وقد اعترف محمّد فاخر الاله آبادي، الذي انتصب للردّ على العلاّمة التستري والحماية عن ذمار النيسابوري، بوضع هذا الخبر السخيف ; حيث لم يجد بدّاً من الاقرار بالحقّ، ولم يمكنه الجنوح الى مثل هذا الباطل الصريح، وأيضاً اعترف بأنّ إدعاء كون أبي بكر ثانياً لرسول الله في العلم شنيع فظيع، وإساءة للادب، ودأب من لا خلاق له من الدين، ومن لا يعرف مقام سيّد المرسلين.
ولكن من أطرف الاشياء! إنّ هذا الرجل بعد الاعتراف بالحقّ، نكث ممارياً، وبرز في لباس اللداد مجادلاً، فشرع في تأويل هذا الخبر المكذوب الباطل الذي اعترف بكذبه ووضعه وشناعته.
وهذه عبارته في رسالته التي سمّاها درّة التحقيق في نصرة الصديق:
«وأمّا خامساً ; فلانّ الحديث الذي أتى به دليلاً على الثانويّة في العلم، فنحن أيضاً ـ بحمد الله تعالى ـ نعرفه من الموضوعات، صرّح به غير واحد من الجهابذة الثقات، ودريت أنّ العلاّمة المستدلّ لم يحتجّ به، وأسقط هذه الثانويّة من نضد الكلام لضعف الاحتجاج وإيهامه سوء الادب، هل يكون أحدٌ ثانياً
____________
(1) الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1 / 354 الباب 36.
(2) رسالة كشف العوار في تفسير آية الغار للعلاّمة التستري، لم نجد عبارة السيد في الكتاب لان النسخة الموجودة في يدنا سقطت منها بعض الصفحات (نسخة مصورة في مكتبة احياء التراث الاسلامي برقم 118).
وسمعت بعض الكبراء العارفين يدّعي صحّة هذا الحديث، وعدّه آخر ممّا ثبت تزييفه عند الناقدين المحدّثين، ووضع بعض الصحاح الثابتة متناً وسنداً عندهم من طريق الكشف الصحيح، ولم يتّفق لي المراجعة معه في معناه، فلعلّه يحمل العموم المفهوم منه على العموم العرفي، أو يأوّل بصبّ الاحكام الشرعيّة الدينيّة، فإنّ تبليغها كان واجباً عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبلغ إلى كلّ أحد قسطاً كان ينفعه، وأمّا أبو بكر (رضي الله عنه)فاختصّ بالسبق في مضمارها، والاخذ لكبارها وصغارها، ولذا أمّ الناس بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الاعلم بالسنّة هو الاولى بالامامة.
وأمّا سادساً: فلانّ المحقّق الفيروز آبادي ذكره وأضرابه الموضوعة في شأن الصدّيق أنّها من أشهر الموضوعات ; لا أنّ هذا وغيره ممّا روي في شأنه من أشهرها، حتى يوهم أنّ جميع الاحاديث التي وردت في حقّه موضوعة، ويكون ذخراً للجهلة من أشياع الشوشتري عند النزاع والجدال، كيف والمحقّق المذكور من أعاظم علماء أهل السنّة ومحدّثيهم، كما لا يخفى على من تصفّح كتبه ورسالته هذه.
____________
(1) انظر تفسير الفخر الرازي: 8 / 66، وسوف يأتي كلامه وتعليق المصنف عليه.
[ ونجيب عليه بما يلي ]:
أمّا قوله: وأمّا خامساً: فلانّ الحديث الذي أتى به دليلاً... الخ:
أقول: الحمد لله، حيث اعترف الناصب المكابر بما هو الحقّ الظاهر، فاعترف بأنّ ما أتى به النيسابوري دليلاً على الثانويّة في العلم من الموضوعات، ونقل ذلك عن أئمّته الثقات وجهابذته الاثبات، فأظهر سخافة عقل النيسابوري، ومجازفته وعدوانه، وركاكة دليله وبطلانه، وهدم أساسه وبنيانه، وأبان عن عدم
____________
(1) الانعام الاية: 68.
(2) يوسف الاية: 42.
(3) رسالة درة التحقيق في نصرة الصديق لمحمد فاخر اله آبادي مخطوط، وقد رد فيها على رسالة التستري كشف العوار. وقد ذكره المصنف مير حامد حسين، في رسالة عَضب البتار في آية الغار (مخطوط): 50 ـ 53.
فظهر أنّه مرتكب للاثم الكبير وشنيع الحرام، لا يصعب عليه فضيع الافتراء على خير الانام عليه الصلاة والسلام، في ماورد في الاحاديث المقبولة عند العلماء الكرام، من التهديد والتشديد على رواية الكذب والبهتان على خاتم النبيّين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله ربّ العالمين.
ثمّ بان ووضح من قوله: لضعف الاحتجاج وايهامه سوء الادب... الخ، إنّ النيسابوري أساء أدب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّه آثر دأب من لا خلاق له من الدين، ولا يعرف مقام سيّد المرسلين، وإنّه إتّبع وساوس الشياطين، وتنكّب عن الطريق الحقّ المستبين، والحمد لله ربّ العالمين على تفضيح المعاندين، على لسان حماتهم الضالين المضلّين.
وأمّا إستحسان الناصب صنيع الرازي: فلا يخفى قبحه، فإنّ الرازي أيضاً جعل أبا بكر ثانياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أكثر المناصب الدينيّة ـ كما هو صريح عبارته ـ فقال:
«إنّه كان ثاني اثنين في المواقف كلّها، وكلّما وقف رسول الله قام أبو بكر مقامه»(1).
وهذا أيضاً يشعر بل يصرّح بثانويّة أبي بكر في العلم، فإنّ من مواقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موقف العلم أيضاً، فيلزم على ذلك في حقّ الرازي أيضاً مالزم
____________
(1) انظر تفسير الفخر الرازي: 8 / 66 سورة التوبة الاية: 40.
ولينظر الناصب إلى ما تفوّه به ابن التين، من أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي أبا بكر طرفي النهار بكرة وعشيّاً، ليتزايد عنده من علم الله!! ـ نعوذ بالله من ذلك التعصّب الشديد ـ.
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، في شرح حديث مجيئه (صلى الله عليه وآله وسلم)طرفي النهار عند أبي بكر كلّ يوم وفي نحرّ الظهيرة وقت الخروج من مكّة:
«وقد أستشكل كون أبي بكر كان يحوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يتكلّف المجيء إليه، وكان يمكنه هو أن يفعل ذلك، وأجاب ابن التين بأنّه لم يكن يجيء إلى أبي بكر لمجرّد الزيارة، بل لما يتزايد عنده من علم الله»(1) إنتهى ما أردنا ايراده.
ثم انظر ـ رحمك الله وعافاك ـ الى وقاحة الناصب الكاذب، وصفاقة وجهه، ورقّة دينه، وقلّة ورعه وتأثّمه، وعدم مبالاته واكتراثه من التهافت والتناقض الفظيع، حيث تصدّى لتصحيح هذه الرواية المكذوبة المفتعلة، التي أقرّ بوضعها وإفترائها، وحمد الله تعالى على كونه عارفاً بكذبها وشناعتها.
يا للعجب! كيف ألقى الناصب الحياء والخفر وراءه ظهريّاً، وجعل التورّع والتديّن نسياً منسيّاً، فأتى شيئاً فريّاً، وتفوّه بما كان بالاخفاء والاسرار حريّاً، حتى نقل إدعاء صحّة هذا الكذب البارد، الذي هو أبرد من الخيار، من بعض المغفّلين الذاهلين عن الاثار والاخبار، وسمّى هذا الذاهل الجاهل البعيد عن الاطلاع، والعديم الحياء، القصير الباع، بالعارف الكبير، ثمّ انتصب لتوجيه هذا
____________
(1) فتح الباري للعسقلاني، كتاب الادب الباب 64: 12 / 124 (6079).
وبالجملة: إذا كان الحديث باعتراف الناصب موضوعاً مكذوباً، وبتصريح جهابذته الثقات بهتاناً معيوباً، فلا معنى لادعاء صحته وتوجيهه، إلاّ إظهار مزيد الفضيحة وإثبات العصبيّة.
وقد دريت! إنّ الفيروز آبادي قد نصّ على أنّه ممّا يعلم بطلانه ببداهة العقل، فإذا الناصب وبعض كبرائه العارفين الذي هو مقتفي وساوس الشياطين، من السوفسطائيّة المنكرين لبديهة العقل، المخالفين لصراحة النقل، لا يصلحون للخطاب، ولا يكالمهم العلماء الانجاب، اللّهم إلاّ لضرورة داعية وحاجة ماسّة.
فإذا ثبت أنّ هذه الرواية قد حكم عليها ناقدوهم ومحقّقوهم وأئمّتهم وجهابذتهم بالوضع، ظهر سخافة عقل مدّعي صحته، وبطلان توجيهه بما لا مزيد عليه، فإنّه إن أمكن تأويل هذه الخرافة التي إفتراها أهل الجلاعة ـ كما يدّعيه الناصب الغير الصائب ـ لما كذّبوها ورموها بالوضع والاختلاق، وحكموا على مصدّقيها بأنّهم ليس لهم خلاق، وقد ظهر من هناك بطلان تأويل الناصب المعاند لهذا الكذب البارد، ولا حاجة بنا الى إبطاله وتزييفه عند البصير الناقد.
ولكن نقول: لمزيد التوضيح والمبالغة في التفضيح لمرتكب هذا التأويل القبيح: إنّ الحديث على تقدير حمله على العموم العرفي، لابد أن يكون المراد منه ما يفهم أهل العرف منه.
ولا ريبة أنّ أهل العرف يفهم من هذا الكذب، إنّ عامّة الاحكام الدينيّة والامور الشرعيّة قد صبّها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر أبي بكر ; لا سيّما ما تتوفّر الدواعي إلى علمه، وتمسّ الحاجة الى معرفته، مثل معاني القرآن المجيد، الذي
ولا ريبة أنّ معرفة الكلالة من هذا القبيل، كما لا يخفى على المتدبر الناقد للقبيح من الجميل، وهكذا يقبح الجهل بمعرفة معنى الابّ الشائع المشهور، الذي يعرفه العوام بل العام فضلاً عن الائمّة والصدور.
فكيف يصدق ـ ولو عرفاً ـ مع جهل أبي بكر عن أمثال هذا الامور، أنّه قد صُبّ في صدره جميع ما صُبّ في صدر الشافع يوم النشور؟!.
على أنّ جهل أبي بكر ليس منحصراً في أمر أو أمرين، بل كان جاهلاً عن كثير من الاحكام الشرعيّة، والمسائل الدينيّة، وكان دأبه وديدنه وهجيره الرجوع إلى آحاد الصحابة، ومسائلتهم والتكفّف منهم والضراعة إليهم، فكيف يصدق مع هذا الجهل الشديد وقلّة المعرفة هذا العموم سواء كان حقيقيّاً أو عرفيّاً؟!.
وبالجملة: إنّما صدر صحّة إدّعاء العموم العرفي من قلّة المعرفة وعدم التدبّر.
وأمّا تأويله الثاني: فهو أعجب وأغرب من الاوّل، يدلّ على عدم تدبّره، وفقدان فطنته، وسخافة عقله، وغفلته عن الكلام الذي يتصدى لردّه فضلاً عن غيره، فإنّ تأويل هذا الصبّ ـ الصاب على مفتريه عذاباً واصباً ـ بالاحكام الشرعيّة، وجعل هذا التأويل مقابلاً لحمله على العموم العرفي، صريح في أنّه يدّعي أنّ المراد منه، إنّ كلّ الاحكام الشرعيّة التي صبّت في صدر رسول الله قد صبّها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر أبي بكر، وهذا هو الذي فرّ منه الناصب وتحاشى عنه شديداً، وجعله إساءة الادب، ودأب من لا خلاق له في الدين، ولا يعرف
ثمّ كيف! لا يقدح في هذا التأويل العليل والتوجيه السخيف، جهله عن معنى الكلالة، أليس مسألة الكلالة من الاحكام الشرعيّة، والمسائل الدينيّة؟!.
ولعلّ الناصب لشدّة ذهوله وكثرة غفوله، لم يتدبّر في كلام العلاّمة التستري، الذي هو في صدد نقضه وجوابه، فذهل عمّا ذكره دليلاً على بطلان هذه الخرافة!، أو لعلّه لا يعدّ من سفاهته وبلاهته مسألة الكلالة من الاحكام الشرعيّة، فلا يرى جهل إمامه عن مسألة الكلالة، وغيرها من المسائل التي لا يليق هناك ذكرها بالتفصيل ولا الحوالة!، هادم اس تأويل الناصب، الهائم في الضلالة الراكب متن الجهالة.
والظاهر أنّ الناصب أعيى وكلّ عن الجواب، فلم يتدبّر في مسألة الكلالة وغيرها من مجهولات إمامه الحائر عن الصواب، فتفوّه بما شاء من التأويل والتسويل، وزعم أنّه صحّ بذلك بعض فضائل إمامه النبيل، ولكنّه: (السَرَاب بقيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتّى إذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)(1).
وأمّا قوله: فإنّ تبليغها كان واجباً عليه، وبلّغ الى كلّ أحد قسطاً كان ينفعه:
أقول: فليت شعري! لِمَ لم يبلّغ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم عدم توريثه إلى ذريّته ووارثيه، حتى لا يقدموا على طلب ميراثهم من أبي بكر، ولا يطالبوه ولا
____________
(1) النور الاية: 39.
وبالجملة: إذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم)بلّغ إلى كلّ واحد القسط الذي ينفعه من العلم ; ظهر من ذلك أنّ حديث (نحن معاشر الانبياء) الذي تفرّد به أبو بكر بروايته من موضوعاته وإفتراآته، وإلاّ لبلّغه (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى فاطمة وأزواجه!.
وأمّا قوله: أمّا أبو بكر الصدّيق فاختصّ بالسبق في مضمارها، والاخذ لكبارها وصغارها:
أقول: إن هذا إلاّ إفك مبين، وقول الكاذب المائن المهين، ليس عليه دليل وبرهان، وما أنزل الله عليه من سلطان، ليس يمكنه أن يثبت أعلميّة أبي بكر، بحيث تقبله العقول من طرقه أيضاً فضلاً عن طرق الخصم ; لانّه قد وردت من طريق السنّيّة أحاديث كثيرة، وروايات شهيرة، دالّة على عجزه عن المسائل المعضلات، وعدم معرفته المشكلات، ورجوعه وفاقته وحاجته إلى أحاد الصحابة، فضلاً عن الاكابر والاعلام، كما لايخفى على من راجع تشييد المطاعن للوالد العلاّمة ـ أحلّه الله دار السلام ـ(1).
وأمّا قوله: ولذا أمّ الناس بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانّ الاعلم بالسنّة هو الاولى بالامامة:
أقول: كلّ ذلك كذب وبهتان، وهذر وهذيان، ومخدوش من وجوه لا تخفى جودتها على أرباب البصائر والايقان:
أمّا أوّلاً: فإنّ إمامة أبي بكر للناس بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ممنوع مدفوع، ولا يسلّمه الخصم أبد الابدين ودهر الداهرين، فكيف يذكره في مقابلته ; ومع ذلك
____________
(1) تقدم ذكر الكتاب ومؤلفه.
وأمّا ثانياً: فإنّ إثبات أعلميّة أبي بكر من إمامته للناس، لا يخفى وهنه على طريقة السنّيّة وشرعتهم، فإنّ أكثر مغفّليهم يذكرون أنّه ليس الافضليّة والاعلميّة شرطاً للخلافة الكبرى، ويجوّزون خلافة المفضول مع وجود الافضل، ويردّون على الشيعة في إشتراط ذلك بتقريرات طويلة، وخرافات غريبة، كما لايخفى على من تتبّع الكتب الكلاميّة لهم، مثل «نهاية العقول» لامامهم الغفول وغيره من كتبهم(1).
فإذا لم تكن الاعلميّة في الخلافة والامامة الكبرى شرطاً، فكيف يكون شرطاً في إمامة الصلاة، وهي أدون رتبة من الامامة الكبرى بكثير؟!، ومع ذلك فانّ إمامة الصلاة داخلة في الامامة الكبرى، ومع ذلك يجوّزون البرّ والفاجر، وتقدّم الصالح والخاسر في الصلاة، ويروون: (صلّوا خلف كلّ برّ وفاجر)(2)!.
فما لهم نسوا! وتناسوا ذلك في مقام هذا الكذب الظاهر وما أسّسه أئمّتهم الاكابر، لكن غشاوة البصائر، وخبث الضمائر، يحدو على امثال هذه الخرافات الركيكة، والهفوات السخيفة.
وأمّا ثالثاً: فإنّ أعلميّة باب مدينة العلم عليه الصلاة والسلام قد ثبت بالاحاديث الصحيحة والروايات المقبولة عند الطرفين، ورجوع أبي بكر في
____________
(1) نهاية العقول للفخر الرازي مخطوط: نسخة مصورة في مكتبة استان مقدس رضوي تحت رقم: 13758.
(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي: 4 / 19، سنن الدارقطني: 2 / 39 (1750)، كنز العمّال: 6/ 54 (14815).
أمّا قوله: أمّا سادساً: فلانّ المحقّق الفيروز آبادي... الخ:
أقول: مراد العلاّمة التستري أيضاً ماذكره الناصب من أنّ الفيروزآبادي قد ذكر أنّ هذا الحديث وغيره ممّا روي في شأن أبي بكر ـ وقد ذكره الفيروز آبادي أو أشار إليه ـ من أشهر الموضوعات والمفتريات، المعلوم بطلانها ببديهة العقل، وليس غرضه ـ رحمه الله تعالى ـ إيهام أنّ الفيروز آبادي قد حكم على جميع ما روي في شأن أبي بكر أنّها من أشهر الموضوعات والمفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل، بل لمّا لم يكن حكم الفيروزآبادي مقصوراً على هذا الحديث ـ أعني: (ما صبّ الله... الخ) ـ بل حكم بالوضع عليه وعلى أمثاله أيضاً، ولهذا لم يقتصر العلاّمة التستري في الحوالة عليه على ذكر هذا الحديث فقط، بل قال: إنّ الفيروز آبادي قد ذكر أنّ هذا الحديث وغيره ممّا روي في شأن أبي بكر من أشهر الموضوعات، ولا ريبة من أنّ الاحاديث التي ذكرها الفيروز آبادي وحكم عليها بالوضع، يصدق عليها أنّها غير هذا الحديث وأنّها ممّا روي في شأن أبي بكر، فلا يرد قدح وجرح على عبارة العلاّمة التستري (رحمه الله).
وإنّما نشأ الايراد والاعتراض من سوء فهم الناصب، بلى! إنّ ما فهمه الناصب يمكن فهمه أيضاً من عبارة العلاّمة التستري، ولكنّها ليست نصّاً فيه، بل هي محتملة لهذا المعنى الذي ذكره وللمعنى الذي أراد، ولا يجب أن يعبّر في
____________
(1) عبقات الانوار للمصنف مطبوع باللغة الفارسية وقد لخصه السيد الميلاني وسماه بنفحات الازهار.
وأمّا قوله: وأمّا سابعاً: فلانّ ماذكر من التأييد للوضع لا يصلح له... الخ:
أقول: قد أوضحنا سابقاً إنّ عدم علم أبي بكر بمعاني ألفاظ القرآن المجيد، لا سيّما المعاني التي يعمّ البلوى بمعرفتها وتتوقّف عليها الاحكام الشرعيّة، مثل معنى الكلالة وغيره، قادح بلا ريبة في صدّق هذا الحديث، سواء أُريد به العموم الحقيقي أو العموم العرفي.
فإنّ من يكون جاهلاً عن مثل معنى الكلالة والابّ، فلا مرية في قبح أن يقال في حقّه: إنّه عالم بكلّ ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عالماً به، ولو أُريد بهذا العموم العرفي.
فظهر! أنّ ماذكره العلاّمة التستري تأييداً لاثبات وضع هذا الكذب المستكره المستهجن في الشرع والطبع، هو صالح للتأييد حريّ بالتسديد، وإنّ نفي التأييد إنّما صدر من أتباع الشيطان المريد، كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد.
ثمّ إنّه لو أمكن تأويل هذا الحديث الخبيث لحمله على العموم العرفي، ولم يكن جهل أبي بكر عن أمثال هذه الامور قادحاً فيه، لما حكم جهابذة السنّة ونقادهم بالوضع على هذا الحديث!.
ثمّ لا يخفى عليك! إنّ صاحب التحفة، قال في الاستدلال بآية: (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...)(1) الخ، على خلافة أبي بكر:
____________
(1) المائدة الاية: 54.
فظهر من هناك! إنّ صاحب التحفة يُلزم على تقدير عدم وجود قوم موصوف بهذه الصفات في مقابلة المرتدين الحادثين في زمن أبي بكر خلف الوعد الالهي، ـ يعني كذب آية (مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُم عَن دِينِه...) الخ، العياذ بالله من ذلك ـ فكيف لا يكون جهل أبي بكر عن مسألة الكلالة وحدها فضلاً عن جهله عن غيرها مكذّباً لهذا الحديث المكذوب والبهتان المردود؟!، فإنّ صراحة آية (مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ) في العموم ليس بأزيد من صراحة (ما صبّ الله شيئاً... الخ) فيه، فإذا كان تخلّف هذا العموم في فرد واحد مكذّباً للاية الدالّة عليه وموجباً لخلف الوعد الالهي، فكيف لا يكون تخلّف عموم هذا الحديث المكذوب في فرد واحد، بل في أفراد كثيرة مكذباً له موجباً لخلف الاخبار المنسوب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.
وأمّا ماذكره من احتمال السهو والنسيان: فهو عين المجازفة والعدوان،
____________
(1) تحفة اثنا عشريّة للدهلوي: الباب السابع: 377، وفيه:
«وقاعدة أصوليّة مقرره است كه حرف (مَن) چون در مقام شرط وجزا واقع شود عام ميگردد چنانچه در مثال «من دخل حصن كذا فله كذا» گفته اند، پس در اين آيه هر كه مرتد شود براى او قومي موصوف به اين صفات پيدا شوند، وچون در زمان خليفه اوّل ارتداد بكثرت وشدت واقع شد اگر قومى موصوف باين صفات هم در مقابله آنها موجود نشوند بلكه خود هم مرتد مثل آن مرتدين باشند خُلف در وعده الهى لازم آيد».
وأمّا ماذكره الناصب من سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة والسجدة لجبر نقصانها، ونسيان الايات وتلقّيها من رجل من الصحابة، وخروجه إلى الصلاة وهو جنب: فكلّ ذلك على تقدير التسليم لا مناسبة له بالمقام، كما لايخفى على أولي الافهام، فإنّ السهو غير الجهل، وليس الكلام هناك في أنّه لا يجوز السهو على أبي بكر حتى يهتمّ بأثباته.
وأيّة حاجة في تجويز السهو على أبي بكر إلى إثبات السهو على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!، فانّ أبا بكر لم يكن نبيّاً ولا معصوماً، فلا فائدة في ذكر هذه الروايات غير إبداء التعصّب والحميّة الجاهليّة، ولا يدّعي أحد أنّ السهو في حقّ أبي بكر من القبائح والشنائع حتى يتمسّك في دفعه بما ذكره.
وأمّا قوله: فاعتراف أبي بكر بعدم العلم في معنى بعض الالفاظ، فليكن من ذلك القبيل... الخ:
أقول: أين الاعتراف بعدم العلم من السهو والنسيان؟!، فإنهما أمران متباينان، وهذا ظاهر على أرباب الافهام والاذهان، وماذكره من سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسيانه في الصلاة والايات، والخروج إلى الصلاة جنباً، بعد تسليمه ليس فيه إعتراف بعدم علم شيء، حتى يقاس عليه إعتراف أبي بكر بعدم علم معنى الكلالة والابّ، وإظهار جهله عن ذلك.
الفصل السادس والعشرون
[ في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبا بكر كفرسي رهان ]
ومن الاكاذيب الفاضحة، والاباطيل الواضحة، والحصائد الاسنة، والغوائل المزخرفة، والاخبار المستبشعة المنكرة، التي بلغت من الشناعة بحيث يستحي من تصديقها منصفوهم، وتأبى نفوسهم من قبولها والركون والحنوّ إليها، وإن صدّقها المتواقحون الخالعون، ما ساووا به بين أبي بكر والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعلوهما ـ العياذ بالله ـ كفرسي رهان، وهذا من أشنع الكذب وأقبح البهتان!.
وقد سلف آنفاً نصّ ابن الجوزي على أنّ هذا الحديث من مقولات العوام، ولم ير لها أثراً في الصحيح ولا في الموضوع(1)، ومراده أنّ هذا لا يذكره العلماء من أهل السنّة، وإن ذكروا غير ذلك من الاحاديث الموضوعة، وإنّما هذا من مقولات العوام فقط.
ومن العجب! إنّ الخان المعظّم الهمام ـ أحلّه الله دار السلام ـ لمّا عيّر السنّيّة في بعض الافادات على تصديق هذا الحديث وأمثاله من المخترعات، إستشاط
____________
(1) انظر الموضوعات: 1 / 263.
«[ لا يخفى أن حديث: (أنا وأبو بكر كفرسي رهان)، من أشنع الموضوعات عند محدّثي أهل السنّة، كما قال الشيخ المحقّق عبد الحقّ الدهلوي في شرح سفر السعادة: وحديث: (أنا وأبو بكر كفرسي رهان) و (إنّ الله تعالى لمّا إختار الارواح إختار روح أبي بكر) وأمثالهما من المفتريات البديهيّة البطلان عقلاً، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في فضله مضافاً إلى الكثير من الحسان والضعاف ـ إنتهى ما أردنا نقله ـ.
وبعد هذا، فلو كان طعنه لاهل السنّة في هذا المقام لاجل عدّهم هكذا أحاديث باطلة من الصحاح ويحتجون بها، فمع وجود تصريح محدّثي أهل السنّة بأنّ هذا الحديث من أشنع الموضوعات، كان طعنه من العجائب!.
ولو كان طعنه على أهل السنّة هنا لاجل وجود الاحاديث في طرقهم، فهذا التوهّم يوجد في الغرائب أيضاً، لانّ الطعن على علماء الطريق بوقوع الاحاديث الموضوعة في تلك الطرق بعد تصريحهم بوضعها عند العلماء الاخيار، فهذا الطعن من عجائب الدهر!، وكثرة وجود هذا القسم الثمين في طريق الامامية المتدينين، فأهل السنّة معذورين ]»(1).
____________
(1) ايضاح لطافة المقالة لمحمد رشيد الدهلوي مخطوط ; وفيه:
«مخفي نماند كه حديث (أنا وأبو بكر كفرسي رهان) نزد محدثين أهل سنت أز أشنع موضوعات است، چنانكه شيخ محقّق عبد الحق دهلوي (قدس سره) در شرح سفر السعادة مى فرمايد: وحديث (أنا وأبو بكر كفرسي رهان) و (إنّ الله تعالى لما إختار الارواح اختار روح أبي بكر) وأمثال آن مفترياتى است كه بطلان آن بديهه عقل معلوم است، أحاديث صحيحه در فضل وى (رضي الله عنه)بسيار آمده واقسام ديگر از حسان وضعاف بيشمار ـ إنتهى ما أردنا نقله ـ.
وبعد بيان موضوعيت مذكور غرض آنكه اگر طعن جناب بر اهل سنت در اين مقام به جهت آن است كه ايشان همچو أحاديث باطله را از صحاح مى شمارند وقابل احتجاج مى انگارند، پس بر تقدير تصريح محدثين أهل سنت ببودن حديث مبحوث عنه ان اشنع موضوعات اين طعن منجملة عجائب توهمات باشد. واگر طعن جناب بر آهل سنت در اين مقام بجهت آن است كه در طريق ايشان أحاديث موجود است، پس اين توهم هم در غرائب موجود است، چه طعن علماى طريق به وقوع أحاديث موضوعه در آن طريق بعد تصريح علماى آن طريق به موضوعيّت آن اخبار نزد علماى ديندار از عجائب روزگار وكثرت وجود اين قسم گرانيها در طريق اماميّه دين پناه از طرف أهل سنت عذر خواه».
وانظر أشعة اللمعات لعبد الحق الدهلوي: 4 / 628.
وأيّ جرم وجناية لابي بكر؟!، حتى يستنكف كونه مجارياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرهان ; مع أنّ ابن الخطاب سبقه في بعض الفضائل عند أهل العدوان، حيث يروون أنّ الشيطان فرّ منه ولم يفرّ من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)سمع للشعر الباطل، وكان عمر محترزاً عنه حتى خاف (عليه السلام) إيّاه، وإستنصت المنشد عند مجيئه مرّتين(1).
وثانياً: فإنّي أقضي العجب! من الرشيد مع ذكائه، وفضله وفطنته، وعلوّ
____________
(1) سوف يأتي شرح هذه الاحاديث مفصّلاً.
فإنّ هذا الحديث وإن صرّح عبد الحقّ بكونه من أشنع الموضوعات، وكذّبه وأوهاه ابن الجوزي وأبطله، بحد قال: إنّه ليس من الموضوع أيضاً، ولكن المتواقحون المتجالعون، الذين طبع الله على قلوبهم، وأغشى سرائرهم، وأعمى أبصارهم، يصدّقون هذا الكذب المستبشع، ويتبجحون به ويفتخرون بذكره، ولا يخافون من الله ورسوله، ولا يكترثون من شناعته وفظاعته، ولا يحتفلون من فضيحة ومخزاة(*).
ألا ترى! أنّ القاري ذكر في شرح المشكاة:
«إنّ أبا بكر كان مؤمناً قبل البعثة أيضاً، ثمّ نقل لاثباته حديثاً عن ابن ظفر(1) يتضمّن إنّ أبا بكر قال: لم أسجد لصنم قط، وقال بعد نقله: وممّا يؤيّده:
____________
(*) انظر في شرح تائية ابن الفارض في هامش شرح ديوان ابن الفارض: 2 / 168.
وما كان منهم معجز اصار بعده | كرامة صديق له أو خليفة |
ومقام الصديقية، قيل انه تلو مقام النبوة على معنى ان اقرب وصف الى النبيّ وأنسب بحاله ومقامه انّما هو الصديقيّة فان مبنى النبوة من جهة الاخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: (كنت وأبو بكر كفرسي رهان سبقته فاتبعني ولو سبقني لاتبعته) يعني ان الصديقية ذاتيّة له كما انّ ذاتيته لي، ولمّا كان من جملة استعدادات قبول النبوّة هذه الصفة الصدّيقية وكنت أنا وأبو بكر منها على سواء، من جهة انّها من ذاتياتي وذاتياته لكن سبقته بالعناية الازلية فأدركت مقام النبوة واقتضته صديقيته ان يتبعني هو، ولو سبقني بتلك العناية كانت صديقيتي تقتضي ان اتبعه.
(1) في المصدر [ ابن ظفر بل ].
فظهر من هذا أنّ عليّاً القاري الذي هو من عمدة محدّثيهم، وأعلام نحاريرهم، وعظماء مشاهيرهم، صدّق هذا الحديث وإحتجّ به.
فالعجب! من الرشيد يغفل عن ذلك، ويرى أنّ الطعن بذلك من عجائب التوهمات، والحال أنّ هذا التوهم من عجائب التوهمات وغرائب التخيّلات.
وأمّا ماإدعاه الرشيد من أنّ الاحاديث الموضوعة من هذا القسم قد وقعت كثيراً في طرق الشيعة، من أعجب الدعاوي!، بل من أفضح المخازي.
سبحان الله! ما كنّا نظنّ بالرشيد أنّه يكذب مثل هذه الكذبة الواضحة، ويقترف هذه القرفة الفاضحة.
فلعمري، لا أدري كيف إدعى مثل هذه الدعوى الفاجرة، ثم لم يأت عليها بسلطان!، وزاد في البهتان فإدعى أكثريّة مثل هذه الاحاديث الموضوعة الشنيعة في طرق الشيعة.
وبالجملة: فعلى أولياء الرشيد أن يثبتوا لتصديقه وإنقاذه من ورطة الكذب، أحاديث كثيرة موضوعة في فضائل الائمّة (عليهم السلام) في طرق الشيعة تكون موضوعة باعترافهم، وتكون عندهم من أشنع الموضوعات بحكم بداهة العقل.
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 385 (6034).