ولعلّ النسخة التي وقعت إلى السيوطي تصرّف فيها الناسخ، فكتب ترجمة الحديث بما يبعد عنه بفراسخ، وهذا هو الظاهر عند من له قدم في التتبع للنسخ.
ومع ذلك كلّه فليس لنا كبير إهتمام بابطال، إنّ ابن الجوزي فهم من الحديث ما نسب السيوطي اليه، بل غرضنا أنّه حكم بوضع هذا الحديث، سواء فهم منه هذا المعنى أو غيره، وهذا ممّا ليس فيه ريبة وهو كاف.
أمّا الطريق الذي نقله السيوطي عن الزوزني: فلا يخفى على نقّاد الاخبار سقوطه عن درجة الاعتماد والاعتبار، فإنّ فيه داود بن الوازع، وهو ضعيف مقدوح، فلا يبعد عنه الافتراء على الشارع، قال في الميزان:
«داود بن الوازع، عن محمّد بن المنكدر، ضعّفه الازدي وغيره»(1) انتهى. فمتابعة داود لاحمد بن بشير غير مجد عند الناقد البصير.
ثمّ إنّ في هذا الطريق إنقطاع وإرسال، وهو أيضاً من المزيّفات عند أرباب الحديث والرجال، فإنّ القاسم لم يحضر القصّة، ولا روى عمّن شهدها.
وأمّا ما رواه أحمد بن منيع: فهو أيضاً كذب شنيع، وبهتان فظيع، وإن كان فيه متابعة يزيد بن هارون لاحمد، لكن لمّا كان فيه ابن ميمون فهو مثل ما رواه الترمذي مقدوح موهون، فهل تجدي هذه المتابعة في الفرع مع فساد الاصل.
____________
(1) ميزان الاعتدال: 3 / 35 (2655)، وانظر لسان الميزان للعسقلاني: 2 / 32 (3297).
وبالجملة: الحمل في هذا الحديث حقيقة إنّما هو على عيسى بن ميمون، والقدح في أحمد بن بشير لمزيد توهينه، وتهجين صنيع الترمذي، ومن رواه من ذلك الطريق وإعتمد عليه، فلا يصحّ طريق الحديث على طريقتهم، إلاّ بأن تثبت روايته من طريق صحيح ليس فيه ابن ميمون.
وأمّا لو كان طريق فيه بجميع الروايات ثقات، ومع ذلك وقع فيه ابن ميمون، فلا يفيد ذلك أصلاً، وقد دريت أنّ الطريق الذي ليس بمنحصر في ابن ميمون ضعيف ; لوقوع داود بن الوازع فيه، وهذا الطريق منحصر في ابن ميمون ليس فيه متابعة أحد له، فلم يثبت متابعة أحد لابن ميمون على وجه يُعتمد عليه.
وأمّا ثبوت المتابعة لابن بشير فلا يجدي أصلاً، إذا لم يثبت متابعة ثقة لعيسى بن ميمون.
مع أنّه لو سلّمنا ثبوت هذا الحديث برواية ثقاتهم، وتحقّق متابعة ثقة لعيسى بن ميمون برواية الثقات والمعتمدين، وكان جميع رجاله من الابتداء إلى الانتهاء عدولاً ثقاتاً، نقول حينئذ:
لا يخفى! على المتأمّل المتوقد والبصير الذكي، إنّ حكم ابن الجوزي بوضع الحديث كاف واف، وثبوت هذا الكذب من طرق اُخرى لمن نحن بصدده غير مناف، فإنّه إذا ثبت باعتراف ثقة كبير، عظيم الشأن، جليل البرهان، من أهل الخلاف، إنّ ذلك الحديث كذب وزور وبهتان من أرباب الغرور، يستحيل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتكلّم به ويقول، فقد ثبت المراد، وإضمحلّ العناد واللّداد.
ونستدلّ بذلك الحكم الصحيح، على كون أصل الحديث من الكذب
فإنّ سلّمنا إنّ هذا الخبر قد رواه ثقاتهم وأثباتهم، وإنّه ليس بمنحصر في ابن ميمون، بل تابعه آخرون، فغاية الامر أنّ ابن الجوزي لو شاهد ذلك لحكم بالتدسيس والادخال على ثقاته، لا أن يجعل ذلك دليلاً على تصحيحه وإثباته، فإنّه ليس ممن ينكل وينكص عن الحق مخافة محيل يقدح في الابصار، بترويج زيوفه الكاسرة عند النقاد والاحبار، فإنّه لا يحتفل ولا يبالي بشأن عظيم ولا هيبة جليل، بل يبوح بالحقّ والصّدق، ولا يخاف لومة لائم وعذل عاذل، حتى أنّه يرمي كثيراً من عظماء أهل مذهبه وأجلاّء أرباب مشربه بالعظائم، ويعيّرهم ويشنع عليهم بفضائح الجرائم، كما لا يخفى على ناظر كتابه تلبيس إبليس(1)، النافي حجاب الاحتجاب عن وجه التدليس.
فكيف يخاف ابن الجوزي بثقة الرجال في الابانة عن الحق، ويترك قوله وحكمه بتهديد أمثال السيوطي؟!، غاية الامر أنّه لو سامحهم وداهنهم وداراهم،
____________
(1) تلبيس ابليس لابن الجوزي، مطبوع في بيروت دار الكتب العلمية. وقد ذم فيه المؤلف الكثير ممن أبدع البدع ومن تلبس بفنون العلم.
ومن غرائب الاوهام الشنيعة الفظيعة، التي صدرت عن علمائهم الحاوين للمراتب الرفيعة، ما تفوّه به صاحب تنزيه الشريعة عن الاحاديث الموضوعة الشنيعة، من أنّ عيسى بن ميمون من رجال البخاري، ففي مختصر تنزيه الشريعة:
«حديث عائشة: (لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره) عد، وفيه عيسى منكراً ومتهم، وأحمد متروك، تعقّب بأنّه أخرجه الترمذي، وعيسى من رجال البخاري، وأحمد قيل: ثقة، وقيل: ضعيف، فالحديث حسن، وقال الحافظ ابن كثير: إنّ لهذا الحديث شواهد تقتضي صحّته»(1) إنتهى.
وقد دريت سابقاً أنّ ابن ميمون ليس من رجال البخاري، بل البخاري قد قدح فيه ولم يستحل الرواية عنه، فكيف يدّعي ذلك، لكن أحمد بن بشير البتّة من رجال البخاري ـ كما عرفت سابقاً ـ وقد قيل: إنّ أحمد بن بشير هذا الذي روى ذلك الخبر ليس هو ذاك بل هو غيره، فلعلّه التبس عليه الامر، وذكر في حقّه عيسى ماذكره السيوطي في حقّ أحمد(2).
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 372.
(2) الظاهر حدوث تصحيف في نسخة المختصر التي عند المصنف بين عيسى وأحمد بن بشير ففي كتاب تنزيه الشريعة باب مناقب الخلفاء الاربعة الفصل الثاني حديث: (لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره) (عد) من حديث عائشة، وفيه عيسى بن ميمون، قال البخاري منكر الحديث والراوي عنه أحمد بن بشير متروك (تعقب) بان الحديث أخرجه الترمذي من هذا الطريق، وأحمد بن بشير من رجال البخاري والاكثرون... الخ. أو كما قال المصنف من التباس الامر على صاحب المختصر.
الفصل الخامس عشر
[ في كراهية الله لان يخطأ أبو بكر ]
ومن الخطايا الفاحشة، والعظائم الداهشة، والمفتريات المخزية، والمكذوبات المغوية، والاثام المخلقة، والجنايات الموبقة، والمعاصي المردية، والموضوعات الغير المجدية، ما يروون من النصّ على (إنّ الله يكره أن يخطأ أبو بكر)، وهذا خطأ عظيم، وجرم جسيم.
قال ابن حجر في الصواعق المحرقة، بعد ذكر ثبات أبي بكر عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):
«ومن ثمّ كان أسدّ الصحابة رأياً، وأكملهم عقلاً، فقد أخرج تمام وابن عساكر: (أتاني جبرئيل (عليه السلام) فقال: إنّ الله يأمرك أن تستشير أبا بكر)، والطبراني وأبو نعيم وغيرهما: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد أن يسرّح معاذاً إلى اليمن إستشار ناساً من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وأسيد بن حُضير، فتكلّم القوم كلّ إنسان برأيه، فقال: (ما ترى يا
فينبغي للعاقل المتدين أن يتأمّل بعين الاعتبار، وينظر بنظر الاستبصار، في هذا الكذب الفاحش المستهجن عند أهل الابصار، ويلحظ إلى قلّة ورعهم كيف اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً)(2)، لا يخافون الملام، ولا يبالون بتطرّق الطعن إلى الاسلام.
وبالجملة: كذب هذا الحديث المستبشع الغير السديد، لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد ; لانّه من الظاهر المستبين الذي لا يشكّ فيه ذو رأي رزين، إنّ هذا الكذب المجعول، والافتراء المنحول، يدلّ بكمال الظهور والصراحة، على عصمة متقمّص الخلافة، وحفظه من الخطأ في الاقوال والاعمال كافّة، فإنّ كراهة الله تخطئته، لا تتصوّر إلاّ إذا كان معصوماً من الخطأ، لا تصدر عنه زلّة وخطيئة، وإلاّ فلا معنى لكراهيّة تخطئته مع كونه مرتكباً للخطأ راكباً متن عشواء.
وانظر! إلى إختباط ابن حجر، حيث يستحي من التصريح بأنّ هذا دليل على عصمة أبي بكر، ويقول: إنّه دليل على أكمليّة عقله ورأيه وأعلميّته، ولا
____________
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر: 1 / 81، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 30 / 129، المعجم الكبير للطبراني: 20 / 67 (124)، والمعجم الاوسط: 4/564 (3961).
(2) الكهف الاية: 4.
وإذا ثبت أنّ الحديث يدلّ على عصمة أبي بكر!.
فنقول: إنّ إجماع أسلافهم عن بكرة أبيهم قد انعقد على عدم عصمته، وإنّه كان كسائر المجتهدين يصدر عنه الخطأ والصواب، فكيف يصدّقون هذا الكذب الخبيث، المستشنع المردود عند أولي الالباب، ولا يحتفلون بإجماعهم وإعتقادهم ومقالاتهم وتصريحاتهم.
وإنّي لاتعجّب! من هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، ويطلبون الباطل حثيثاً، يثبتون لسائر الانبياء بل لخاتم الانبياء وأشرف الرسل الاصفياء أيضاً خطايا، ويجلبون بذلك عليهم رزايا، ويروون في حقّ شيخهم وخليفتهم أنّ الله يكره تخطئته، فيثبتون صريحاً عصمته وحفظه من الخطأ، وهذا من عجيب الوقاحة، وغريب السخافة.
أو ما ترى! صاحب التحفة ـ دع غيره من المتعصبين السابقين الذين ما كانوا يبالون باظهار شنايع مذاهبهم وقبائتح اعتقاداتهم ـ كيف ألقى جلباب الحياء عن وجهه، وترك الدين والاسلام في حماية خليفته، فطفق يذكر مطاعن سيّد الانبياء وخطاياه، وادّعى نزول العتاب الشديد عليه وآله الصلاة والسلام، وأثبت بزعمه للباطل، مخالفته للحق والوحي بالدلائل وبراهين، وهذه عبارته المعلونة المشؤمة:
«[ لو كانت جميع أقوال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وحياً، فلماذا ورد عتابه في القرآن
____________
(1) التوبة الاية: 43.
(2) النساء الاية: 105 ـ 107.
(3) الانفال الاية: 68.
(4) آل عمران الاية: 159.
(5) الحجرات الاية: 7.
(6) تحفة اثنا عشرية للدهلوي: الباب العاشر، مطاعن عمر: 582 وفيه:
«أگر أقوال آن حضرت تمام وحى منزل من الله مى شد، در قرآن مجيد چرا بر بعضى أقوال آن حضرت عتاب ميفرمودند، حلانكه در جاهاء عتاب شديد نازل شده (عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وقوله تعالى (وَلاَ تَكُن لِلخائِنينَ خَصيماً واستَغْفِرِ اللهَ إنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحيماً وَلا تُجادِل عَنِ الذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ...) إلى آخر الاية، ودر اذن دادن بگرفتن فديه از بندگان بدر اينقدر تشدد چرا واقع مى شد كه (لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ونيز اگر چنين مى شد أمر بقتل قبطى، وخريدن طعام، ومحو رسول الله، وأمر به تهجد همه وحي منزل من الله مى شد، وردّ اين وحى از جناب امير لازم مى آمد، ونيز در اين صورت أمر به مشوره صحابه كه در آيه (شَاورْهُمْ في الامر) وارد است چه معنى داشت، واطاعت در بعض امور صحابه را كه از آية (لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثير مِنَ الاَمْرِ لعَنِتُم) مستفاد مى شود هر چه محمول تواند بود».
ففي الرياض النضرة في فضائل أبي بكر:
«ذكر ما جاء إنّ الله يكره تخطئة أبي بكر: عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الارض)»(2) إنتهى.
فانظر! ـ رحمك الله ـ حائداً عن التعصّب، كيف يتمسّكون في إثبات فضائل إمامهم بهذه الترهات السخيفة التي تمجّها الطباع، والبطلان التي تصمّ الاسماع، ولا يدرون أنّها تخالف إعتقادهم، وإجماع أكابرهم وأصاغرهم، ويكذّبه روايات أوائلهم وأواخرهم، وتنكره العقول والالباب، ويردّه ما أطبقت عليه جميع الاعلام الانجاب.
ولا تظنن أنّ هذه الرواية لمّا ذكرها الطبري ولم يذكر مأخذها، فلعلّها من أفواه العوام، فإنّ هذا مع كونه تسفيهاً وتجميلاً لمثل ذلك الامام، من قصور التتبّع وعدم التفحّص، وإلاّ فقد رواها أساطين شيوخهم، وأعمدة محدّثيهم، كالحارث ابن أبي اسامة في مسنده، والطبراني وابن شاهين، روى السيوطي في الجامع الصغير:
____________
(1) الهَبْت: الحُمق.
(2) الرياض النضرة للطبري: 2 / 67 (485).
وقال الوصابي في كتاب الاكتفاء:
«باب وعن أبي عبد الرحمن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله تعالى يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر في الارض) أخرجه الحارث بن أسد المحاسبي، والطبراني في الكبير، وابن شاهين في السنة»(2).
ولكن ابن الجوزي قد كشف القناع عن وجه التلبيس، وفضح أتباع ابليس، فنادى على كذب هذا الحديث الموضوع وإختلاقه، فقال:
«الحديث الرابع عشر: أخبرنا عبد الاوّل قال: ثنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد الانصاري، قال: أخبرنا إبراهيم المذكي، قال: ثنا محمّد بن يزيد، قال: ثنا إبراهيم بن شريك، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو الحارث الورّاق، عن بكر بن خنيس، عن محمّد بن سعيد، عن عبادة بن ننسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الارض)، [ قال المصنّف ]: هذا الحديث موضوع على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يرويه عن بكر بن خنيس إلاّ أبو الحارث واسمه نصر بن حماد، قال يحيى: هو كذّاب، وقال مسلم بن الحجّاج: ذاهب الحديث، وقال
____________
(1) الجامع الصغير للسيوطي: 1 / 230 (1953)، وانظر بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي: كتاب المناقب: 289 (960)، والمعجم الكبير للطبراني: 20/67 (124).
(2) الاكتفاء للوصابي اليمني: مخطوط.
فأحمد الله تعالى حمداً جميلاً، حيث أنطق بالحقّ والصواب هذا الحبر الذي لا يشقّ غباره، ولا تدرك آثاره، وهداه إلى أن صرّح بأوضح التصريحات على وضع مثل هذا الحديث، الذي أخرجه الكثير من أئمتهم وشيوخهم، واعتمدوا عليه، واحتجّوا واستدلّوا به، وتفاخروا عليه، وأثبتوا في زعمهم بهذا الكذب أعظم فضيلة وأمثل مديحة لخليفتهم وامامهم.
ولا ريبة! في أنّ هذا الحديث لو كان صادقاً ; لكان مثبتاً للفضل الاعم والرجحان الاكبر لابي بكر، فإنّ كراهة الله تعالى تخطئته من عظيم المدائح، وجميل المفاخر، ولكن كفى الله المؤمنين القتال، فلم يحتاجوا إلى تناول القيل والقال، في إثبات الكذب والافتعال، حتى نطق نحريرهم الاوحدي، وإمامهم الالمعي ماهو الحقّ والصواب، والله الهادي في المبدأ والمآب.
فياللعجب! يستدلّ ابن حجر بمثل هذه الرواية السخيفة الركيكة، المقدوحة المجروحة، المطعونة الموهونة، المكذوبة الموضوعة، المفتعلة المصنوعة على فضيلة أبي بكر، ويثبت بها سداد رأيه، وأكمليّة عقله، وزيادة علمه، ولا يدري أنّها مع دلالة مبانيها ومعانيها الركيكة على وضعها وبطلانها، قد كذّبها مثل ابن الجوزي، الذي هو ذو الباع الواسع منهم في تنقيد الروايات، وتمييز الصحاح من الموضوعات، والمصيوغ يداه بالبراعة والفضل من أعلامهم
____________
(1) الموضوعات: 1 / 237 وانظر تاريخ بغداد للخطيب: 13 / 282 (7244) ونقل قول مسلم والنسائي فيه، الضعفاء والمتروكين للدارقطني: 380 (546)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 8 / 470 (2155)، ميزان الاعتدال: 7 / 20 (9036)، تهذيب التهذيب للعسقلاني: 5 / 597 (8350).
فانظر! إلى عصبيّة ابن حجر وعناده، يستدلّ على فضيلة أبي بكر بمثل هذه الموضوعات عن إمام أئمّته في مقابلة الشيعة، ويريد إلزامهم وإفحامهم بها، ويفتخر بين السنّيّة بمثل هذه الخرافات، ثم يقدح في الاحاديث المعتمدة في فضل عليّ (عليه السلام)، وهي ممّا رواه السنيّة أيضاً وأعتمدت عليه ووثقته وحسّنته أو صحّحته.
وأمّا الروايات التي تتفرّد بها الشيعة، ولو لم يقدح فيها أحد من الشيعة بضعف وجرح مّا أيضاً، فضلاً عن أن يرميها أحّد منّا بالوضع والكذب، فيستهزؤون على الاستدلال بها ويسخرون ويضحكون، ويزعمون المستدلّين بها سفهاء حمقاء، وإن كان هذا الاستدلال في مقام التحقيق لا في مقابلة السنّيّة وإلزامهم، فما يكون حال تشنيعهم وسخريتهم واستهزائهم وتغليظهم علينا، لو سلكنا على فرض المحال مثل هذا المسلك، يعني تمسّكنا في إثبات فضيلة عليّ (عليه السلام) بمقابلة السنّيّة لحديث صرّح بكذبه وافتعاله وبطلانه محقّق جليل من علمائنا، يقال له إمام أئمة التحقيق، ويتسدلّ علمائنا بافاداته، وتركن إلى تحقيقاته في مقام التحقيق ومقابلة الخصام.
ثمّ إنّ السيوطي الذّاهل المفتون بحب إمامه المطعون، جرى على ديدنه
____________
(1) انظر كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
«الحارث في مسنده: ثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو الحارث الوراق، عن بكر بن خنيس، عن محمّد بن سعيد، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن ابن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله عزّ وجلّ يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصدّيق في الارض) موضوع، تفرّد به أبو الحارث نصر بن حماد، كذّبه يحيى، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مسلم: ذاهب الحديث، وبكر قال الدارقطني: متروك ; ومحمّد بن سعيد هو المصلوب كذّاب يضع.
قلت: له طريق آخر، قال ابن شاهين في السنة: ثنا إبراهيم بن حمّاد بن إسحاق القاضي، ثنا عبد الكريم بن الهيثم، ثنا مسرف بن عمرو، ثنا أبو يحيى الحماني، عن أبي العطوف جراح بن المنهال، عن أبو ضين بن عطاء، عن عبادة ابن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: لمّا أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يوجّهه إلى اليمن وثمّ أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): تكلّموا، فقال أبو بكر: يا رسول الله لولا أنّك أذنت لنا بالكلام ما كان أن نتكلّم بالكلام معك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي فيما لم يوح إليّ كأحّدكم فتكلّموا، وتكلّم أبو بكر وأمر بالرفق بالناس، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمعاذ: ما ترى؟ فقال: ما قال أبو بكر يا رسول الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله عزّ وجلّ من فوق سمائه يكره أن يخطأ أبو بكر).
أقول: وبالله الاستعانة، واليه الضراعة والاستكانة: إنّ هذا الطريق الذي ذكره السيوطي لتأييد هذا الكذب والزّور، لا يصلح للاعتماد والاعتبار، بل هو مقدوح مدحور، وفيه محن كبيرة، وآفات كثيرة، ورزايا شديدة، وخطايا عظيمة، وظلمات بعضها فوق بعض، فإنّ فيه يحيى بن عبد الحماني، وقد قال أحمد بن حنبل ـ أحد الاركان الاربعة لمذهب السنّيّة ـ إنّه كان يكذب جهاراً، وقال النسائي: إنّه ضعيف، وقال البخاري: إنّ أحمد ويحيى كانا يتكلّمان فيه، وقال ابن نمير أيضاً: إنّه كذّاب ; قال في الميزان:
«يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي الحافظ، روى عن شريك وطبقته ; وثّقه يحيى بن معين وغيره، أمّا أحمد فقال: كان يكذب جهاراً ; وقال النسائي: ضعيف ; وقال البخاري: كان أحمد ويحيى يتكلّمان فيه ; وقال محمّد ابن عبد الله بن نمير: إنّ الحماني كذّاب، وقال مرّة: ثقة»(2) إنتهى.
ولا يخفى! إنّ جمعاً من علمائهم ونقّادهم قد وثّقوا يحيى الحماني، ولكن جرح هؤلاء المذكورين إيّاه يكفي لردّ ما رواه في فضيلة أبي بكر، وإن كان
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 275، وانظر بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي: كتاب المناقب: 289 (960)، تاريخ بغداد للخطيب: 13 / 282 (7244)، المعجم الكبير للطبراني: 20 / 67 (124)، مسند الشامين للطبراني: 3 / 275 (2247).
(2) ميزان الاعتدال: 7 / 198 (9575)، وانظر الضعفاء والمتروكين للنسائي: 248 (656)، التاريخ الكبير للبخاري: 8 / 291 (3037) وقد نقل قول أحمد فيه.
«الوضين بن عطاء الشامي أبو كنانة الكفرسوسي، عن خالد بن معدان ومكحول وعنه بقية، ويحيى بن حمزة وعبد الله بن بكر السهمي وآخرون ; وثّقه أحمد وغيره ; وقال أبو داود: قدري صالح [الحديث ](1)، وقال ابن سعدة ضعيف ; وقال أبو حاتم: يعرف وينكر»(2).
وقال في التقريب: «الوضين ـ بفتح أوّله وكسر المعجمة بعدها تحتانيّة ساكنة ثم نون ـ ابن عطاء بن كنانة أبو عبد الله أو أبو كنانة الخزاعي الدمشقي، صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر، ومن السادسة، مات سنة ست وخمسين، وهو ابن سبعين»(3).
ثمّ الافة كلّ الافة أنّ في هذا الطريق جراح بن المنهال، وهو بلا ريب ولا مرية كاذب فاجر دجّال، وقد انعقد على جرحه وقدحه إجماع أرباب الرجال، قال في الميزان:
«الجراح بن منهال أبو العطوف الجزري، عن الزهري ; قال أحمد: كان
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
(2) ميزان الاعتدال: 7 / 124 (9360)، وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد: 7 / 323 (3906)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 9 / 50 (213).
(3) تقريب التهذيب للعسقلاني: 337 (8342).
ثمّ إنّ ما نقله من الطبراني فهو أيضاً مشتمل على هذه البلايا، فإنّ إسناده من الحماني إلى مقطع السند متحد بإسناد ابن الشاهين، وكذا ما رواه أبو نعيم عن الطبراني.
فالعجب كلّ العجب! من السيوطي، كيف اعتمد على هذا الطريق الذي هو بالتكذيب حقيق، ورواه الفاجر الكاذب، الخمّار الفسيق الخبيث، الذي لا يحلّ الرواية عنه بنصّ البخاري، وحيث قال فيه أنّه منكر الحديث.
وبالجملة: هذا الطريق ما كان صالحاً للاعتماد لو لم يقع فيها إلاّ الحماني أو الوضين، فكيف إذا إجتمعا فيه، وكيف إذا انضمّ إليها هذه البليّة العظيمة والداهية الكبيرة، أعني وقوع هذا الكاذب الفاجر الفاسق الخمّار فيه، وكلّ هذا واضح على المتدبّر النبيه، يا سبحان الله! بمثل تلك الخرافات يتعقّب الحكم بالوضع، وبمثل هذه الهفوات يقابل حكم ابن الجوزي بالمنع.
ومع ذلك كلّه، ففي هذا الطريق الذي هو بالردّ حقيق، من الدليل الواضح، والبرهان الساطع على وضعه وكذبه ما يشفي داء العليل، ويروي رواء الغليل، ينبئ عن حقيقته الباطلة، ورقاعة واضحة، المؤثر لنشيع الشاكلة، فإنّه مع كونه دليلاً على صيانة أبي بكر من الخطأ، صريح في أنّ رسول الله قد اعترف
____________
(1) ميزان الاعتدال: 2 / 115 (1455)، وانظر الضعفاء للبخاري: 163 (103)، وفيه: متروك الحديث، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 73 (105)، الضعفاء والمتروكين للدارقطني: 1763 (150)، المجروحين لابن حبّان: 1 / 218، المغني في الضعفاء للذهبي: 1 / 201 (1105).
فإنّه لو سلّم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في شيء من الاحكام بغير نزول وحي من الملك العلاّم، فليس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأحد من الناس في هذا الحكم، بل عقله المتين ورأيه الشريف أفضل وأعلى، وأحكم وأسنى، وأصوب من كلّ أحد في جميع الامور، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) اُعطي من العقل مالو قسم على الخلق كلّهم صاروا كلّهم عقلاء حكماء، ولم يبق فيهم سفيه، فكيف يصدّق أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر من الامور ـ ولو لم يوح اليه فيه شيء ـ كأحد من الناس!!، العياذ بالله من ذلك.
قال القاضي عياض في الشفا:
«قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، وفي رواية اُخرى، فوجدت في جيعها: إنّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى إنقضائها، من العقل في جنب عقله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ كحبة رمل من بين رمال الدنيا»(2) إنتهى.
فهذا صريح في أنّ عقله الشريف أعلى وأرجح وأفضل من جميع الناس، من إبتداء الخلق إلى إنتهائهم، بل عقله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلى وأرجح بمراتب لا تحصى، بحيث تكون عقول سائر الخلق في جنب عقله كلاشيء، فإنّ عقل سائِر الخلق في وزان عقله الشريف كحبّة رمل من بين رمال الدنيا، وظاهر أنّه لا إعتداد بحبّة
____________
(1) اللّوس: الاكلّ القليل، رجل لَؤوس: تتبع الحلاويات فأكلها.
(2) الشفا للقاضي عياض: 1 / 162.
وأيضاً قال القاضي عياض:
«وقد تواتر بالنقل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من المعرفة بامور الدنيا ودقائق مصالحها، وسياسية فِرَقِ أهلها، ماهو معجز في البشر ; ممّا قد نبهنا عليه في باب معجزاته»(1) إنتهى.
وفي هذا القول أيضاً ما ينبّهك على سخافة هذا الافتراء، والله الموفّق للرشاد والاهتداء.
ثمّ إنّ هذا الطريق صريح في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان محتاجاً إلى مشورة الصحابة، فإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إستشارهم وصرّح بأنّه فيما لم يوح اليه كأحد من الناس، فإذا كان كذلك فليس إستشارته إلاّ لفاقة منه اليها كسائر الناس!!، مع أنّه قد ثبت وتحقق قطعاً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان محتاجاً مفتاقاً إلى مشورة الخلق.
ففي المواهب اللدنيّة:
«أخرج ابن عدي، والبيهقي في شعب الايمان: عن ابن عباس، قال: (لمّا نزلت (وَشَاوِرْهُمْ في الاَمْرِ)(2) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لامّتي)»(3) إنتهى.
وفي الكشاف «عن الحسن وقد علم الله أنّه ما به اليهم حاجة، ولكنّه أراد
____________
(1) الشفا للقاضي عياض: 2 / 419.
(2) آل عمران الاية: 159.
(3) المواهب اللدنية للقسطلاني: 2 / 469، وانظر شعب الايمان للبيهقي: 6 / 76 (7542).
فهذا الحديث النبوي وقول الحسن، صريحان في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غنيّاً عن المشورة، غير محتاج إليها ولا مفتاق، فلا ريبة في كذب هذا الطريق المنادي على فاقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحاجته إلى مشورة الصحابة.
وأيضاً يدل على كذبه ما قال ولي الله في إزالة الخفاء:
«[ كان (صلى الله عليه وآله وسلم) محطّ الانظار في كافّة أنواع العلوم، وكان هو المسؤول عن مصالح الجهاد والهدنة وعقد الجزية، والاحكام الفقهيّة والعلوم الزهدية، حتى العلوم الاسميّة والتجربية المعلومة لهم قبل بعثته عليه أفضل التحية والتسليمات، كانت تحت سطوته المستمدة من مدبر السماوات والارض جلت قدرته، ولم تكن وظيفتهم في كل شيء غير انتظار حكمه الصادق ]»(2) إنتهى.
فهذه العبارة أيضاً كما تراه تكذّب هذه الخرافة وتبطلها، فإنّه قد أعترف هذا الرجل بأنّ الصحابة كانوا ينتظرون حكم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستشيرونه في جميع الامور، وقد كانوا أبطلوا في جنبه آراءهم وآدابهم وأحكامهم وعلومهم ورسومهم، فلم يكن وظيفتهم إلاّ الاستفادة والاستفسار من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
____________
(1) تفسير الكشاف للخوارزمي: 1 / 459، تفسير سورة آل عمران الاية 159.
(2) ازالة الخفاء للدهلوي: 2 / 376، وفيه:
«در زمان آن حضرت در همه أنواع علوم چشم به رجال آن حضرت وگوش بوده اند، هر چه پيش مى آيد از مصالح جهاد وهدنه وعقد جزية وأحكام فقهيّة وعلوم زهديّة همه از آن حضرت استفسار مى نمودند گويا اليوم ازلتكم ما در بظهور آمده اند، چه علوم اسميّه وتجربيه كه پيش از بعثت سيد المرسلين ـ عليه أفضل التحية والتسليمات ـ معلوم ايشان بود همه در سطوه فيوض نازله از آن جناب مدبر السماوات والارض جلّت قدرته گشته در هر باب غير انتظار حكم حضرت مخبر صادق وظيفه ايشان نبود».