وهذه الاحاديث أدنى بجميع الوجوه من هذا الحديث، فإذا كانت تلك موضوعة مفتراة معلوماً بطلانها ببداهة العقل، يكون هذا الحديث الذي هو أعظم بمراتب كثيرة بالاولى موضوعاً مفترى، معلوماً بطلانه ببداهة العقل، ويكون مصدقه ومعتقده خارجاً عن جملة أرباب الفضل.
وأمّا خامساً: فنقول إهتزازاً للخواطر، وتشهيداً لذهن الناظر، وتعجيزاً للمعادن، وإفحاماً للمكابرين: إنّ هذا الحديث كما لا يصحّ عقلاً لا يصحّ نقلاً أيضاً، فكيف يصحّ به الاحتجاج؟!، وكيف يعتمده أهل اللجاج؟!، فرواه الترمذي في صحيحه بهذا الاسناد:
«حدثنا سلمة بن شبيب، قال: ثنا المقري، عن حيوة بن شريح، عن بكر ابن عمرو، عن مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو كان نبيّ بعدي، لكان عمر بن الخطاب). هذا حديث [ حسنٌ ](1)غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث مشرح بن عاهان»(2) إنتهى.
ولقد صدق الترمذي في أنّه غريب، ولكن إخراجه في كتابه مع التزام الصحة أغرب منه.
ثمّ إنّه قد صرّح بأنّه لا يعرفه إلاّ من حديث مشرح بن [ هاعان ]، وقد ضعّفه ابن حبان الذي هو من أكابرهم وشيوخهم وأفاضلهم وأماثلهم، حيث قال الذّهبي في المغني في ترجمته: «لينه ابن حبّان»(3) إنتهى(*).
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
(2) الجامع الكبير للترمذي: 6 / 59 (3686)، وقد صحح عاهان بـ [ هاعان ] وهو الصحيح كما في المصادر الاخرى.
(3) المغني للذهبي: 2 / 408 (6257).
(*) قال ابن حبّان في ترجمته: يروي عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير لا يتابع عليها، روى عنه ابن هبيرة واللّيث وأهل مصر، والصواب في أمره ترك ما انفرد من الروايات (انظر المجروحين 3: 28)، وقال في مكان آخر: من أهل مصر، يروى عن عقبة بن عامر، روى عنه أهل مصر، يخطئ ويخالف (انظر كتاب الثقات 5: 452).
«قال ابن جان: انقلبت على مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به»(1)انتهى.
ثم إنّي راجعت إلى الميزان للذّهبي فظهر منه: إنّه قال ابن جان: إنّ مشرحاً روى مناكير لا يتابع عليها، فالصواب ترك ما انفرد به.
وقد شهد الترمذي بأنّه لا يعرف هذا الخبر إلاّ من مشرح، فالصواب بحكم ابن حبّان ـ امام أئمتهم الاعيان ـ ترك هذا الكذب المهان.
وداهية ما أدراك ماهية!، إنّه ذكر العقيلي إمام الناقدين وعمدة الماهرين: إنّ مشرحاً جاء مع الحجّاج إلى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة، وهذا فسق وفجور وحرام باليقين، بل كفر وإلحاد وزندقة وإنحراف عن الدين، فكيف يوثق برواية هذا الفاسق المرتكب هذه العظيمة، المتجاسر على هذه الجريمة.
قال في الميزان:
«مشرح بن [ هاعان ] المصري، عن عقبة بن عامر، صدوق، لينه ابن حبّان ; وقال عثمان بن سعيد، عن ابن معين: ثقة ; قال ابن حبّان: يكنى أبا مصعب يروى عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، روى عنه الليث وابن لهيعة، فالصواب ترك
____________
(1) الموضوعات: 1 / 238.
وقال بعض ناظري هذا الكتاب في حاشيته ـ ولنعم ما قال ـ لقد أصاب العقيلي (رحمه الله) وكأنّ المصنف قد استصغر هذه الطامة!، والله المستعان.
ثمّ إنّ في طريق الترمذي بكر بن عمرو المعافري، وهو وإن وثّقه جمع منهم، لكن الحاكم قد قال: إنّه ينظر في أمره، فهذه ريبة في وثوقه، ولذلك أورده الذّهبي في المقدوحين، فقال في الميزان:
«بكر بن عمر المعارفي، مصري إمام جامع الفسطاط، عن مشرح بن عاهان وبكر بن الاشج وجماعة، وعنه حيوة بن شريح، وابن لهيعة، وآخرون، وكان ذا فضل وتعبّد ومحله الصّدق، وإحتج به الشيخان، ومات شاباً، ما أحسبه تكهّل ; قال أبو حاتم الرازي: شيخ ; وقال الدارقطني: [ يعتبر به ]، وقال أبو عبد الله الحاكم: ينظر في أمره»(2) انتهى.
ثم إنّ الطبراني روى هذا الحديث من اسناد آخر(3)، وهو لو كان له أصل لما خفي على الترمذي!، ومع ذلك فقد وقع فيه أيضاً ضعيف، كما في شرح الجامع
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 432 (8555)، وانظر الضعفاء الكبير للعقيلي: 4: 222 (1813)، وفيه: حدثنا محمّد بن إسماعيل، قال: حدثنا الحسن بن عليّ، قال: حدثنا موسى بن داود، قال: بلغني أن مشرح بن هاعان كان ممن جاء مع الحجّاج ونصب المنجنيق على الكعبة.
(2) ميزان الاعتدال: 2 / 63 (1292)، وفيه: يعتد به بدل [ يعتبر به ] وفي المتن أصح، وانظر سؤالات الحاكم للدارقطني: 189 (288)، تهذيب التهذيب للعسقلاني: 1 / 364 (894)، وفيه: قلت وقال ابن القطان: لا نعلم عدالته.
(3) انظر المعجم الكبير للطبراني: 17 / 180 (475).
«(لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب) (حم ت ك) عن عقبة بن عامر، طب عن عصمة بن مالك، قال الهيثمي: وفيه الفضل بن مختار، وهو ضعيف، وأمّا خبر الديلمي عن أبي هريرة: (لو لم ابعث لبعث عمر) فمنكر»(1) إنتهى(*).
فلو لم يكن في الحديث ما أسلفناه من أدلة الوضع والكذب، لكان عدم ثبوت صحة طريقه ووقوع الضعفاء ومن لا يحتج به عند ناقدي رجالهم، ومن يعتمد على أقوالهم في مسنده لرده كافياً، ولوثوقه وإعتماده نافياً.
والعجب! من صاحب التحفة، حيث يعارض حديث مدينة العلم، وهو ممّا نقلته الاثبات، واعتمدته الثقات، وصحّحته الاعلام، ووثقته أئمتهم الفخام ; بهذا الحديث الموضوع، البيّن الفساد مطعون المتن والاسناد.
ثمّ إنّهم قد رووا هذا الحديث بلفظ آخر يقرب منه، فيه: أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)قال ذلك في مخاطبة عمر ـ العياذ بالله من ذلك ـ وقد صرّح الخطيب وغيره بنكارته ; قال في كنز العمال:
____________
(1) فيض القدير للمناوي: 5 / 414 (7470)، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 67 (14433)، مسند الفردوس للديلمي 3 / 93، فردوس الاخبار للديلمي: 3 / 417 (5167).
(*) وقد ضعف الفضل أكثرهم.
قال ابن عدي بعد ان أورد له عدّة أحاديث منكرة: وعامتها ممّا لا يتابع عليه إما اسناد أو متناً: انظر الكامل في ضعفاء الرجال 7: 121 (1561)، وقال أبو حاتم: مجهول وأحاديثه منكرة يحدّث بالاباطيل: انظر الجرح والتعديل 7: 69، وميزان الاعتدال 5: 435 (6756).
وفيه أيضاً: (لو كان بعدي نبيّ لكنته). قاله لعمر، الخطيب في رواية ابن مالك، وابن عساكر عن ابن عمر، وقال منكر»(1) انتهى.
ولا يخفى عليك! إنّ هذا الحديث وضعوه في مقابلة حديث (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)(2) لانّ فيه إيماء بأنّه لو كان بعده نبيّ لكان علياً (عليه السلام)، وهذا ممّا أجراه على ألسنتهم.
قال القاري في المرقاة شرح المشكاة، في شرح هذا الحديث:
«فيه إيماء الى أنه لو كان بعده نبيّاً لكان عليّاً»(3) إنتهى.
بل ورد في طريق بعض طرق حديث المنزلة التصريح بذلك بزيادة (وكان لكنته) في المرقاة(4)، وكما في بغية الوعاة للسيوطي(5)، ومع ذلك مضمون هذه الزيادة المقبولة التي لا تردها إلاّ طباع على النصب مجبولة، قد ردته.
وفي رواية أخرى أيضاً، قال السيّد عليّ الهمداني في كتاب ـ مودّة القربى ـ وهو من جملة كتب صنفها أهل السنّة في فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وأثبت بذلك مودّتهم ومحبّتهم بأهل البيت، وافتخر بذلك على أهل الحق:
____________
(1) كنز العمال: 12 / 597 (35862)، 11 / 581 (3262).
(2) هذا الحديث رواه أعلام القوم، وقد ذكر القندوزي في ينابيع المودة خمسة عشر طريقاً لهذا الحديث من طرق العامة فراجع.
(3) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 456 (6087).
(4) المصدر السابق.
(5) بغية الوعاة للسيوطي: 1 / 504.
فانظر إلى هؤلاء!، كيف قلّبوا الدين ظهر المجن، وكيف حرّفوا الاحاديث بالجهر والعلن، لم يتركوا فضيلة لعليّ (عليه السلام) إلاّ إنتحلوها لخلفائهم، ولم يدعوا منقبة له (عليه السلام) إلاّ إختلقوها لرؤسائهم، جزاهم الله بأعمالهم وكافاهم بأفعالهم.
وإذا ثبت لك بايحاء حديث المنزلة المتواتر، وهذا الحديث المروي عن السيّد الهمداني الكابر (إنّه لو كان بعده نبيّ لكان هو عليّاً (عليه السلام)) ظهر لك أنّ إثبات هذه الصفة لابن الخطاب [ من ] موضوعات اللئام، وإفتراآت الاغثام(2).
ثمّ إنّهم لم يقتصروا على هذه الخرافة الموضوعة، ولم تشتف لها نفوسهم الهلوعة، فرووا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر)، ففي كنز العمال:
«(لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر، أيّد الله عزّ وجلّ عمر بملكين يوفقانه ويسددانه، فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً) الديلمي، عن أبي هريرة، وأبي بكر»(3).
____________
(1) مودة القربى لشهاب الدين الهمداني: المودة السادسة. وفيه بدل [ النبوة لكان نبياً ] نبيّاً لكانت النبوة له، وانظر ينابيع المودة للقندوزي: 2 / 288 (823).
(2) الاغثم ـ الاورَقْ ـ والغثيمة: ان يغلب بياض الشعر سواده، وقال أبو مالك: إنه لنبت مفتوم ومغثمر: أي مخلّط ليس بجيد / لسان.
(3) كنز العمّال: 11 / 581 (32761)، وانظر مسند الفردوس للديلمي: 3 / 93، فردوس الاخبار للديلمي 3: 417 (5167).
سبحان الله! كيف إختلطت عقولهم، وإختبطت ألبابهم، حتى لا يدرون شناعة مثل هذه الاكاذيب.
ولقد سلك ابن الجوزي مسلك السداد وفضح أهل العناد، فنادى رافعاً عقيرته بكذب هذا الحديث وشنعته، حيث قال في كتاب الموضوعات، في الاحاديث الموضوعة في فضائل عمر:
«الحديث الثاني: أنبأنا إسماعيل بن أحمد، قال: أنا إسماعيل بن مسعدة، قال: أنا حمزة، قال: أنا ابن عدي، قال: ثنا عليّ بن الحسين بن قديد، قال: ثنا زكريا بن يحيى الوقار، قال: ثنا بشر بن بكر، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن غضيف بن الحارث، عن بلال بن رباح، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر).
قال ابن عدي: ثنا عمر بن الحسن بن نصر الحلبي، ثنا مصعب بن مسعد بن سعد أبو خيثمة، قال: ثنا عبد الله بن واقد، قال: حدّثنا حيوة بن شريح، عن بكر ابن عمر، وعن مشرح بن [ هاعان ]، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر).
[ قال المصنّف ]: هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا الاوّل: فإنّ زكريّاً بن يحيى كان من الكذّابين الكبار، قال ابن عدي: كان يضع الحديث ; وأمّا الثاني: فقال أحمد ويحيى: وعبد الله بن واقد، ليس شيء، وقال النسائي:
فنحمد الله تعالى حمداً يليق بشأنه، ونشكره على إيضاح الحقّ وبرهانه، حيث نبطل أحاديثهم المزخرفة الملقفة بالدلائل الزاهرة، والبراهين الباهرة، والحجج الساطعة، والاثار اللامعة، ولا نقتصر على ذلك بل نثبت ذلك على ألسنة نقّادهم توضيح ذلك بأقاويل أعلامهم، وهذا من عجائب! صنع الله الذي أنطق كلّ شيء، حيث ينطقهم بتفضيح أسلافهم الكاذبين، ويجعلهم ينادون بافتراء شيوخهم الذاهبين.
ولا يذهب عليك! إنّ السيوطي قد غلب عليه ذهنه المتعصّب، فحسر قناعه في إثبات هذا الكذب الشنيع بالتعقّب، فأتى بما يقضي منه العجب، ويقحمه في مهاوي العطب والشجب، قال في اللالئ المصنوعة:
«ابن عدي، ثنا عليّ بن الحسين بن قديد، ثنا زكريا بن يحيى الوقار، ثنا بشر بن بكر، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الفساني، عن ضمرة، عن غضيف بن الحارث، عن بلال بن رياح مرفوعاً: (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر)، وقال حدثنا عمر بن الحسن بن نصر الحلبي، حدثنا مصعب بن سعد أبو حثيمة، حدثنا عبد الله بن واقد، ثنا حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح بن [ هاعان ]، عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (لو لم اُبعث فيكم لبعث
____________
(1) الموضوعات: 1 / 238، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 4 / 174 (713)، وفيه: يضع الحديث ويوصلها، الضعفاء والمجروحين لابن الجوزي: 2 / 145 (2136)، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 150 (354)، الضعفاء والمتروكون للدارقطني: 259 (312)، المجروحين لابن حبان: 3 / 28، كذا الثقات لابن حبان: 5 / 452.
قلت: زكريّا ذكره ابن حبّان في الثقات، وابن واقد هو أبو قتادة الحراني وثّقه ابن معين وأحمد وغيرهما، ومشرح ثقة صدوق، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وقال أبو العباس الزوزني في كتاب (شجرة العقل): ثنا عليّ بن الحسين بالرقة، ثنا أبو عبد الله محمّد بن عتبة المعروف بالرملي، ثنا الحسين بن الفضل الواسطي، ثنا عبد الله بن واقد، عن صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن جبير الحضرمي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر (لو لم اُبعث لبعثت).
وقد ورد من حديث أبي بكر وأبي هريرة، فقال الديلمي: أنا أبي، أنا عبد الملك بن عبد الغفار، أنا عبد الله بن عيسى بن هارون، أنبأ عيسى بن مروان، ثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن حمران، ثنا إسحاق بن نجيح، عن عطاء بن ميسرة الخراساني، عن أبي هريرة رفعه: (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر، [ إنّ الله ](1)أيّد عمر بملكين يوفّقانه ويسدّدانه، فإذا أخطأ صرفاه حتى يكون صواباً)، قال الديلمي: تابعه راشد بن سعد، عن المقدام بن معدي كرب، عن أبي بكر الصديق، والله أعلم»(2).
قلت: ما أتى به السيوطي في هذا المضمار إنّما بعثه على ذلك التمادي في العصبيّة والانتصار لافتراآت الفجار، وإلاّ فلو رزق الحجى والانصاف، لدرى أنّ
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 276، وانظر مسند الفردوس للديلمي: 3 / 93.
أمّا ما قال: إنّ زكريّا ذكره ابن حبّان في الثقات: فاُسلّم ذلك، فهو ممّا لا يعزيه في ذلك المقام، لانّ الجارحين له عدّة من العلماء العظام، قال ابن عدي: إنّه يضع الحديث، وقال صالح جزره: إنّه من الكذّابين، وابن يونس أيضاً مع مدحه له قد ضعّفه(*).
قال الذّهبي في الميزان:
«زكريّا بن يحيى المصري، أبو يحيى الوقار [ عن ابن وهب فمن بعده ; قال ابن عدي: يضع الحديث، كذّبه صالح جزره، قال صلح: حدثنا زكريا الوقار ](1). وكان من الكذّابين الكبار ; وقال ابن يونس: كان فقيهاً صاحب حلقة، عاش ثمانين سنة، وقيل: كان من الصلحاء العباد الفقهاء، نزح عن مصر أيّام محنة القرآن إلى طرابلس المغرب ; ضعّفه ابن يونس وغيره»(2).
وأمّا ماذكره في توثيق أبي قتادة: فدونه خرط القتاد وضرب الاسفاد، والتشبث بما ذكره بعيد عنه السداد والرشاد ; لانّ جارحيه جم عديد وجمع كثير من أئمة السنّيّة ونقّادهم ومهرتهم وحذّاقهم ; فعمدتهم البخاري قال: إنّهم سكتوا عنه، وقال أيضاً: تركوه، وقال أبو زرعة والدارقطني: ضعيف، وقال يعقوب بن إسماعيل: إنّه يكذب، وقال أبو حاتم: ذهب حديثه، وقال الجوزجاني: إنّه
____________
(*) أقول: انّ ابن حبّان لما ترجم لزكريا في الثقات قال في ترجمته: يخطئ ويخالف واتى بشاهد فقال: اخطأ في حديث موسى (عليه السلام)... فكيف يصح أن يستشهد بمن كلامه متناقض.
(1) اثبتناه من المصدر.
(2) ميزان الاعتدال: 3 / 113 (2795)، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 4/174 (713).
وأمّا توثيق ابن معين لذلك الكذّاب اللعين: فمّما لا يحتفل به ذو رأي رزين وعقل متين، لانّه قال مرّة بالقطع واليقين: إنّه ليس بشيء، وهو أردى عبارات الجرح عند الناقدين، ومع ذلك قد قال مرّة أخرى: إنّه ليس به بأس كثير الغلط(2) ; فهذا القول صريح في أنّه كثير الغلط، فالسكوت عن ذكره ونسبة التوثيق اليه نوع تدليس، وقد نقل أيضاً عنه أنّه قال: إنّه ثقة ; فهذا التوثيق لو ثبت كما ثبت الجرح فغايته أن يكون معارضاً به، ومع ذلك لا يعارض جرح غيره من الجارحين، فإنّهم جماعة عديدة.
وأمّا توثيق أحمد لابن واقد: فهو أيضاً مثل السابق(3) ـ كما لا يخفى على الناقد ـ لانّ ابن الجوزي نقل جرحه عن أحمد أيضاً، حيث قال: «قال أحمد ويحيى: عبد الله بن واقد ليس بشيء»(4)، فتعارض جرحه بتوثيقه فتساقطا، فبقى جرح الجارحين سالماً عن المعارض الضعيف أيضاً ; مع أنّه لو لم يتعارض
____________
(1) انظر التاريخ الكبير للبخاري: 5 / 219 (713)، والضعفاء للبخاري: 71 (198)، والضعفاء والمتروكون للدارقطني: 259 (312)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 5/191، وأحوال الرجال للجوزجاني: 180 (325)، والمجروحين لابن حبّان: 2 / 29.
(2) انظر تهذيب التهذيب للعسقلاني: 3 / 277 (4276)، وانظر تاريخ يحيى بن معين: 2 / 295 (4898)، 345 (5234)، الجامع في العلل لابن حنبل: 1 / 222 (1450)، وفيه: قال أبي: أظن أبا قتادة كان يدلس والله أعلم، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي: 2 / 145 (2136).
(3) انظر الجامع في العلل لابن حنبل: 1 / 94 (209).
(4) انظر الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي: 2 / 145 (2136) ونقل فيه عن أحمد نفي البأس والبأس أيضاً.
وأمّا أنّ غير أحمد ويحيى وثق ابن واقد ـ كما ذكره السيوطي ـ: فهو محض الادعاء، ولا يظهر من الكتب الرجالية بين يديّ، وعليه أن يفصّل حتى اُبيّن ماله وعليه.
وها أنا أذكر عبارة الميزان للذّهبي حتى يظهر صدق دعاوي الصابئة، ويتبيّن أنّ ما تعقّب به السيوطي من الترهات الغير ا لنافقة وهي عدّة:
«عبد الله بن واقد، أبو قتادة الحراني، مات سنة عشر ومائتين ; قال البخاري: سكتوا عنه، وقال أيضاً: تركوه ; وقال أبو زرعة والدارقطني: ضعيف ; وقال أبو حاتم: ذهب حديثه ; وروى عبد الله بن أحمد، عن ابن معين: ليس بشيء، وروى الدولابي، عن عباس، عن يحيى: ليس بشيء، وقال أيضاً: ليس به بأس، كثير الغلط.
ابن عدي: ثنا ابن جوصاء، ثنا عباس بن محمّد، عن ابن معين: أبو قتادة الحراني: ثقة ; وقال عبد الله بن أحمد: قلت لابي: إنّ يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أنّ أبا قتادة الحراني كان يكذب، فعظم ذلك عنده جدّاً، وقال: هؤلاء أهل حران يحملون عليه، كان أبو قتادة يتحرى الصدق، ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث ; وقال أحمد في موضع آخر: مابه بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك، وربما أخطأ ; وقال الجوزجاني: متروك ; وقال يحيى بن بكير: قدم أبو قتادة على الليث وعليه جبة صوف، وهو يكتب في كتب، قد وضع صوفه في قشر
____________
(*) ولا يحتاج القول بالتساقط في أقوال أحمد: لان ظاهر كلامه في ابن واقد هو التضعيف، حيث قال بعد ان نفى البأس عنه: إلاّ انه كان ربما أخطأ، وفي مكان آخر: لربما رأيته يشك في الشيء، وأيضاً: أظن أبا قتادة كان يدلس. (انظر الجامع في العلل لابن حنبل: 1 / 94، 222).
وهو الذي روى عن الثوري، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كثيراً ما يقبّل نحر فاطمة، فقلت: يا رسول الله، أراك تفعل شيئاً لم أكن أراك تفعله! قال: أو ما علمت يا حميراء أنّ الله لمّا أسرى بي إلى السماء أمر جبرئيل فأدخلني الجنّة، فأوقفني على شجرة ما رأيت أطيب رائحة منها، ولا أطيب ثمراً، فأقبل جبرئيل يفرك وطيعمني، فخلق الله منها في صلبي نطفة، فمّا صرت إلى الدنيا واقعت خديجة فحملت، وإنّي كلّما إشتقت إلى تلك الشجرة شممت نحر فاطمة، فوجدت رائحة تلك الشجرة منها، وإنّها ليست من نساء أهل الدنيا، ولا تعتل كما تعتل أهل الدنيا) ; حدّثناه محمّد بن العباس الدمشقي بجرجان، ثنا عبد الله بن ثابت بن حسان الهاشمي الحراني، ثنا أبو قتادة ; قلت: هذا حديث موضوع مهتوك الحال ما أعتقد أنّ أبا قتادة رآه.
ثمّ وجدت له اسناد آخر عنه رواه الطبراني: عن عبد الله بن سعيد البرقي، عن أحمد بن أبي شيبة الرهاوي، عن أبي قتادة فهو الافة.
قال ابن حبّان: وروى أبو قتادة، عن أيّوب بن نهيك، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من صام يوم الاربعاء والخميس والجمعة وتصدّق بشيء غفر له) ثنا الحسن بن سفيان، ثنا ابن راهويه عنه.
إسحاق بن زيد الخطابي، ثنا أبو قتادة، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ الله يقول: إنّما تقبل الصلاة ممّن تواضع لعظمتي، وقطع نهاره بذكري، وكفّ نفسه عن الشهوات إبتغاء مرضاتي،
حدّثناه أحمد بن عيسى بن السكين بواسط، ثنا الخطابي ابن راهويه، ثنا عبد الله بن واقد، ثنا حياة بن شريح، عن أبي الاسود، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة مرفوعاً: (من كان عليه من رمضان شيئاً فأدركه رمضان فلم يقضه لم يقبل منه، وإن صلّى تطوّعاً وعليه مكتوباً لم يقبل منه).
أبو خيثمة مصعب بن سعيد، ثنا عبد الله بن واقد، ثنا حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح، عن عقبة بن عامر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم اُبعث فيكم لبعث فيكم عمر) ولم يخرجوا لابي قتادة شيئاً»(1).
أقول: فهذه العبارة كما تراها صريحة فيما إدعينا، ومصدّقة لما عزينا، وأيضاً ظهر منه: إنّ الذّهبي أيضاً ينسبه إلى الوضع والافتراء، ويسمّيه بالافة والبلاء.
فمن الطريف! أنّ السيوطي طوى كشحاً عمّا ذكره الذّهبي في الميزان من فضائح هذا الكاذب المهان فلم يذكر منه حرفاً، وجعل يوثقه ويعدّله تخديعاً للعوام وصرفاً، ويبعد منه عدم الاطلاع والعثور على هذا الكتاب المشهور، بل علم بذلك كلّه يقيناً ولكنّه أخفاه ترويجاً للكذب وتحسيناً!.
وكيف لا! وقد ذكر فيما بعد ذلك ما ذكره الذّهبي من قدح حديث تقبيل
____________
(1) ميزان الاعتدال: 4 / 219 (4676).
«ابن حبّان، أنبأ محمّد بن العبّاس الدمشقي، ثنا عبد الله بن ثابت بن حسان الهاشمي، ثنا عبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني، عن سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كثيراً ما يقبل نحر فاطمة (عليها السلام)، فقلت: يا رسول الله أراك تفعل شيئاً لم تفعله قال: أو ما علمت يا حميراء أنّ الله عزّ وجلّ لمّا أسرى بي إلى السماء أمر جبرئيل فأدخلني الجنّة، ووقفني على شجرة ما رأيت أطيب منها رائحة، ولا أطيب ثمراً، فأقبل جبرئيل يفرك ويطعمني، فخلق الله في صلبي منها نطفة، فلمّا صرت إلى الدنيا واقعت خديجة، فحملت بفاطمة كلّما اشتقت إلى رائحة تلك الشجرة شممت نحر فاطمة، فوجدت رائحة تلك الشجرة منها، وإنّها ليست من نساء أهل الدنيا، ولا تعتال كما تعتلّ أهل الدنيا) عبد الله بن واقد متروك، قلت: قال الذّهبي في الميزان: هذا الحديث موضوع مهتوك الحال، ما أعتقد أنّ أبا قتادة رواه، قال: ثمّ وجدت له إسناداً آخر عنه رواه الطبراني: عن عبد الله بن سعيد الرقي، عن أحمد بن أبي شيبة، عن أبي قتادة، فهو الافة، والله أعلم»(1).
وأمّا توثيق مشرح بن هاعان: فحاله غني عن الشرح والبيان، فإنّه قد ضعّفه ابن حبّان(2) إمام هذا الشأن، مشار إليه بالبنان، المبرّز على الاقران ـ كما سبق آنفاً ـ فكونه صدوقاً في نفسه إن سُلّم لا ينفع في هذا المقام، كما لا يخفى على أولي الافهام!.
____________
(1) اللالئ المصنوعة للسيوطي: 1 / 360.
(2) انظر المجروحين لابن حبّان: 3 / 28.
ولذلك حكم ابن عدي بأنّ هذا الحديث مقلوب وغلط معيوب، ولم يحتفل برواية رشدين إيّاه، وأقرّه عليه الذّهبي، مع أنّه شهد الذّهبي بأنّ رشدين بهذا الحديث مقلوب وغلط معيوب، ولم يحتفل برواية رشدين صالح، ولكن لمّا كان سيّء الحفظ أسقطه عن الاعتماد والاعتبار، ولم يحتفل بروايته وتحديثه لهذه الخرافة العجيبة للنظّار ; قال الذّهبي في الميزان:
«رشدين بن سعد المهري المصري، عن زهرة بنت معبد، ويونس بن يزيد، وعنه قتيبة وأبو كريب وعيسى بن مثرود، وخلق ; قال أحمد: لا يبالي عمّن روى، وليس به بأس في الرقاق، وقال: أرجو أنّه صالح الحديث ; وقال ابن معين: ليس بشيء ; وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال الجوزجاني: عنده مناكير كثيرة ; قلت: كان صالحاً عابداً سيّء الحفظ غير معتمد، [ مات سنة ثمان وثمانين ومائة ]، وقال أبو يوسف الرّقي: إذا سمعت بقية يقول: ثنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنّه رشدين بن سعد، وعن قتيبة قال: ما وضع في يد رشدين شيء إلاّ وقرأه ; وقال النسائي: متروك.
عمرو الناقد، ثنا عبد الله بن سليمان الرقي، ثنا رشدين، عن عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً: (لكلّ شيء قمامة وقمامة المسجد لا والله، وبلى والله).
رشدين عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه مرفوعاً: (الذي
أحمد بن الحجاج القهستاني، ثنا ابن المبارك، ثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد: (لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الفاعل والمفعول به، و [ قال ]: أنا منهم برئ).
ابن أبي السّري العسقلاني، ثنا رشدين، ثنا ابن لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (لو لم اُبعث فيكم لبعث عمر نبيّاً). قال ابن عدي: قلب رشدين متنه، إنّما متنه (لو كان بعدي نبيّاً لكان عمر)»(1)إنتهى.
ثمّ لا يخفى! إنّ قدح ابن واقد في ردّ هذا الخبر كاف، فليس توثيق ابن مشرح لو سلّم موجباً لثبوته واعتماده والركون إليه.
ومن العجب العجاب!!، إنّ مشرح بن هاعان ـ كما تقدّم ـ جاء مع الحجاج الى مكة ونصب المنجنيق على الكعبة، وهذا فسق وفجور عظيم، بل كفر صريح وإلحاد فضيح، فأين الوثوق والعدالة؟!، وأين الصّدق والديانة؟!، والله الهادي المنقذ من مهاوي الضلالة ومقاحم الجهالة.
وأمّا مانقله السيوطي عن الزوزني: فالتأييد أيضاً غير مفيد، فإنّه وقع في إسناده أيضاً ابن واقد، وهو كاذب معاند وفاسق مرد عليه، غير أنّه ليس فيه
____________
(1) ميزان الاعتدال: 3 / 75 (2783)، وانظر الجامع في العلل لابن حنبل: وقال فيه عدّه أقوال: (ليس أخبر أمره لا أدري: 1 / 29 (163))، (ليس به بأس في الاحاديث الرقاق: 1 / 56 (481))، (قال بعد ان سأله عبد الله عن رشدين: كذا وكذا: 2 / 29 (235)) وقد قال عبد الله: الذي يقول أبي كذا وكذا كان يحرك يده ; وهذا دال على تضعيفه، الضعفاء لابن زرعة: رقم (107)، أحوال الرجال للجوزجاني: 156 (275)، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 107 (212)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 4 / 80 (669).