سألت أبي عن الشعيثي، فقال: ضعيف الحديث، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به.
ومن هناك ترى عليّ بن محمّد بن العراق وتلميذه لم يحتفلا بما ذكره السيوطي، وحكماً على الخبر بالوضع والكذب، وأورده في مختصر تنزيه الشريعة، في الاحاديث التي حكم ابن الجوزي بوضعها ولم يخالف فيه، فجعل ماذكره السيوطي لسقوطه كان لم يكن شيئاً برد من فيه، حيث قال في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء الاربعة، من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث: (لمّا ولد أبو بكر الصدّيق أقبل الله عزّ وجلّ على جنّة عدن، فقال: وعزتي وجلالي لا يدخلك إلاّ من يحبّ هذا المولود ـ يعني أبا بكر ـ) خط، وفيه أحمد الهروي متّهم هالك له خبر موضوع هو آفته، وفيه مجاهيل وضعفاء»(2) إنتهى.
والقاضي محمّد بن الشوكاني أيضاً أفصح عن كذب هذا الخبر وحكم عليه بالوضع، حيث أورده في الموضوعات ونقل عن الخطيب أنّه باطل، قال في الفوائد المجموعة:
«حديث: (لمّا ولد أبو بكر الصدّيق أقبل الله على جنّة عدن، فقال: وعزّتي وجلالي لا أدخلك إلاّ من يحبّ هذا المولود) رواه الخطيب عن
____________
(1) الاعفتُ والالفت: الرجل ألكن الاعسر / لسان.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 243، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 4/78 (1719).
فانظروا! معاشر المسلمين الجانحين عن الباطل الى عصبيّة هؤلاء الاعلام الافاضل، كالمحبّ الطبري، والملاّ صاحب السيرة، وعليّ بن نعيم البصري، وزاهر بن طاهر الشحامي، كيف تهالكوا على تنفيق الباطل الهرج، وترويج الزخرفة والبهتان الابلج، فما احتفلوا بالمؤاخذة والعقاب، وصبوا إلى مثل هذا الكذب المنكر في العقول والالباب، فإذا كان هذا حال هؤلاء الائمّة الاكابر، الذين هم أساطين دينهم وشيوخ فضلائهم، فما تسأل عن حال رواتهم الذين ديدنهم الكذب، والوضع والافتراء، على سيّد الانبياء والائمّة النجباء، والصحابة العظماء وغيرهم من الاكابر والعلماء.
ومن الطريف! محاماة السيوطي لهذا الكذب الشنيع الملفق، والرّكون إلى هذا البهتان المزوّق، أو ما تراه كيف ترك الحياء والحشمة، فسكت عن جرح أحمد بن عصمة، وأوهم بإثبات متابعة إبن عليّك الحافظ لمسرّة والتمّار، ووثّق هذا الكذب الباطل الموضوع، المنكر عند أهل الابصار، ثمّ نقله من طريق آخر مطعون عند الاعلام، ولم يذكر مافيه من العيب والملام.
____________
(1) الفوائد المجموعة للشوكاني: 232.
الفصل الثامن
[ في جعل الله أبا بكر خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ]
ومن إفتراآتهم التي كذبها أبين من فلق الصبح، وبلغت الغاية القصوى من الشناعة والقبح، ما أفتروه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من النصّ الصريح على خلافة أبي الفصيل، ونقلوه على لسان ابن عباس الحبر الجليل.
والعجب! كلّ العجب بين جمادي ورجب، إنّ الخطيب وابن مردويه مع كونهم أئمّة نقاداً، حائزين للمعقول والمنقول، محرزين قصبات السبق على الاعلام الفحول، رووا في مصنّفاتهم هذا الكذب المستقبح في العقول، ثمّ سكتوا عن إبطاله، والاعلام بوضعه على الرسول المقبول صلوات الله وسلامه عليه، ماهب دبور وقبول.
قال الوصابي في كتاب الاكتفاء:
«وعنه (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله تعالى جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووصيّه، فأستمعوا له وأطيعوه ترشدون) أخرجه أبو نعيم في فضائل الصحابة.
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس: (ياعمّ