الفصل السابع والعشرون
[ في نور قلب أبي بكر ]
ومن فضائح خرافاتهم، وقبائح سخافاتهم، ماذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء:
«الحديث التاسع والاربعون: أخرج ابن عساكر، عن المقدام، قال: (إستبّ عقيل بن أبي طالب وأبو بكر، قال: وكان أبو بكر سبّاباً، غير أنّه تحرّج من قرابة عقيل من النبيّ عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه وشكاه إلى النبيّ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس، فقال: ألا تدعون لي صاحبي ما شأنكم وشأنه؟، فو الله، ما منكم رجل إلاّ على باب بيته ظلمة، إلاّ باب أبي بكر، فإنّ على بابه النور، ولقد قلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وأمسكتم الاموال وجاء لي بماله، وخذلتموني وواساني واتبعني)»(1) إنتهى.
____________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 54، وفي النسخة الموجودة عندنا فيها نساباً بدل سباباً، وهذا من فعل النواصب وديدنهم عند نقل الروايات، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 30 / 110.
«وعن أبي المقدام بن معدي كرب (رضي الله عنه) قال: (إستبّ عقيل بن أبي طالب وأبي بكر (رضي الله عنه)، فأعرض أبو بكر عنه لقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه شكاه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس، فقال: ألا تدعون صاحبي، ما شأنكم وشأنه؟ والله، ما منكم رجل إلاّ على باب قلبه ظلمة، إلاّ قلب أبي بكر فانّه على بابه نور، والله لقد قلتم كذب وقال أبو بكر صدق، وأمسكتم الاموال وجاء لي بماله، وخذلتموني وواساني بنفسه). أخرجه الامام أبو عبد الله، عن محمّد بن محمّد بن فضائلي الرازي في كتابه تنزهة الانصار»(1).
وكذب هذه الرواية الشنعاء، وقبح هذه الفرية النكراء، غير خاف على أهل الانصاف، وأنا أذكر وجوهاً مع بيان كاف وتقرير شاف، يثبت كذبه وبطلانه، وفضيحة الواضع وعدوانه.
أمّا أوّلاً: فقد نسب إركتاب السبّ والمقاذعة(2) والفحش والمشاتمة إلى عقيل!، وهو من أجلاّء الصحابة وأعيانهم، وأفاضل العترة وأطيابهم، وأهل السنّة قائلون بعدالة الصحابة بأسرهم، وشرافتهم عن آخرهم، والسبّ والفحش إنّما هو من فعل السوقيّة الطغام، وخلائق الجهلة اللئام، يُستبعد وقوعه من أهل الايمان وأرباب الايقان، فضلاً عن الصحابة الذين أثنى عليهم القرآن، وبالغ في إطرائهم النبيّ المبعوث إلى الانس والجان، كمايدّعيه أرباب الشنان وأصحاب
____________
(1) الاكتفاء للوصابي مخطوط.
(2) القذع: الخنى والفحش / لسان.
وثانياً: إنّ الراوي ذكر في صدر الرواية: إنّه إستبّ عقيل وأبو بكر، وهذا يدلّ على أنّه وقع من كلّ منهما سبّ للاخر، فكيف لم يحقق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الامر وأنّ البادي أي رجل؟، فانّ ذلك لم يذكره الراوي ولو وقع لذكره، والحكم بتصديق أبي بكر من غير تحقيق الامر وأنّ البادي والظالم من هو ; لا يجيء من الرسول المعصوم.
وثالثاً: لو فرضنا أنّ البادي للسبّ كان عقيل بن أبي طالب، وأبو بكر كان دافعاً ومجيباً، لكن السبّ والفحش وإن كان للدفع حرام وكبيرة، فكان على رسول الله أن يزجر أبا بكر عن ذلك وينهاه عنه، لا أن يحاميه ويغريه على الحرام.
ورابعاً: إنّه إفترى على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه خطب بهجو الصحابة، وذمّهم والازراء بهم، والتنقيص بشأنهم أشدّ الهجاء والمذمّة والتقبيح والتشنيع!، حيث قال: (ما منكم رجل إلاّ على باب بيته ظلمة)، ونسب إليهم تكذيبه وإمساك الاموال والخذلان.
____________
(1) يعتقد المصنّف (قدس سره) ان مؤلف التحفة الدهلوي اخذ كتابه هذا من كتاب الصواقع للكابلي ـ بمعنى انّه ترجم الصواقع إلى الفارسية وسماه بالتحفة وجعله تأليفاً مستقلاً.
وكيف يقول رسول الله للصحابة: على أبوابكم ظلمة!، وهم مصدقون له مؤمنون به وبما جاء به، يقتدون أفعاله، ويتبعون أعماله، ويحتذون مثاله، ويقتفون آثاره، ويقتصّون أخباره وانذاره، ونهاية همّهم الاتباع لله والرسول، والالتزام بالشريعة، والاجتناب عن كلّ شنيعة ; حتى هاجروا في محبته الاوطان، وكابدوا الاحزان، وقاسوا الاشجان، وتركوا الاهل والاولاد، وهاجروا العشائر والاحفاد، ثمّ يشافههم الرسول في جزاء أعمالهم الحسنة، ومساعيهم الجميلة، بهذا التشنيع الصريح، والتفضيح الغليظ!.
ثمّ لم يكتف الواضع على هذا المقدار، حتى نسب إلى الرسول المختار من أنّه عيّر الصحابة بأنّهم كذّبوه وخذلوه وأمسكوا أموالهم عنه!.
ولا يخلو: إمّا أن تكون هذه الامور وقعت عنهم قبل الاسلام، فهو ممّا لا يؤاخذون به ولا يعيّرون به ; لانّ الاسلام يجبّ ما قبله، ماح لما سبق ; وكيف يعيّر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلماً بما سبق عنه من الافعال الشنيعة في حالة الكفر التي محاها الله عنه ويؤذيه بذلك!، مع أنّ إيذاء المؤمنين حرام، والتشنيع عليهم بما لا يؤاخذون إثم كبير، وقد قال الله تعالى في حقّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): رؤوف عليكم(1).
وإمّا أن تكون هذه الامور صدرت عنهم بعد الاسلام، فهو ضغث على
____________
(1) انظر سورة التوبة الاية: 128 (لَقَدْ جَائَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمُؤْمِنينَ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ).
وخامساً: إنّ الواضع ـ جزاه الله بما فعل وإبتلاه بالعذاب الاجل ـ أراد أن يثبت بوضع هذا الحديث فضيلة لابي بكر ; مع أنّه عادت عليه فضيحة من ثلاث وجوه:
الاوّل: إنّه ذكر أنّ أبا بكر سبّ عقيل بن أبي طالب، وهو من الصحابة العدول ومن عترة الرسول وأهل بيت النبيّ المقبول، على ما يزعم النواصب من تعميم أهل البيت، مع أنّهم أجمعوا على تحريم إيذاء الصحابة ثمّ القرابة، ولو كان خفيفاً، فكيف السب الذي هو في نفسه حرام وفسق؟!، وكيف بالنسبة إلى الصحابة ثمّ بالنسبة إلى القرابة؟!.
الثاني: ذكر أنّ أبا بكر كان سبّاباً، وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنّه كان عادة أبي بكر إرتكاب السبّ والشتم، وإنّه كان مبالغاً فيه مكثراً ـ كما ينبئ عنه صيغة المبالغة ـ وهذا من أعظم المخازي وأقبح المعاصي، وقد ورد في كثير من الاحاديث نهاية الذم والملام على السبّ والفحش مطلقاً، فكيف إذا كان بالنسبة إلى الصحابة العظام والقرابة الفخام؟!.
ففي كنز العمال: «(الجنّة حرام على كلّ فاحش أن يدخلها) ابن أبي دنيا في الصمت حل عن ابن عمر.
وفيه أيضاً: (إنّ الله يبغض الفاحش المتفحّش) حم عن إسامة.
وفيه: (إنّ الفحش والتفحّش ليسا من الاسلام في شيء، وإنّ أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً) حم طب ع عن جابر بن سمرة.
فيه أيضاً: (كفى بالرجل أن يكون بذيّاً فاحشاً بخيلاً) هب عن عقبة ابن عامر.
فيه أيضاً: (إنّ الله يبغض الفاحش البذي) طب عن إسامة طب والخرائطي في مساوئ الاخلاق»(1).
الثالث: إنّه ذكر أنّ أبا بكر شكى عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عقيلاً وعابه ولامه عنده وإغتابه، فأكلّ لحم أخيه وهو ميت، وإغتاب عقيلاً وهو من أهل البيت، وهذه شنعة ظاهرة وحوبة موبقة، نصّ على ذمّها القرآن، وإتّفق على قبحها الفريقان، فانقلبت الفضيلة رذيلة، بعون الله ومساعينا الجميلة، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً.
____________
(1) كنز العمال للمتقي الهندي: 3 / 598 (8085)، (8087)، (8088)، (8089)، 3/599 (8096)، 3 / 603 (8121).
الفصل الثامن والعشرون
[ في غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لغضب أبي بكر ]
ومن مفترياتهم البشعة، وكذباتهم الشنيعة، مافي الرياض النضرة:
«عن ربيعة الاسلمي، قال: (كان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم فقال: يا ربيعة رُدّ عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، قال: قلت لابي بكر: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولنّ أو لاستعدينّ عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: ما أنا بفاعل، قال فرفض(1)الارض، وانطلق إلى النبيّ، وانطلقت تلوه، فجاء ناس من أسلم، فقالوا: يرحم الله أبا بكر في أيّ شيء يستعدي عليك، وهو الذي قال لك ما قال؟ قلت: أتدرون ما هذا؟ هذا أبو بكر الصدّيق، هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إيّاكم لا يلتفت، فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيغضب لغضبه، فيغضب الله عزّ وجلّ لغضبهما، فيهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا.
____________
(1) رفض الارض برجله: ضربها بها.
وقال الوصابي في الاكتفاء:
«وعن ربيعة الاسلمي (رضي الله عنه) قال: (كان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، ثم ندم فقال: يا ربيعة ردّ عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولنّ أو لاستعدينّ عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: ما أنا بفاعل، فرفض الارض، وانطلق إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وانطلقت تلوه، فجاء ناس من أسلم، فقالوا: يرحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال لك ما قال؟ قلت: أتدرون من هذا؟ لهذا أبو بكر الصدّيق ثاني اثنين إذ هما في الغار، إيّاكم لا يلتفت، فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيغضب لغضبه، فيغضب الله عزّ وجلّ لغضبهما، فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا؟ قلت: ارجعوا.
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 2 / 6 (395)، وانظر مسند أحمد: 13 / 72 (16530)، وفيه اختلاف يسير، مجمع الزوائد للهيثمي: 4 / 470 (7334)، المعجم الكبير للطبراني: 5/59 (4578)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 3 / 112.
أقول: وانّي لا أتعجب! كثيراً من المفترين، حيث افترواهذه الاكاذيب، فإنّهم قد استغلقت أقفل الرين على قلوبهم وضمائرهم، وتراكمت واعتركت حجب الظلمات على بصائرهم، وغطّى الشيطان بإضلاله وإزلاله على سرائرهم، فهم على صنيعهم متهالكون مستهترون، ويُلحدون ويُشركون خفاء، بلباس الاسلام مستترون.
ولكن يستفرغ العجب، ويستنقذ الغروب من هؤلاء المصدّقين إيّاها، المذعنين بها، المتكاثرين المتفاخرين بروايتها، فإنّهم علماء فضلاء، حذّاق نقّاد، يدّعون التحقيق والتسنيم على ذروة الفضل والانصاف، والاجتناب عن العصبيّة والاعساف، فكيف يصغون إلى تلك الاباطيل، وكيف يصدقون هذه الاضاليل؟!.
ولعمري، كيف لا يشعرون بأنّ هذه الكذبة الواهية التي إفتعلوها إثباتاً لفضل العتيق، هي أولى بأن تكون رذيلة ومنقصة عليه، [ وذلك ] من أوجه:
____________
(1) الاكتفاء للوصابي مخطوط.
وكون أبي بكر ظالماً على ربيعة يثبت من وجوه:
أمّا أوّلاً: فإنّه صرّح ربيعة بأنّه قال أبو بكر كلمتاً لربيعة كرهها، وظاهر أنّ قول الكلمة المكروهة في حقّ المسلم المؤمن لا سيّما الصحابي العدل، من أشدّ الكبائر وأعظم الجرائم، بل عند التحقيق يوجب الكفر، كما استنبطوه من آية: (يَغِيظَ بهِمُ الكُفَّارَ)(1).
وأمّا ثانياً: فإنّه صرّح ربيعة بأنّ أبا بكر ندم على تلك الكلمة، ومن البيّن أنّ هذه الكلمة لو لم تكن على خلاف الشرع لم يكن للندامة عليها وجه، فإنّه لو كان ربيعة مستحقاً لذلك لصار ذلك من العدل والانصاف المرغوب اليه، لا من الظلم والضيم المندوم عليه.
وأمّا ثالثاً: فإنّ قول أبي بكر: ردّ عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، صريح في أنّ هذه الكلمة كانت توجب القصاص والمؤاخذة، ولا يتصوّر ذلك إلاّ إذا كان هذه الكلمة من سقطات اللسان، والهفوات العائدة بالشنآن والهوان، وإلاّ فلا معنى للقصاص والمؤاخذة على كلمة قيلت في مستحقّها.
وأمّا رابعاً: فإنّ ما نسبوه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه نهى ربيعة عن قول
____________
(1) الفتح الاية: 29.
وأمّا خامساً: فإنّ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربيعة لسؤال المغفرة لابي بكر، أيضاً صريح في أنّ أبا بكر كان في هذه الكلمة عاصياً مذنباً، حتى احتيج إلى سؤاله مغفرته والعفو عنه.
وبالجملة: هذه القصّة أوضح دليل على ظلم أبي بكر، وضيمه وعصيانه، وإتصافه بالفظاظة والغلظة والعنف والتجبر، وهبوطه عن مقام الصّديقيّة، والتواضع والاخبات وخفض الجناح للمؤمنين.
وأمّا ثانياً: فانّ قول أبي بكر لربيعة: لاستعدينّ عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يدلّ على بلاهته وسفاهته، وقلّة خبرته وكثرة جهله بالاحكام الدينيّة، وإنخلاعه عن الفطنة والتأمّل ; حيث لم يدر أنّ الاستعداد وظيفة المظلوم الملهوف، والاستغاثة شأن المنجود المكروب!، ولا معنى لاستعداد الظالم وإستغاثة العادي، ولا سيّما البادي، فإنّ أبا بكر كان بإعترافه ظالماً عادياً، وللشرّ والمكروه بادياً، فكيف يهدّد ربيعة بعد ذلك بالاستعداد؟! وهل ذلك إلاّ إنخداع من الابتداء والمجانبة للاهتداء!.
وكان هذا بالمنزلة القصوى من الظهور، حتى فطن به ناس من أسلم، حيث قالوا معرضين به: يرحم الله أبا بكر في أيّ شيء يستعدي عليك، وهو الذي قال لك ما قال، فإنّ ذلك صريح في أنّ إستعداء أبي بكر على ربيعة كان من إحدى عيوبه، وخطئة من خطاياه وذنوبه.
وبالجملة: هذا الكلام من أبي بكر ظلم على ظلم، وجرم أيّ جرم، فإنّه
وأمّا ثالثاً: فإنّ أمر أبي بكر ربيعة بردّ مثل تلك الكلمة المكروهة عليه، وجعله قصاصاً له، دليل آخر على جهله وعدم عثوره على الحكم الديني، ولا غرو في ذلك!، ولكنّه من أكبر الشواهد على جسارته وخسارته، حيث جعل القبيح من تلقاء نفسه قصاصاً شرعيّاً، وأغرى ربيعة عليه، وأمره به وحضّه عليه، وهذا غاية البعد عن الفطنة والدين.
وأمّا كون ردّ تلك الكلمة المكروهة قبيحاً، فظاهر من نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عنه ـ كما في عجز الحديث ـ.
وإذا دريت ذلك كلّه، علمت بيقين أنّ أبا بكر كان في تلك القصّة من أوّلها إلى آخرها خاطئاً عاصياً، وعلى نفسه بالشناعة منادياً، حيث آذى أوّلاً مسلماً مؤمناً صحابياً عدلاً، وآلمه وشافهه بالقول الشنيع، وواجهه بالكلام المستهجن القبيح، وأمر ربيعة بالقبيح والملام، وأغراه على الحرام، وأخافه بالاستعداء، وهدّده وروّعه.
بقي شيء: وهو أنّهم نسبوا إلى ربيعة أنّه قال لناس من أسلم، حيث جاؤوا ناصرين له، ما يدلّ على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغضب بغضب أبي بكر.
فنقول: لا يخلو ذلك إمّا أن يكون إفتراءً على ربيعة، أو سفهاً منه، فإنّه قد ثبت ممّا بينّا أنّ أبابكر كان ظالماً على ربيعة، عادياً عليه بغير حق، ولم يصدر من ربيعة خطيئة ولا ذنب هنالك، وكان كلام الناصرين لربيعة حقّاً لا يحوم حوله ريبة، فلا يكون على هذا غضب أبي بكر على ربيعة مستلزماً لغضب رسول
فأمّا أن يكون نسبة هذا الظن إلى ربيعة من إفتراآتهم، أو ناشئاً من سفهه وعدم تيقظه، فلا يكون في هذا فضيلة ولا جميلة.
فانظر! ـ رحمك الله وحماك عن كلّ شنيعة ـ إلى عصبيّة هؤلاء وحميّتهم الجاهليّة، كيف يروون أنّ الرسول يغضب لغضب أبي بكر، وإن كان بلا حقّ ولا سبب موجب، بل إنّ غضب أبو بكر للباطل وتغيّظاً على المظلوم فيغضب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يرون غضب فاطمة على أبي بكر موجباً لغضب الله تعالى وغضب رسوله عليه؟! ; مع أنّه ثبت ذلك برواية الفريقين(1).
____________
(1) انظر صحيح البخاري: 5 / 252 (704) كتاب المغازي «عن عائشة: انّ فاطمة (عليها السلام) بنت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... فأبى أبو بكر أن يدفع الى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت... فلمّا توفيت دفنها زوجها عليّ (عليه السلام) ولم يؤذن بها أبا بكر».
وفيه أيضاً: 4 / 504 (1265) كتاب الخمس «عن عائشة أيضاً:... فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت».
وفيه أيضاً: 8 / 551 (1574) كتاب الفرائض: «... فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت».
وكذا صحيح مسلم: 3 / 1105 (49) (50)، والسنن الكبرى للبيهقي: 6 / 300، البداية والنهاية: 5 / 308 (285)، (287)، التنبيه الاشراف للمسعودي: 250.
الفصل التاسع والعشرون
[ في ترجيح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الارض ]
ومن المجعولات الواضحة، والمختلقات الفاضحة، التي دلّت على كذبها الدلائل الساطعة الراجحة، ما وضعوه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ترجيح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الارض(1).
ووالله، إنّ هذا من وضع من لا يخاف يوم العرض، وقد رووا مرّة هذا المضمون المطعون عن اللفظ الغليظ، المنهمك في المجون ـ أعني ابن الخطاب ـ المخالف للسنّة والكتاب، وصحّحوا السند اليه، ولا غروّ في ذلك فإنّه لا يبعد أن يفتري ويفتعل ابن الخطاب مثل هذه الاكاذيب في أخيه الحائد عن الصواب.
قال محمّد طاهر في تذكرة الموضوعات:
«قال في المقاصد (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس، لرجح إيمان أبي بكر) عن عمر موقوفاً بسند صحيح، وعن ابن عمر مرفوعاً بسند
____________
(1) انظر كنز العمّال: 12 / 493 (35614)، شعب الايمان للبيهقي: 1 / 69 (36)، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 1 / 418 (653).
أقول: لا حاجة بنا إلى الكلام في سند ما عزوه إلى عمر، فإنّه من قبيل إستشهاد ابن آوى بذنبه، أو ما اشتهر في الفرس «تو را حاجى بگويم تو مرا حاجى بگو»، ولكن لايخفى سخافة ماذكره في المرفوع المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانّ ضعف إسناده باعترافه ثابت.
وأمّا إدعاء كونه متابعاً: فهو ممّا لا يتابعه دليل وبرهان، وإنّما نشأ ذلك من متابعة الشيطان، فإنّ ابن عديّ الذي هو الناقد الماهر، والخرّيت الحاذق في تنقيد الروايات وتحقيق الرجال، قد صرّح بأنّ عبد الله بن عبد العزيز الذي روى هذا الخبر، قد روى أحاديث لا يتابع عليها وعدّ منها ذلك ; قال الذّهبي في الميزان:
«عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن أبيه ; قال أبو حاتم وغيره: أحاديثه منكرة ; وقال ابن الجنيد: لا يساوي فلساً ; وقال ابن عدي: روى أحاديث عن أبيه لا يتابع عليها.
ثنا محمّد بن أحمد بن بخيت، ثنا أحمد بن عبد الخالق الضبعي، ثنا عبد الله بن عبد العزيز: حدّثني أبي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، قال: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الارض لرجح)»(2) إنتهى.
فهذا كما تراه صريح في أنّ هذا الحديث ممّا لا يتابع عليه، فادعاء المتابعة عليه ممّا لا يصلح أن يُصغى اليه.
وأمّا إدّعاء الشاهد له: فهو أيضاً ممّا ليس عليه شاهد، والاجمال يكفي
____________
(1) تذكرة الموضوعات للفتني: 93.
(2) ميزان الاعتدال: 4 / 139 (4431)، وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 5 / 104، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 5 / 335 (1012).
«حديث (لو وزن إيمان أبي بكر الصدّيق مع إيمان الناس، لرجح إيمان أبي بكر) ذكره صاحب المقاصد، وسنده موقوفاً على عمر صحيح، ومرفوعاً ضعيف»(1).(*)
____________
(1) الفوائد المجموعة للشوكاني: 335.
(*) وقد ذكره ابن كثير في تاريخه بهذا الاسناد أيضاً، وقال فيه: وهذا مرفوع غريب، وذكر له اسانيد اخرى فيها ضعفاء ومقدوحين. انظر تاريخ دمشق 3: 126 والعلل للدارقطني 2: 223 (236).
ومن الطريف أن نذكر مقالت العجلوني المتأخّر في كتابة (كشف الخفاء) لتقوية هذا الحديث، حيث كشف عن جهله وقلّة علمه، بعد أن أزال لباس الحياء عن وجهه. فقال بعد ذكر حديث (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر) رواه إسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن عمر من قوله، وأخرجه ابن عدي والديلمي كلاهما عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ (لو وضع إيمان أبي بكر على إيمان هذه الامّة لرجحخ بها) وفي سنده عيسى بن عبد الله ضعيف.
لكن يقويه ما أخرجه ابن عدي أيضاً من طريق أخرجه بلفظ (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الارض لرجحهم)، وله شاهد أيضاً في السنن عن أبي بكر مرفوعاً (انّ رجلاً قال يا رسول الله كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح.. الحديث) انظر (كشف الخفاء ومزيل الالباس 2: 149 (2128).
أقول: فانظر الى خيانته كيف إستشهد بحديث (لو وزن...) ولم يذكر قول ابن عدي في رواية، حيث قال (يحدّث عن أبيه عن نافع عن أبي عمر بأحاديث لا يتابعه أحّد عليها) وانظر الى سخافته حيث استشهد بحديث منقول عن اظغاث أحلام وتخيلات رجل مجهول وجعله شاهداً ومثبتاً لمنقبة إمامه.
الفصل الثلاثون
[ في أنّ أبا بكر خير الناس ]
ومن الموضوعات السخيفة، والمختلقات القبيحة التي لا تقبلها الطباع، وتنبو عنها الاسماع، إفتروها إثباتاً لافضليّة العتيق، ثمّ تلقّاها مغفّلوهم بالتصديق: (إنّ أبا بكر خير الناس). وإنّ هذا لمن وسواس الخناس، وقد رواه الطبراني والديلمي والخطيب وغيرهم من محدّثيهم وشيوخهم(1).
ثم العجب! أنّ السيوطي أيضاً ـ مع نقده وتحقيقه ومهارته ـ أدخله في الجامع الصغير مع ما به، وأثنى عليه بثناء بليغ وإطراء عظيم(2)، ورواه فيه عن الطبراني وابن عدي، لكن لمّا غلب عليه حبّ إمامه أخفى مافيه من القدح والجرح الذي أورده مخرجه ابن عدي(3)، وإنّ هذا لمن سوء الصنيع، وباعتبار ثقاتهم شنيع.
____________
(1) انظر مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 24 (14315) عن الطبراني، فردوس الاخبار للديلمي: 1 / 249، المتّفق والمفترق للخطيب: 1 / 368 (181).
(2) الجامع الصغير للسيوطي: 1 / 22 (70)، وقد قال السيوطي في مقدّمة كتابه: «وبالغت في تحرير التخريج فتركت القشر وأخذت اللباب وصنته عمّا تفرّد به وضّاع أو كذّاب ففاق بذلك الكتب المؤلّفة... الخ».
(3) انظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 6 / 487 (1412).
«(أبو بكر خير الناس) لفظ رواية من عزاه له المؤلّف (أبو بكر خير الناس بعدي)، وهكذا حكاه عنهم في الكبير، فسقط من قلم المؤلّف لفظ بعدي، وفي رواية (خير أهل الارض إلاّ أن يكون) ـ أي يوجد ـ (نبيّ) فلا يكون خير الناس، يعني هو أفضل الناس إلاّ نبيّ، والمراد الجنس وتكون هنا تامة، ونبيّ مرفوع بها، وجواب أنّ محذوف ـ كما تقرّر ـ وهذه البعديّة رتبية، ويمكن جعلها زمانيّة، والاستثناء لاخراج عيسى وكذا الخضر، إن قلنا بما عليه الجمهور أنّه نبيّ (طب عد)، وكذا الديلمي والخطيب عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن سلمة ـ بفتح المهملة واللام ـ ابن عمرو ابن الاكوع ـ بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو مهملة ـ واسم الاكوع سنان أحد من بايع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة، كان رامياً مجيداً يسبق الفرس.
ثمّ قال مخرجه ابن عدي: هذا الحديث أحد ما أنكر على عكرمة، قال الهيثمي بعد عزوه للطبراني: فيه إسماعيل بن زياد الايلي ضعيف (انتهى). وفي الميزان: تفرّد(1) به إسماعيل هذا، فإن لم يكن وضعه فالافة ممن دونه»(2).
فهذا كما تراه صريح في أنّ الحديث قد قدح فيه ابن عدي والهيثمي، فقال
____________
(1) في المصدر (تقيد).
(2) فيض القدير للمناوي: 1 / 119 (70).
ثمّ إنّ الذّهبي قد إعترف بالحقّ الصحيح، وقال بما هو الواضح الصريح، من أنّ الحديث مكذوب موضوع، حيث قال: «فان لم يكن وضعه إسماعيل بن زياد فالافة ـ يعني آفة الوضع ـ ممّن دونه» يعني من الرواة الاوغاد ـ.
ثمّ إنّي راجعت ـ بعون الله المستعان ـ الى أصل الميزان للذّهبي المشار اليه بالبنان، فوجدت أنّ ما حكى المناوي عنه مطابق له بلا إرتياب، وأنا أنقل أصل عبارته مع سائر ترجمة إسماعيل ; لينظر فيه اُولو الالباب، فإنّه نقل أوّلاً عن يحيى بن معين أنّه قال في حقّ إسماعيل: إنّه كذّاب، وعن ابن حاتم إنّه مجهول، ثمّ ذكر هذا الخبر المجعول، وقال ما نقله عن المناوي عمّدة الفحول، وهذه عبارته:
«إسماعيل بن أبي زياد الشقري، سكن خراسان ; قال يحيى: كذّاب ; وقال أبو حاتم: مجهول، كتب إليّ علم الدين أحمد بن أبي بكر بن خليل الفقيه من مكّة: ثنا محمّد بن يوسف الحافظ بمكّة، أخبرنا أبو البقا يعيش بن عليّ المقري بفاس، أنا عليّ بن الحسين الفرضي، أنا يوسف بن عبد العزيز بن عديس، أنا جماهر بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن سعد الزاهد، ثنا أبو سعد بن عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ، ثنا أبو عمرو بن مطر، ثنا أبو شبيل عبد الرحمن بن محمّد بن واقد الكوفي، ثنا إسماعيل بن زياد الايلي، ثنا عمرو بن
____________
(1) انظر الكامل في صفاء الرجال لابن عدي: 4786 (1412).
(2) انظر مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 24 (14315)، وفيه: رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن زياد وهو ضعيف.