الصفحة 607

ولا يذهبنّ عليك! إنّ روايات تسمية عمر بالفاروق شديدة الاضطراب، بيّنة الاختلاف، عظيمة التهافت، واضحة التباين.

فبعضها يدلّ على أنّ تسمية عمر بالفاروق كان في قصّة قتله هذا الّذي ذكروا من حاله ماذكروا!.

وبعضها صريح في أنّ تسميته بالفاروق كان في إبتداء إسلامه، أوّل ما أسلم ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الاظهار وترك الاختفاء، وقد نقلوا ذلك عن عمر نفسه!.

وبعضها ينادي بأنّ جبرئيل قد أخبر يوماً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ إسمه في السماء فاروق!.

قال الطبري في الرياض:

«عن ابن عبّاس قال: (سألت عمر لايّ شيء سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيّام ثمّ شرح الله صدري للاسلام، فقلت: والله لا إله إلاّ هو له الاسماء الحسنى، فما في الارض نسمة هي أحبّ إليّ من نسمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: اين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت اُختي: هو في دار الارقم بن أبي الارقم عند الصّفا، فأتيت الدّار وحمزة في أصحابه جلوس في الدار ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: مالكم؟ قالوا: عمر بن الخطّاب، قال: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فأخذ بمجامع ثيابه، ثمّ نثره نثرة فما تمالك أن وقع على

الصفحة 608
ركبتيه، فقال: ما أنت بمنته يا عمر؟ قال: قلت أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّك محمّداً عبده ورسوله، قال: فكبّر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، قال: فقلت يا رسول الله ألسنا على الحقّ إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى والذي نفسي بيده إنّكم على الحقّ متمّ وإن حييتم، قلت: ففيما الاختفاء؟ والذي بعثك بالحقّ لنخرجنّ، فأخرجنا (صلى الله عليه وآله وسلم) في صفّين، حمزة (رضي الله عنه) في أحدهما، وأنا في الاخر ولي كديد(1) ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد، قال فنظرت إليَّ قريش وإلى حمزة فصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يومئذ الفاروق، فرّق الله بيّ بين الحقّ والباطل) خرّجه صاحب الصفوة والرازي»(2).

وأيضاً في الرياض: «وعن ابن عباس (رضي الله عنه) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (بيّنا أنا جالس في مسجدي أتحدّث مع جبرئيل، إذ دخل عمر بن الخطاب، فقال [ جبرئيل ]: أليس هذا أخوك عمر بن الخطاب؟ فقلت: بلى يا أخي، أله اسم في السماء كما له اسم في الارض؟ [ فقال ]: والذي بعثك بالحقّ إنّ اسمه في السماء أشهر من اسمه في الارض، اسمه في السماء فاروق وفي الارض عمر) خرّجه في الفضائل.

وعنه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنه ذكر موقفه يوم القيامة وموقف أبي بكر، قال: ثمّ ينادي مناد أين الفاروق عمر؟ فيؤتى به، فيقول الله تعالى:

____________

(1) الكديد: التراب الناعم إذا وطئ ثار غباره / لسان.

(2) الرياض النضرة للطبري: 1 / 234 (567)، وانظر صفوة الصفوة لابن الجوزي: 1/272.


الصفحة 609
مرحباً [ بك ](1) يا أبا حفص، هذا كتابك فإن شئت فاقرأ وإن شئت فلا، فقد غفرت لك) أخرجه في الفضائل.

وقد رُوي أنّ اسمه في السماء فاروق، وفي الانجيل كافي، وفي التوراة منطق الحقّ، وفي الجنّة سراج، وسيأتي في غضون الاحاديث»(2) إنتهى.

وفي الاكتفاء للوصابي:

«عن أيّوب بن موسى مرسلاً، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرّق بين الحقّ والباطل) أخرجه عبد الرحمن بن سعد في الطبقات»(3).

وأيضاً في الاكتفاء: «عنه ـ يعني ابن عبّاس (رضي الله عنه) ـ في اخرى: (إنّ رسول الله ذكر موقف عمر بن الخطّاب يوم القيامة وموقف أبي بكر، قال: ثمّ ينادي مناد أين الفاروق؟ فيؤتى به، فيقول الله تعالى: مرحباً بك يا أبا حفص: هذا كتابك فإن شئت فاقرأه وإن شئت فلا، فقد غفرت لك) أخرجه الدولابي في فضائل الصحابة»(4) إنتهى.

وقد علمت سابقاً! إنّ الكابلي ردّ حديث الطير، لكونه مرويّاً على أنحاء مختلفة، في كون الطير المشوي حجلاً أو حباري، وجعل ذلك دليلاً على كذبه ووضعه، مع أنّه قد روته ثقات أعلامه، وكبار شيوخه، وأساطين وأركان مذهبه،

____________

(1) لا يوجد في المصدر.

(2) الرياض النضرة للطبري: 1 / 235 (571).

(3) الاكتفاء للوصابي: مخطوط، وانظر الطبقات لابن سعد: 3 / 205.

(4) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.


الصفحة 610
وصحّحه بعضهم، وحسّنه آخرون، واعتمد عليه جمع كثير(1)، ومع ذلك لم يحتفل بذلك كلّه، وجعل هذا الاختلاف دليلاً على كذبه، فكيف لا يجعل ذلك الاختلاف في هذه الرواية التي تفرّدوا بها، ولم يروه أحّد من رواتنا ولو مجروحاً مقدوحاً، دليلاً على كذبها ووضعها؟!.

ومع ذلك فالدليل الظاهر، والبرهان على كذب هذه المفتريات، التي كأنها شجرة خبيثة اجتثّت من فوق الارض فمالها من قرار، وقد عزوها وقاحةً وصفافةً إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المختار، ونقلوها عن الصحابة الكبار.

وإنّ ثقتهم وعمدتهم وإمامهم ومستندهم، إمام التابعين، وعمدة الناقدين الزهري، قد نصّ على أنّ تسمية عمر بالفاروق كان من أهل الكتاب!، وتابعهم وشايعهم المسلمون على ذلك، ولم يبلغه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك شيء، كما في روضة الاحباب:

«[ محمّد بن سعد كاتب الواقدي روى عن الزهري أنّه قال: إنّه وصل الينا، إنّ أول من سماه ـ يعني عمر ـ أهل الكتاب وتابعهم المسلمون، ولم يصل الينا شيء من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الباب ] والله أعلم»(2) إنتهى.

____________

(1) انّ حديث الطير من الاحاديث المشهورة المتواترة، وقد رواه خمسة وثلاثون رجلاً من الصحابة عن أنس وغيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصنّف أكابر المحدّثين فيه كتباً ورسائل.

وهو موجود في مصادر وصحاح أهل السنّة، وقد ذكر السيّد المرعشي في إحقاق الحقّ وملحقاته ما يقارب من مئة مصدر لهذا الحديث من مصادر العامة منهم: أحمد، والترمذي، والتبريزي صاحب المشكاة، والخوارزمي، وأبو نعيم، والبلاذري، والطبري، والسمعاني، وابن شاهين، والسدي، والبيهقي، (انظر احقاق الحقّ: 5 / 318 ـ 368).

(2) روضة الاحباب فارسي ثلاث مجلدات جمال الدين عطاء الله بن فضل الله الحسيني الدشتكي الملقّب بالامير جمال الدين الشيرازي، وفيه:

«محمد بن سعد كاتب واقدي از زهري روايت كرده كه گفت كه به ما رسيده كه أهل كتاب أوّل وي را فاروق خواندند ومسلمانان متابعت ايشان كردند واز پيغمبر (صلى الله عليه وآله وسلم) درين باب بما چيزى نرسيده، والله أعلم.


الصفحة 611
فهذا كما تراه! ينادي بأعلى صوته، إنّ تسمية عمر بالفاروق أولاً إنّما هو من أهل الكتاب، وإن المسلمين انّما دعوه بذلك متابعة لهؤلاء الذاهبين عن الصواب، وإنّ تسميته بهذا الاسم لم يثبت من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما وضعه المفترون في هذه الاخبار المتعدّدة، الظاهر سخافتها على اُولي الافهام، فلو كانت لهذه الاخبار العديدة أصل في ذلك العصر، لما غيبت على مثل الزهري العلاّم، الناقب لصحاح الاثار وصوادق الاخبار عن السقام!.


الصفحة 612

الصفحة 613

الفصل الثالث عشر
[ في دلالة حديث الدلو على فضل عمر ]

ومن الموضوعات الفاضحة، ما رواه البخاري ومسلم ونقله [ التبريزي ]في المشكاة:

«عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (بيّنا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثمّ أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثمّ استحالت غرباً فأخذها ابن الخطّاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتّى ضرب الناس بعطن).

وفي رواية ابن عمر، قال: (ثمّ أخذها ابن الخطّاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريّه، حتى روى الناس وضربوا بعطن) متّفق عليه»(1) إنتهى.

____________

(1) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 341 (6040)، وانظر صحيح البخاري: كتاب التوحيد: 9 / 811 (2274)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل: 4 / 1483 (2392).


الصفحة 614
ووجه كذبه وإفتراءه، إنّه يخالف مذهبنا ومذهبهم!:

أمّا مخالفته مذهبنا: فظاهر.

وأمّا مخالفته مذهبهم: فلِما يدلّ على تفضيل الثاني على الاوّل!، وهو باطل باجماعهم.

فأمّا دلالته على تفضيله عليه: ففي كمال الظهور، ولا يشكّ فيه إلاّ من في عقله ضعف وفتور، وقد قال القاري في شرح هذا الحديث:

«وللحديث مناسبة لباب مناقب الشيخين، لكن لما كان فيه زيادة مدح لعمر خصّه بباب مناقبه»(1) إنتهى.

وفي هذا الكلام تصريح بأنّ في الحديث دلالة على فضل الثاني على الاوّل!.

وقال القاري أيضاً:

«قال القاضي: لعلّ القليب إشارة إلى الدّين الذي هو منبع [ ماء يحيى به النفوس ](2) ويتمّ أمر المعاش، ونزع [ الدلاء ](3) في ذلك إشارة إلى أنّ هذا الامر ينتهي من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بكر، ومنه إلى عمر، ونزع أبي بكر ذنوباً أو ذنوبين إشارة إلى قصر مدّة خلافته، وإنّ الامر إنّما يكون بيده سنة أو سنتين، ثمّ ينتقل إلى عمر، وكان مدّة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وضعفه فيه إشارة إلى ما كان في أيّامه من الاضطراب والارتداد وإختلاف الكلمة، أو إلى ما كان له من لين

____________

(1) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 397 (6041).

(2) في المصدر [ ما به تحيا النفوس ].

(3) في المصدر [ الماء ].


الصفحة 615
الجانب وقلّة السياسة والمداراة مع الناس، ويدلّ على هذا قوله: وغفر الله له ضعفه، وهو إعتراض ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعلم أنّ ذلك موضوع ومغفور عنه غير قادح في منصبه، ومصير الدلو في نوبة عمر غرباً، وهو الدلو الكبير الذي يستقي به البعير، إشارة إلى ما كان في أيّامه من تعظيم الدين [ وإعلاء كلمة الله، وتوسع خططه وقوته، وجده في النزع إشارة إلى ما اجتهد في إعلاء أمر الدين ](1)، وإفشائه في مشارق الارض ومغاربها، إجتهاداً بما لم يتّفق لاحّد قبله ولا بعده، والعبقري القوي»(2) إنتهى.

فهذا الكلام كما تراه! صريح في أنّ هذا الحديث دلّ على ضعف أبو بكر في الدّين، وفتوره في الفضل المتبيّن، غاية الامر أنّه عنه موضوع، ونحن نعتقد أنّ ذلك مختلق موضوع.

وبالجملة: هذا الكلام يدلّ على دلالة الحديث في أفضليّة الثاني على الاوّل من وجوه:

فأمّا أوّلاً: فلانّه قد صرّح بأنّ القليب إشارة إلى الدّين، ونزع الدلاء منه عبارة عن الخلافة، وهذا ينادي صريحاً بأنّ نزع الدلاء كناية عن زيادة فضله، لانّه لا فضيلة فوق فضيلة الرئاسة في الدّين، ويظهر من مشاركة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وتحصل للشيخين بعده، فإذا كانت هذه الفضيلة فضيلة عظيمة بحيث شرك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه فيها أيضاً، كان ضعف أبي بكر وقوّة عمر فيها حيث لا يماثله أحّد من الناس، موجباً لتفضيله وترجيحه بالبداهة!.

____________

(1) اثبتناه من المصدر.

(2) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 395 (6040).


الصفحة 616
وإنّ قالوا: إنّه لا يدلّ على ذلك!.

يلزم عليهم أنّه قال أحد في ذلك القول، حيث نسب أوّلاً نزع الدلاء إلى نفسه الشريفة لانّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والشيخين كانوا مشتركين في هذه الفضيلة، وكانت هذه الفضيلة فضيلة تنسب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحصل للشخين بعده!.

فإذا كانت هذه الفضيلة فضيلة عظيمة، بحيث شرك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه فيها أيضاً، كان ضعف أبي بكر وقوّة عمر فيها حيث لا يماثله أحداً من الناس موجباً لتفضيله وترجيحه بالبداهة!.

وإن قالوا: إنّه لا يدلّ على ذلك!.

يلزم عليهم أنّه لو قال أحّد ـ العياذ بالله ـ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كان ضعيفاً في هذا الامر، بل كان أضعف من الشيخين، لم يكن موجباً لنقص في حقّه، ولا لتفضيل الشيخين عليه، بل كان هذا القول جائزاً مع قطع النظر عن المطابقة للواقع وعدمها، وهذا لا يكاد يقول به مسلم!.

وأمّا ثانياً: فلانّه قد صرّح بأنّ ضعف أبي بكر إشارة إلى ما كان في أيّامه من الاضطراب والارتداد وإختلاف الكلمة، فإذا كانت هذه الامور في خلافة أبي بكر ولم تكن في خلافة عمر، أوجب ذلك صريحاً تفضيل الثاني عن الاوّل، بعين ما فضلوا به الشيخين على عليّ (عليه السلام)!.

ويزيد تسمية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك ضعفاً منسوباً إلى أبي بكر وسؤال المغفرة من الله لهذا الضعف، بخلاف عليّ (عليه السلام) فإنّه لم يروا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)جعل ما وقع في أيّام خلافته ضعفاً في حقّه وسئل مغفرة هذا الضعف له.

وأمّا ثالثاً: فلانّ قوله: أو إلى ما كان له من لين الجانب وقلّة السياسة

الصفحة 617
والمداراة مع الناس، يدلّ صريحاً على أنّ أبا بكر كان قليل السياسة!.

ولا عيب أعظم منه عند أهل السنّة، وإنّما كان غاية فخاراتهم ونهاية مباهاتهم في حقّ الشيخين عظم سياستهما وكمالهما في رئاستهما، وبذلك كانوا قديماً وحديثاً يقدمونهما على عليّ (عليه السلام).

وهذا الرجل قد ضيّع بحرف واحد جميع مساعيهم الطويلة!، التي صرفوا أعمارهم فيها مدّة الدهر، وأنفقوا في تقريرها وتحريرها وتهذيبها أسفاراً وكتباً، فإذا كان أبو بكر باعترافه قليل السياسة، وعظم سياسة عمر، وغرائب حالته، وعجائب وقائعه، ولطف حذقه، وكمال مهارته في ذلك أظهر من الشمس وأجلى من النهار، فصار فضل الثاني على الاوّل راجحاً، وجراب رجحانه عليه طافحاً!.

ثمّ إنّ لين الجانب والمداراة مع النّاس إذا كان تفسيراً للضعف الذي أثبته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابي بكر وسأل الله المغفرة منه، لابدّ وأن يكون من قبيل الخلق المذموم والمداهنة في الدين!، والعياذ بالله أن يتّصف الفظّ الغليظ بمثل هذا الخلق الشنيع، وإنّما كان لا يلاين في الدين في خرزة، فيثبت بذلك أيضاً فضله ورجحانه عليه!.

ولو كان لين الجانب والمداراة مع الناس الذين وصف بهما أبا بكر، من قبيل خفض الجناح المأمور به وحسن الاخلاق، لم يكن لتسميتهما ضعفاً وسؤال المغفرة منه معنى!، وإلاّ لجاز وصف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً بالضعف في هذا المقام، بل بالاضعفيّة حيث كان أفضل في جميع الاخلاق ومن جميع النّاس!.

وأمّا رابعاً: فلانّ قوله: يدلّ على هذا... الخ، يدلّ بأوضح الدلالات على أنّ قوله (غفر الله له ضعفه) يدلّ على وقوع ما يحتاج إلى المغفرة من أبي بكر!،

الصفحة 618
سيّما مع لحاظ قوله: ليعلم أنّ ذلك موضوع ومغفور عنه.

ويظهر أنّ ما وصفه به من لين الجانب وقلّة السياسة والمداراة مع الناس من الاخلاق المذمومة!، وإلاّ فلو كانت من محاسنها ومكارمها فلا معنى لوضعها ومغفرتها!.

وقد تفطّن النووي لهذا الاشكال، فرام الفصية عن الاعضال، فمال ينادي عليه بالخبط والاختلال، فقال:

«قوله (في نزعه ضعف) ليس فيه حطّ لمنزلته، ولا إثبات فضيلة عمر عليه، وإنّما هو إخبار عن مدّة ولايتهما، وكثرة إنتفاع الناس في ولاية عمر، لطولها ولاتّساع الاسلام وفتح البلاد وحصول الاموال والغنائم»(1) إنتهى.

أقول: إذا لم يكن للمرء عين صحيحه، فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر، فالحديث ينادي رافعاً عقيراه، مصرحاً بمعناه وفحواه، على تفضيل الثاني على الاوّل من غير إعتماد على معول.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في نزع أبي بكر ضعف ويطلب مغفرة هذا الضعف من الله!. ويعارضه النووي، فيقول: إنّه ليس فيه حطّ لمرتبته ولا تنقيص لدرجته!، وإنّما هذا حطّ لمرتبة الرسالة، حيث يردّ عليه صريح قوله.

ثمّ يجاهر الرّسول بأنّ في نزع أبي بكر ضعف ونزع عمر قوي، ولم أر أحد من الناس مثل عمر في هذه الفضيلة! ويتفوّه النووي: بأنّه ليس فيه إثبات فضيلة عمر على أبي بكر!.

____________

(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي: 8 / 131 (2392)، وقد نقل عنه علي القاري في مرقاة المفاتيح: 10 / 396 (6040).


الصفحة 619
ولذا ترى القاري لما تأمّل الحديث صرّح بأن فيه زيادة مدح لعمر(1)!.

ثمّ ما زعم النووي: إنّ هذا إخبار عن مدّة خلافتهما: فإنْ أراد أنّ الحديث لا يدلّ على أزيد من ذلك، ويحمل إثبات الضعف لابي بكر في نزعه وإثبات القوّة لعمر، وكون عمر عبقرياً لم ير أحداً من الناس ينزع كنزعه على محض هذا الاخبار، ويجعل مفاد هذه العبارة الطويلة الكثيرة مجرّد أن زمان خلافة أبي بكر كان قصيراً بالنسبة إلى زمان خلافة عمر!، فنحن لا نتكلّم معه ولا نراه صالحاً للخطاب.

وإنْ كان غرضه أنّه يستفاد من هذا قصر زمان خلافة أبي بكر بالنسبة إلى زمان خلافة عمر، ولو دلّ على أمر آخر أيضاً! ; فلاحاجة بنا إلى ردّه وإبطاله، ولكن لا يتأتى على هذا نفي دلالته على فضيلة الثاني على الاوّل.

ثمّ نسأله بالاجمال هل هذا النزع الذي وضعوه فضيلة أم لا؟.

فإن إختار الثاني، فلا كلام لنا معه، وإن كان يلزم بذلك تسفيه أعلامه وشيوخه ومحدّثيه، حيث أوردوه في فضائل عمر وعدّوه من مناقبه!، وأيضاً يلزم منه تغليط النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث جعل ضعف أبي بكر في هذا النزع ممّا يطلب مغفرته!، لانّ هذاالنزع إذا لم يكن فضيلة فسؤال الله تعالى المغفرة للضعف فيه لا معنى له!.

وإنْ إختار الاوّل، فنقول: إذا كان هذا النزع فضيلة، وقد صرّح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)بضعف أبي بكر وقوّة عمر ونفي المماثلة له عن جميع الناس، يكون هذا دالاً على أفضليّة ابن الخطّاب على أبي بكر بالبداهة، وينسب منكره إلى السفاهة.

____________

(1) تقدم ذكره في أوّل الفصل.


الصفحة 620
ثمّ نسأله: هل كثرة إنتفاع الناس في ولاية أحد وإتّساع الاسلام وحصول الغنائم والاموال يوجب فضيلة له أم لا؟.

فإن قال: لا، فقد سلب فضيلة خليفته وإمامه، ومنقبته الجليلة، التي ما زالوا يفتخرون بها ويباهون عليها، ويثبتون لها نهاية فضله وكماله، وجلالة شأنه ورفعة مكانه!.

وإن قال: نعم، فقد وقع فيما فرّ منه، وعادة البليّة كهيئتها، وانهدم بنيانه، وإضطرب بيانه، وفسد عليه الامر، لانّه إذا كان هذا الامر فضيلة عظيمة، ومنقبة جسيمة وكان أبو بكر فيها ضعيفاً وعمر قوياً، ظهر تفضيله عليه في كمال الظهور، ولم يبق للشبهة مجال، وارتجّ باب القيل والقال.

ثمّ لا يخفاك! إنّهم يدّعون أنّ كثرة الانتفاع للناس وإتّساع الاسلام وإمتداده، ورواج الدين وشيوعه، وفتح البلاد وقهر العباد في خلافة أحّد، من أعظم الدواعي على الافضليّة، وأجلى الدلائل على الارجحيّة، فيرومون بذلك إثبات أفضليّة الشيخين على عليّ (عليه السلام)، فيلحقون (بالاَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُون أنَّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعاً)(1)، فيحطون بذلك قدر عليّ (عليه السلام) ويطعنون عليه، بأنّه لم يكن له في خلافته فضيلة إلاّ إضطراب الامر وإنتشار الخصام وحدوث الفتن، فإذاً كان هذا الامر دليلاً على أفضليّته!.

والحاصل: إنّ دلالة الحديث على أفضليّة الثاني على الاوّل ظاهرة من وجوه:

____________

(1) الكهف الاية: 103 ـ 104.


الصفحة 621
أمّا أوّلاً: فقوله: (في نزعه ضعف): صريح في أنّ نزع أبي بكر كان ضعيفاً وحظّه في حيازة الفضل طفيفاً، لانّ القليب إشارة إلى الدين، والنزع منه عبارة الى ترويجه وإشاعته وهداية الناس إليه وحيازة الفضائل وكسب المناقب فيه!.

وأمّا ثانياً: فقوله: (والله يغفر له): وهذا يدلّ على وقوع التقصير والذّنب منه، فضلاً عن المفضولية.

وانحَرِبَ(1) النووي فقال مجيباً عن ذلك:

«وأمّا قوله: (والله يغفر له ضعفه): فليس فيه نقص والاشارة إلى ذنب، وإنّما هي كلمة كان المسلمين يزينون بها كلامهم، وقد جاء في صحيح مسلم: إنّها كلمة كان المسلمون يقولونها افعل كذاوالله يغفر لك»(2) إنتهى.

وهذا يدلّ على عدم تأمّله، وإزدحام وهمه، وقصور فهمه، لانّ قياس قولنا: افعل كذا والله يغفر لك، على ماذكر في الحديث من قوله: (والله يغفر له ضعفه)، بعد إثبات ضعفه في الفضيلة السنيّة والمنقبة العظيمة، قياس مع الفارق، ولا يجيء إلاّ من نور فهمه غاسق، ويظهر فساده بالتأمّل الصادق!.

فإنّ في هذا الحديث أثبت أولاً أنّ نزع أبي بكر كان ضعيفاً، وعمله في ميزان التفضيل خفيفاً، ثمّ قال: (والله يغفر له ضعفه) تصريحاً!، فإنّ المطلوب من المغفرة هو ضعفه المثبت أولاً.

____________

(1) حَرِبِ الرجل: اشتد غضبه / لسان.

(2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي: 8 / 131 (2392)، وقد نقل عنه عليّ القاري في مرقاة المفاتيح: 10 / 296 (6040).


الصفحة 622
فهذا ينادي جهاراً ويصرّح بأنّ المراد من قوله (يغفر الله ضعفه) طلب المغفرة لضعفه الذي وقع منه ; بخلاف إفعل كذا ليغفر الله لك، حيث لم يثبت المتكلّم هناك للمنافق ضعفاً وقصوراً وخطيئة حتّى يقاس عليه!.

بل لو يثبت ضعفه أولاً، وقال: والله يغفر له ضعفه، لكان صريحاً في إثبات الضعف له!، بخلاف يغفر الله لك، حيث لا يدلّ على إثبات نقيصه في حقّ المخاطب!.

فإنّ الجاري في تزيين الكلام إنّما هو يغفر الله لك فقط بلا زيادة، وإن كان مطلق طلب المغفرة ولو كان بأيّ عبارة لا يدلّ على النقيصة، للزم أنّه لو قال أحّد لاحد: غفر الله لك شربك الخمر وزناك وسرقتك وأمثال هذا، لكان ذلك غير دال على وقوع هذه الافعال منه!.

والسرّ في عدم دلالة قولنا: والله يغفر لك ـ بحذف المفعول ـ على وقوع نقيصه من المخاطب بخلاف ما إذا ذكر مفعوله:

إنّ الاوّل يدلّ على محض طلب المغفرة من الله للمخاطب، من دون تعرّض لوقوع ذنب أو خطيئة من المخاطب، فكأنّه لم يقصد فيه مفعول أصلاً.

وإذا ذكرنا مفعولاً للمغفرة، وقلنا: غفر الله لك ذنبك أو ضعفك أو خطاءك، دلّ على أنّه وقع من المخاطب ذنب أو ضعف أو خطاء، فلهذا ترى! إنّما يستعملون في تزيين الكلام مثل غفر الله لك، أو عفا عنك وأمثال ذلك، ولا يدلّ على وقوع نقيصه من المخاطب، ولم يسمع قطّ بمتكلّم استعمل مثل غفر الله لك ضعفك، أو عفا عنك ذنبك لمحض التزئين!.

فالعجب! من النووي مع جلالته وإمامته وتبحّره وتمهّره، كيف خفى عليه

الصفحة 623
مثل هذا الفرق الواضح، وظنّ أنّ قوله: (والله يغفر له ضعفه) لمحض التزئين وليس فيه دلالة على شيء من التهجين؟!.

ولعله يرى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وفي نزعه ضعف) أيضاً من قبيل تزئين الكلام!، لانّه لو فرضنا أنّ قوله: (والله يغفر له ضعفه) من قبيل التزئين، ولا يدلّ على وقوع النقص والضعف منه، وقوله: (وفي نزعه ضعف) ينادى بأعلى صوته على ضعفه ونقصه وقصوره، فلابدّ من أنّ يعدّ هذا الكلام أيضاً تزئيناً، حتّى يلتئم الكلام ويتّسق النظام!.

ثمّ إنّه لو قيل: إنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (والله يغفر له ضعفه) لا يدلّ على وقوع ذنب من أبي بكر، فإنّه يجوز أن يكون هذا الضعف ممّا لم يبلغ مرتبة الذنب، بل يكون من قبيل ترك الاولى ; وكيف لا يكون كذلك، وقد ورد في شأن أبي بكر الذي جلالة شأنه، وعلوّ مقامه، وكثرة فضائله، وغزارة فواضله معلوم عند كلّ أحّد، فطلب مغفرة ضعفه لايدلّ إلاّ على ما لا يبلغ درجة الذنب، وكيف وقد تقرّر أنّ حسنات الابرار سيّئات المقرّبين!.

قلنا: هذا التأويل لا يمكن أن تقولوابه وتتشبثوا بذيله، لانّكم قد أفسدتم الامر على أنفسكم، حيث جعلتم كلمات أئمّتنا الدالّة على طلب المغفرة من الله، دالة على وقوع الذنوب منهم، كما تفوّه به في التحفة(1)!.

مع أنّ الفرق في الموضعين واضح، فإنّ كلمات أئمّتنا صدرت منهم في حقّ أنفسهم في مناجاة الله، وهذا الكلام من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع في حقّ أبي بكر!، ولا مساغ لحمل كلام أحّد في حقّ الغير على التواضع، بخلاف كلام أحّد في حقّ

____________

(1) انظر تحفة إثنا عشريّه للدهلوي الباب السابع: 358.


الصفحة 624
نفسه، فإنّ حمله على التواضع شائع ذائع، بل حمله على الواقع محض الجهل والعناد، يستلزم القدح في الانبياء، كما هو مشروح بأوضح التفصيل في كتب أعلامنا.

ثمّ إنّ الناصبة ـ خذلهم الله ـ جعلوا قول الله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)(1) في حقّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، دالاً على وقوع الذنب منه العياذ بالله من ذلك!، ونسبوا إليه مستدلين بذلك على صدور الخطاء ومخالفة الله تعالى في إذنه للمنافقين!.

وصاحب التّحفة ألقى نقاب الحياء عن وجهه، وقصد دفع الطعن عن عمر في قصّة القرطاس باثبات مطاعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونسب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه ـ العياذ بالله ـ خالف الله تعالى في مواضع عديدة، فعاتبه الله تعالى على ذلك بالعتاب الشديد، وعدّ من هذه المواضع قوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ)!.

وإن كنت في ريب، فها أنا أنقل عبائرهم وأظهر فضائحهم:

قال الفخر الرازي في تفسيره، في تفسير آية (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) في تقرير المحتجين بها على صدور الذنب عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

«قال قتادة وعمر بن ميمون: (إثنان فعلهما الرّسول (عليه السلام)، لم يؤمر بشيء فيهما، إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الاسارى، فعاتبه الله كما

____________

(1) التوبة الاية: 43.

وقد نفت الامامية صدور الذنب منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال الرضا (عليه السلام) في جواب المأمون حينما سأله عن معنى قوله تعالى (عفا الله...) قال: هذا مما نزل إياك اعني واسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيه وأراد به امته، وكذلك قوله عز وجل: (لئن اشركت ليحبطن عملك...)، وقوله تعالى: (ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئاً قليلاً)، قال: صدقت يابن رسول الله.