وأيضاً في كنز العمّال:
«سند الصديق، قال عبا البرفقي في جزئه، ثنا عثمان بن سعيد الحمصي، ثنا محمّد بن المهاجر، عن أبي سعيد خادم الحسن، عن الحسن (قام رجل الى عمر بن الخطاب، فقال: من خير الناس؟ قال: ذلك أبو بكر بعد نبيّ الله، قال: وأنّى علمت ذلك؟ قال: لانّ الله باهى بعمر بن الخطاب الملائكة، وأقرأه السلام مرتين، ولم يكن لي شيء من ذلك) كر، وقال مرسل وقد روي في حديث موصول»(1) إنتهى.
وأمّا ثانياً: فلانّ مجد الدين الفيروز آبادي، قال في سفر السعادة:
«[ ومن أشهر الموضوعات ] حديث: (إنّ الله يتجلى يوم القيامة للناس عامّة، ولابي بكر خاصّة)، وحديث: (ما صبّ الله في صدري شيئاً، إلاّ وصبّه في صدر أبي بكر) الخ»(2).
وقال الشيخ عبد الحقّ الدهلوي في شرحه:
«[ يقول المؤلف: إنّ هذه الاحاديث لما كانت تفيد الافضليّة على جميع الخلق ـ الانبياء ومن دونهم ـ أو يفهم منها المساوات مع سيّد المرسلين، أو تكون خارجة من دائرة حكم العقل والعادة، فكلّها من الموضوعات ]»(3) إنتهى.
____________
(1) كنز العمّال: 13 / 3 (36088)، وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 44 / 119.
(2) سفر السعادة للفيروز آبادي: 280، وفيه:
«آنچه مشهور تر است از موضوعات حديث (انّ الله...)».
(3) اشعة اللمعات لعبد الحق الدهلوي، وفيه:
«مصنف گويد اين أحاديث از آنجا كه فضل بر تمام خلق أنبياء وغيرهم لازم ايد با مساوات در رتبه با سيد المرسلين مفهوم گردد يا از دائره حكم عقل وعادت بيرون بود همه موضوعات اند».
وأمّا ثالثاً: فلانّه بعين ما يثبت صاحب سفر السعادة لزوم تفضيل أبي بكر بحديث التجلي على الانبياء، يثبت تفضيل عمر على نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديث المباهاة، وهذا كفر!، فتكون تلك الروايات موضوعة.
وأمّا رابعاً: فلانّ مباهاة الله بعمر الملائكة، مستلزم لتفضيل عمر عليهم، فإنّ المباهى به أفضل من الباهي بتصريح السنّيّة ; وقد اعترف بذلك المحبّ الطبري في الرياض النضرة.
بل لغاية غفوله وكثرة ذهوله عن قواعد الدين، وعدم إحتفاله بالكتاب والسنّة وإجماع كافة المسلمين، إحتجّ بهذه الخرافة الموضوعة على تفضيل عمر على الملائكة، وجعله معتقداً محكماً، وأمراً مبرماً، وقال في الرياض، في فضائل عمر:
«ذكر إختصاصه بمباهاة الله تعالى به خاصّة يوم عرفة: عن بلال بن رباح، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له يوم عرفة: (يا بلال، أسكت الناس، أو أنصت الناس، ثمّ قال: إنّ الله تطول عليكم في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم
فهذا الكلام كما تراه! صريح في أنّ حديث المباهاة الذي هو من أعظم الخرافات، يدلّ دلالة واضحة على تفضيل عمر على الملائكة، وقد إنعقد إجماع المسلمين على مفضوليّة عمر، بل أبي بكر أيضاً من الملائكة، ودلّت على ذلك الدلائل العقليّة، والبراهين النقليّة، والحجج الساطعة، والاثار القاطعة.
وكيف لا!، فإنّ الملائكة معصومون بالاجماع، وهم ـ عمر وأخوه ـ بمراحل بعيدة، ومنازل شاسعة، عن أنْ يحوموا حول العصمة، فكيف يفضل السقيم على من هو من الذنب سليم؟!، سبحانك هذا بهتان عظيم!.
فظهر من هناك، ولا كظهور مسفر الصباح، إنّ حديث المباهاة كذب صراح، وبُهتان بواح، والمصدقين له والمذعنين له بجانب أقصى عن النقد والورع والصلاح، هائمون في مهامة الخزي والافتضاح.
وصاحب الاكتفاء أيضاً لم يكتف بإيراد هذا الافتراء، حتى بالغ في الوقاحة والمراء، فأثبت بهذه الخرافة فضل عمر على ملائكة السماء!، وذكر ما ذكر صاحب الرياض بلا مهابة من مؤاخذة الناقدين الفضلاء، حيث قال:
____________
(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 261 (646)، وانظر الفوائد لتمام الرازي: 32، سنن ابن ماجة: 3 / 473 (3024).
وبالجملة: مع ما سمعت من الدلائل الظاهرة العقليّة، على بطلان حديث المباهاة، حتى ظهر عليك أنّه من أعظم الخرافات، وأشنع التراهات، وأقطع البطلان، إسناده أيضاً مقدوح، لا يصلح للوثوق والركون، فالاحتجاج والاستدلال به محض الجنون وصريح المجون.
وكيف يكون له إسناد معتمد وطريق مستند؟!، مع أنّ ابن الجوزي إمام أئمتهم النقّاد، والمدوّخ صيت فضله ونقده الاوغار والانجاد، قد قدح في هذا الخبر المكروه بابلغ الوجوه، وعدّه من الاحاديث الواهية، الكثيرة العلل، الشديدة التزلزل، التي لا تثبت بوجه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال ابن الجوزي في العلل المتناهية في الاحاديث الواهية، في باب فضل عمر بن الخطاب من كتاب الفضائل والمثالب:
«حديث آخر: أنا القاسم بن السمرقندي، قال: أنا ابن ناجية، قال: أناالحسن بن عليّ بن الاسود، قال: أنا بكر بن يونس بن بكير الشيباني، قال: أنا
____________
(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.
وقد أنبأنا الحريري، قال: أنبأنا العشاري، قال: أنا الدارقطني، قال: أنا عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، قال: حدّثنا بكر بن سهل، قال: أنا عبد الغني بن سعيد الثقفي، قال: أنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن ابن صريح، عن ابن عباس، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ الله باهى بالناس يوم عرفة عامّة وباهى بعمر بن الخطاب خاصّة) [ ومافي السماء ملك إلاّ وهو يوقّر عمر، وما في الارض شيطان وهو يفرق من عمر بن الخطّاب ](1)، [ قال المصنّف ]: لا يصحّ، قال ابن حبّان: موسى بن عبد الرحمن دجال يضع الحديث»(2).
ثمّ إنّك مع ما سمعت من جرح هذا الحديث وقدحه من حيث الاسناد، ودلالة الدلائل العقليّة على بطلانه وكذبه، إقترحت الاتيان بنصّ أكابرهم ونقّادهم على وضع هذه العصبيّة والقرفة الكريهة، فها أنا اُسمعك ما يشفي دائك ويروي روائك، ويثلج صدرك، ويلبّد بلبلتك:
فاعلم! إنّ إمام أهل حديثهم، وناقد رجالهم، ونحريرهم الاوحدي،
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) العلل المتناهية لابن الجوزي: 1 / 196 (306) (307)، وانظر التاريخ الاوسط للبخاري: 2 / 264، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 393 (1535)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 2 / 198 (271)، المجروحين لابن حبّان: 2 / 242.
«أبو سعد خادم الحسن البصري، لا يُدرى من ذا، وخبره باطل.
هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا محمّد بن مهاجر، عن أبي سعد خادم الحسن، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أبغض عمر فقد أبغضني ـ إنّ الله باهى بالناس عشيّة عرفة، وباهى بعمر خاصّة) رواه الطبراني في المعجم الاوسط»(1).
فهذا كما تراه صريح في أنّ حديث المباهاة كذب فضيح، وباطل قبيح، وإنّ راويه الذي روى عنه هذا الخبر المعلول الطبراني في المعجم الاوسط هو مجهول.
فيا للعجب! كيف أوغل ابن حجر مع إدعائه معرفة الحديث وحال الرجال، بتشنيعه على الشيعة بتوهمات فاسدة، ونسبتهم إلى الجهل وفقدان التمييز وعدم التحصيل، في تيه العصبيّة والجهل والكذب والبهتان، ولم يخف مؤاخذة الناقدين الاعيان، حتى إحتج بهذا الخبر الباطل الموضوع.
ثمّ لم يكتف عليه، فادعى كذباً وزوراً، إنّ إسناد هذا الخبر الباطل حسن، سبحان الله! يكون مثل هذا الاسناد حسناً.
ولا يخفى عليك! إنّ رواة هذا الخبر سوى هذا الخادم الاثم أيضاً مجروحون، فإن محمّد بن المهاجر الذي روى عن أبي سعيد هذا الكذب الظاهر مقدوح مجروح، ذكره البخاري في الضعفاء، قال: لا يتابع على حديثه.
____________
(1) ميزان الاعتدال: 7 / 372 (12036)، وانظر المعجم الاوسط للطبراني: 2 / 147 (1273).
«محمّد بن مهاجر الكوفي القرشي، عن إبراهيم بن محمّد بن سعد، عن أبي وقّاص، وأبي جعفر الباقر، وعنه عبد الرحمن بن معزاء، قال البخاري: لا يتابع على حديثه ; قلت: ولا يعرف»(1).
وأيضاً في هذه الرواية إسماعيل بن عياش، وهو أيضاً مقدوح عند كثير من النقّاد الماهرين، والمهرة البارعين، قال النسائي: إنّه ضعيف، وقال ابن حبّان: إنّه كثير الخطأ خرج عن حد الاحتجاج، وقال أبو إسحاق الفزاري: إنّه لا يدري ما يخرج من رأسه، وقال أيضاً لا تكتبوا عنه سواء روى عن معروف أو غير معروف، وقال عبد الله بن المديني: إنّه عندي ضعيف، وقال ابن خزيمة: لا يحتج به، ففي الميزان للذّهبي:
«قال الفسوي: تكلم قوم في إسماعيل، وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام، أكثر ما تكلموا فيه قالوا: يغرب عن ثقات الحجازيين ; وأيضاً فيه: وقال دحيم: هو فيه في الشاميين غاية وخلط، عن المدَنيين ; وقال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر ; وقال أبو حاتم: ما أعلم أحداً كفّ عنه إلاّ أبو إسحاق الفزاري ; وقال النسائي: ضعيف ; وقال ابن حبّان: كثير الخطاء في حديثه، فخرج عن حدّ الاحتجاج به [ وقال صالح الفراء: قلت لابي إسحاق الفزاري: اني أريد مكة وأريد أن أمرّ بحمص فاسمع من إسماعيل بن عياش، قال: ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه ](2)»(3).
____________
(1) ميزان الاعتدال: 6 / 246 (8221)، وانظر التاريخ الكبير للبخاري: 1 / 230 (722).
(2) اثبتناه من المصدر.
(3) ميزان الاعتدال: 1 / 400 (924)، وانظر التاريخ الاوسط للبخاري: 2 / 226، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 191 (650)، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 49 (36)، المجروحين لابن حبّان: 1 / 124، الضعفاء الكبير للعقيلي: 1 / 88 (102).
«ت ق، بكر بن يونس بن بكير، عن موسى بن عليّ، والليث ; قال البخاري: منكر الحديث ; وضعفه أبو حاتم ; وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه لا يتابع عليه ; وله: عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر (إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ على قوم يرمون ويتحالفون، فقال: ارمُوا ولا إثم عليكم، فهم يقول: أخطأت والله، أصبّ والله).
عن موسى بن عليّ، عن أبيه، عن عقبة مرفوعاً: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام فإنّ الله يطعمهم ويسقيهم) قال أبو حاتم: هذا الحديث باطل ;وله: عن ابن لهيعة، عن مشرح، عن عقبة رفعه (إنّ الله يباهي الملائكة عشية عرفة بعمر) وهذا [ باطل ](1) جدّاً»(2).
أقول: فأحمد الله تعالى حمداً جميلاً، حيث أنطق الذّهبي خرّيتهم
____________
(1) في المصدر [ منكر ].
(2) ميزان الاعتدال: 2 / 65 (1301)، وانظر التاريخ الاوسط للبخاري: 2 / 290، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 393 (1535)، والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 2/198 (271).
فما لهؤلاء! الصادين عن الورع والدين، المادين في الفرية والكذب على الاعلام الهادين، المتسارعين الى إتباع كلّ ناعق وناهق، المقبلين على الفات كذبات كلّ مفتر فاسق، لا يصغون الى نصوص أائمتهم الحذّاق، ومبرّتهم النقّاد، وأعلامهم البارعين، وأحبارهم الكاملين، حيث ينادون بقدح هذه الفرية، وجرحها وطعنها، وثلبها وردها، وروعها ووضعها، وكذبها وإختلاقها، وبشاعة مذاقها، وشناعة سياقها، فما بالهم لا يسمعون ذلك ويلهجون بتصديق هذه الخرافات، ويولعون بتصويب هذه الكذبات، ويوردونها ويخرجونها في أسفارهم إبتهاجاً وإستبشاراً، ويستطيرون بروايتها فرحاً وإفتخاراً!.
قال في الصواقع: «الرابعة والعشرون والمائة: طُعن أهل السنّة بأنّهم يزعمون أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر عشيّة عرفة إلى عمر فتبسّم وقال: (إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامّة، وباهى بعمر خاصّة) لا يدلّ على نفيها، لانّ المراد بالعباد أصحابه، والغرض من ذكرها بيان فضلهم، وإختصاص عمر بفضيلة إستحقّ بها المباهاة به خاصّة، والاختصاص بفضيلة لا يوجب التفضيل، ولانّه يحتمل أنّه تعالى باهى به خاصّة، إلاّ أنّه لم يذكره، ولانّ الغرض من المباهاة إبداء فضل من أراد من عباد المؤمنين للملا الاعلى، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) مستغنياً عنه، فإنّهم كانوا يعرفونه بأنّه أفضل الخليقة وأكرم عند الله، وهو صاحب المقام المحمود
أقول: لمّا ظهر من كلام عبد الحقّ فاضلهم الجليل، وشيخهم النبيل، إنّ حديث التجلّي يستلزم عند الفيروزآبادي تفضيل أبي بكر على الانبياء(2)، ثبت بداهة أنّ حديث المباهاة أيضاً يدلّ على تفضيل عمر بن الخطّاب على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وسائر الانبياء، فإنّه لا وجه لاستلزامه تفضيل أبي بكر على الانبياء، إلاّ أنّه يدل على أنّ الله يتجلى للناس على وجه العموم، ولابي بكر على وجه الخصوص، ولفظ الناس يعم جميع الانبياء وغيرهم، فيظهر من ذلك أنّ الانبياء لا يتجلى لهم الله خاصّة، بل يتجلى لهم عامّة، ويتجلى لابي بكر خاصّة، وهذا يدلّ على تفضيله على الانبياء، هذا هو مراد عبد الحقّ وتفصيل ما أجمله، وهذا التقرير بعينه جار في حديث المباهاة أيضاً لفظاً باللّفظ.
فقد ثبت بحمد الله، إنّ عند محقّقيهم مثل هذه الالفاظ تدلّ على التفضيل، فإنكار الكابلي لهذه الدلالة ردّ على علمائه، وتحقير لفضلائه!.
ولا ينفع في مقابلتنا تغليط أعلامه وتسفيه أكابره في خرزة، لانّ هذه الدلالة ولو كانت في نفس الامر مفقودة، ولكن إذا سلّمها شيوخهم وثقاتهم وأثبتوا بها وضع فضائل الاول، فالاولى أنْ نثبت متمسكين بهذه الدلالة وضع فضائل الثاني.
ثمّ لا أدري! ما أراد الكابلي بقوله: والاختصاص بفضيلة لا يوجب التفضيل.
____________
(1) الصواقع للكابلي مخطوط.
(2) انظر فيما تقدم وبالتحديد التفريع الثالث.
وإنّ أراد: إنّ عمر إختصّ عن أصحابه بفضيلة، ولكن إختصاصه بذلك لا يوجب تفضيله عليهم!، فمع أنّه لا ربط له بالمقام، لانّ الاشكال على ما قرره إنّما هو لزوم أفضليته على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما قرّره لا على أصحابه، يكون صريحاً في أنّه قد اضطرب عليه الامر، واستولى عليه العجز، وتشتت عقله من قوة الاعضال، فتبرء عن لزوم أفضلية عمر على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، مع أنّ ذلك عين مذهبه، وصراح عقيدته، والمجمع عليه بين أهل نحلته، فكيف ينفى ذلك؟!.
اللهمّ إلاّ أن يقول: تبرّأت من ذلك لئلاّ يلزم تفضيله على أبي بكر لانّه أيضاً من جملة الاصحاب!.
فنقول: هذا دفع للعيان وإنكار للضروري، لانّه إذا بلغ من حال عمر أنّه
وإن لم يرض الكابلي بذلك ولم يصغ إليه، فليصغ لقول حليفته وإمامه، فإنّه قد صرّح بأنّ هذا يدلّ على أفضلية ابن الخطاب عليه، لما سبق آنفاً.
ثمّ إنّي لم أحصل بين الوجه الثاني والاول فرقاً، لانّ حاصل الوجه الاوّل: إنّ المباهاة خاصّة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنه لم يذكرها فلا يدلّ على كونه من العامّة. ومحصّل الوجه الثاني الّذي ذكره بقوله ولانّه يحتمل... الخ: أيضاً هو ذلك.
فليت شعري!، لم كرّر هذا المضمون من غير فاصلة بلا فائدة ; بحيث يوهم أنّ الثاني غير الاوّل، وهل هذا إلاّ رقاعة واضحة، لا يأتي بمثلها إلاّ المالوس في العقل.
ولكن المراد تخديع العوام والتلبيس عليهم، حتى يظنوا أنّ الكابلي ذكر لهذا الاشكال الذي ذكر ـ موافقاً لقول أعلامهم ـ أجوبة متعدّدة، وأورد عليه إيرادات كثيرة!.
وأمّا تفوهه: بأنّ المباهاة كانت لابداء فضل المباهي به، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كان مستغنياً عن إبداء فضل، لما كانوا يعلمون أنّه أفضل الخليفة... الخ: فلو لزم من علم الملا الاعلى بفضل أحد عدم المباهاة به، لزم أنّ لا يباهي الله برجل مرّتين، وذلك باطل بداهة.
بل كلّ ما زاد الله برجل مباهاة فقد زاده فضلاً، فليس يستلزم علم الملا
ثمّ نقول: إنّ أهل السنّة يروون أنّ الملا الاعلى كانوا يعلمون فضل عمر أيضاً، كما كانوا يعلمون فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث إستبشروا بإسلامه، وما من ملك إلاّ وكان يوقّره، وقال جبرئيل (عليه السلام): إنّه لو حدّث بفضائل عمر في السماء ما لبث نوح في قومه ما نفدت فضائله، وكان له قصر في الجنّة فيه جارية له، فلا فائدة للمباهاة به أيضاً!.
ثمّ لا فائدة في المباهاة لابي بكر أيضاً!، لانّ فضله كان في السماء مشهوراً، وكان يسمى في السماء صدّيقاً، فيجيب عليهم أن ينفوا المباهاة عنه في العامّة أيضاً، فيبيّنوا زيادة خزية ونهاية فضيحة، حيث لم يرضوا بإدخاله في العامّة فضلاً عن الخاصّة!.
ثمّ إنّ صاحب التحفة لمّا إطّلع على بعض مافي كلام الكابلي من الزلل والخلل، أراد إصلاحه وأعرض عن سرقة كلامه بحذافيره، مع أنّ ذلك دأبه في أكثر المواضع، إلاّ أن يجد خللاً، فذكر بعض حكماته وأضاف إليه بعض هفواته، فقال:
«[ الكيد الواحد بعد المائة: إنّ ما يُقال حول قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله تعالى نظر عشيّة يوم عرفة الى عباده فباهى بالناس عامّة وبعمر خاصّة) الوارد في كتب أهل السنّة، وإنّ هذا يوجب تفضيل عمر على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحقير مرتبة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اُدخل مع عامّة الناس مع تخصيص عمر، ففيه:
أوّلاً: أيّ شيء في هذا الكلام يدلّ على كون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) داخلاً في عامّة الناس، فإنّ المراد بالناس الحجّاج الحاضرين، ومن القواعد الاُصوليّة خروج المتكلّم عن عموم كلامه.
وثانياً: إنّ فهم العموم والخصوص طبقاً للمتعارف عند الناس في هذا الزمان، حيث يقال: فلان من العامّة وفلان من الخاصّة، فهذا الفهم من هذا اللّفظ لا يستقيم مع القواعد العربيّة، وإنّما يحصل هذا الفهم لمن جهل كلام العرب تماماً، وإنّما معناه أنّ الله تعالى كان في صدد بيان فضل حجاجه عموماً للملائكة وفضّل عمر خصوصاً، ففي الحديث بيانٌ لفضل جميع من حضر حجّة الوداع، نعم خصّص عمر مباهاة [ للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ] امام الملا الاعلى، حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) مشهوراً بالفضل عندهم وكانوا يعتقدون عظمته، فأراد الله تعالى إعلامهم بفضل عمر، وإنّ أحّد أنصار هذا النبيّ هذا الشخص الحائز هذه الرتبة [ السامية ]. فالحقيقة أنّ هذا مباهاة بعظمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث له هكذا أصحاب ]»(1) إنتهى.
____________
(1) تحفة اثنا عشريّة للدهولي الباب الثاني: 192، وفيه:
[ كيد صد ويكم: آنكه گويند در كتب أهل سنت مذكور است كه آن حضرت (صلى الله عليه وآله وسلم)فرمود (انّ الله تعالى نظر عشيّة يوم عرفة إلى عباده فباها بالناس عامة وبعمر خاصة) واين روايت موجب تفضيل عمر بر پيغمبر مى شود وتحقير جناب پيغمبر (صلى الله عليه وآله وسلم) كه او را در عامه ناس داخل كرده اند وعمر را خاص قرار داده اند ودرين طعن جور وجفا وتعصب وعناد از حد در گذشته وحمل الكلام على غير محمله بنهايت رسيده، اول: در اين كلام كدام دليل است بر آنكه پيغمبر (صلى الله عليه وآله وسلم) در عامه بود زيرا كه مراد بناس حاجيان حاضرين اند، وقاعده اصوليه است كه متكلم از عموم كلام خود خارج مى باشد.
دوم: آنكه فهميد عمرم وخصوص موافق متعارف مردم اين زمان كه گويند فلانى در عامه است، وفلانى در خاصه، ازين لفظ اصلاً از روى عربيّت راست نمى آيد كه كسى اين را مى فهمد كه مطلق نا آشنا با كلام عرب باشد، بلكه معنيش آنست كه حق تعالى در آن روز با فرشتگان فضيلت حاجيان ذكر كرده فرموده على العموم وفضيلت عمر بيان كرده بتخصيص پس درين حديث فضيلت جميع حضار حجة الوداع است، آرى عمر را تخصيص فرمود بمباهات براى اظهار شرف او نزد ملا أعلى كه فضيلت آنجناب در ملا أعلى شهرت يافته بود ومعتقد بزرگى ايشان بودند درين وقت ايشان را بحال عمر نيز مطلع كردند كه يكى از ياران او اين شخص است كه ان مرتبة دارد، پس در حقيقت مباهات بزرگى پيغمبر است كه رفيقان او وياران او اين مرتبه دارند ].
أمّا أوّلاً: لانّ ظاهر كلامه دلّ على أنّ الشيعة تقول: إنّ هذا الحديث دالّ على كون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من العامّة بمعنى الجهلاء، وتقول: إنّ العامّة فيه مقابل الخاصّة بمعنى العلماء والاشراف، مع أنّي لم أرهم ذكروا ذلك في كتبهم!، فعليه أن يثبت ذلك ثمّ يشتغل بردّه ; أما ترى! الكابلي لم ينقل ذلك عن الشيعة.
وأمّا ثانياً: فلانّ ماذكر من القاعدة الاُصوليّة أنّ المتكلّم خارج من عموم الكلام، لا يعتمدها أهل نحلته وأئمّة حديثه، وشيوخ دينه في معارضة الشيعة.
ألا ترى!، ما تفوّه به التوربشتي في شرح حديث الطير، مثبتاً أنّه لا يدلّ على أحبيّة أمير المؤمنين من الجميع:
«وممّا يبيّن لك أنّ حمله على العموم غير جائز، هو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من جملة خلق الله، ولا جائز أن يكون عليّ أحبّ إلى الله منه»(1) إنتهى.
فهذا الرجل لا ينظر لهذه القاعدة الاصوليّة التي تشبّث بها الدهلوي في
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 466 (6094) وقد نقل كلام التوربشتي بالكامل.
وأمّا ثالثاً: فلانّه إن منع دلالة لفظ العامّة الواقعة في هذا الحديث على المعنى المتعارف، أعني الجهلاء وعوام الناس فلا بحث عن ذلك، فإنّه لم يثبت أنّ الشيعة إدعت ذلك، وإن أراد أنّ لفظ العامّة في أيّ مقام كان لايدلّ على المعنى المتعارف كما هو صريح كلامه، فهو دليل على نهاية جهله وكونه من العامّة ; ففي القاموس:
«العمم: اسم جمع للعامّة، وهي خلاف الخاصّة»(1) إنتهى.
وقال ابن الاثير في النهاية ـ في العمم ـ وفيه:
«(كان إذا أوى إلى منزله جزّأ دُخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لاهله، وجزءاً لنفسه، ثمّ جَزَّأ جُزءه بَينَهُ وبين الناس، فيَردّ ذلك على العامّة بالخاصّة) أراد أن العامَّة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت، فكانت الخاصَّة تخبر العامّة بما سمعت منه، فكأنّه أوْصَل الفوائِد إلى العامَّة بالخاصّة ; وقيل: إنَّ الباء بمعنى من: أي يَجْعل وقْت العامَّة بعدَ وقت الخاصّة، وبدلاً منهم، الخ ; وفي الحميدي: العاميّ المنسوب الى العامّة وهو الجهال»(2) إنتهى.
____________
(1) انظر لسان العرب حرف العين.
(2) النهاية لابن الاثير: 3 / 273 باب (عمم).
فقد روى أحمد بن حنبل في فضائل عليّ (عليه السلام)، على ما نقل:
«خرج على الحجيج عشيّة عرفة، فقال لهم: (إنّ الله باهى بكم الملائكة عامّة وغفر لكم عامّة، وباهى بعليّ خاصّة وغفر له خاصّة، إنّي قايل لكم قولاً غير محاب فيه بقرابتي، إنّ السعيد كلّ السعيد حقّ السعيد من أحبّ عليّاً في حياته وبعد موته)»(1).
____________
(1) انظر فضائل الصحابة لابن حنبل: 2 / 658 (1121)، وفيه بعد ذكر الاسناد:
«عن فاطمة (عليها السلام) قالت: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشيّة عرفة فقال: (إنّ الله عزّ وجلّ باهى بكم وغفر لكم عامّة، ولعليّ خاصّة، وإنّي رسول الله إليكم غير محاب بقرابتي. إنّ السعيد كلّ السعيد حقّ السعيد من أحبّ عليّاً في حياته وبعد موته».
وممّن ذكر هذا الحديث ; ابن أبي الحديد في شرح النهج: 2 / 118 (1368)، والطبراني في الكبير: 22 / 415 (1026) مع زيادة، والهيثمي في مجمع الزوائد: 9 / 180 (14758)، والنقشبندي في مناقب العشرة: ترجمة الامام عليّ: 17، والعلاّمة العيني في مناقب سيّدنا عليّ: 23 (95).
أضف إلى أنّ الطبري نفسه قد روى هذا الحديث في مناقب عليّ (عليه السلام) في نفس كتابه ولا أدري! كيف الطريق للجمع بين الروايتين، انظر الرياض النضرة: 2 / 118 (1368).
الفصل السابع
[ في بكاء الاسلام لموت عمر ]
وممّا يجب أن يضحك عليه الضاحكون، إنّهم إفتروا على الملك الجليل الامين جبرئيل، إنّه قال: (ليبك الاسلام على موت عمر)(1).
وهذا من سخائف النّقر والبقر، يضحك عليه الثكلان، ويلعب به الصبيان، ولا يصدّقه إلاّ السفهاء العميان، وأمّا أهل الايقان والايمان، فيعلمون بصوادق العرفان، إنّه من أعظم البهتان.
وإنْ كان لك شبهة وإلتباس في رواية السنّيّة لهذا الكذب، الذي الحد بسماعه ناس، فارجع إلى كتبهم المشهورة، وأسفارهم المحقورة، تجد صدقي ظاهر، أو برهان إدعائي زاهر.
ففي كنز العمّال في فضائل عمر:
____________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير: 1 / 67 (61)، وأبو نعيم في الحلية: 2 / 175، والسيوطي في تاريخ الخلفاء: 119، وغيرهم.