الصفحة 573

فباح من هذه العبارة إنّ ابن عدي إمام السنّيّة في التنقيد والتنقيب عن السالم والمليب، ملاذ هذه الجماعة في أمر هذه الصناعة، المشهود له بالفضل والبراعة، قد حكم على هذه الخرافة الظاهرة الشناعة، البيّنة الفظاعة، بأنّها من الاكاذيب الاباطيل، والخدع الاضاليل.

فياللعجب! من هذه الاكابر، كيف تهالكوا على تصديق هذا الكذب الظاهر، ولم يفرقوا من عذاب الله القاهر، ولا عن إفترائهم فرق الشياطين من عمر، فإنّه كان الافظ الاغلط الجعظريّ، السيء الخلق الشامس الحرون(1)، بالغاً من القبائح والشنائع وشراسة الاخلاق وسوء الاعراق الى الغاية القصوى، فلا خافت الشياطين منه، فإنّه كان أشرّ من الشياطين أيضاً!.

ولكن غاية العجب! في أنّهم ماراعوا لله وقاراً، وكذبوا كذباً كباراً، فقالوا: إنّ جميع ملائكة السماء ملبّون على التّوقير في حقّ الفظ الغليظ الشرير.

ثمّ انظر! الى جسارة ابن حجر وخسارته، كيف روى هذا الباطل المكذوب في كتابه وعده من فضائل عمر.

ثمّ بالغ في الوقاحة فاحتجّ بمثل هذه الخرافات على أهل الحقّ، وأراد إفحامهم وإسكاتهم والتشنيع عليهم بهذه المفتريات، ولعمري، من فعل مثل ذلك، لم يذر من الوقاحة وإطراح الحشمة والجرائة على الله ورسوله شيئاً!.

ثمّ إنّه نفض اليد في حبّ إمامه والغرام بفضائله عن الدين والديانة، وطرح

____________

(1) الجعظريّ: قال ثعلب: المتكبر الجافي عن الموعظة، وقال: هو القصير الغليظ / لسان.

رجل مشموس: رجل صعب الخلق / لسان.

يقال فرس حرون: لا ينقاد / لسان.


الصفحة 574
ورائه التمسّك بذمام الورع والامانة، فحاز خيانة شنيعة عظيمة، وارتكب فضيع الاثم والجريمة، فنقل هذا الحديث عن ابن عدي، ولم ينقل حكمه ببطلانه وجرح راوته(1)، فخان في النقل صريحاً، وأوهم العوام أنّ هذا الخبر معتمد مستند، وإنّه صالح للاحتجاج والاستدلال، وإنّ ابن عدي لم يجرح فيه ولم يطعن عليه بشيء، فهذا غاية، الخيانة ونهاية الجراءة والجسارة.

ومن الطريف! أنّ السيوطي أيضاً مع نقده ومهارته، وسعة إطلاعه وكثرة نقده وعظمة شأنه، سلك هذا المسلك الشنيع، وركب متن الخيانة، وترك الامانة، فنقل في الجامع الصغير الذي مدحه عظيماً واثنى عليه بليغاً، هذا الحديث عن ابن عدي، ولم يبيّن قدحه وجرحه ولا نقل حكمه ببطلانه(2).

ولكن المحقّق الناقد والنحرير الاوحدي علامتهم المناوي، فضح السيوطي بما ليس عليه مزيد، وانتهج منهج التنقيد والتحقيق، فقال: إنّ فيه موسى وهو كما في الميزان دجّال وضّاع، وقال ابن عدي: إنّه منكر الحديث، وروى له أحاديث وختمها وقال إنّها بواطيل.

قال المناوي في فيض القدير في شرح هذا الحديث:

«(مافي السماء ملك إلاّ وهو يوقّر عمر، ولا في الارض شيطان إلاّ

____________

(1) قال ابن عدي في ترجمة موسى بن عبد الرحمن بعد ان نقل له عدّة أحاديث من بينها هذا الحديث:

ثنا إسحاق بن يونس، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الغني، ثنا موسى بن عبد الرحمن، عن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (مافي الارض... الحديث) وموسى بن عبد الرحمن هذا لا أعلم له أحاديث غير ماذكرته، وقد يقبل بابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وهذه الاحاديث بواطيل. (انظر الكامل: 8 / 66 (1831)).

(2) الجامع الصغير للسيوطي: 2 / 861 (7980).


الصفحة 575
وهو يَفْرق من عمر) عد عن ابن عباس، وفيه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، قال في الميزان قال ابن حيان: دجّال وضّاع، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وساق له مناكير ختمها بهذا الخبر، ثمّ قال: هذه الاحاديث بواطيل [ فما أوهمه صنيع المصنّف من أنّ ابن عدي خرجه وأقرّه على الصواب ](1).

____________

(1) فيض القدير للمناوي: 5 / 586 (8954)، وانظر ميزان الاعتدال: 6 / 549 (8898)، المجروحين لابن حبّان: 2 / 242، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 8 / 66 (1831).


الصفحة 576

الصفحة 577

الفصل العاشر
[ في مصافحة الحقّ لعمر ]

ومن الاكاذيب المختلقة المكذوبة، والاباطيل المفتعلة المعيوبة، ما يذكرون في أسفارهم، ويعدّوه من مآثر عمر، ومفاخرة فضلاء أحبارهم، من أنّ عمر أوّل من يصافحه الحقّ، وأوّل من يسلم عليه، وأوّل من يأخذ بيده فيدخله الجنّة!.

ففي كنز العمّال:

«(أوّلُ من يصافحهُ الحقُّ عمرُ، وأوّل من يُسلّم عليه، وأوّلُ من يأخذُ بيده فيدخله الجنّة) هـ، ك ـ عن اُبي بن كعب»(1) ـ أي رواه ابن ماجة والحاكم عن أبي بن كعب ـ.

وقد أورده ابن حجر في الصواعق أيضاً، فقال:

«الحديث السابع والاربعون: أخرج ابن ماجة والحاكم، عن اُبيّ بن كعب،

____________

(1) كنز العمّال: 11 / 578 (32741)، وانظر سنن ابن ماجة: 1 / 76 (104)، مستدرك الحاكم: 4 / 36 (4545).


الصفحة 578
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أوّلُ من يصافحه الحقّ عمر، وأوّل من يُسلم عليه، وأوّل من يأخذ بيده فيدخله الجنّة) [ أخرجه الامام أبو عبد الله محمّد ابن يزيد بن ماجة القزويني في سننه والترمذي في جامعه ](1)»(2) إنتهى.

وهذا من الكذب الذي لا يمترى فيه ولا يستراب، ولا يحتاج في إثبات وضعه إلى إقامة دليل وبرهان من السنّة والكتاب.

وإنّي أنقل أولاً أقوال أعلامهم الكبار في ردّ هذا الحديث، وإسقاطه عن درجة الاعتبار، ثمّ اُبيّن وجه كذبه على وجه يجلو صدأ الافكار:

قال ابن الجوزي في العلل المتناهية في الاحاديث الواهية، في باب فضل عمر بن الخطّاب من كتاب الفضائل والمثالب:

«حديث آخر: أنبأنا محمّد بن ناصر، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبّار، قال: أنا عبد الباقي بن أحمد، قال: أنا محمّد بن جعفر بن علان، قال: أنبأنا أبو الفتح الازدي، قال: نا عبيد الله بن جعفر بن أعين، قال: نا عمرو بن عبيد الله بن حنش [ الاودي ](3)، قال: نا إسماعيل بن محمّد الطلحي، قال: نا داود بن عطاء، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أُبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أوّل من يصافحه الحقّ عمر بن الخطّاب [ ثلاث مرّات ](4)، وأوّل من يأخذ بيده فيدخله الجنّة).

طريق آخر: روى أبو البختري وهب بن وهب، عن محمّد بن [ أبي ]

____________

(1) لا يوجد في المصدر.

(2) الصواعق المحرقة لابن حجر: 1 / 276.

(3) لا يوجد في المصدر.

(4) اثبتناه من المصدر.


الصفحة 579
حميد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيّب، عن أُبيّ بن كعب، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: (أوّل من يسلم عليه الحقّ يوم القيامة، وأوّل من يحط له في الجنّة بعمله عمر).

[ قال المؤلّف ]: هذا حديث لا يصحّ ; أمّا الطريق الاوّل: فقال أحمد بن حنبل ويحيى: داود بن عطاء ليس بشيء، وقال ابن حبّان: لا يحتج به بحال ; وأمّا الثاني: ففيه أبو البختري الكذّاب، وفيه محمّد بن أبي حميد، قال النسائي: ليس بثقة»(1).

فظهر من عبارة ابن الجوزي، إنّ هذا الحديث مطعون مجروح، وخبر مثلوب مقدوح، لا ينبغي الاعتماد عليه ولا يصلح للاصغاء إليه، فإنّه من الاحاديث الواهية الكثيرة العلل الشديدة التزلزل، التي لا تثبت بوجه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فيا للعجب! كيف يحتجّ ابن حجر وأمثاله بهذه الخرافات المردودة المقدوحة، ويتقاحمون في المهالك التي ليست عنها مندوحة.

ولا أدري! كيف طاب ابن ماجة نفساً بإدخال مثل هذا الخبر المطعون، الواضح الفساد المقدوح الاسناد في صحيحه، وزعمه من الاحاديث الصحيحة الثابتة، وشمر الذيل لتنفيقه وترويجه.

ولا يخفى! إنّ ابن ماجة مع ما يعتقد السنّيّة من فضله وجلالته وإمامته

____________

(1) العلل المتناهية لابن الجوزي: 1 / 197 (308)، وانظر الجامع في العلل لابن حنبل: 1/221 (1426)، تهذيب التهذيب للعسقلاني: 2 / 119 (2123) وقد نقل قول النسائي فيه، المجروحين لابن حبّان: 1 / 289، الضعفاء والمتروكين للنسائي: 83 (139) في ترجمته محمّد بن أبي حميد.


الصفحة 580
وفخامته وتصدّره في هذا الشأن، وتبريزه وتشريفه على العلماء الاعيان، وتسمية كتابه صحيحاً وإدخاله في الصحاح الستّ، التي عليها إعتمادهم في كلّ باب، ومعمولهم في تمييز الخطأ عن الصواب، قد روى مثل هذا الباطل الواهي المزوّق في هذا الكتاب، وركن إلى تصحيح المكذوبات المفترين الاقشاب، عاقبهم الله بأشدّ العذاب وأصلاهم بأليم العقاب.

فقال في سننه في فضائل عمر، من باب في فضائل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«حدّثنا إسماعيل بن محمّد الطلحي، أنا داوُد بن عطاء المديني، عن صالح ابن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن اُبي بن كعب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أوّل من يصافحه الحقّ عمر، وأوّل من يسلم عليه، وأوّل من يأخذ بيده فيدخله الجنّة)»(1).

ولا يخفى عليك! إنّ هذا الاسناد الذي ساق ابن ماجة وزعم الحديث المروي به معتمداً ثابتاً، مطعون عليه مقدوح فيه.

أمّا أولاً: فإنّ فيه إسماعيل الطلحي، وقد ضعّفه أبو حاتم عمدة نقادهم الاعاظم، والموثوق عليه فيما بينهم في أمر الشرائع والمعالم، قال الذّهبي في الميزان:

«إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل التيميّ الطلحي، عن أسباط بن محمّد، وعدّة وعن ابن ماجة ومطين، وآخرون ; ضعفه أبو حاتم... الخ»(2).

____________

(1) سنن ابن ماجة: 1 / 76 (104).

(2) ميزان الاعتدال: 1 / 406 (933)، وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 195 (661).


الصفحة 581
وأمّا ثانياً: فإنّ فيه داود بن عطاء، وقد جرحه أحمد إمام هذا الشأن، المبرّز على الاقران، الفائق على الاعيان، المقتدى المتبوع في الاُصول والفروع، فقال: إنّه ليس بشيء. وقال النسائي صاحب الصحيح: إنّه منكر الحديث، ويحيى ابن معين الذي هو إمام الناقدين البارعين، أيضاً قال: إنّه ليس بشيء، وقال ابن حبّان الناقد للرجال: إنّه لا يحتجّ به بحال، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ ضعيف الحديث، وقال البخاري أيضاً: إنّه منكر الحديث، وقال ابن عديّ: في حديثه بعض النكرة(1).

وأمّا ثالثاً: فإنّ ابن كيسان وإنْ كان عند أكثرهم ثقة معتمداً لكنّه رمي بالقدر!، والذّهبي إنْ قال: إنّه لم يثبت ذلك عنه، لكن لا ريبة في أنّ ذلك أيضاً يورث نوع وهن في الخبر، بعد ما سمعت من طعون غيره من رجال هذا الخبر!، قال الذّهبي في الميزان:

«صالح بن كيسان أحّد الثقات والعلماء رمي بالقدر، ولم يصحّ ذلك عنه»(2).

وبالجملة: لو لم يكن في هذا الاسناد إلاّ داود بن عطاء، لكان ذلك كافياً في الجرح وكشف الغطاء، فإنّه مقدوح بالاجماع لم يذهب منهم ذاهب إلى توثيق

____________

(1) انظر الجامع في العلل لابن حنبل: 1 / 22 (1426)، تهذيب التهذيب للعسقلاني: 2 / 119 (2123)، ونقل قول النسائي فيه، والمجروحين لابن حبّان: 1 / 289، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 3 / 420 (1919)، التاريخ الكبير للبخاري: 3 / 243 (836)، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 3 / 49، (628)، ميزان الاعتدال: 3 / 19 (2634).

(2) ميزان الاعتدال: 3 / 411 (3828).


الصفحة 582
هذا الواضع الخدّاع، فكيف إذا انضمّ عليه قدح رجلين آخرين من هذا الاسناد؟!، فإنّه أدعى لوهن الخبر وإفتضاح المعتمد عليه عند النقاد، وعلمت أنّ داود بن عطاء بتصريح البخاري منكر الحديث.

فقد ظهر عليك! إنّ ابن ماجة وأترابه وأحزابه قد إرتكبوا الحرام، وإقتحموا في غير الجائز حيث رووا روايته، وقد قال البخاري: إنْ قلت فيه أنّه منكر الحديث لا يجوز الرواية عنه، كما سبق غير مرّة.

فليت شعري! كيف إجترأ ابن ماجة برواية هذا الخبر المردود في كتابه، ولم يذكر مافيه من الطعن والعيب، هل هذا إلاّ قلّة ورع ورقّة دين، وتهالك على العدوان وتسارع إلى البهتان؟!.

سبحان الله! يروي هذا الحديث عن داود، ولا يشعر أنّه بتصريحات النقّاد مقدوح مردود.

وبالجملة: قد انعقد على جرحه وطعنه إجماع أرباب الرجال، وليس أحّد منهم يوثّقه، ولذلك حكم الذّهبي وابن حجر العسقلاني بالقطع والبتّ بضعفه، وما أشعرا باختلاف فيه كما في غيره ; قال ابن حجر العسقلاني في التقريب:

«داود بن عطاء المزني مولاهم، أبو سليمان المدني أو المكّي، ضعيف في الثامنة»(1).

وقال الذّهبي في الكاشف:

«داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم وصالح بن كيسان، وعنه إبراهيم

____________

(1) تقريب التهذيب لابن حجر: 1 / 229 (1972).


الصفحة 583
الحزامي وعبد الله الاذرمي، ضعيف»(1).

وفي حاشية الكاشف: «قال أحمد: ليس بشيء، وقال مرّة: لا يحدث عنه، وقال: قد رأيته قبل أن يموت بأيّام، وقد قال أبو حاتم: ليس بقوي ضعيف الحديث ومنكر الحديث، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، وقال مرّة: هو ضعيف، وقال ابن عدي: ليس حديثه بالكبير، وفي حديثه بعض النكرة»(2).

وقد طعن الذّهبي أيضاً في هذا الخبر فقال في ترجمة داود في الميزان بعد قدحه وطعنه وإخراج هذا الخبر: إنّه منكر جدّاً، وهذه عبارة الميزان:

«داود بن عطاء المدني، أبو سليمان، من موالي الزبير، ويقال فيه داود بن أبي عطاء، عن زيد بن أسلم، وصالح بن كيسان، وعنه الاوزاعي شيخه، وإبراهيم ابن المنذر، وعبد الله بن محمّد الاذرمي ; قال أحمد: ليس بشيء قد رأيته ; وقال البخاري: منكر الحديث:

قال ابن أبي عاصم في كتاب السنّة: ثنا إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن محمّد بن يحيى بن زكريا بن طلحة بن عبد الله، ثنا داود بن عطاء، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أُبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أوّل من يصافحه الحقّ عمر، وأوّل من يأخذ بيده

____________

(1) الكاشف للذهبي: 1 / 381 (1453).

(2) لم نجده في حاشية الكاشف الموجودة عندنا، وانظر الجامع في العلل لابن حنبل: 1 / 321 (1426)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 2 / 420 (1919)، والتاريخ الكبير للبخاري: 3 / 243 (836)، وأبو زرعة الرازي كتاب الضعفاء: 2 / 614، والكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 3 / 549 (628).


الصفحة 584
فيدخله الجنّة) هذا منكر جدّاً»(1) إنتهى.

فقد دريت ممّا انهينا إليك، إنّ حديث المصافحة ممّا ضرب عنه العلماء الناقدون صفحاً ولم يتلقوه بالقبول، بل أوسعوه قدحاً وجرحاً!.

وأيضاً ثبت أن راويه منكر الحديث بتصريح البخاري، وقد قال: إنّه من قال فيه ذلك لا يحلّ رواية حديثه، فقد تبيّن أنّ ابن ماجة ومن تابعه وماثله ارتكبوا الحرام، وأخبروا على غير الحلال.

وقد انتهج ابن كثير مع كثرة عصبيّة وظهور عناده أيضاً منهج الانصاف والتنقيد، وفضّح حماة المفترين بما ليس عليه من مزيد، حيث أبان سخافة ابن ماجة في إخراجه هذا الكذب البيّن السماجة، الذي ليس إلى تبيين شناعته حاجة، فقال: إنّه منكر جدّاً وما أبعد أن يكون موضوعاً، والافة فيه من داود بن عطاء ; قال السيوطي في مصباح الزجاجة شرح سنن ابن ماجة، في شرح هذا الحديث:

«قال الحافظ عماد الدين بن كثير في جامع المسانيد: هذا الحديث منكر جداً، وماأبعد أن يكون موضوعاً، والافة فيه من داود بن عطاء»(2) إنتهى.

والحمد لله حمداً كثيراً!، حيث انطق مثل ابن كثير بردّ هذا الحديث الّذي رواه ابن ماجة في سننه، وما تراه كيف إستأصل شأفته، وقطع جرثومته، وجزم عرقه، فجعله منكراً جدّاً، وصرّح بأنّ وضعه غير بعيد، وإنّ الافة ـ يعني آفة الوضع والافتراء ـ من داود بن عطاء، فهل بعد ذلك كلّه ممّا سمعت لك ريبة في

____________

(1) ميزان الاعتدال: 3 / 19 (2634)، وانظر السنّة لابن أبي عاصم: 2 836 (1280).

(2) مصباح الزجاجة للسيوطي: 11، وانظر جامع المسانيد لابن كثير: 1 / 72 (41).


الصفحة 585
عصبيّة هؤلاء المتسمين بالعلماء، والمتهالكون على تصديقات أكذوبات الكذبة الجهلاء؟!.

وانظر! الى قلّة مبالاة ابن حجر وأمثاله، كيف لم يتفحّصوا عن حال هذا الحديث عند نقادهم وأئمّتهم، حيث جرحوه وقدحوه مرّة بعد اخرى، ولا لحظوا إلى إسناده حتّى يعلموا مافيه من الافة والبلاء، وبمجرّد الاعتماد على المخرجين له والراوين إيّاه، ذكروه في كتبهم وتشبثوا بذيله، ولم يكتفوا بذلك حتى راموا إفحام الشيعة بأمثال هذه الخرافات!.

وإذا رأيت ذلك كلّه، فاعلم! إنّه يدلّ على وضع هذا الخبر وكذبه نفس متنه: فإن أوّلية عمر في المصافحة والدّخول في الجنّة، مستلزم لتفضيله على أبي بكر فضلاً عن غيره، وأخال أنّهم وإنْ التزموا كلّ الشنائع والقبائح لا يرضون بتفضيل عمر على أبي بكر، وهذا دليل إلزامي محض.

وأمّا ما يدلّ على كذبه وبطلانه تحقيقاً وإلزاماً فهو: إنّه قد ثبت برواية الفريقين أنّ أوّل الداخلين في الجنّة إمام الانس والجنّة، حيث يدخل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سابقاً على الكلّ فيها، لا يسبقه سابقاً ولا يتقدّم عليه متقدّم(1).

____________

(1) أورد هذا الخبر أغلب محدثي الشيعة في كتبهم، أمّا من أورده في حقّ عليّ (عليه السلام) من المخالفين الخوارزمي في مناقبه: 61 (31)، والعلاّمة العيني في مناقب سيّدنا عليّ (عليه السلام): 30 (169)، والمولوي ولي الله الكهنوي: 37 عن جابر، والامرتسري في ارجح المطالب: 661 عن جابر.


الصفحة 586

الصفحة 587

الفصل الحادي عشر
[ في ملازمة الحقّ لعمر ]

وممّا فارقوا بوضعه الحقّ، وجانبوا بافتراءه الصدق، ما يدلّ على ملازمة ابن الخطّاب الحقّ، وهذا من الاكاذيب الفاضحة، والافتراءات الواضحة.

وقد أختلقوا في ذلك عدّة أحاديث قبيحة، وأنا أذكرها ثمّ أثبت كونها من الاُكذوبات الصريحة، فمنها ما افتروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (الحقّ بعدي مع عمر حيث كان)(1).

ومن العجب العجاب!! انّهم قصدوا به معارضة الاحاديث الثابتة في حق أبو الائمّة الاطياب عليه وعليهم صلوات الله الملك الوهاب، ماهمر رباب وهمر سحاب(2).

قال الكابلي في باب الامامة:

____________

(1) ذكره السيوطي في الصغير: 1 / 442 (3841)، والديلمي في مسند الفردوس: 2 / 152، والطبراني في المعجم الاوسط: 3 / 270 (2650).

(2) الرباب بالفتح: سحاب أبيض / لسان.


الصفحة 588
«العاشر ـ أي من الاحاديث التي تمسّكت الشيعة بها على إمامة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ـ ما روي أنّه قال: (رحم الله عليّاً (عليه السلام)اللّهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار)(1) والتمسّك به باطل، لانّه من دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يدير الحقّ معه حيث ما دار، لا يلزم أن يكون إماماً ; وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم)في شأن عمار بن ياسر (رضي الله عنه): (الحقّ مع عمّار مادار)(2) ; والاخبار أظهر دلالة من الدعاء ; ولانّه لو فرضت دلالة على المدعى، فلا يفهم أنّه يدلّ على كونه إماماً بعده بلا فصل ; ولانّه أخرج الطبراني والديلمي، عن فضل بن عباس أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحقّ بعدي مع عمر حيث كان)»(3) إنتهى.

وما تفوّه به الكابلي في دلالة الحديث المروي في حقّ عليّ (عليه السلام) من الوجوه السخيفة والشبهات الضعيفة، قد بيّنا ردّها ونقضها وفسادها في كتابنا الكبير في الامامة(4)، وأوضحنا هناك أنّ هاهنا أخباراً جمّة وأحاديث كثيرة وردت في حقّ عليّ بصورة الاخبار أيضاً، وإنّما اقتصار الكابلي على هذا الحديث من قصور باعه وعدم إطلاعه، وخيانته وجنايته حيث ذكره دون غيرها، حتّى يتطرّق له القدح بأنّه دعاء فقط، ويثبت فضل إمامه بأنّه ورد في حقّه الاخبار.

وبعد اللتيّا والتي! فنقول: إنّ معارضة الكابلي الحديث المروي في شأن

____________

(1) هذا من الاحاديث المشهور فلقد ذكره أرباب الحديث من أهل السنّة في مصنفاتهم: منهم ابن عساكر في تاريخه: 42 / 448، وعلي بن ابراهيم الشامي الحلبي في انسان العيون 3 / 374، والعيني في مناقب سيّدنا علي (عليه السلام): 35.

(2) ذكره ابن عساكر في تاريخه: 43 / 406، والخوارزمي في المناقب: 105 (110).

(3) الصواقع للكابلي مخطوط.

(4) المراد به عبقات الانوار للمؤلف.


الصفحة 589
عليّ (عليه السلام) ـ الذي لا يستراب في صحّته ولا يشك في ثبوته، وقد بلغ مبلغاً من الصحّة لم يقدر هو على إبطاله وتكذيبه، مع أنّه كذّب قبل ذلك أحاديث صحيحة ثابتة شهيرة مثل حديث مدينة العلم وغيره، بهذا الكذب الخبيث المستقذر الشنيع المنكر ـ من العجب العجيب!! الذي يحار فيه اللبيب، ولو فصلنا القول في وجوه كذبه وإفتراءه لطال البيان وكثر الحجاج.

ولكن لا يخفى على ذي لبّ!، إنّ هذا الحديث يدلّ صريحاً على أنّ الحقّ كان مع عمر حيث ما كان، ولاشكّ أنّ الناصبة أيضاً لا يدعون كونه مصيباً في جميع الامور محقّاً في كلّ الحالات، وإن أدحضوا الحقّ بالباطل، وأثبتوا له الملازمة للحقّ، فعليك بمطاعن تشييد المطاعن(1)، حيث أثبت فيه خطأه وضلاله في كثير من الامور.

وقد اعترف ابن تيميّة إمام المتعصّبين وقدوه المكابرين، بخطأ عمر في كثير من الفتاوي ومخالفتها للنصوص، وهذا بحمد الله أدحض وأقعد اللصوص، فلهذا نكتفي على ذكر كلامه فإنّه يوازن الحجج العديدة والبراهين الكثيرة، بل هو أعلى منها شأناً وأعزّ مكاناً، حيث لا يستطيعون له نقضاً ورداً، ولا يمكنهم أن يقابلوه طعناً وثلباً، وإن كانت تلك الحجج في الواقع في غاية القوّة والمتانة، ولكنّهم لا يصغون لها ويتركون في جوابها الدين والديانة.

فاعلم!، إنّه قال في كتابه منهاج السنّة، الذي صنّفه نقضاً على منهاج الكرامة للعلاّمة الحلي أحلّه الله دار السلامة(2):

____________

(1) للمؤلف مطبوع.

(2) هو الحسن بن يوسف بن المطهّر المعروف بالعلاّمة الحلّي، المتوفّى 726 هـ، وكتابه منهاج الكرامة في معرفة الامامة، وهو أروع ما كتب في الزام الخصوم في إمامة أمير المؤمنين ودلائلها.


الصفحة 590
«ولم يحفظ لابي بكر فتياً تخالف نصاً، وقد وجد لعمر وعليّ وغيرهما فتاوى كثيرة تخالف النصوص، حتى جمع الشافعي مجلداً في خلاف عليّ وابن مسعود، وجمع محمّد بن نصر المروزي كتاباً كبيراً في ذلك، وقد خالفوا الصدّيق في الجدّ، والصواب في الجدّ قول الصدّيق، كما قد بينّا ذلك في مصنف مفرد»(1)إنتهى.

فهذا كما تراه! صريح في أنّه وجد لعمر وغيره فتاوى كثيرة تخالف النصوص، فهل يصدّق بعد ذلك أحّد من ذوي اللبّ والعرفان أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جعل الحقّ مع عمر حيث ما كان؟!.

وإنّ لم تقنع بهذا في إثبات كذب ما أختلفوه، وطلبت نصاً من أعلامهم على كذبه ووضعه، وألححت عليّ وألظظت في السؤال، وأردت كشف جليّة الحال على لسان أهل الضّلال، فاستمع!:

إنّي قد فزت بعون الله المتعال والطاف الائمّة عليهم الصلاة والسلام ما تتابع الليل والنّهار، على تصريح إمامهم وقدوتهم ونحريرهم، وشيخهم العماد، وفاضلهم السناد، الامام الصغاني، على وضع هذا الحديث وكذبه، وإن كان لك شك وامتراع، فارجع إلى تذكرة الموضوعات لمحمّد بن طاهر الكجراتي صاحب مجمع البحار، حيث يقول فيه:

«الخلاصة: (الحقّ مع عمر حيث كان) قال الصغاني موضوع»(2)إنتهى.

____________

(1) منهاج السنّة لابن تيمية: 4 / 212.

(2) تذكرة الموضوعات لمحمّد طاهر: 94، وانظر موضوعات الصغاني: 76 (136).