قلت: له طريق آخر: قال أبو العباس اليشكري(1) في فوائده اليشكريات: ثنا الصولي، ثنا أحمد بن الحسن بن أبان المضري بالايلة، ثنا أبو عاصم الضحّاك ابن مخلّد، ثنا زمعة بن صالح، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: (هبط جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقف مليّاً يناجيه، فمرّ أبو بكر الصدّيق، فقال جبرئيل: يا محمّد هذا ابن أبي قحافة، فقال يا جبرئيل وتعرفونه في السماء؟ قال: إي والذي بعثك بالحقّ لهو أشهر في السماء منه في الارض، وإنّ إسمه في السماء لحليم قريش). قال ابن حبّان: أحمد بن الحسن بن أبان كذّاب دجّال يضع الحديث عن الثقات ; وقال ابن عدي: يسرق الحديث ; وقال في الميزان في الاسناد الذي ساقه المؤلّف(2): هو إسناد مظلم.
قال الحافظ ابن حجر في اللسان متعقباً عليه: رجاله معروفون بالثقة، وليس فيه من ينظر في حاله الاّ المعلى، وقد ذكره ابن حبّان في الثقات، فَوَصفه بأنّه سند مظلم مردود ; ونقل النَباتي عن الدارقطني أنّه قال: إسماعيل بن محمّد أبو هارون الجبريني ضعيف، وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، والله
____________
(1) في المصدر [ البشري ].
(2) أي صاحب الموضوعات ابن الجوزي.
أقول: قد ظهر من ذلك أنّ راوي الطريق الذي أورده ابن الجوزي مقدوح بلا ريب، فإنّه يسرق الحديث ولا يجوز الاحتجاج به، وقد قال ابن طاهر: إنّه كذّاب، وقال الدارقطني: إنّه ضعيف، وقال الحاكم: إنّه يروي أحاديث موضوعة.
وأمّا الطريق الذي أورده السيوطي عن أبي العبّاس اليشكري: فهو أيضاً مقدوح باعتراف السيوطي، حيث نقل أنّ ابن حبّان قال في أحمد بن الحسن بن أبان: إنّه كذّاب دجّال يضع الحديث عن الثقات، وقال ابن عدي: إنّه يسرق الحديث.
أقول: وقد كذّبه الدارقطني أيضاً وقال: إنّه كذّاب(2)، وقال الذّهبي في الميزان:
«أحمد بن الحسن بن أبان المصري الايلي، عن أبي عاصم وغيره ; قال ابن عدي: كان يسرق الحديث ; وقال ابن حبّان: كذّاب دجّال يضع الحديث على الثقات، وقال الدارقطني: حدّثونا عنه وهو كذّاب، وهو من كبار شيوخ الطبراني، ومن بلاياه: عن أبي عاصم، عن شعبة وسفيان، عن سلمة بن كهيل، ابن أبي هريرة بحديث «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 270، وانظر المجروحين لابن حبّان: 1 / 130، 149، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 1 / 424 (40)، ميزان الاعتدال للذهبي: 1 / 408 (936)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني: 138 (83) سؤالات السلمي للدارقطني: 141 (63)، لسان الميزان للعسقلاني: 1 / 668 (1358).
(2) انظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني: 113 (35).
وأمّا كلام العسقلاني في حكم الذّهبي على الاسناد الذي ساقه ابن الجوزي بأنّه مظلم: فمما لا ينفع ولا يجدي، لانّ حكمه هذا على سند الحديث قبل إسماعيل بن محمّد بن يوسف، فلو سلّم أنّ السند قبل إسماعيل غير مظلم، بل منور مثل الشمس الطالعة فماذا يفيد، فإنّ السند بعد وقوع إسماعيل فيه صار مظلماً كالليل الحالك، فإنّه سارق كذّاب هالك.
ورأيت بعد ذلك إنّ القاضي محمّد بن الشوكاني أيضاً ردّ كلام ابن حجر العسقلاني في اللسان، ولم يرتض تعقبه لما في الميزان، حيث قال في الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة:
«حديث: (بينما النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جبرئيل إذ مرّ أبو بكر، فقال: هذا أبو بكر، قال: أتعرفه يا جبرئيل؟ قال: نعم، إنّه لفي السماء أشهر منه في الارض، وإنّ الملائكة لتسمية حليم قريش، وإنّه وزيرك في حياتك وخليفتك بعد موتك) رواه ابن حبّان عن أبي هريرة مرفوعاً ; وفي إسناده إسماعيل بن محمّد بن يوسف كذّاب، وذكر له صاحب اللالئ طريقاً اُخرى فيها وضاع ; وقال الذّهبي: إسناده مظلم، وتعقبه ابن حجر في اللسان بأن رجاله معرفون بالثقة وليس فيهم من ينظر في حاله إلاّ المعلي بن الوليد، وقد ذكره ابن حبّان في الثقات.
قلت: بل في إسناده إسماعيل بن محمّد كما ذكرناه، وقد قال الحاكم: إنّه
____________
(1) ميزان الاعتدال: 1 / 224 (329).
والحاصل إنّ السيوطي إنْ فهم أنّ حكم الذّهبي بالاظلام على سند الحديث مع لحاظ وقوع إسماعيل فيه، يعني أنّه حكم على سند هذا الحديث بعد أخذ إسماعيل داخلاً فيه بالظلمة.
ومع ذلك الفهم كما هو ظاهر كلامه، حيث قال: «قال في الميزان في الاسناد الذي ساقه المؤلّف هو اسناد مظلم» فأطلق ذكر الاسناد ولم يقيّده بحيث يقيّد إخراج إسماعيل منه، ذكر كلام ابن حجر العسقلاني ردّاً ونقضاً له، فهو من أعجب الاشياء وأغربها!.
لانّه قد وقع على ذلك السند إسماعيل بن محمّد، ولا ريبة في ظلمة السند بوقوعه، لانّه بتصريح ابن حبّان يسرق الحديث ولا يجوز الاحتجاج به، وقد قال محمّد بن طاهر إنّه كذّاب كما نقل ابن الجوزي.
ثمّ إنّ كونه ضعيفاً وراوياً للموضوعات وقد نقله السيوطي نفسه كما تراه، فكيف يردّ العسقلاني مع ذلك كلّه وصف هذا السند بالظلمة؟!، فإنّه لوقوع هذا الكذّاب الفاسق صار مظلماً كاللّيل الغاسق.
وإنّ لم يفهم ذلك بل علم أنّه حكم الذّهبي بالاظلام على السند الذي روى إسماعيل الحديث به، لا على السند الذي دخل فيه إسماعيل أيضاً، كما هو صريح كلام الذّهبي الذي نقلناه، حيث وصف السند الذي ساق ابن الجوزي لاسماعيل بالاظلام، لا السند الذي وقع فيه إسماعيل.
فلكلام العسقلاني على ذلك التقدير وجه إنْ صحّ ما إدّعاه، من ثقة الرجال
____________
(1) الفوائد المجموعة للشوكاني: 332.
ثمّ إنّ صاحب تنزيه الشريعة وتلميذه أيضاً حكم على هذا الخبر بالوضع، ففي مختصر تنزيه الشريعة:
«حديث ابن هريرة: (بينما جبرئيل مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ مرّ أبو بكر، فقال: هذا أبو بكر، فقال: أتعرفه يا جبرئيل؟ قال: نعم إنّه لفي السماء أشهر منه في الارض، وإنّ الملائكة لتسميه حكيم قريش، وإنّه وزيرك في حياتك، وخليفتك بعد موتك) حب فيه إسماعيل»(1).
وظهر من إيراد الشيخ (رحمه الله) هذا الخبر في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء، إنّ ابن الجوزي لم يخالف في الحكم بوضع هذا الحديث.
فهذا الخبر المنكر، بل الكذب الاظهر، وإن رواه جمع من شيوخهم، كأبي العبّاس اليشكري في فوائده، والملاّ في سيرته، وعدّه عبد الله بن مسدي من فضائل أبي بكر، وآمن به وأيقن المحبّ الطبري.
لكن ظهر بحمد الله إنّه موضوع عند ابن الجوزي، وعليّ بن محمّد بن العراق، والشيخ (رحمه الله)، والقاضي محمّد بن الشوكاني، ولم يخالف ابن الجوزي أحّد في الحكم بوضعه.
____________
(1) أنظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 344، وفيه بعد ذكر الحديث: (حب) وفيه إسماعيل بن محمّد بن يوسف الجبريني، قال السيوطي: ورواه أيضاً أبو العباس اليشكري في الاوّل في فوائده، وفيه أحمد بن الحسن بن أبان المصري.
الفصل الحادي العاشر
[ في قدوم أبي بكر يوم القيامة على ناقة ]
ومن موضوعاتهم المزيّفة، ومفترياتهم المضعّفة ما أورده صاحب الاكتفاء:
(يأتي أبو بكر يوم القيامة على فرس من الزعفران ممزوج بماء الزعفران، عليه حلّتان من نور، بيده لواء أخضر مكتوب عليه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فتقول الملائكة: هذا ملك مقرب أو نبيّ مرسل؟ فيقال: هذا أبو بكر الصدّيق).
وأورده ابن الجوزي في كتاب الموضوعات:
«الحديث العاشر: أنبأنا أحمد بن عليّ بن المجلى، قال أنبأ أبو القاسم عليّ بن أحمد بن البسري، قال: أنبأ أبو أحمد عبد الله بن محمّد بن أبي سلمة الفرضي، قال: ثنا أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي، قال: ثنا إبراهيم بن فهد، قال: ثنا عبد الله بن محمّد الخراساني، وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أنبأ إسماعيل بن مسعدة، قال: أنبأ حمزة بن يوسف، قال: ثنا أبو أحمد بن عدي،
[ قال المصنّف ]: هذا حديث لا يصحّ والمتّهم به إسحاق، قال أبو بكر بن أبي شيبة وموسى بن هارون بن حمّاد: هو كذّاب ; وقال الفلاس: متروك الحديث ; وقال الدارقطني: كذّاب متروك في عداد من يضع الحديث، وقال ابن حبّان: كان يضع على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلاّ على التعجب(1)»(2) إنتهى.
وقال الذّهبي في الميزان:
«إسحاق بن بشر بن مقاتل أبو يعقوب الكاهل الكوفي، عن كامل أبي العلاء وأبي معشر السندي ومالك وكثير بن سليم وحفص القاري وغيرهم، وعنه عمر بن حفص السدوسي وإسحاق بن إبراهيم السجستاني ومحمّد بن عليّ
____________
(1) في المصدر [ إلاّ على جهة التعجب فقط ].
(2) الموضوعات: 1 / 235، وأنظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني: 141 (90) وفيه: كوفي متروك، المجروحين لابن حبّان: 1 / 135.
وفي اللالئ المصنوعة:
«ابن حبّان، ثنا أحمد بن حفص السعدي، ثنا إسحاق بن بشير بن مقاتل، ثنا جعفر بن سعد الكاهلي، ثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: (ذكر أبو بكر عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ومن مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني وآمن بيّ وزوجني إبنته وأنفق ماله وجاهد معي في جيش العسرة، ألا إنّه يأتي يوم القيامة على ناقة من نوق الجنّة، قوائمها من المسك والعنبر، ورجلها من الزمرد الاخضر، وزمامها من اللؤلؤ الرطب، عليه حلّتان خضراوان من سندس وإستبرق، يحاكيني يوم القيامة وأحاكة، فيقال هذا محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا أبو بكر الصدّيق) إسحاق كذّاب يضع»(2).
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث ابن عباس: (ذكر أبو بكر عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ومن
____________
(1) ميزان الاعتدال: 1 / 337 (741)، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 1/555 (172)، أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة كتاب الضعفاء: 2 / 688، الضعفاء والمتروكون للدارقطني: 141 (90)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 214 ونقل قول أبو زرعة فيه.
(2) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 270.
وفي الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة:
«حديث: (ومن مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوجني إبنته وأنفق ماله وجاهد معي في جيش العسرة، ألا إنّه يأتي يوم القيامة على ناقة من نوق الجنّة، قوائمها من المسك والعنبر، ورجلها من الزمرد الاخضر، وزمامها من اللؤلؤ الرطب، عليه حلّتان خضراوان من سندس وإستبرق) رواه ابن عدي عن ابن عباس مرفوعاً، وفي إسناده إسحاق ابن بشر بن مقاتل، وضّاع»(2).
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 344 والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 1/556 (172).
(2) الفوائد المجموعة للشوكاني: 333.
الفصل الثاني عشر
[ في كون أبي بكر بين خليل وحبيب ]
ومن خرافاتهم الموضوعة، وسخافاتهم المصنوعة، التي صمدوا بها المعارضة لفضائل النجم الزاهر، والبدر الفاخر، والسيف الباتر، والغضب الهامر، أعني الامام الحقّ الظاهر مولانا عليّ بن أبي طالب عليه صلوات الله وسلامه، وراموا أن يبطلوا بإلقاء صحتها في الخواطر، مفاخره الزواهر ومناقبه البواهر، ما أختلقوه من جلوس أول الواثبين على وسادة الامامة على كرسيّ يوم القيامة، بين إبراهيم الخليل ومن ختمت به الرسالة، وهذا بين الكذب والاستحالة.
قال في الرياض النضرة، في مناقب أبي بكر:
«ذكر إختصاصه بالكون بين الخليل والحبيب يوم القيامة: عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كان يوم القيامة نصب لابراهيم (عليه السلام)منبر أمام العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لابي بكر كرسيّ فيجلس عليه، وينادي مناد: يالك من صديق بين خليل وحبيب) خرّجه
وفي الاكتفاء للوصابي:
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ينصب لي يوم القيامة منبر عند الصراط، وقد جمع الله الاوّلين والاخرين، ينفذهم البصر ويسمعهم الدّاعي، فأجلس عليه، ثمّ ينصب منبر فيجلس عليه إبراهيم (عليه السلام)، ثمّ ينصب كرسيّ بينهما يجلس عليه أبو بكر الصدّيق، ثمّ يأتي ملك فيقف على أوّل مرقاة من منبري فينادي: معاشر المسلمين من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك خازن النار، إنّ الله أمرني أن أدفع مفاتيح جهنّم إلى محمّد، وإنّ محمّد أمرني أن أدفعها إلى أبي بكر ها اشهدوا ها اشهدوا، ثمّ يقف ملك آخر على ثاني مرقاة من منبري فينادي: معاشر المسلمين من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا رضوان خازن الجنّة، إنّ الله أمرني أن أدفع بمفاتيح الجنّة إلى محمّد، وإنّ محمّد أمرني أن أدفعها إلى أبي بكر ها اشهدوا ها اشهدوا، ثمّ يتجلى الجليل جلّ جلاله فيقول: مرحباً بخليل وحبيب وصدّيق).
(ويقال لابي بكر ادخل الجنّة، فيقول: ربّ أنا ومحبّي فيقول ادخلوا معاً في قبّة صفتها كذا وكذا ومتى اشتهيهم نظري فأنا ربّكم).
(ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ويده اليمنى على أبي بكر
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 74، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 5 / 151 (2584)، وسيلة المتعبدين 5 / 2 (124) عن أبي سعيد الخدري.
وأصل هذا كان في حقّ عليّ (عليه السلام) كما رواه الثقات الاعلام(2)، فقلبته الناصبة اللئام بالتحريف والتغيير الى إمامهم، تضليلاً للعوام وتعميماً على الطغام الاقزام.
والعجب! إنّ صاحب الرياض نفسه روى هذه الفضيلة في حقّ عليّ (عليه السلام)، ثمّ صدّقها في أبي بكر، قال في الرياض في فضائل عليّ (عليه السلام):
«ذكر قصره وقبته في الجنّة ; عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله إتّخذني خليلاً [ كما إتّخذ إبراهيم خليلاً ](3) وإن قصري في الجنّة وقصر إبراهيم في الجنّة متقابلان، وقصر عليّ بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم، فياله من حبيب بين خليلين) أخرجه أبو الخير الحاكمي»(4)إنتهى.
فظهر ولاح كسفر الصباح، إنّ هذه الفضيلة كانت في الاصل لباب مدينة العلم، المتصدّر على جميع الصحابة في القضاء والحكم، سيف الله المسلول، وزوج البتول، ووصيّ الرسول عليه صلوات الله وسلامه وأفضاله واكرامه، فشقّ
____________
(1) الاكتفاء للوصابي مخطوط.
(2) أنظر مفتاح النجاة في مناقب آل العباء مخطوط، ونظم درر السمطين لجمال الدين الحنفي: 113، وأرجح المطالب 46 و 662 ط لاهور، والجويني في فرائد السمطين: 1 / 102 عن حذيفة، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمّال: 4 / 644، وقد ذكر السيّد المرعشي في كتاب إحقاق الحقّ وملحقاته مصادر الحديث من أهل السنّة 7: 313.
(3) اثبتناه من المصدر.
(4) الرياض النضرة للطبري: 2 / 279.
ثمّ إنّه قد إنفتق عليهم الرّتق، وتبيّن الكذب من الصّدق، ووضح الحقّ من الباطل، وتميّز الثمين من العاطل، حيث انتدب ابن الجوزي لتوهين هذا الكذب الصّريح، وإفتعال هذا الباطل القبيح، فكشف أسرارهم، وهتك أستارهم، وأبدى إعوارهم، فأدخله في الموضوعات المستبشعة والمختلقات المستشنعة، قال في كتاب الموضوعات في فضائل أبي بكر:
«الحديث الحادي عشر: أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر ابن ثابت، قال: أخبرنا محمّد بن عمر بن بكير، قال: حدّثني أبو عبد الله أحمد ابن محمّد بن إبراهيم الضرير، قال: حدّثنا أبو عمر محمّد بن أحمد الحليمي، وذكر أنّه من أولاد حليمة السعديّة، قال: حدّثنا آدم بن أبي إياس، عن أبي ذئب، عن معن بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كان يوم القيامة نصب لابراهيم منبر أمام العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لابي بكر كرسيّ فيجلس عليه، فينادي مناد: يالك من صدّيق بين خليل وحبيب) [ قال المصنّف ]: هذا لايصحّ وأبو عبد الله الضرير قدم بغداد ومعه كتب طريّة غير أصول، وكان مكفوفاً فلعلّه أدخل هذا في
فظهر بحمد الله، إنّ حديث نصب كرسيّ للخالفة الغاصب من إفتراآت النواصب، حيث حسدوا على عليّ بن أبي طالب جلائل المناصب، فجهدوا في تحريف تلك المناقب، فنصبوا بوضع حديث نصب الكرسيّ على مناصبتهم علائم، وجلسوا بإفتعال جلوس الخالفة على ذلك الكرسيّ على كرسيّ المآثم، ونادوا بوضع حديث المناداة على أنفسهم بالمعاداة.
ثمّ إنّه لم يتفرّد ابن الجوزي بإبطال هذا الحديث الخبيث وردّه وتقبيحه، بل وافقه الناقد الحرّيت الذّهبي أيضاً وقال: إنّ الحليمي روى عن أبي إياس أحاديث منكرة باطلة، ونقل عن ابن ماكولا أنّه قال: الحمل في هذه الاحاديث على الحليمي، يعني أنّه وضعها وافتراها، ثمّ عدّ هذا الحديث من الاحاديث المنكرة الباطلة، حيث قال في الميزان:
«محمّد بن أحمد الحليمي من ولد حليمة السعديّة، روى عن آدم بن أبي إياس أحاديث منكرة بل باطلة ; قال أبو نصر بن ماكولا الحمل عليه فيها ; الحليمي، ثنا آدم، حدّثنا ابن أبي ذئب، عن معن بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن معاذ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (إذا كان يوم القيامة نُصب لابراهيم ولي منبران أمام العرش، ونصب لابي بكر كرسيّ فيجلس عليه، فينادي مناد: يالك من صدّيق بين خليل وحبيب)»(2).
فهذا كما تراه صريح في أنّ هذا الحديث منكر باطل، وإنّ الحليمي هو
____________
(1) الموضوعات: 1 / 226.
(2) ميزان الاعتدال: 6 / 53 (7188)، وانظر الاكمال لابن ماكولا: 3 / 80.
ثمّ إنّ الذّهبي قدح في أحمد بن إبراهيم الضرير أيضاً، حيث أورده في المجروحين والضعفاء، وحكم ببطلان هذا الخبر في ترجمته، حيث قال: إنّه أتى بخبر باطل، قال في الميزان:
«أحمد بن محمّد بن إبراهيم الضرير، شيخ لابن بكير البغدادي، أتى بحديث باطل»(1).
ثمّ إنّ السيوطي ذكر ما قاله ابن الجوزي، ونقل في حقّ الحليمي ماذكر الذّهبي في الميزان، من أنّ الحليمي روى عن آدم أحاديث منكرة بل باطلة، قال ابن ماكولا الحمل عليه فيها منها هذا الحديث، ونقل عن اللّسان أنّه ذكر فيه عن ابن عساكر أنّه قال في الحليمي منكر الحديث مغفّل، وذكر بعد ذلك كلّه طريقاً آخر لهذا الخبر وسكت عليه، وهذه عبارة اللالئ المصنوعة:
«الخطيب، ثنا محمّد بن عمر بن بكير، ثنا أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن موسى الضرير المقريء، ثنا أبو عمر محمّد بن أحمد الحليمي، ثنا آدم ابن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب، عن معن بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل مرفوعاً: (إذا كان يوم القيامة نصب لابراهيم منبر أمام العرش، ونصب لي منبر أمام العرش، ونصب لابي بكر كرسيّ فيجلس عليه، فينادي مناد: يالك من صدّيق بين خليل وحبيب) لا يصحّ، أبو عبد الله الضرير قدم بغداد ومعه كتب طرية غير أصول وكان مكفوفاً، فلعلّه أدخل هذا في حديثه، والحليمي لا يعرف ; قلت: عرف بالضعف، قال في الميزان: محمّد
____________
(1) ميزان الاعتدال: 1 / 290 (567)، وانظر المغني في الضعفاء للذهبي: 1 / 87 (412).
وقد وجدت له طريقاً آخر، قال أبو العباس الزوزني في شجرة العقل: ثنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن موسى العنبري، ثنا الحسن بن علي بن يونس، ثنا أبي، ثنا أبو داود، ثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن عبد الله بن أوس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزّ وجلّ فينصب لابراهيم الخليل (عليه السلام) منبر ولي منبر ولك يا أبا بكر منبر، فيتجلى الربّ جلّ جلاله مرّة في وجه إبراهيم ضاحكاً، ومرّة في وجهي ضاحكاً، ومرّة في وجهك ضاحكاً، ثمّ قرأ (إنَّ أوْلَى النَّاسِ بإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(1) قال: أبو بكر (رضي الله عنه)، والله أعلم)»(2) إنتهى.
أقول: واضع هذا الطريق الاخر بهذا الكذب والهذر، لم يستحسن لابي بكر الجلوس على الكرسيّ فجعله فارعاً على المنبر، فسوّى بينه وبين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الاطهر، والخليل الافخر صلوات الله وسلامه عليهما، ما طلع قمر وأينع ثمر، ولعلّه رأى أنّ في جلوسه على الكرسيّ وجلوسهما على المنبر غضاً بشأنه وبخساً لفضله الاسفر، فعدل عن ذلك، فأصلح وحرّف وغيّر وأتى بما أعجب العقول وحيّر.
ثمّ إنّه لم يكتف بذلك حتى زاد في الطنبور نغمة، وعلى الشطرنج بغله،
____________
(1) آل عمران الاية 68.
(2) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 271، وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 5 / 151 (2584).
ثمّ من الطّريف! نسبة قراءة آية (إنَّ أوْلى النَّاسِ) الاية، بعد إثبات نصب المنبر لابي بكر وضحك الله جلّ جلاله في وجهه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتفسير (والَّذِينَ آمَنُوا) بأبي بكر، حيث قال بعد (والَّذِينَ آمَنُوا): قال: أبو بكر، فهذا صريح في أنّه فسّر (والَّذِينَ آمَنُوا) بأبي بكر وحده.
مع أنّ السنّة إذا سمعواتفسير (الَّذِينَ آمَنُوا) في آية (إنَّمَا وَلِيُّكُم اللهُ وَرَسُولُه والّذِينَ آمَنُؤا)(1) بعليّ (عليه السلام)، مع كونه مرويّاً من طرقهم المتنوّعة وأسانيدهم المتكثرة، في كتبهم المعتمدة وأسفارهم المعتبرة، وإعتراف محقّقيهم ومفسّريهم وشيوخهم بذلك، أنكروا وشنعوا عليه وإعترضوا، بأنّه كيف يصحّ تفسير صيغة الجمع بعليّ وحده، فإنّ إرادة الواحد مع الجمع غير جائز.
أما ترى! صاحب التحفة وغيره من المتعصّبين المنكرين، والجاحدين الحائدين، مع كونه متأخّراً، ومن شأن المتأخّر الاطلاع على الاغلاط والهفوات التي صدرت من المتقدّمين، وأنكرت عليهم واُخذوا بها، قد تشبّث بهذا الاعتراض، ولم يتنبّه عن نوم الغفلة والاغماض، فقال:
«[ وكلمة الذين من ألفاظ الجمع أو مساوق للالفاظ المجموع، باتّفاق الاماميّة، كما ذكره المرتضى في الذريعة وابن المطهّر في النهاية، ولذا الحمل على الواحد متعذّر... إلى آخر كلامه ]»(2).
____________
(1) المائدة الاية: 55.
(2) تحفة اثنا عشريّة للدهلوي: الباب السابع: 398، وفيه «وكلمة الذين أز ألفاظ عموم يا مساوق ألفاظ عموم اند باتّفاق إماميّة كما ذكره المرتضى في الذريعة وابن المطهر في النهاية پس حمل بر واحد متعذر است..».
مع إنّ في هذا الطريق الذي ذكره الزوزني بعض الكذّابين، ولذا لم يقبل هذا الطريق محقّقوهم وناقدوهم، بل حكموا على الخبر بالوضع من غير ريبة ومرية، منهم عليّ بن محمّد بن العراق، وتلميذه الشيخ (رحمه الله)(1)، والقاضي محمّد بن الشوكاني(2)، وأورده الشيخ (رحمه الله) في مختصر تنزيه الشريعة في الاحاديث الموضوعة التي حكم ابن الجوزي بوضعها ولم يخالف فيه. فظهر من ذلك، إنّ هذا موضوع بلا خلاف من أهل الخلاف.
فالعجب! من الملاّ صاحب السيرة، وصاحب الرياض، كيف عدّا مثل هذا الباطل الموضوع عندهم بغير خلاف، من الفضائل الثابتة لامامهم، وظنّوه من الاحاديث النبويّة.
قال (رحمه الله) ابن عبد الله في مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الاوّل من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث (إذا كان يوم القيامة نصب لابي بكر كرسيّ فيجلس عليه، فينادي مناد: يالك من صدّيق بين خليل وحبيب) (خط) لا يصحّ، وفيه أحمد الضرير له حديث باطل لعلّه هو هذا ; وأخرج الزوزني نحوه، وفيه:
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 345.
(2) الفوائد المجموعة للشوكاني: 333.
فقد دريت من هذا أنّ الطريق الذي ذكره السيوطي من الزوزني في كتاب شجرة العقل غير مجد عند أهل الفضل، والتأييد به والتعقّب لحكم الوضع بعيد من طريقة العقل، فإنّه قد وقع فيه وضّاع كذّاب، وخدّاع مرتاب، والله الهادي في المبدأ والمآب.
وأيضاً ممّا يسقطه عن درجة الاعتبار، إنّ فيه هشام بن حسّان، وقد جرحه شعبة ولم يراع فيه حقّ القرابة، حيث كان له ختناً، ففي الميزان:
«قال ابن عدي، ثنا أحمد بن محمّد بن شبيب، ثنا أحمد بن أسد، ثنا شعيب بن حرب، سمعت شعبة يقول: لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسّان، كان ختني ولم يكن يحفظ ; وقال يحيى بن آدم: ثنا أبو شهاب، قال لي شعبة:
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 345، وفيه بعد ذكر الحديث ونقل إسناد الخطيب: قال السيوطى: بل عرف بالضعف، قال الذّهبي في الميزان: روى عن آدم بن أبي إياس أحاديث منكرة بل باطلة، قال ابن ماكولا الحمل عليه فيها منها هذا الحديث.
قلت: وفي الميزان أيضاً أحمد بن محمّد بن إبراهيم الضرير شيخ لابن بكير البغدادي، اتى بحديث باطل وأظنّه هو هذاوالله أعلم.
وجاء في حديث عبد الله بن أوس بلفظ «إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزّ وجلّ فينصب لابراهيم الخليل منبر ولي منبر ولك يا أبا بكر منبر فيتجلّى الربّ جلّ جلاله مرة في وجه إبراهيم ضاحكاً، ومرّة في وجهي ضاحكاً، ومرّة في وجهك ضاحكاً، ثمّ قرأ (إنّ اولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا) قال أبو بكر، خرجه أبو العباس الزوزني في كتاب شجرة العقل.
قلت فيه: أبو داود وهو سليمان بن عمرو النخعي الكذّاب، كما أفاده بعض أشياخي، وفيه عليّ بن يونس وعنه ابنه الحسن وعنه أحمد بن محمّد بن موسى العنبري لم أعرفهم والله تعالى أعلم.