ولكنّ الله تعالى أتاح منهم رجالاً فباحوا بالحقّ الحقيق بالتصديق، فحكموا على هذا الكذب بأنّه مجعول بالتحقيق، فمنهم محقّقهم السيوطي عدّ ذلك الكذب من الموضوعات، واستدرك به على ابن الجوزي حيث لم يورده في موضوعاته، ومنهم عليّ بن محمّد بن العراق والشيخ (رحمه الله) أيضاً أورداه في الموضوعات ولم يتعقّبا حكم السيوطي بشيء.
قال السيوطي في كتاب ذيل الموضوعات في كتاب المناقب:
«ابن النجار: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن المظفر بن السبط، أخبرنا أبو العز [ أحمد بن عبد الله بن كادش العكبري، أنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن حمدان الرسي، أنا حمد بن عليّ بن أحمد بن محمّد بن ](1) الرقاء السامري، ثنا أبو الحسن محمّد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى بن المنصور، ثنا أبو عليّ بن سعيد الحراني بالرقة، ثنا هلال بن أحمد العلا، ثنا حجاج بن محمّد، ثنا ابن جريج، عن عطاء، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليلة اُسري بيّ إلى السماء الدنيا نادى مناد: يا محمّد حبّ من أحبّ، فقلت: ومن تحبّ؟ قال: حبّ أبا بكر الصدّيق، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): بخّ بخّ الله يحبّك وأنا أحبّك، ولو أحبّك أهل الارض جميعاً ما عذّبهم الله بالنار).
وقال: كتب إلي أبو عبد الله محمّد بن معمر الاصبهاني: إنّ الحسن بن عبد الملك الخلال أخبره، عن أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن الحسن السمناني، ثنا
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
وفي مختصر تنزيه الشريعة:
«حديث أبي سعيد: أنّه قال: (ليلية أسري بي الى السماء الدنيا نادى منادياً: يا محمّد حبّ من أحبّ، فقلت: ومن تحبّ؟ قال: أبا بكر الصدّيق، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بخ بخ، الله يحبّك وأنا أحبّك، ولو أحبّك أهل الارض جميعاً ما عذّبهم الله بالنار) نجا فيه متروك وغيره»(2).
وبالجملة: هذا الحديث المكذوب يخالف أهل الحقّ وأهل الباطل جميعاً، وارتكب واضعه صنيعاً شنيعاً، وأتى سوءً فظيعاً، فعذّبه الله بالنار، وجزاه جزاء الكذبة الاشرار.
____________
(1) ذيل اللالئ للسيوطي ; كتاب المناقب: 53.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 389، وفيه بعد ذكر الحديث: «نجا واخرجه أيضاً من حديث ابن عباس بسند فيه عمر بن سنان، قال الدارقطني: متروك، قلت: لم يبين علة الاول وفي سنده من لم أعرفهم، وعمر بن سنان هو الملقب صفدي ما أظنه يحتمل هذا، فإني لم أرهم اتهمون بكذب، نعم بعده جماعة لم أعرف حالهم فلعلّ البلاء في أحدهم، والله تعالى أعلم».
الفصل الثاني والعشرون
[ في أنّ لابي بكر برج في الجنّة ]
ومن غريب بهتانهم، الفاشي بعلامات الافتعال والوزر من أعلاه وأوسطه وأسفله، (إنّ لابي بكر في الجنّة برجاً أعلاه نور، وأوسطه نور، وأسفله نور)، وقد ذكر بعضهم مكان النور لفظ الحرير في المواضع الثلاث.
ولعمري، إنّ هذا الكذب، أعلاه زور، وأوسطه زور، وأسفله زور، ومع ذلك فقد ران الشيطان على قلوب جمع منهم فرووا هذا الباطل، وأوردوه في كتبهم ومصنّفاتهم، متبجحين متفاخرين مستبشرين به.
قال في الرياض النضرة في فضائل أبي بكر:
«ذكر وصف برج له في الجنّة: عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لمّا دخلت الجنّة ليلة اُسري بي، نظرت إلى برج أعلاه حرير وأسفله حرير، فقلت لجبرئيل: لمن هذا البرج؟ فقال: هذا لابي بكر) خرّجه في فضائله»(1) انتهى.
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 110 (558)، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 30/158.
«وعن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لمّا دخلت الجنّة ليلة اُسري بي، نظرت إلى برج أعلاه حرير وأسفله حرير، فقلت: يا جبرئيل لمن هذا البرج؟ قال: هذا لابي بكر) أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمّد بن مسدى في فضائل الصديق»(1).
ولكنّ الله تعالى متمم نوره، ومظهر حجّته، وحافظ دينه، وناصر كلمته، أبان بطلان هذا البهتان على لسان أئمّتهم الاعيان: فمنهم السيوطي حكم عليه بالوضع والاختلاق، وجرح راويه الكذّاب الذي ماله من خلاق، فقال في ذيل الموضوعات في كتاب المناقب:
«الديلمي: أخبرنا أبي، أخبرنا الرحبي، أنا محمّد بن عمر بن زنبور، ثنا محمّد بن عليّ الثمار، ثنا نصر بن سعيد، ثنا أبي، ثنا عباد بن صهيب عن سليمان التيمي، عن أنس رفعه: (لمّا اُدخلت الجنّة ليلة أسري بي، نظرت إلى برج أعلاه نور وأوسطه نور وأسفله نور، فقلت لحبيبي جبرئيل: لمن هذا البرج؟ قال: هذا لابي بكر الصدّيق) عباد بن صهيب، قال في المغني: كذّاب هالك»(2).
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الثالث من باب مناقب الخلفاء الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث: (لمّا دخلت الجنّة ليلة اُسري بي، نظرت إلى برج أعلاه
____________
(1) الاكتفاء للوصابي مخطوط.
(2) ذيل اللالئ للسيوطي، كتاب المناقب: 53، وانظر المغني في الضعفاء للذهبي: 1 / 514 (3037).
قال في الميزان: «عباد بن صهيب البصري، أحّد المتروكين، عن هشام بن عروة والاعمش ; قال ابن المديني: ذهب حديثه ; وقال البخاري والنسائي وغيرها: متروك ; وقال ابن حبّان: كان قدريّاً داعية، ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدى في هذه الصناعة شهد لها بالوضع»(2).
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 389.
(2) ميزان الاعتدال: 4 / 28 (4127)، وانظر الضعفاء للبخاري: 79 (228)، الضغفاء والمتروكين للنسائي: 173 (422)، المجروحين لابن حبّان: 2 / 164.
الفصل الثالث والعشرون
[ في جعل أبي بكر في السماء صادقاً وفي الارض صدّيقاً ]
ومن مفترياتهم المكذوبة، ومختلقاتهم المعيوبة، وأكاذيبهم المقضوبة(1)، وأباطيلهم المثلوبة، ما يكذبون على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال ـ عياذاً بالله ـ: (إنّ الله جعل أبا بكر في السماء صادقاً وفي الارض صدّيقاً)(2).
ولعمري، لا يصدّق هذا الباطل المجعول إلاّ من كان فاجراً فسّيقاً.
ومن الطريف! إنّ الواضع ـ خذله الله ـ أودع في هذا البهتان ـ لفرط الرقاعة وشدّة الخسران ـ دليلاً ساطعاً على كونه من صريح الكذب والهذيان ; حيث إفتعل في عجزه، النصّ الصريح على خلافة الراكب متن العدوان، ومع ذلك ترى الديلمي مع إمامته، وجلالته ورياسته، ونباهته وفقاهته، ونبله وفضله، نفض يده عن الورع والدين، فركن إلى هذا الباطل الموضوع باليقين، فأقدم على تخريجه
____________
(1) القضب: القطع، واقتضاب الكلام: ارتجاله، واقتضبت الحديث: تكلّمت به من غير تهيئة او اعداد / لسان.
(2) ذكره الديلمي في مسند الفردوس.
ولكن قد آب إلى الحقّ جمع منهم فحكموا بوضعه، منهم السيوطي أخرجه في ذيل الموضوعات واستدرك على ابن الجوزي، وقدح في بعض رواته، وتابعه على ذلك عليّ بن محمّد بن العراق وتلميذه.
قال السيوطي في ذيل الموضوعات، في كتاب المناقب:
«الديلمي، أخبرنا أبي، أخبرنا أبو الفتح عبد الواحد بن إسماعيل بن قتادة، ثنا أبو بكر بن مردويه، ثنا محمّد بن الحسن بن الفرج، ثنا مسلم بن عيسى بن مسلم، حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل بن عياش، عن شرجبيل بن مسلم، عن أبي أمامة رفعه: (يا أبا أمامة، إنّ الله شرّف أبا بكر فجعله في السماء صادقاً وفي الارض صدّيقاً، فهد لهذه الاُمّة من بعدي) عيسى بن مسلم منكر الحديث، روى عن مالك ما ليس من حديثه»(1).
وفي مختصر تنزيه الشريعة، في الفصل الثالث من باب مناقب الخلفاء، الاربعة من كتاب المناقب والمثالب:
«حديث أبي أمامة: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يا أبا أمامة، إنّ الله شرف أبا بكر فجعله في السماء صادقاً وفي الارض صدّيقاً، فهو خليفة هذه الامّة من بعدي) مي فيه عيسى»(2).
____________
(1) ذيل اللالئ للسيوطي، كتاب المناقب: 53.
(2) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 389.
الفصل الرابع والعشرون
[ في علم أبي بكر بالتوحيد ]
ومن طريف إفتراآتهم على الثاني اثباتاً لفضل الاوّل، مافي الرياض النضرة:
«عن عمر، قال: (كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو وأبو بكر يتكلّمان في علم التوحيد، فأجلس بينهما كأنّي زنجي لا أعلم ما يقولون) خرجه الملاّ في سيرته»(1) إنتهى.
وليت شعري! كيف لم يشعروا بما فيه من الغض من عمر، والطعن والثلب عليه ; حيث جعلوه زنجيّاً أحمق، وسفيهاً أعفك، لا يدري كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كلام أبي بكر أيضاً، مع ما كان عليه ـ بزعمهم الباطل وحسبانهم الفاسد ـ من الفطنة والدهاء، ودقة النظر، وثقوب النظر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة، والاتصاف بالعلوم اللدنيّة، والمواهب الربانيّة.
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 58 (471)، وانظر وسيلة المتعبدين الكتاب الثاني عشر الباب الرابع عشر.
ولو باحت الرافضة بذلك اللفظ في حقّه لما سامحوهم، ولما أغمضوا عنهم، بل أخذوا بتلابيبهم، ونالوا منهم كلّ منال، وضلّلوهم وسفّهوهم، وأخذوا في ذكر الاحاديث والروايات الناصّة على عظمة شأنه، وجلالة مكانه، وغزارة علومه، ورسوخه في المعارف، فنسبوهم إلى الضلال والبدعة، ومخالفة الكتاب والسنّة.
وهذا إن أجملوا، وإلاّ فكفّروهم وقالوا: إنّه من طعن على ابن الخطاب، ونسب إليه شنيعة فهو باغض له، وباغض الصحابة كافر، والطاعن عليهم خاسر، ولكن إذ شاءت أنفسهم فعلوا ما فعلوا، وطعنوا ابن الخطاب أيضاً وثلبوا!.
ثمّ إنّ أئمّتهم الاساطين الناقدين للغثّ من السمين، قد باحوا بالحقّ القمين، ففضحوا المفترين الواضعين، وحكموا على هذه الخرافة بالوضع والافتراء باليقين.
قال الشيخ (رحمه الله) وتلميذ الشيخ عليّ بن محمّد بن العراق في مختصر تنزيه الشريعة:
«حديث عمر: (كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يتكلّم مع أبي بكر وكنت فيهما كالزنجي)، قال ابن سمية: موضوع»(1) إنتهى.
وقال الكجراتي في تذكرة الموضوعات:
«قال عمر: (كان (عليه السلام) يتكلّم مع أبي بكر وكنت بينهما كالزنجي)، قال
____________
(1) انظر تنزيه الشريعة لابن العراق: 1 / 407.
وهو كما قال في الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة:
«قول عمر: (كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يتكلّم مع أبي بكر وكنت أنا بينهما كالزنجي)، قال ابن تيميّة: موضوع»(2).
____________
(1) تذكرة الموضوعات للفتني: 93.
(2) الفوائد المجموعة للشوكاني: 335.
الفصل الخامس والعشرون
[ في علم أبي بكر ونسبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ]
ومن الكذبات التي تعجب الناظرين إعجاباً، وانصبّ إليها مغفّلوهم إنصباباً، ما وضعه الكذبة ـ صبّ الله عليهم سوط عذاب هائل، وأخزاهم في العاجل والاجل ـ من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر)(1).
ولايخفى! على ذي لبّ أريب سخافة هذا الكذب العجيب، ولو إستقصينا دلائل كذبه وبراهين بطلانه، لطال نطاق الكلام، وأفضى إلى الاملال والابرام.
وكيف يوقن عاقل بمساواة علوم أبي بكر لعلوم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)!، مع ما اشتهر من جهالات أبي بكر، وضلالاته وخطاياه، وزلاّته في مقام بعد مقام، وموقف بعد موقف، ورجوعه في الوقائع والحوادث إلى آحاد الصحابة
____________
(1) انظر تفسير غرائب القرآن للنيسابوري: 3 / 471، وقد ذكر محمد فاخر الاله آبادي في رسالته درة التحقيق في نصرة الصديق: انه سمع من بعض الكبراء العارفين يدعي صحته، وسوف يأتي نقل عبارته.
وهذا ممّا يقرّ به أولياءه فضلاً عن أعدائه، ولا حاجة بنافيه إلى الاستقصاء والاطالة، ومن أراد الوقوف على بعض ذلك، فليرجع إلى «تشييد المطاعن» للوالد العلامة(2) ـ أحلّه الله دار السلامة ـ، مع أنّه لو لم يكن هناك إلاّ حديث (أبّاً وكلالة)، لكفى ذلك برهاناً على كذب أهل الضلالة(3)، وتفضيح أهل الجهالة، وتقبيح أرباب البطالة.
على أنّ نقادهم ومهرتهم، قد نصّوا على كذب هذه الخرافة، وإفترائها وسقوطها عن مقام الاعتماد والاعتبار:
أو ما رأيت سابقاً! قد نصّ ابن الجوزي على أنّ هذا الكذب ما زال هو يسمعه من العوام، وإنّه لم ير له أثراً في الصحيح ولا في الموضوع(4)، وذلك يؤذن ويصرّح بأنّ هذه الخرافة أدنى منزلة من موضوعات الكذبة اللئام، وإخلوقات الواضعين الطغام، وإنّها اُخذت من أفواه العوام، ولا يحتفل بروايتها
____________
(1) استكففت الشيء: استوضحته / لسان.
(2) كتاب تشييد المطاعن للسيد محمد قلي الموسوي النيسابوري الهندي والد المؤلف، والكتاب مطبوع طبعة حجرية باللغة الفارسية بجزئين.
(3) أمّا حديث الابّ: فقد سُئل أبا بكر عن قوله تعالى: (وفاكهة وأبّاً) فقال: أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني، وأين أذهب، وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى (تفسير القرطبي 1: 29 والكشاف 2 / 253).
أمّا حديث الكلالة: فقد سُئل أيضاً عن الكلالة فقال: انّي سأقول فيها برأي فان يك صواباً فمن الله وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه... (الطبري في التفسير 6: 30، وابن كثير في تفسيره 1: 246).
(4) انظر الموضوعات: 1 / 237.
وأيضاً سمعت الفيروز آبادي صرّح: بأنّه من المفتريات وأشهر الموضعات التي يعلم بطلانها ببديهة العقل(1).
ودريت من كلام عبد الحقّ أنّه يوجب مساواة أبي بكر بالرسول عليه وآله السلام، وأيّة شناعة أشنع من ذلك(2).
ونصّ على بطلانه وكذبه غير هؤلاء أيضاً:
قال الكجراتي في تذكرة الموضوعات:
«في الخلاصة: (ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر) موضوع»(3).
وفي الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة:
«حديث: (ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر) ذكره صاحب الخلاصة وقال: موضوع»(4) إنتهى.
فهذه نصوص أئمّتهم وتصريحات نحاريرهم، تصرّح بأنّ هذه الخرافة موضوعة مختلقة، في غاية الشناعة ونهاية البطلان.
ومع ذلك كلّه تواقح صاحب التحفة، فبالغ في الرقاعة والقحّة
____________
(1) انظر سفر السعادة للفيروز آبادي: 280.
(2) انظر تحفة اثنا عشرية للدهلوي: 426.
(3) تذكرة الموضوعات للفتني: 93.
(4) الفوائد المجموعة للشوكاني: 335.
«[ ومع هذا لا يفيد مدّعاهم، لعدم الملازمة بين كون الشخص باب مدينة العلم وبين الرئاسة العامّة بلا فصل بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، غاية في ما في الباب تحقّق شرط من شرائط الامامة فيه بوجه أتم، ولا يلزم من وجود شرط واحد وجود المشروط، مع ثبوت ذلك الشرط أو أكثر منه لغيره في روايات أهل السنّة، نحو قوله: (ما صبّ الله شيئاً في صدري الاّ وقد صببته في صدري أبي بكر) وأيضاً (لو كان بعدي نبيّ لكان عمر)، ولو كانت روايات أهل السنّة معتبرة فلابدّ من إعتبارها في كلّ مكان، وإلاّ لا يمكن إلزامهم فإنّهم لا يلزمون برواية واحدة ]»(3) إنتهى.
____________
(1) جَلَعِت المرأة ـ بالكسر جَلَعاً: إذا تركت الحياء وتكلمت بالقبيح، وكذلك الرجل، والاسم الجلاعة / لسان.
(2) فقد ذكره الحاكم في المستدرك وقال: صحيح، والسهمي في تاريخ جرجان، والخطيب البغدادي في تاريخه وذكر له أسانيد كثيرة، وابن المغازلي في المناقب، والنيسابوري في الانساب، وابن أخطب الخوارزمي في المناقب، وابن الاثير في أسد الغابة، والكنجي في كفاية الطالب، والجويني في فرائد السمطين، والذّهبي في تلخيص المستدرك وميزان الاعتدال، والعسقلاني في لسان الميزان وتهذيب التهذيب، والسخاوي في المقاصد الحسنة....
(3) تحفة اثنا عشرية للدهلوي: الباب السابع: 426، وفيه:
«ومع هذا مفيد مدعاهم نيست، زيرا كه اگر شخص باب مدينة العلم شد، چه لازم است كه صاحب رياست عام هم باشد بلا فصل بعد از پيغمبر (صلى الله عليه وآله وسلم) غاية مافي الباب آنكه يك شرط از شرائط امامت در وى بوجه أتم متحقق گشت، از وجدان مشروط لازم نمى آيد با وصف آنكه آن شرط يا زياده از ان شرط در ديگران هم به روايات اهل سنت ثابت شده باشد، مثل (ما صبّ الله شيئاً في صدري إلاّ وقد صبّه في صدر أبي بكر) ومثل (لو كان بعدي نبيّ لكان عمر) اگر روايات اهل سنت را اعتبارى است در هر جا اعتبار بايد كرد، وإلا قصد الزام ايشان نبايد نمود، كه بيك روايت الزام نمى خورند».
وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا أشياء:
أوّلها: إنّ صاحب التحفة في غاية الجهل بالاحاديث، ونهاية البعد عن نقد الروايات، والتمييز بين صحيحها وسقيمها، وتزييل غثّها عن سمينها، ولاحظّ له من التنقيح والتدرب في الحديث، بل هو في بُعد أقصى منه، فإنّ قصارى الجهل والبعد عن النقد أن يصدّق الانسان الاكاذيب والمفتريات، ولا يفرّق بين الاحاديث الصحيحة والموضوعات.
وثانيها: إنّه ارتكب الحرام، حيث صدّق الافتراء على خاتم النبيّين ـ
وثالثها: إنّ هذا الرجل من العوام لا من العلماء الاعلام ـ كما يعتقده معاصرونا المتهتّكون ومن تقدّم عليهم من سنّيّة هذه الجماعة ـ فإنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ هذا الحديث ممّا يتفوّه به العوام، وليس له أثر في الصحيح والموضوع، ومراده ـ كما هو ظاهر ـ إنّ هذا الحديث ليس ممّا يروى باسناد في الكتب، ولا يجري على لسان العلماء، كما هو شأن الاحاديث الموضوعة التي وضعوها ولفّقوا لها أسانيد، وأقحموها في مصنّفاتهم، بل هذا الحديث ممّا يدور على ألسنة العوام ولا ينقلها العلماء الاعلام.
فانظر! إلى عصبيّة صاحب التحفة، كيف قادته إلى أنّ صدّق هذا الخبر الباطل العاميّ، الذي هو أسخف شأناً من الموضوعات، وبلغ من القحّة الى أن عارض به الحديث الصحيح المعتمد، الذي روته الثقات بأسانيد معتبرة، وأخرجوها في أكثر كتبهم ومصنّفاتهم، ورووها في بعض صحاحهم.
ورابعها: إنّه مخالف لبديهة العقل كما هو راد بذلك على النقل، فإنّ الفيروز آبادي صرّح بأنّ هذا الخبر ممّايعلم كذبه ببديهة العقل، وسلّم حكمه هذا الشيخ الدهلوي، فظهر أنّ الرجل بنصّ أئمّته من السوفسطائيّة، الذين ليس لهم عقل حاجز ولا دين زاجر، ويدافعون ويناقضون الثابتات الظواهر، فيصيرون ضحكة لارباب البصائر.
والعجب! أنّه مع ذلك يرمي علماءنا الكرام، وفضلاءنا الفخام، بالسفسطة ومخالفة بديهة العقل، بلى من حفر لاخيه قليباً وقع فيه قريباً.
اللهمّ إلاّ أن يتعذّر ويتنصّل أولياؤه عن ذلك، بقصور باعه وعدم إطلاعه على كتاب ابن الجوزي، وحكمه على هذا الحديث بما حكم، ويقولوا: إنّ ماذكره في حديث مدينة العلم عن ابن الجوزي فهو مأخوذ بل مسروق من كلام صاحب الصواقع ; لا أنّه رأي ذلك في أصل كتاب الموضوعات لابن الجوزي، فإنّه قليل التيسّر، نادر الوجود في هذه الديار ; على أنّ دأبه وديدنه أن ينقل ما نقل صاحب الصواقع، لا أن يتناول أصول كتب الطرفين، ويستخرج منها العبارات والاستدلالات، وإن كانت متيسّرة الحصول، فليس عليه عائبة وجريرة في هذه المناقضة الركيكة، والتهافت الفظيع، وإنّما حمّال هذه الجنايات وركّاب هذه العشوات والموضع في هذه الفلوات هو الكابلي الخادع ـ أعني مصنّف الصواقع ـ.
ولا يخفى عليك! أنّ النيسابوري أيضاً لفرط الرقاعة، وقصور الباع في الصناعة، وفقدان التمييز بين الصحيح والموضوع، احتج بهذا الخبر الباطل في تفسيره، على ثانويّة أبي بكر في العلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ; حيث قال في تفسير
____________
(1) انظر الموضوعات: 1 / 263.
(2) انظر الموضوعات: 1 / 237.
«استدلّ أهل السنّة بالاية على أفضليّة أبي بكر، وغاية إتحاده ونهاية صحته وموافقة باطنه وظاهره، وإلاّ لم يعتمد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه في مثل تلك الحالة، وإنّه كان ثاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار وفي العلم ; لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر)(2)».
وقد ردّ عليه العلاّمة التستري في رسالة كشف العوار بما يحرق صدره وصدر غيره من الاشرار، فقال:
«وأمّا ما ذكره من إنضمام كون أبي بكر ثاني إثنين في العلم، ثمّ الاستدلال عليه بقوله: (ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر) فمن فضول الكلام، ولا تعلّق له بالاستدلال من الاية على أفضليّة أبي بكر ; على أنّ الشيخ خاتم محدّثي الشافعيّة مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس في اللغة، قد ذكر في خاتمة كتابه المشهور الموسوم بسفر السعادة: إنّ هذا الحديث وغيره ممّا روي في شأن أبي بكر من أشهر الموضوعات والمفتريات المعلوم بطلانها ببداهة العقل، ويؤيّده عدم معرفته بمعاني القرآن التي قد توفّرت الدواعي باتقانها وضبطها، حتى تواتر أنّه لم يكن يعرف معنى الكلالة، واشتهر أنّه لم يعرف معنى الابّ في قوله تعالى: (وفاكهة وأبّاً)(3).
وقد نقل هذا جلال الدين السيوطي في كتاب الاتقان، بل قد نقل أنّه سُئل عن ذلك من عمر أيضاً على المنبر في زمان خلافته، فاعترف بجهله بعد تأمّل
____________
(1) سورة التوبة الاية: 40.
(2) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري: 3 / 471 سورة التوبة الاية 40.
(3) انظر تفسير القرطبي 1: 29، والكشاف 3: 253 وقد ذكرناه سابقاً.