وهذا الكلام كما تسمعه صريح في أنّ قتادة وعمر بن ميمون إدّعيا أنّ هذا القول ـ أي (عَفَا اللهُ عَنْكَ) ـ عتاب من ربّ الارباب في حقّ سيّد الانبياء (عليه السلام)!، مع أنّه قد بيّن أعلامنا أنّ ما زعماه محض الجهل والعناد، ودونه خرط القتاد، وقائل هذا القول الغير الميمون، كادَ أن يمسخ فيصير منحوساً ويعود خلقه منكوساً.
وشايع الرازي أيضاً هناك أهل الحقّ، فانتصب لردّهما، وإنتدب لتفضيحهما، كما لا يخفى على من راجع تفسيره!(2).
وقال صاحب التحفة طاعناً على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقادحاً في عصمة جنابه السني:
«[ لو كانت أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً وحياً منزلاً من الله تعالى، فلماذا عاتبه الله على بعض أقواله؟!، وكان العتاب بعض الاحيان شديداً نحو قوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)(3)، وقوله تعالى: (وَلاَ تَكُن للْخَائِنِينَ خَصيماً * واسْتغْفِر اللهَ إنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ)(4) إلى آخر الاية ]»(5) إنتهى.
____________
(1) تفسير الفخر الرازي تفسير سورة التوبة: 8 / 86.
(2) انظر تفسير الفخر الرازي تفسير سورة التوبة: 8 / 85 ـ 87.
(3) التوبة الاية: 43.
(4) النساء الاية: 105 ـ 107.
(5) تحفة اثنا عشرية للدهلوي: الباب العاشر: مطاعن عمر: 581، وفيه:
«أگر أقوال آن حضرت تمام وحي منزل من الله ميشود در قرآن مجيد چرا پر بعض أقوال آن حضرت عتاب مى فرمودند حالانكه در جاها عتاب شديد نازل شده (عفا الله عنك لم اذنت لهم) وقوله تعالى (ولا تكن للخائنين خصيماً) و (واستغفر الله انّ الله كان غفوراً رحيماً) و (ولا تجادل عن اللذين يختانون أنفسهم) إلى آخر الاية».
سبحان الله! يكون قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّ أبي بكر: (والله يغفر له ضعفه) تزييناً للكلام، غير دال على النقصان والملام، ويكون قول الله تعالى في حقّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عتاباً شديداً، وإنكاراً ووعيداً!!.
ثمّ لو سلّمنا أنّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (والله يغفر له ضعفه) لا يدلّ على وقوع الذنب عنه، فإنّه لا حاجة لنا مهمة هنا بإثبات ذنبه في هذا المقام، ولكن لا شبهة أنّه يدلّ على وقوع نقيصه على أبي بكر ولو لم يكن ذنباً ; وهذا كاف في إثبات مدعانا، وهو دلالة أفضليّة الثاني على الاوّل، لانّه (صلى الله عليه وآله وسلم)أثبت له الضعف وطلب المغفرة لضعفه، وأثبت لابن الخطّاب كمال القوّة والفضل والرجحان، حيث قال: (ثمّ إستحالت غرباً فأخذها ابن الخطّاب) وهذا عين التفضيل!.
وأمّا ثالثاً: فقوله: (فلم أر عبقريّاً من الناس ينزع نزع عمر): ينادي بأعلى صوته، على أنّه لم يكن مثل عمر في النزع أحّد من الناس، لا أبو بكر ولا غيره وهذا عين التفضيل!.
ثمّ لو يكون في تفضيل ابن الخطّاب على غير أبي بكر شكّ من تطريق إحتمال التخصيص في أحّد من الناس، فلا شكّ في دلالته على تفضيله على أبي
ومن الغرائب! أنّ وليّ الله إدّعى: إنّ هذا الحديث يدلّ على أنّ عمر صار في الاخر مساوياً لابي بكر، حيث قال في إزالة الخفاء:
«[ وفيه نكتة: وهي أنّ الفاروق الاعظم أسلم في السنة السادسة بعد البعثة، بعد أربعين رجلاً واحدى عشرة امرأة، على إختلاف بين أهل العلم.
وبالجملة: فاسلامه وإن تأخّر عن أوّل البعثة وفاتته تلك المواقف، إلاّ أنّه كان سابقاً في قيامه بحقوق الخلافة بتأييد الله بأتمّ وجه، وفي نشره الدين، وكان في البداية مغفولاً عنه بالنسبة إلى الصديق الاكبر لتأخّر اسلامه وصار آخراً شريكه، وكان بيان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجهين:
ففي قضيّة الصديق الاكبر خاطبه معاتباً: (هل أنتم تاركون لي صاحبي، هل أنتم تاركون لي صاحبي قلت: يا أيّهاالناس إنّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت) أخرجه البخاري.
وقال في حديث رؤيا القليب: (ثمّ أخذ أبو بكر وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثمّ أخذها عمر فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فرية، حتّى ضرب الناس بطعن) أخرجه الشيخان وغيرهما ]» إنتهى(1).
____________
(1) ازالة الخفاء للدهلوي: 3 / 158، وفيه:
«در اين جا نكته بايد فهميد كه فاروق أعظم سال شيشم از بعثت بعد اسلام چهل مرد ويازده زن مسلمان شد على اختلاف يسير بين حمله العلم في ذلك بالجملة اسلام او اگر چه بنصف قرن از أوّل بعثت متأخّر شد وان سابقها از وي فوت كشت أما بتائيد الهي در قيام بحقوق خلافت باتم وجه وتوسط ميان پيغمبر (صلى الله عليه وآله وسلم) وامت او در نشر دين از همه سبقت نمود در اوّل مفضول بود بنسبت صديق أكبر به بسياري از جهت تاخر اسلام ودر اخر حال همچنان او وسهيم وشريك او شد آن حضرت (صلى الله عليه وآله وسلم) بيان هر دو وجه فرموده اند در قضيّة مغاضبة صديق أكبر (رض) باوى خطاب عتاب الود فرمود (هل أنتم تاركون..........».
وانظر صحيح البخاري: 5 / 64 (184)، كتاب التوحيد: 9 / 811 (2274)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 30 / 107، صحيح مسلم: كتاب الفضائل: 4 / 1483 (2392).
مع أنّ مساواة عمر لابي بكر أيضاً ممّا يكذبه رواياتهم وإعتقاداتهم، فإنّ رواياتهم المفترات كما لا يخفى على متأمّلها، منادية على أفضليّة أبي بكر من عمر أولاً وأخراً، وظاهراً وباطناً، علْماً وعملاً، وتقوى وصلاحاً، فكيف يصدّق بعد هذه الخرافات أنّ عمر صار مساوياً لابي بكر ولو في آخر الامر؟!.
وبالجملة: فقبول دلالة هذا الحديث على مساواة عمر لابي بكر، ولو في آخر الامر أيضاً كاف في ثبوت وضعه وكذبه، ولله الحمد أولاً وآخراً.
الفصل الرابع عشر
[ في علوّ درجة عمر ]
ومن عجائب الكذب والاختلاق، الذي وقع من أهل الشقاق وأرباب النفاق، إنّهم إفتروا على أبي سعيد الخدري أنّه كان يرى أنّ عمر هو الرجل الذي يقتله الدجّال، وهو مصداق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أرفع اُمّتي درجة في الجنّة)، وينسب ذلك إلى غيره من الصحابة.
روى ابن ماجة:
«حدثنا عليّ بن محمّد، حدّثنا عبد الرّحمن المحاربي، عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبي ذرعة الشيباني، يحيى بن أبي عمر، وعن أبي اُمامة الباهلي، قال: خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجّال وحذّر منه، وكان(1) من قوله: إنّه قال: (إنّه لم تكن فتنة في الارض، منذ ذرأ الله [ ذريّة ](2) آدم، أعظم من فتنة الدجّال) وذكر الحديث إلى أن قال: (وإنّ
____________
(1) في المصدر [ وحذرنا منه، فكان ].
(2) اثبتناه من المصدر.
قال أبو الحسن الطنافسي: فحدّثنا المحاربي، حديثاً عن عبيد الله بن الوليد الوصّافي، عن عطيّة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذلك الرّجل أرفع أمّتي درجة في الجنّة) قال أبو سعيد: والله! ما كنّا نرى ذلك الرجل إلاّ عمر بن الخطاب، حتى مضى سبيله»(2) إنتهى.
وهذا من الكذب البيّن، والميّن الصراح، الذي لا يشكّ فيه عاقل، لانّ هذا الرجل الذي يقتله الدجّال عند خروجه في قرب القيامة ودنو الساعة، هو الخضر، كما ذكره النووي والطيبي نقلاً عن أسلافهما، في شرح حديث الدجّال المتضمّن لقتل ذلك الرجل.
فاعلم! إنّه روى البخاري ومسلم:
«عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يأتي الدجّال وهو محرّم
____________
(1) اثبتناه من المصدر.
(2) سنن ابن ماجة: 4 / 404 (4077)، وذكره أيضاً أبي يعلي الموصلي في مسنده: 2 / 332 (1074) وزاد فيه: «قال أبو سعيد: كنّا نرى ذلك الرّجل عمر بن الخطّاب لما نعلم من قوّته وجَلَده» ; وفي مكان آخر: 2 / 516 (1366)، وفيه: «فما كنّا نرى إلاّ أنّه عمر بن الخطّاب حتى مات».
وكذا ذكره البزار في البحر الزخار، والتبريزي صاحب المشكاة: 3 / 344 (6053).
وروي هذا الحديث بهذا اللفظ:
«وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يخرج الدجّال، فيتوجّه قِبَلَهُ رجل من المؤمنين، فيلقاه المسالح مسالح الدجّال، فيقولون له أين تعمِد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال: فيقولون له: أوما نؤمن بربّنا؟ [ حقّاً ] فيقول: ما بربّنا خفاء، فيقولون: اُقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربّكم أن تقتلوا أحداً دونه، قال: فينطلقون به إلى الدجّال، فإذا رآه المؤمن، قال: يا أيّها الناس ; هذاالدجّال الذي ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فيأمر الدجال به فيُشبّح(2)، فيقول: خذوه وشجّوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الدجّال الكذّاب، قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتّى يفرّق بين رجليه، قال: ثمّ يمشي الدجّال بين القطعتين، ثمّ يقول له: قم، فيستوي قائماً، ثمّ يقول له: أتؤمن بي؟
____________
(1) انظر مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 179 (5479)، وانظر صحيح البخاري: باب الفتن: 9 / 698 (1951)، صحيح مسلم: 4 / 1784 (2938).
(2) يشبّح: أي يمدد على الارض وتربط يداه ورجلاه.
قال النووي في شرح هذا الحديث:
«قوله: قال أبو إسحاق: يقال: إنّ هذا الرجل هو الخضر (عليه السلام)، أبو إسحاق هذا هو إبراهيم بن سفيان راوي الكتاب عن مسلم، وكذا قال معمّر في جامعه في أثر هذا الحديث كما ذكر ابن سفيان: وهذا تصريح منهم بحياة الخضر (عليه السلام) وهو الصّحيح»(2).
وقال الطيبي في شرح الحديث الاوّل:
«قوله (خير النّاس) حس، قال معمّر وبلغني أنّ الرجل الذي يقتله الدجّال الخضر (عليه السلام)»(3).
فإذا دريت أصل القصّة!، وأنّ المراد بهذا الرجل الذي يقتله الدجّال هو الخضر (عليه السلام)، علمت باليقين أنّه لا يمكن أن يكون عمر مصداق هذا الرّجل، والممدوح بالصفات التي ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أنّه أرفع الامّة درجة في الجنّة وأنّه خير الناس.
____________
(1) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 178 (5476)، وانظر صحيح مسلم: 4 / 1785 (2938).
(2) صحيح مسلم بشرح النووي: 9 / 58 (2938).
(3) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 9 / 399 (5479)، وقد نقل كلام الطيبي.
وأمّا ثانياً: فلانّ عمر قد راح إلى مستقرّه، وقتله أبو لؤلؤة ولم يقتله الدجّال، وإنّما يخرجه الدجّال عند قرب القيامة.
اللهمّ إلاّ أن يقيموا القيامة!، ويقولوا أنّ القيامة قد قامت، والدجّال قد خرج فقتل عمر بن الخطّاب على هذا الوجه المذكور في الحديث، فإنّ ما ارتكبوه من الاكاذيب الكثيرة، والاباطيل الظاهرة تقرب من ذلك.
أو يدعوا حياة عمر!، وأنّه حيّ الان ولم يقتل، وإنّما يقتل عند خروج الدجال، وإن أنكروا وأحالوا طول عمر صاحب الزمان (عليه السلام)، مع إقرار ثقاتهم بوجوده(1).
أو يخرقوا إجماعهم ويختاروا ما كانوا يطعنون به حديثاً وقديماً على الشيعة من القول بالرجعة، فقول أنّ عمر يحيى كما في الحديث، ليس هو إلاّ عند خروج الدجّال فيقتل!.
وإنْ سلموا أنّ هذا الرجل المذكور في الحديث ليس هو عمر.
فنقول: لم افتريتم على أبي سعيد الخدري أنّه وغيره من الصحابة كانوا يعتقدون ذلك؟!.
____________
(1) لمعرفة ما ذكر أئمة وثقات أهل العامة من أخبار المهدي (عجل) انظر كتاب الامام المهدي (عجل) عند أهل السنّة لمؤلّفه مهدي الفقيه إيماني، والذي يتضمّن رسائل مفردة وفصولاً وأبحاثاً اقتطفها من مولّفات أئمّة الحديث ورجالات أهل السنّة خلال اثني عشر قرناً. حيث تجاوز عددهم الخمسين.
فنقول: قد صرّح محقّقوا أهل السنّة وأئمتهم وأعمدتهم: إن قول الصحابي: كنا نفعل كذا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، له حكم الحديث النبوي المعصوم عن الخطأ والغلط المطابق للواقع!.
واستدلوا عليه: بأنّ الظاهر إطلاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على فعلهم ذلك وتقريره إيّاهم عليه، وعلّلوا ذلك بتوفّر دواعيهم على سؤاله عن أمور دينهم، وبأنّ ذلك الزمان زمان نزول الوحي، فلا يقع من الصحابة فعل شيء ويستمرون عليه، إلاّ وهو غير ممنوع الفعل، وقد إستدلّ جابر بن عبد الله وأبو سعيد رضي الله عنهما على جواز العزل، بأنّهم كانوا يفعلونه والقرآن ينزل، ولو كان ممّا ينهى عنه لنهى عنه القرآن.(1) فعلى ماذكر ابن حجر: لا يمكنهم تخطئة أبو سعيد ونسبة الغلط والرؤية الباطلة إليه وغيره من الصحابة.
ثمّ نقول: إنّ المراد من قوله: (كنّا نرى ذلك): إنّ الصحابة كلّهم كانوا يرون ذلك، ولا يختلف في ذلك منهم إثنان!.
وقال [ القاري ] في شرح هذا الحديث:
«ظنوا أنّ المشار إليه هو لا غيره»(2).
ولا شبهة أنّ الضمير راجع إلى الصحابة، فإذا كان الصحابة جميعهم يرون
____________
(1) انظر فتح الباري للعسقلاني: 2 / 280.
(2) انظر مرقاة المفاتيح لعليّ القاري: 10 / 411 (6053).
وإنّ كان المراد أنّ أبا سعيد وبعضاً منهم ظنّوا ذلك.
فنقول: هذا أيضاً من الكذب الواضح المستبين على أبي سعيد، لانّه كان من الصحابة الاجلة، صاحب عقل وفهم، عالماً فاضلاً، كيف ظنّ أنّ ذلك الرجل هو عمر من غير دليل وبرهان؟!.
وأي لفظ في الحديث يدلّ على أنّ ذلك الرجل عمر!، وإنّما هو مجمل ليس فيه تعيين، فلا يقدم أحّد على حمله على معين إلاّ من خلع ربقة العقل.
وكيف جاز لابي سعيد تفسير كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند نفسه بغير دليل؟!، أليس ذلك من قبيل البهتان والكذب!، وذلك لا يشك فيه عاقل، وإنّما هذا من وضع الناصبة، الذين يرومون إثبات فضائل شيوخهم بكلّ إختلاق وإفتراء.
ثمّ لا يخفى عليك! أنّ صاحب المشكوة وقع في خبط عظيم، حيث إختصر عبارة ابن ماجة واقتطعه من قصّة الدجّال ; بحيث صارت محرّفة مصحفة لا تفيد المقصود، وكأنّ صاحب المشكوة لم يفهم معنى الحديث!، فأورده في فضائل ابن الخطاب، حيث قال:
«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذاك [ الرجل ](1) أرفع أمتي [ درجة ](2) في الجنّة)، قال أبو سعيد: والله، ما كنّا نرى إلاّ عمر بن الخطّاب حتى مضى لسبيله، رواه ابن ماجة»(3) إنتهى.
____________
(1) (2) اثبتناه من المصدر.
(3) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 344 (6053).
وإن كنت في إختباط صاحب المشكوة في ريب، ونسبتي إلى الافتراء على المحدّثين الاعلام، الذي صرفوا أعمارهم في تحقيق الاحاديث وتنقيدها، ومعرفة غوامضها وإبراز حقائقها، فحصلت لهم اليد الطولى والباع الواسع في ذلك، فضلاً عن فهم ظاهر المعنى وإختصار الحديث، الذي يفعله العامّة فضلاً عن الخاصّة، فأتيك بدليل ظاهر، وبرهان قاهر، يقطع لسان الكلام ويفضح النواصب اللئام.
فاعلم! إنّه قال القاري في شرح هذا الحديث، بعد نقل عبارة ابن ماجة كما نقلها:
«إنتهى سياق ابن ماجة فانظر وتأمّل سياق المصنّف الحديث واختصاره، حتى لم يفهم المقصود من الحديث ذكره ميرك»(1) إنتهى.
فهذا ينادي بأنّ سياق المصنّف الحديث سياق منكر، وإختصاره إختصار قبيح، وإنّ ذلك دالّ على عدم فهمه المقصود من الحديث، والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً.
فظاهر أنّ مقصود صاحب المشكاة من إيراد هذا الحديث في فضائل ابن الخطّاب، ليس إلاّ إظهار أنّ هذه الرواية التي عزوها إلى أبي سعيد صادقة، وإلاّ
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح للقاري: 10 / 412 (6053).
ولقد وقع بعض شراح المشكاة لسوء صنيع صاحبيه، وتمريقه الحديث واقتطاعه إيّاه من غيره موضع القطع، أيضاً في خبط وإختلاط لا يوصف كما سيظهر عليك عن كثب!.
ثمّ إنّ هذا الحديث الذي رواه ابن ماجة ونقله عنه صاحب المشكاة صريح في أنّ أبا سعيد الخدري وغيره من الصحابة، كما يدلّ عليه صيغة المتكلّم مع الغير، كانوا يرون أنّ مصداق (أرفع امتي في الجنّة) عمر!.
فظهر من هذا أنّه وغيره من الصحابة يعتقدون أفضليّة عمر على أبي بكر، وذلك باطل عندهم!
وكيف يرى مثله أبي سعيد الخدري الذي هو من أفاضل الصحابة وأجلاّءهم أفضليّة الثاني على الاوّل؟!، مع النصوص الكثيرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)على أفضليّة الاوّل على الثاني، ودلالة القرآن عليه كما يدّعيه ولي الله وغيره(1).
وقال الطيبي في دفع هذا الاشكال كلاماً غريباً وتقريراً عجيباً!، فقال:
«فإن قلت: فيلزم من هذا أنّه أفضل من أبي بكر ; قلت: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذاك الرجل) إشارة إلى مبهم، والقصد فيه أن يجتهد ويتحرى كلّ واحد من أمّته أن ينال تلك الدرجة، وإنّما ينال بتوخي العمل وتحري الاصوب من الاخلاق الفاضلة، والاجتهاد في الدين والمواظبة على المبرات، ولم تشاهد هذه الحال في
____________
(1) انظر ازالة الخفاء لولي الله الجزء الثالث.
وهذا الكلام في نهاية الخبط والاضطراب، تتحيّر منه الافهام والالباب، ويصرّح بأن العجز قعد بقائله عن تحرير الجواب، فلم يدر القشر من اللباب، ففاه بكلمات لا يصلحن للخطاب، ولا يخفى مافيه من الفساد والاضطراب.
أمّا أوّلاً: فلانّه لم يفهم معنى الحديث ومغزاه، ولم يراجع أصل ابن ماجة، واعتمد على مااختصر صاحب المشكاة، مع أنّ صاحب المشكاة اختصر إختصاراً يخلّ بالمقصود، ولم يفهم الحديث فحرفه وصحفه.
فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذاك الرجل أرفع اُمّتي)، إشارة إلى رجل يقتله الدجّال وينشره بالمنشار، فما زعم الطيبي من أنّ ذلك الرجل إشارة إلى مبهم، والقصد فيه أن يجتهد ويتحرى كلّ واحد من أمّته أنْ ينال تلك الدرجة... الخ، خبط صريح وغلط فضيح، يستبعد وقوع مثله من مثله!.
فإنّ هذا الكلام صريح في أنّ هذا الحديث ورد على طريق الايهام والتحريض والترغيب على العمل الصالح، مثل ما يقال من فعل كذا فله الجنّة، والحال أنّه ليس كذلك!، وإنّما هو إخبار عن حال رجل معين بأنّه أرفع أمّته درجته في الجنّة، فلا مدخل في ذلك لقصد التحريض على أنْ يجتهد ويتحرى كلّ واحد من أمّته أنْ ينال تلك الدرجة.
____________
(1) انظر مرقاة المصابيح لعلي القاري: 10 / 411 (6053)، وقد نقل كلام الطيبي.
«وحاصل كلامه أنّ كون المراد بذلك الرجل عمر، أمر مظنون فيه عند بعضهم، فلا يدلّ على أنّه أفضل من أبي بكر عند الجمهور، كما تقرّر عليه الانعقاد وحصل به الاعتماد، مع أنّه قد يقال: المراد به أنّه أفضل أهل زمانه حال خلافته، فيرتفع الاشكال من أصله»(1) إنتهى ما قال القاري شارحاً لما أجمل الطيبي.
ولا يخفى! أنّ هذا تصريح وقبول لما إدّعيناه، من أنّ رؤية عمر مصداق قوله: (أرفع اُمّتي درجة في الجنّة) دليل على إعتقاد أفضليّة الثاني على الاوّل، فهذا في الحقيقة قبول للاشكال وإعتراف بالعجز عن دفع الاعضال.
فإنّ نسبة إعتقاد أفضليّة الثاني على الاوّل إلى أحّد من الصحابة خصوصاً إلى مثل أبي سعيد الخدري من واضح الباطل، لانّه كيف يجوز أن يعتقد ذلك مع أنّ السنّيّة تصرّح وتنادي جهاراً بأنّ أفضليّة الاوّل على الثاني وعلى غير الثاني كان من أجلى البديهيّات، منصوصاً في القرآن في مواضع ومصرّحاً على لسان الرسول في مواقع؟!.
ثمّ إنّ الطيبي قال: «ظنّوا أنّ المشار إليه هو لا غيره»، وهذا تصريح منه بأنّ الصحابة كانت تظنّ ذلك، لانّ ضمير الجميع راجع إلى الصحابة بلا شبهة، فمن أين قال القاري في تلخيص كلامه أنّ ذلك مظنوناً عند بعضهم لا عند الجمهور؟!.
وظاهر أنّه إذا قال أبو سعيد: كنّا نرى، وفسّره الطيبي بأنّ الصّحابة كانت تظنّ ذلك الرجل عمر، يتبادر منه أنّ الصحابة جميعهم أو جمهورهم كانت تظنّ ذلك، لا أنّ بعضهم كانت تظنّ ذلك.
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 411 (6053).
وأمّا ثالثاً: فلانّه ما قال الطيبي: «وأيضاً يجوز أن يحمل على الخصوص»، وفسّره القاري بقوله: «مع أنّه قد يقال المراد... الخ»، دال على نهاية الخبط والغفلة عن التأمّل في الحديث، لانّ في الحديث تصريحاً بأنّ هذا الرجل أرفع الامّة في الجنّة، فكيف يحمل ذلك على الافضليّة في زمان الخلافة؟!، فإنّه لو لم يرد قيد (في الجنّة) لكان هذا التوهّم الفاسد مساغاً.
اللهم إلاّ أن يبرزوا في لباس الوقاحة والجهل، فيقولوا: المراد بالجنّة زمان الخلافة، ولا غرو منهم وإن فعلوا ما فعلوا وقالوا ما شاء الله!.
وثمّ لا يخفى عليك!، أنّ كلام الطيبي لما كان في نهاية الخبط والسفه، لم يرتضه القاري أيضاً، وتعقّبه بعد نقله وبيان حاصله، بقوله:
«لكن فيه: إنّ المشار إليه بذلك ليس مبهماً، بل هو مبيّن في الجملة، كما هو مصرّح في سياق حديث ابن ماجة من طريق عبد الرحمن بن محمّد المحاربي، عن أبي أمامة الباهلي...»، إلى آخر ما نقلناه سابقاً، ثمّ قال بعد نقله: «إنتهى سياق ابن ماجة فانظر وتأمّل سياق المصنّف الحديث وإختصاره، حتّى لم يفهم المقصود من الحديث ذكره ميرك، فعلى هذا قوله: والله ما كنّا... الخ، معناه أنّا كنّا نظنّ أنّ ذلك الرجل الذي يقتل على يد الدجّال هو عمر حتّى مات، فتبيّن أنّه غيره، لكن يشكل أفضليّة ذلك الرجل، ويدفع بأنّ معناه في زمانه، وقد تقدّم
وهذا ينادي بأعلى صوته:
أوّلاً: على تغليط الطيبي وتخطئته فيما بيّنه من معنى الحديث، وزعمه من أنّ الحديث، اشارة إلى مبهم والقصد فيه أن يجتهد ويتحرّى كلّ واحد من اُمّته أن ينال تلك الدرجة... الخ، وهذا التغليط مطابق لما أسلفناه في أوّل وجوه الردّ على كلام الطيبي.
وثانياً: على خبط صاحب المشكاة في سياق الحديث واختصاره، وعدم فهمه معنى المراد منه.
وثالثاً: على أنّ عمر ليس هو هذا الرجل المشار إليه في قوله: (ذلك الرجل أرفع اُمّتي درجة في الجنّة).
ورابعاً: على تغليط أبي سعيد الخدري وغيره ممّن نسب إليه رؤية ذلك الرجل عمر، بأنّ هذه الرواية قد تبيّن فسادها عليهم بموت عمر.
وخامساً: على أنّ قوله: حتّى مضى لسبيله، هو بيان إنتهاء هذه الرؤية الفاسدة، بأنّ هذه الرؤية المتوهّمة الفاسدة كانت منهم إلى مضيّة لسبيله، لا فيما بعده، وقد انقطعت تلك الرؤية بموته.
فظهر بهذا بطلان ما قاله القاري أولاً في شرح قوله (حتّى مضى سبيله): «أي مات عمر، وفيه دفع توهّم أنّه وقع له تغيير في آخر عمره» إنتهى.
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 411 (6053).