الصفحة 591

فالحمد لله الذي أجرى الحقّ على ألسنتهم، وكذّب أباطيلهم بتصريحات أعمدتهم، فتعجّب! الان من وقاحة الكابلي وجلاعته، حيث يعارض الحديث الصحيح بهذا الخبر الذي نصّ الصغاني على كذبه وافتراءه ووضعه وإختلافه، وإنْ اشتهيت تصريحات آخر بنكاله، فاستمع!:

إنّه قال في الفيض القدير شرح الجامع الصغير:

«(الحقّ بعدي مع عمر حيث كان)، وفي رواية (معه حيث يدور ما دار) الحكيم الترمذي، عن الفضل بن العباس، وفيه القاسم بن يزيد، قال في الميزان عن العقيلي: حديثه منكر، ثمّ ساق ممّا أنكر عليه هذا»(1) إنتهى.

ولمّا راجعت إلى أصل الميزان للذّهبي وجدت فيه أنّه ذكر أولاً: إنّ حديث القاسم بن يزيد منكر، ذكره العقيلي بطرق معلله، ثمّ ساق هذه الرواية عن العقيلي، قال بعد ذلك: أخاف أن يكون هذا الحديث كذباً مختلقاً.

فللّه الحمد! حيث استبعد الذّهبي واستشنع هذا الخبر الواهي، ورآه كذباً مختلقاً وإفتراء مفتعلاً ; وهذه عبارة الذّهبي في ميزان الاعتدال:

«القاسم بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، حديثه منكر، ذكره العقيلي بطرق معلّله.

الحميدي، ثنا معن، ثناالحارث بن عبد الملك الليثي، عن القاسم بن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: (الحقّ بعدي مع عمر حيث كان).

____________

(1) فيض القدير للمناوي: 3 / 551 (3826)، وانظر نوادر الاصول للترمذي: 2 / 31، كنز العمّال: 11 / 73 و (32715) عن الحكيم الترمذي.


الصفحة 592
ورواه الحميدي، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن الحارث، فزاد فيه: عن الفضل بن عباس، ثمّ ساقه العقيلي من حديث عليّ بن المديني، وعبد الرحمن بن يعقوب القلزمي، قال: ثنا معن، ثنا الحارث بن عبد الملك بن عبد الله ابن إياس الليثي، عن القاسم، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أخيه الفضل، قال: (جاءني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه، فأخذ بيدي، وأخذت بيده ; فأقبل حتى جلس على المنبر، ثمّ قال: ناد الناس. فصحت في الناس، فاجتمعوا ; فقال:

أمّا بعد أيّها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، ألا وإنّه [ قد دنا منّي خلوف ](1) بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ; ولا يقولنّ رجل أنّي أخشى الشحناء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى أن قال: ثمّ نزل، فصلّى الظهر، ثمّ رجع إلى المنبر فأعاد بعض مقالته.

فقام رجل، فقال: عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: فلم غللتها؟ قال: كنت محتاجاً، قال: خذّها منه يا فضل.

وقام آخر، فقال: إنّ لي عندك يا نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة دراهم، فقال: أمّا إنّا لا نكذّب قائلاً ولا نستحلفه، أعطه يا فضل.

وقام رجل آخر ; فقال: يا رسول الله إنّي لكذّاب، وإنّي لفاحش، وإنّي لنئوم، فقال: اللّهمّ أرزقه صدقاً، وأذهب عنه النوم.

ثمّ قام آخر، فقال: إنّي لكذّاب، وإنّي لمنافق، وما شيء إلاّ وقد جئته ;

____________

(1) اثبتناه من المصدر.


الصفحة 593
فقال عمر: فضحت نفسك ; فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): فضوح الدنيا يا عمر أهون من فضوح الاخرة، اللهمّ أرزقه صِدقاً وإيماناً، وصيّر أمره إلى خير ; فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: (عمر معي وأنا مع عمر، والحقّ بعدي مع عمر وحيث كان). قال ابن المديني: هو عند عطاء بن يسار، وليس له أصل من حديث عطاء بن أبي رباح، ولا عطاء بن يسار، وأخاف أن يكون عطاء الخراساني، لانّه يرسل عن ابن عباس.

قلت: أخاف أن يكون كذباً مختلقاً ; أنبأنيه يحيى بن الصيرفي، وجماعة سمعوه من عمر بن طبرزد، أنا ابن الحصين، أنا ابن غيلان، أنا أبو بكر، ثنا معاذ الليثي، ثنا عليّ... فذكره»(1) إنتهى.

فظهر! ممّا بينّا من كذب هذه الخرافة وقدحها وجرحها، سخافة صاحب الاكتفاء أيضاً، حيث ولع بهذه الكذبات وأوردها من طرق، وكدح وبالغ في جمعها وتدوينها، حيث قال:

«عن الفضل بن العبّاس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (عمر معي وأنا مع عمر، والحقّ بعدي مع عمر حيث كان) أخرجه البغوي في الجعديات، والطبراني في معجمه، والدولابي في الفضائل»(2).

وله في الاخرى: «قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أدنُ منّي يا عمر، أنت منّي وأنا منك، والحقّ بعدي معك) أخرجه الدولابي في الفضائل، وأخرجه

____________

(1) ميزان الاعتدال: 5 / 463 (6861)، وانظر الضعفاء الكبير للعقيلي: 3 / 481 (1541).

(2) الاكتفاء للوصابي: مخطوط، وانظر المعجم الاوسط للطبراني: 3 / 270 (2650)، الجعديات للبغوي: 1 / 256 (847).


الصفحة 594
الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي في جزء من حديثه بزيادة: (إنّ عمر قال كلمة ضحك منها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:...) وذكره.

وعنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحقّ بعدي مع عمر بن الخطّاب حيث كان) أخرجه الحكيم الترمذي في جامعه، وابن عساكر في تاريخه.

وفي رواية اخرى عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الصّدق والحقّ بعدي مع عمر بن الخطّاب حيث كان) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، والحافظ محبّ الدين ابن النجار في تاريخه»(1).

ثمّ العجب! أنّ الكابلي تشبث بذيل الطبراني والديلمي والتجأ إلى روايتهما، مع أنّ أصحابه وأهل نحلته إذا روينا حديثاً في فضل عليّ (عليه السلام) اسودّت وجوههم، وحميت نفوسهم، وانتفخت أوداجهم، ولمّا لم يجدوا ملجأً ولا مغاراة قدحوا في رواتهم، ونسبوهم إلى رواية الاكاذيب وتحديث الموضوعات، وأسقطوا كتبهم عن الاعتبار والاعتماد، فكيف يستند إلى روايتهما في معارضة الاحاديث الصحيحة لاثبات فضيلة إمامة؟!.

ثمّ العجب! أنّه يستند إلى ما رواه الطبراني والديلمي ويذهب عريضاً ويأتي غريباً، ويترك الاستناد إلى ما رواه شيوخه وأسلافه في صحاحهم ومسانيدهم المشهورة، وهذا دليل على النقصان، وعيب على المحدّث أن يستند إلى الغريب النادر، ويترك المشهور المروي في ما سموها بالصحاح!.

____________

(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط، وانظر نوادر الاصول للترمذي: 2 / 31، جامع الاحاديث للسيوطي: 4 / 248 (11399)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 44 / 126، مسند الفردوس للديلمي: 2 / 152، جامع الاحاديث للسيوطي: 6 / 109 (13732) عن ابن النجار.


الصفحة 595
فقد قال الترمذي في جامعه:

«حدّثنا محمّد بن بشار، قال: ثنا أبو عامر ـ هو العقدي ـ، قال: ثنا خارجة بن عبد الله ـ هو الانصاري ـ عن نافع، عن ابن عمر، أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (إنَّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه).

[ قال ]: وقال ابن عمر: (ما نَزَل بالناس أمرٌ قطّ، فقالوا فيه، وقال فيه عمر، أو قال ابن الخطّاب فيه ـ شكّ خارجه ـ إلاّ نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر)، وفي الباب عن الفضل بن العباس، وأبي ذر، وأبي هريرة ; وهذا حديث حسن صحيح غريب، من هذا الوجه»(1) إنتهى.

وقال أحمد بن حنبل في مسنده:

«ثنا يزيد عن محمّد بن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف بن الحارث ـ رجل من أيلة... ـ عن [ أبي ذر ] (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (إنّ الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به)»(2).

وقال ابن ماجة في سننه:

«حدّثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، ثنا عبد الاعلى، عن محموّد بن إسحاق، عن مكحول، عن غُضيف بن الحرث، عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (إنّ الله وضع الحقّ على لسان عمراً يقول به)»(3).

وكذا رواه أبو داود، حيث قال:

____________

(1) الجامع الكبير للترمذي: 6 / 57 (3682).

(2) مسند أحمد: 15 / 533 (21349).

(3) سنن ابن ماجة: 1 / 78 (108).


الصفحة 596
«حدّثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير [ ثنا يحيى بن خلف، نا عبد الاعلى ](1)، ثنا محمّد بن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف بن الحارث، عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (إنّ الله تعالى وضع الحقّ على لسان عمر يقول به)»(2).

وكذا رواه الحاكم في المستدرك(3).

فالعجب! من الكابلي يترك ما رواه الترمذي وصححه وحسنة في صحيحه، وأحمد بن حنبل في مسنده الذي هو في الطبقة العليا، وابن ماجة في سننه، وأبو داود في سننه وكلاهما من صحاحهم، والحاكم في مستدركه وقد التزم إيراد الصحاح على شرط الشيخين فيه، ويستند إلى ما رواه الطبراني والديلمي!.

اللهمّ إلاّ أن يعتذر فيقول: إنّ روايات هؤلاء غير صحيحة، فقد وقع في أسانيدهم من هو كاذب أو ضعيف!، كما أفصح عنه المناوي في فيض القدير، حيث قال:

«(إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه) (هـ حم ت) في المناقب عن ابن عمر بن الخطّاب، قال الترمذي: حسن صحيح، إنتهى ; قال المناوي: فيه عنده ـ يعني الترمذي ـ خارجة بن عبد الله، ضعفه أحمد، (حم دك) عن أبي ذر (رضي الله عنه)، (ع ك) عن أبي هريرة، طب عن بلال، قال الهيثمي: فيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وعن معاوية، قال الهيثمي: فيه ضعفاء سليمان الشاذكوني

____________

(1) لا يوجد في المصدر.

(2) انظر سنن أبي داود: 3 / 139 (2963).

(3) مستدرك الحاكم: 4 / 40 (4557).


الصفحة 597
وغيره»(1) إنتهى مختصراً.

وأيضاً: في رواية الترمذي محمّد بن بشّار وهو مقدوح ضعيف كاذب، كما قال في تهذيب الكمال:

«قال عبد الله بن محمّد بن سيّار: سمعت أبا حَفص عمرو بن عليّ يحلف أنّ بنداراً يكذب فيما يروي عن يحيى ; وفيه أيضاً: قال أبو الفتح محمّد بن الحسين الازدي الحافظ، حدّثنا جعفر بن محمّد المطيري، قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد الدورقي، قال: كنّا عند يحيى بن معين وجرى ذكر بندار فرأيت يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ; قال ابن الدورقي: ورأيت القواريري لا يرضاه»(2) إنتهى.

وأيضاً: في رواية أحمد بن حنبل وابن ماجه وأبي داود: محمّد بن إسحاق وهو أيضاً كذّاب، قد كذّبه هشام بن عروه وسليمان التيمي، وقال في حقّه: إنّه كذّاب، وقال الدارقطني: إنّه لا يحتجّ به، واتّهمه مالك، وجرحه يحيى بن سعيد، وقال ابن معين: ليس بذاك في نفسي من صدقه شيء، وقال أحمد بن حنبل: إنّه ضعيف، وقال القواريري في كتاب سيرته: إنّه كذب كثير، وقال النسائي: إنّه ليس بالقوي، وقال أبو داود: إنّه قدري معتزلي.

فالعجب! من أبي داود كيف يروي عن هذا المقدوح الذي جرحه بنفسه، وقال: إنّه قدري معتزلي.

قال المنذري في الترغيب والترهيب:

«محمّد بن إسحاق بن يسار، أحّد الائمّة الاعلام، حديثه حسن، كذّبه

____________

(1) فيض القدير للمناوي: 2 / 278 (1708).

(2) تهذيب الكمال للمزي: 24 / 511 (5086).


الصفحة 598
هشام بن عروة وسليمان التيمي، وقال الدارقطني: لا يحتجّ به، وقال وهيب: سألت مالكاً عنه فاتّهمه، وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان يحيى بن سعيد الانصاري ومالك يجرحان ابن إسحاق،... وقال يعقوب بن شيبة: سألت ابن معين كيف ابن إسحاق؟ قال: ليس بذاك، قلت: ففي نفسي من صدقه شيء»(1).

وقال الذّهبي في الميزان:

«محمّد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المخرمي مولاهم المدني، أحّد الائمّة الاعلام، ويسار من سبى عين التمر، مولى قيس بن مخرمة بن عبد المطّلب بن عبد مناف، رأى محمّد أنساً، وابن المسيّب، وروى عن سعيد بن أبي هند، والمقبري وعطاء، والاعرج، ونافع، وطبقتهم، وعنه الحمادان، وإبراهيم بن سعد، وزياد البكائي، وسلمة الابرش، ويزيد بن هارون، وخلق ; وقال ابن معين: قد سمع من أبي سلمة بن عبد الرّحمن ; وثّقه غير واحد ووهّاه آخرون كالدارقطني، وهو صالح الحديث ماله عندي ذنب، إلاّ قد حشا في السيرة من الاشياء المنكرة المنقطعة والاشعار المكذوبة ; قال الفلاس: سمعت يحيى القطان يقول لعبيد الله القواريري: إلى أين تذهب؟ قال: إلى وهب بن جرير أكتب السيرة، قال تكتب كذباً كثيراً ; وقال أحمد بن حنبل: هو حسن الحديث ; وقال ابن معين: ثقة، وليس بحجّة ; وقال عليّ بن المديني: حديثه عندي صحيح ; وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي ; وقال الدارقطني: لا يحتج به ; وقال يحيى بن كثير وغيره: سمعنا من شعبة يقول: ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث ; وقال شعبة أيضاً: هو صدوق ; وقال محمّد بن عبد الله بن نُمير: رُمي بالقدر، وكان أبعد الناس

____________

(1) الترغيب والترهيب للمنذري: 4 / 497، باب ذكر الرواة حرف الميم.


الصفحة 599
منه ; وقال ابن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين ; وقال أبو داود: قدري معتزلي ; وقال سليمان التيمي: كذّاب ; وقال وهيب: سمعت هشام بن عروة يقول: كذّاب، وقال وهيب: سألت مالكاً عن ابن إسحاق فاتّهمه»(1).

فظهر! لك بحمد الله ممّا نقلنا، إنّ هذه الرّوايات المكذوبة مقدوحة، مجروحة مطعونة لا تصلح للاعتماد، وضعّف رواتهما وكذّب ناقليها ثقات أهل العناد، وإنّما هذا بطريق التبرّع والترقّي، وإلاّ فلا حاجة لنا بذلك، فإنّ الدليل القاطع من خطاء عمر ومفارقته للحقّ في مواقع كثيرة، برهان شاف ودليل كاف على كذب هذا الحديث.

وقد نقل صاحب المغني هذا الكذب بلفظ آخر، وهو: (إنّ الحقّ لينطق على لسان عمر)(2).

وقد سبق السيّد مرتضى ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ الى تكذيبه بكلام مفحم وبيان مسكت، حيث قال:

«أمّا ما رواه من قوله: (إنّ الحقّ لينطق على لسان عمر) فهو مقتض إنْ كان صحيحاً على عصمة عمر، والقطع على أنّ أقواله كلّها حجّة، وليس هذا من مذهب أحّد في عمر!.

لانّه لا خلاف في أنّه ليس بمعصوم وأنّ خلافه شائغ، وكيف يكون الحقّ ناطقاً على لسان من يرجع في الاحكام من قول الى قول؟!، ويشهد على نفسه

____________

(1) ميزان الاعتدال: 6 / 56 (7203)، وانظر الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 7 / 254 (1623)، تهذيب التهذيب للعسقلاني: 5 / 26 (6743).

(2) انظر المغني للقاضي عبد الجبّار: 1 / 193.


الصفحة 600
بالخطاء؟!، ويخالف في الشيء ثمّ يعود إلى قول من خالفه فيوافقه عليه؟!، ويقول: (لولا عليّ لهلك عمر)(1) و (لولا معاذ لهلك عمر)(2)؟!.

وكيف لم يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي إحتاج إلى الاحتجاج فيها؟! ; وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة، لمّا قال له: ما تقول لربّك إذا ولّيت فظاً غليظاً؟(3)، أقول له: وليت من شهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الحقّ ينطق على لسانه؟!»(4) إنتهى.

____________

(1) انظر المناقب للخوارزمي: 80 (65)، وذخائر العقبى للطبري: 93.

(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي: 7 / 443، وفتح الباري للعسقلاني: 12 / 120، وكنز العمّال للمتقي الهندي: 13 / 583 (37499).

(3) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر: 44 / 249 ـ 553، وفيه «أقول لله إذا لقيته: استخلفت عليهم خير أهلك»، والرياض النضرة للطبري: 1 / 223 (557).

(4) انظر الشافي في الامامة للسيد المرتضى: 3 / 129.


الصفحة 601

الفصل الثاني عشر
[ في تسمية عمر بالفاروق ]

ومن أكاذيبهم الفاضحة، مارووه في وجه تسميته بالفاروق.

قال القاري في شرح المشكوة:

«وذكر أهل التفسير عن ابن عبّاس أيضاً: (إنّ منافقاً خاصم يهوديّاً، فدعاه اليهودي الى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف، ثمّ إنّهما إحتاكما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحكم لليهودي فلم يرض المنافق، وقال: نتحاكم الى عمر، فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فحكم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال نعم، فقال: مكانكما حتّى أخرج إليكما، فدخل فأخذ سيفه ثمّ خرج، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ)(1)

____________

(1) النساء الاية: 60.


الصفحة 602
قيل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما كنت أظنّ أن يجترئ عمر على قتل مؤمن»، فأنزل الله تلك الاية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر عن قتله ظلماً، وقال جبرئيل (عليه السلام): إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل، فسمي الفاروق)»(1) إنتهى.

وهذا من الكذب الذي لا يستريب فيه إلاّ من هو أعفك سفيه، فقطع الله شراً سيف واضعه، وكسر أسنان فيه، ما نقل من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما كنت أظنّ... الخ»، صريح في أنّ هذا الرجل الذي قتله عمر كان مؤمناً، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنكر قتل عمر إيّاه وإستبعد وقوعه، فكيف يهدر الله دم المؤمن؟!، وكيف يقول جبرئيل: إنّ عمر فرق بين الحقّ والباطل؟!، وكيف يسمّيه بالفاروق؟!.

وبالجملة: هو كذب من وجوه:

أمّا أوّلاً: فلانّه قد بيّن أنّ الله هدر دم الرجل الذي قتله عمر، وهذا الرجل كان بنصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمناً وما كان الله ليهدر دم مؤمن، وكيف وقد أنكر هذا الفعل من عمر وإستبعده؟!، فلو كان قتله جائزاً لمّا أنكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإستبعد وقوعه من عمر، فإنّ قتل من جوزة الشريعة قتله ينبغي أن يمدح ويثنى عليه، ويرجى وقوعه من أفاضل الصحابة، لا أن ينكر ويستبعد!، ولاشكّ أنّ الله لا يهدر دم من قتله غير جائز.

ومن هناك! ترى بعضهم كأنّه لمّا تنبه لما ذكرنا، حذف من هذه القصّة إنكار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعجّبه من قتل عمر ذلك الرجل وتسميته مؤمناً، فاختصر القصّة إختصاراً شنيعاً، وأتى في اصلاح فضيلة إمامه أمراً بديعاً.

____________

(1) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 401 (6045).


الصفحة 603
فقال الطبري في الرياض:

«وعن الشعبي: (إنّ رجلاً من المنافقين ويهوديّاً إختصما، فقال اليهودي: ننطلق إلى محمّد بن عبد الله، وقال المنافق: إلى كعب بن الاشرف، فأبى اليهودي وأتيا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطّاب، فأقبلا إليه فقصّا عليه القصّة، فقال: رويداً حتّى أخرج إليكم، فدخل البيت واشتمل على السّيف، ثمّ خرج وضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزل جبرئيل، فقال: إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل فسمّي الفاروق) خرجه الواحدي وأبو الفرج»(1).

وقال صاحب الاكتفاء:

«عن الشعبي: (إنّ رجلاً من المنافقين ويهوديّاً إختصما، فقال اليهودي: ننطلق إلى محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال المنافق: إلى كعب بن الاشرف، فأبى اليهودي وأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطّاب، فلمّا أقبلا إليه فقصّا عليه القصّة، فقال: رويداً حتّى أخرج إليكم، فدخل البيت وإشتمل على السيف ثمّ خرج وضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزل جبرئيل، فقال: إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل فسمّي الفاروق) أخرجه أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الصحابة في محبّة الصحابة»(2).

____________

(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 235 (568)، وانظر اسباب النزول للواحدي: 93.

(2) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.


الصفحة 604
وأمّا ثانياً: فلانّه ذكر فيه: (أنّ جبرئيل، قال: إنّ عمر فرّق بين الحقّ والباطل):

فإنّ أرادوا به ظاهره الذي هو المدح، من أنّه فرّق بين الحقّ والباطل باختيار الحقّ ترك للباطل، فهذا ممّا لا شكّ في بطلانه وإفتراءه على جبرئيل، لانّه قد أثبتنا أنّ هذا الفعل الذي وقع من عمر كان منكراً غير جائز، حيث أنكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحي يوحى، فكيف يسميه جبرئيل حقّاً؟! ـ العياذ بالله من ذلك ـ.

اللّهمّ إلاّ أن يريدوا أنّه إختار الباطل وترك الحقّ، حيث قتل مؤمناً فقد فرّق بينهما مشاحة لنا في ذلك، فلا نستدلّ بذلك على كذب الرواية.

وأمّا ثالثاً: فلانّه قد ذكر فيه: إنّه سمي عمر لذلك بالفاروق:

فإن أرادوا أنّه سمّاه به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من يوثّق به مريداً به المدح، فلا يخفى كونه كذباً وإفتراء!.

وإنّ أرادوا هو ذمّ وعيب عليه، فمرحباً بالوفاق الموموق!، ولا ننكر على ذلك تسميته بالفاروق.

فقد لاح عليك بذلك!، إنّهم لو فرّقوا بين الحقّ والباطل وميّزوا الثمين من العاطل، لما إجتروا على اختلاق مثل هذه الفرية المنكرة، ولا أقدّموا على اشاعة هذه الشنعة المستهجنة.

ثمّ العجب! إنّهم عدّوا من فضائل عمر أنّه قتل رجلاً لم يرضى بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّ جبرئيل مدح عمر على ذلك وسماه بالفاروق ; فقد نصّوا على أنّ من لا يرضى بحكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو منافق كافر يجوز قتله، ولم يلزم عليهم

الصفحة 605
بذلك من اتساع الخرق وإنفتاق الرتق، لانّه قد ثبت في أصحّ صحاحهم وهو صحيح البخاري، بل في مسلم أيضاً: «أنّ بعض الانصار لم يرض بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبه إلى الخيانة واتّهمه»(1)!.

ففي مشكاة المصابيح:

«عن عروة، قال: (خاصم الزبير رجلاً من الانصار في شراج من الحرّة، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) «إسق يا زبير! ثمّ أَرسل الماء إلى جارك»، فقال الانصاري: أَنْ كان ابن عمّتك؟ فتلون وجهُهُ، ثمّ قال: «إسق يا زبير! ثمّ إحبس حتى يرجع إلى الجَدرِ، ثمّ أرسل الماء إلى جارك» فاستوعى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير حقّه في صريح الحكم حين أحفظه الانصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة) ; متفق عليه»(2) إنتهى.

فيجب على ذلك أن يصرحوا بنفاق بعض الانصار وكفره، ويشايعوا الشيعة ويتسغفروا عن تشنيعاتهم الشنيعة عليهم لطعنهم على الصحابة.

مع أنّهم يتبرؤن عن ذلك كلّ البراءة ; قال التوربشتي في شرح المصابيح:

«فقال الانصاري أنْ كان لابن عمّتك ـ أي لا كان ابن عمّتك حكمت، بما حكمت وقد اجترأ جمع من المفسّرين بنسبة الرجل تارة إلى النفاق واخرى الى اليهوديّة، وكلا القولين زائغ عن الحقّ، إذ قد صحّ أنّه كان أنصارياً ولم يكن الانصار من جملة اليهود، ولو كان مغموصاً عليه في دينه لم يصفوه أيضاً بهذا

____________

(1) انظر صحيح البخاري: 3 كتاب الصلح باب 585: 366 (912)، وصحيح مسلم: 4/1459 (2357)، والحديث في مخاصمة رجل من الانصار للزبير في السقي.

(2) مشكاة المصابيح للتبريزي: 2 / 179 (2993).


الصفحة 606
الوصف، فإنّه وصف مدح، والانصار وإن وجد فيهم من يرمي بالنفاق، فإنّ القرن الاوّل والسلف بعدهم تحرجوا وإحتزوا أن يطلقوا على من ذكر بالنّفاق واشتهر به الانصاري، والاولى بالشحيح بدينه أن يقول: هذا قول أزله الشيطان فيه، بتمكنه [ منه ] عند الغضب، وغير مستبدع من الصفات البشريّة الابتلاء بأمثال ذلك»(1)إنتهى.

وأيضاً: يلزم عليهم أن يحكموا بكفر الانصار ونفاقهم حين طعنوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يرضوا بحكمه في الصدقات!، حيث روى الحميدي:

«إنّ ناساً من الانصار قالوا يوم حنين، حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي رجالاً من قريش المائة من الابل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم».

وقال الحميدي: في هذا الحديث عن أنس: «إنّ الانصار قالت: إذا كانت الشدّة فنحن ندعى ويعطى الغنائم غيرنا»(2).

وأيضاً: يلزم أن يصرّحوا بكفر سعد بن عبادة، لمّا خالف الرسول في قصّة الافك(3)!.

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 6 / 187 (2993) وقد نقل قول التوربشتي.

(2) انظر الجمع بين الصحيحين للحميدي: 2 / 293 (1857)، وصحيح البخاري: 4 / 523 (1317) باب الخمس، و 60 / 26 باب المغازي، وصحيح مسلم: 2 / 604 (132) كتاب الزكاة، و 2 / 605 (135).

(3) انظر صحيح مسلم: 3 / 250 (1498)، وفيه:

«قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! لو وجدت مع أهلي رجلاً، لم أمسّه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم، قال: كلاّ والذي بعثك في الحقّ! إن كنت لاعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اسمعوا إلى ما يقول سيّدكم إنّه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير منّي»، وانظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 1 / 275.