الصفحة 670

الصفحة 671

الفصل السابع عشر
[ في نزول آية الحجاب على رأي عمر ]

ومن صريح الكذب الغير المستطاب، ما وضعوه من موافقة رأي عمر في نزول آية الحجاب.

روى البخاري في صحيحة:

«عن عائشة: (إنّ أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كُنّ يخرجن باللّيل إذا تبرَّزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحجُب نساءك، فلم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة من الليالي عشاءً وكانت إمرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن يُنزل الحجاب، فأنزل الله تعالى آية الحجاب)(1)» إنتهى.

فهذا الكذب الذي تخرصوه على اُمّنا، أو اختلقته هي أعلى الله درجتها،

____________

(1) صحيح البخاري: كتاب الوضوء: 1 / 136 (143)، وانظر صحيح مسلم: 4 / 1364 (2170).


الصفحة 672
حفاوة بشأن إبنها وصديق أبيها، ممّا لا يخفى سخافته ; وإنّما غاية مرادهم أو مرادها من إختلاق هذا الكذب، هو إثبات فضيلة لابن الخطّاب، وهي عندهم نزول آية الحجاب موافقاً لرأي عمر، ولا يدرون أنّ ذلك لا يثبت له فضيلة، بل يعود عليه منقصة ورذيلة!.

ونحن نثبت أولاً كذبه، وثانياً وجوه إنقلابه عيباً عليه:

فنقول: هذا الحديث الذي رواه البخاري صريح في أنّ آية الحجاب نزلت بعد مكالمة عمر سودة، مع أنّه قد روى ثقات محدّثيهم أنّ نزولها كان قبل ذلك!.

قال السيوطي في الدرّ المنثور:

«أخرج ابن سعد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن أبي مسلم والبيهقي في سننه، عن عائشة، قالت: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت إمرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما(1) والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتي، وإنّه ليتعشى وفي يده عرقٌ، فدخلت وقالت: يا رسول الله، إنّي خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا، فأوحي اليه ثمّ رفع عنه، وإنّ العِرق في يده [ ما وضعه ](2)، فقال: إنّه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن)(3)» إنتهى.

____________

(1) في المصدر [ انك ].

(2) لا يوجد في المصدر.

(3) الدر المنثور للسيوطي: 6 / 659 سورة الاحزاب، وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد: 8/140، صحيح البخاري كتاب التفسير: 6 / 487 (1220)، صحيح مسلم: كتاب السلام: 4 / 1364 (2170)، السنن الكبرى للبيهقي: 7 / 88.


الصفحة 673
فهذا الحديث الذي رواه البخاري أيضاً في كتاب التفسير في صحيحه، صريح في أنّ مكالمة عمر مع سودة كان بعد نزول آية الحجاب، وإنّ تعرضه لخروج الازواج للحاجة قد كان خارجاً عن الصواب، وإنّ نزول الوحي بعد هذه المكالمة من ربّ الارباب على سيد الانجاب، إنّما كان في الاذن للخروج للحاجة، رغماً لانف ابن الخطاب، لافي الحجاب على ما افترته النصاب، ووضعته الاقشاب(1).

ويظهر من هنا كذب حديث آخر!، وهو ما نقله القاري، حيث قال:

«وقد أخرج الطبراني، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كنت أكلّ مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)حيساً في قعب، فمر عمر فدعاه فأكلّ فأصابت أصبعه أصبعي، فقال: حس أو اه، لو اُطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب)»(2) إنتهى.

لانّ الحديث الذي رواه السيوطي عن أئمّته، ورواه مسلم باعترافه، صريح في أنّ ما أنزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوحي إليه في ذلك الوقت، الذي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)يتعشى فيه ويأكلّ، هو الاُذن في الخروج للحاجة، وإنّ عمر لم يكن موجوداً في هذا الوقت، ودعاه فأكلّ معه، فلمّا أصابت إصبعه إصبع عائشة أنكر ذلك، فنزلت آية الحجاب موافقاً لرأيه، وهذا من عجائب الكذب!.

____________

(1) القاشب: الذي يعيب الناس بما فيه / لسان، والاقشاب جمع قشب: هو ما لا خير فيه / لسان.

(2) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 408 (6050) وانظر المعجم الاوسط للطبراني: 3 / 291 (2971).


الصفحة 674
فتراهم كيف قلبوا النقيصة فضيلة، حيث كان يدلّ ما وقع من عمر من تعرضه لسودة، وشكايتها منه عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الوقت في بيت عائشة، ونزول الوحي على خلافه، وتصريح النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلاف ما تعرض له عمر على نقيضه، فقلبوا ذلك الى أنّ عمر كان موجوداً في ذلك الوقت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعاه فأكلّ معه وأصابت إصبعه إصبع عائشة، فنزل الوحي موافقاً لرأيه!.

ومع ذلك فهذا الكذب يدلّ على أنّ آية الحجاب نزلت في هذا الوقت، الذي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يأكلّ فيه موافقاً لرأي عمر، مع أنّ حديث السيوطي صريح في أنّ ضرب الحجاب كان قبل ذلك!.

ويدلّ على كذب حديث الطبراني حديث البخاري الذي بدأنا في الكلام عليه أيضاً، لانّ ما رواه البخاري صريح في أنّ نزول آية الحجاب كان بسبب مكالمة عمر سودة، وإنّ عمر لم يكن موجوداً عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحديث الطبراني ظاهر في أنّ نزول الاية كان بسبب إصابة اصبع عائشة إصبع عمر، وقوله ما قال وأنّه كان موجوداً عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

أمّا إنقلاب حديث البخاري عيباً على عمر فمن وجوه:

أوّلاً: فلانّه ذكر أنّ عمر كان يأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجب نسائه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ما كان يفعل ذلك!.

وهذا من أقبح الجسارة، وأشنع الاجتراء على الرسول، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصيباً في كلّ ما يفعل ويذر، وهو أعلم بالمصالح، فما معنى التقدم عليه بأمر ونهي؟!.

قال في المواهب اللّدنية:


الصفحة 675
«قال الله تعالى: (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ)(1) فمن الادب أن لا يتقدم بين يديه بأمر ونهي، ولا اذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى كما أمر الله تعالى بذلك في هذه الاية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ»(2).

فاذا كان الله منع من التقدّم بين يدي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، يدل أنّ التقدم بين يديه بأمر أو نهي أو إذن أو تصرف خلاف الادب!، كما أمر عمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجب نسائه، مخالفة لله وتركاً للادب.

اللهم إلاّ أنْ يقولوا: إنّ الله تعالى إنّما منع المؤمنين، وعمر لم يكن مؤمناً، فلا يكون التقدّم منه بين يديه منهياً عنه!.

وقال البخاري في صحيحه:

«فإذا عزم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن يكن لبشر التقدم على الله ورسوله»(3).

وقال في فتح الباري:

«يريد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) [ بعد المشورة ](4) إذا عزم على فعل أمر ممّا وقعت عليه المشورة وشرع فيه، لم يكن لبشر(5) أن يشير عليه بخلافه، لورود النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في آية الحجرات، وظهر من الجمع بين آية المشورة وبينها تخصيص عمومها بالمشورة، فيجوز التقدّم لكن بإذن منه حيث يستشير،

____________

(1) الحجرات الاية: 1.

(2) المواهب اللدنية للقسطلاني: 2 / 457 الفصل الرابع.

(3) صحيح البخاري باب التوحيد: 9 / 775.

(4) اثبتناه من المصدر.

(5) في المصدر [ لاحد بعد ذلك ].


الصفحة 676
وفي غير صورة المشورة لا يجوز لهم التقدّم، فأباح لهم القول في جواب الاستشارة، وزجرهم عن الابتداء بالمشورة وغيرها، ويدخل في ذلك الاعتراض على ما يراه بطريق الاولى، ويستفاد من ذلك أنّ أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ثبت لم يكن لاحد أن يخالفه ولا يتحيل في مخالفته، بل يجعله الاصل الذي يرد إليه ما خالفه لا بالعكس كما يفعل بعض المقلدين، ويغفل عن قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(1)»(2) إنتهى.

فظهر! أنّ أمر عمر للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجب النساء كان تقدماً منهياً عنه، وإرتكاباً لما زجره الله تعالى عنه، وجسارة على ما لا يجوز، فإنّه صرّح ابن حجر في غير صورة إستشارة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لايجوز التقدم عليه، وإنّ الله زجر عن الابتداء بالمشورة وغيرها.

وثانياً: فلانّ قول البخاري: (كان يقول للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحجب نساءك، فلم يكن رسول الله يفعل)، يدلّ صريح على أنّ هذا التقدم القبيح الغير الجائز على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع من عمر مرّة بعد أخرى وكرّة بعد أولى، والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصغ لكلامه ولم يعمل بمقاله، فلو كان يصدّر منه مجرّد الامر بالحجب مرّة ثمّ الامساك عنه، لكان لهم أن يأوّلوا فعله، ويخترعوا له وجوهاً فاسدة وتأويلات كاسدة، مع نصّ ابن حجر بمنع التقدم بين يديه مطلقاً.

ولكن ما يفعلون بهذا الاصرار والاستبداد والوقاحة والجلاعة من عمر، حيث لا يصغي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لكلامه، ولا يستحيل مقاله، ولا يقبل أمره، ولا يعمل

____________

(1) النور الاية: 63.

(2) فتح الباري للعسقلاني: 15 / 285 كتاب الاعتصام.


الصفحة 677
برأيه، وهو لا ينتهي عن جرئته وجسارته، ويأمره مراراً ويصر على سوء صنيعه إصراراً، فإنّ ذلك لا شك في قبحه وشناعته!.

بل هو يدلّ على أنّ عمر كان يعتقد سوء فهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهله، أو عدم مبالاته بالاُمور الحسنة، حيث أمره بما كان يراه حسناً، ونزل الوحيّ أيضاً على طباقه، وهو لم يعمل به مع أمره بالمرّات والكرّات!.

ولا يخفى! على كلّ عاقل، إنّ هذا لو وقع من عمر لدلّ على نهاية ذمّه وعيّبه، وجسارته وجرئته الشنيعة، بل كان دالاً على نفاقه وعدم إيمانه، لانّه لو كان مؤمناً لنهاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك التقدم وزجره، فلمّا سكت عن ذلك ظهر أنّه تحمّل هذاالايذاء والايلام منه، كما كان يحتمل من سائر المنافقين كلماتهم الشنيعة وأفعالهم القبيحة!.

وإن قالوا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاه عن ذلك التقدم ولكنه مع ذلك أقدم على ذلك مراراً.

فقد زادوا في فضيحة إمامهم، وأثبتوا له مع مخالفة الله مخالفة صريح أمره أيضاً!.

ونسبة لما حملوا هذا الفعل على مناقب عمر وعدّوه من فضائله، ظهر أنّهم جعلوا عمر أعقل من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفضل وأكمل، حيث رأوا أنّ عمر كان يأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بما هو أصلح له في حقّ أزواجه وأحسن في حقّه، وكان صلاحه وحسنه بحيث نزل الوحي أيضاً على وفقه، والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أصرّ ـ العياذ بالله ـ على سوء فهمه ولم يسمع قوله الحقّ!.

وأمّا أهل الحقّ فانّهم يحملون منه هذا الفعل وسكوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه على

الصفحة 678
نفاقه وعدم إيمانه.

أولا ترى! أن الفضل بن روزبهان قال في جواب العلاّمة:

«هذا يدلّ على كمال غيرة عمر، وشدة إهتمامه في حفظ سر أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا قال: عرفناك يا سودة، والمراد أنّ الخروج بالليل أيضاً يوجب معرفة الناس، وليس هذا كمال الاستتار، فينبغي أن يتحرز عن الخروج بالليل أيضاً.

ألا ترى! أنّ الله أنزل عقيب هذا آية الحجاب، وهذا موافقة لعمر وهو من مناقبه.

ولو لم يكن هذا العمل من عمر مقبولاً عند الله، لانزل عقيبه تأنيباً لعمر وتوبيخاً له على ما فعل، لا أنّه ينزل ما يكون تصديقاً له وموافقة إيّاه، وهذا ظاهر على غير المتعصب»(1) إنتهى.

أقول: وهذا قول يدلّ على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ألعياذ بالله ـ لم يكن في كمال الغيرة وشدّة الاهتمام في حفظ ستر أزواجه، مع حسنه وكونه منقبة، وكان يجوّز على أزواجه عدم كمال الاستتار مع حسنه، وهذا عين تفضيل عمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

فإن الفضل ينادي جهاراً على أنّ فعل عمر منقبة وفضيلة له، وكان هذا من كمال الغيرة وشدّة الاهتمام في ستر الازواج، وإنّ خروج الازواج باللّيل كان يوجب معرفة الناس وليس هذا من كمال الاستتار، فينبغي أن يحترز خروج الليل أيضاً، وما سبق من رواية البخاري صريح في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يقبل قول عمر

____________

(1) انظر دلائل الصدق لمحمّد الحسين المظفر: 3 / 507، وقد نقل كلام ابن روزبهان هذا.


الصفحة 679
في ستر الازواج، وفعل ما لا ينبغي وإرتكاب ما ينبغي الاحتراز منه!.

ثمّ لم يكتفوا على ذلك، فنسبوا إلى الله تعالى أيضاً أنّه صدّق عمر في مقابلة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأظهر صواب فعله وعدم حسن فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

أمّا ماذكر الفضل من نزول آية الحجاب تصديقاً لابن الخطاب، وظنّ أنّه تمرة غراب، وأنّه منقبة عظيمة في حقّ رأس الاقشاب، فقد بينّا آنفاً أنّ هذا من أكاذيب النصّاب، وتحريفات الذين لا يخافون يوم الحساب، مع أنّه لو سلّم لم يكن من الدلالة على الفضيلة في شيء، لانّه يحتمل أنّ نزول الحجاب كان بسبب ما صدر منه من إساءة الاداب، كما أشار إليه العلاّمة الحلي فخر الاطياب(1).

وأمّا تمنّي من نزول التأنيب والتوبيخ في حقّ عمر لفعله ما فعل مع سودة فليس في محلّه، أو ما كفاه! ما أنزل الله تعالى في تأنيبه وتوبيخه وأصحابه وشركاؤه من آيات كثيرة، كآية الحجرات، وما أنزل لمّا فرّ هو وأصحابه يوم أُحد وحنين وغير ذلك، حتى يرجو نزول توبيخ آخر، وليس يجب أنّ كلّ فعل منكر إذا وقع من أحد ينزل توبيخه وتأنيبه.

____________

(1) انظر نهج الحقّ للحلي: 338، وفيه:

«وفي الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة، قالت (كان أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يخرجن ليلاً...» وهو يدلّ على سوء أدب عمر، حيث كشف سرّ زوجة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودلّ عليها أعين الناس وأخجلها، وما قصدت بخروجها ليلاً إلاّ الاستتار عن أعين الناس، وصيانة نفسها، وأيّ ضرورة إلى تخجيلها، حتى أوجب ذلك نزول آية الحجاب».


الصفحة 680

الصفحة 681

الفصل الثامن عشر
[ في إعزاز الاسلام بعمر ]

ومن واضح مينهم(1)، وفاضح شينهم، ما وضعوه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (اللهمّ أعزّ الاسلام بعمر)، وهو على ألسنتهم مشهور، وفي أسفارهم مذكور، وقد رواه منهم الجمّ الغفير، والعدد الكثير.

فقال الترمذي في شروح مناقب عمر:

«حدثنا محمّد بن بشار ومحمّد بن رافع، قالا: نا أبو عامر العقديّ، قال: نا خارجة بن عبد الله الانصاري، عن نافع، عن ابن عمر، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اللهمّ أعزَّ الاسلام بأحبِّ هذين الرَّجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)، قال: وكان أحبَّهما إليه عمر، هذا حديث حسن صحيح، غريبٌ من حديث عمر»(2) إنتهى.

وقال السيوطي في رسالة الدرر المنتثرة في الاحاديث المشتهرة:

____________

(1) المين: الكذب / لسان.

(2) الجامع الكبير للترمذي: 6 / 56 (3681).


الصفحة 682
«حديث: (اللهمّ أعزَّ الاسلام بأحّد هذين الرَّجلين إليك) الترمذي، من حديث ابن عمر، وقال حسن صحيح.

وروى الحاكم من حديث عائشة: (اللهمّ أعزَّ الاسلام بعمر بن الخطاب خاصة) ـ وقال بعد فاصله ـ قلت: ورد أيضاً بلفظ ابن عمر من حديث عمر نفسه أخرجه البيهقي، ومن حديث ابن مسعود أخرجه الحاكم، ومن حديث ربيعة السعدي أخرجه البغوي في معجمه، ومن حديث ابن عباس وخباب أخرجهما ابن عساكر في تاريخه، ومن حديث عثمان بن الارقم ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الزهري أخرجها ابن سعد في الطبقات، وورد بلفظ عائشة أخرجه الحاكم، من حديث ابن عمر أخرجه ابن سعد، ومن حديث أبي بكر الصدّيق أخرجه الطبراني في الاوسط، ومن حديث ابن مسعود أخرجه ابن عساكر، ومن حديث ثوبان أخرجه الطبراني، ومن مرسل الحسن أخرجه ابن سعد»(1) إنتهى.

وهذا الكذب الذي رووه عن أحّد عشر من الصحابة الذين فيهم عمر نفسه وصديقه وثلاثة من التابعين، محض الغلط والافتراء على سيّد الانبياء.

وإنْ طالبتني بالدليل على كذب هذا الحديث واستغربت إدعائي وضعه، وقلت: كيف يكون موضوعاً ما رواه هؤلاء الجماعة الكثيرة؟!، هم أساطين الدين

____________

(1) الدرر المنتثرة في الاحاديث المشتهرة للسيوطي: 18، وانظر مستدرك الحاكم: 4 / 34 (4541) (4542) (4540)، السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 370، شرح السنة للبغوي: 8/70 (3884)، الطبقات الكبرى لابن سعد: 3 / 184، المعجم الاوسط للطبراني: 5/377 (3749)، تاريخ دمشق لابن عساكر: 44 / 37، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 1 / 262 (328)، صحيح ابن حبّان: 15 / 305 (6881 ـ 6882).


الصفحة 683
وفضلاء المسلمين، عن هؤلاء الجماعة العديدة من الصحابة الاعاظم والتابعين الافاخم، ونسبتني في تكذيبه الى العصبيّة، وقلت: إنّك كلّ ما تراه مخالفاً لمذهبك مثبتاً لفضيلة الخلفاء تحكم بكذبه من غير إتيان ببرهان.

أقول: حاشا أن أنسبهم إلى الكذب من تلقاء نفسي، أو أحكم بكذب مثل هذا الحديث المشهور الذي حسّنوه وصححوه من غير دليل.

بل عكرمتهم الذي هو من أفاضل التابعين والثقات الممدوحين، قد كذّب هذا الحديث وغلّطه، وعاذ بالله من التقول بهذا اللفظ ونسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن لم تصدقني! فانظر الى الدرر المنتثرة للسيوطي، حيث قال فيه بعد ما سبق من تعديد حديث رواة حديث اللهمّ أعزّ الاسلام:

«ذكر أبو بكر التاريخي، عن عكرمة أنّه سئل عن حديث: (اللهمّ أيّد الاسلام [ بعمر ](1))، فقال: معاذ الله، الاسلام أعزّ من ذلك، ولكنه قال: (اللهمّ أعزّ عمر بالدين أو أبا جهل)»(2) إنتهى بلفظه.

ومن شك في تصديق النقل، فليأتي حتى أضيق فسحة محاله، وأقطع لسان مقاله.

فهذا كما تراه! يؤذن بأنّ ما وضعوه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه قال: (اللهمّ أيّد الاسلام بعمر) و (أعزّ الاسلام بعمر) من قبيح الكذب والاختلاق، التي اجترأت عليه أهل النفاق، وإنّه عند عكرمة تحقير للاسلام، وقول بما يعاذ منه إلى الله العاصم من هفوات الكلام، وزلات الاقدام!.

وهذا القدر يكفي لاهل الحقّ في اثبات وضع هذا الكذب، لانّه لمّا وافقهم

____________

(1) لا يوجد في المصدر.

(2) الدرر المنتثرة للسيوطي: 19.


الصفحة 684
عكرمتهم الذي يعتمدون عليه، ويوثقونه ويجعلونه من شيوخهم وأئمتهم، وصرّح بكذب هذا الحديث واستشنعه واستقبحه، تم لهم الدسر(1) وسلم لهم الاحتجاج، وليس علينا أن نجيب عن تأويلاتهم، وما قالوه في تسفيه عكرمتهم وتحميقه.

ثمّ من عجائب! ألطاف الله في حقّي وفي حقّ المؤمنين، وإرادته تفضيحه الكاذبين والمدخلين، إني وجدت بعد ذلك في كتبهم أنّ عائشة أيضاً كذّبت هذا الكذب المختلق، وبدّلت عزّهم ذلاًّ!.

ففي انسان العيون في سيرة الامين والمأمون، في قصّة إسلام عمر:

«ثمّ قالوا: يابن الخطّاب أبشر فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا فقال: (اللهم أعزّ الاسلام) وفي (لفظ أيّد الاسلام بأحد الرجلين امّا بأبي جهل بن هشام وامّا بعمر بن الخطاب) أي، وفي لفظ (بأحبّ هذين الرجلين إليك أبي الحكم عمرو بن هشام يعني أبا جهل، وعمر بن الخطاب) أي، وفي غيرها رواية بعمر بن الخطاب من غير ذكر أبي جهل، وعن عائشة (رض) أنّها قالت: إنّما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللهمّ أعزّ عمر بالاسلام) لانّ الاسلام يُعِزُ ولا يَعَزُ»(2) إنتهى.

فهذا كما تراه! صريحاً في أنّ عائشة قد كذبت ما اشتهروه وروجوه، وفي صحاحهم وأسفارهم أدرجوه، ولا يضرنا ما قال في ايناس العيون بعد العبارة المذكورة: «ولعلّ قول عائشة ماذكر نشأ عن إجتهاد منها، بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر، فليتأمّل»(3) إنتهى.

____________

(1) الدسر: الطعن / لسان.

(2) السيرة الحلبية لعلي الحلبي: 1 / 330.

(3) السيرة الحلبية لعلي الحلبي: 1 / 330.


الصفحة 685
ثمّ يدلّ على بطلانه وكذبه، بناءً على ما يكذبون به حديث الطير وأمثاله، لاختلافه وتباينه، ففي بعضها أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لعمر وأبي جهل معاً، وفي بعضها أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لعمر خاصة، كما في الرياض:

«عن عليّ، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (اللهمّ أعزّ الاسلام بعمر بن الخطاب) أخرجه ابن السمان في الموافقة»(1).

والظاهر! أنّ ذلك مناف لما سبق من الترمذي وغيره، وصاحب الرياض وإن نفى التنافي بحمل الدعاء على التكرار، حيث قال:

«وعن ابن عمر أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (اللهمّ أعزّ الدين بأحبّ الرّجلين إليك بعمر بن الخطاب وبأبي جهل بن هشام) فكان أحبهما إلى الله عزّ وجلّ عمر، خرجه أحمد والترمذي وأبو حاتم.

وعن عائشة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اللهمّ أعزّ الاسلام بعمر بن الخطاب خاصّة) أخرجه أبو حاتم، ولا تضاد بينهما لجواز أن يكون تكرر الدعاء منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فخصّ عمر مرّة وأشرك معه غيره أخرى»(2) إنتهى.

ولكن لا يخفى! أنّ هذا التأويل لو كان معتمداً عند صاحب الصواقع وأمثاله، لما كذّبوا حديث الطير وردوه بإختلافه في الطير المشوي، فإنّ التأويل المذكور يجري فيه أيضاً.

____________

(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 245 (591).

(2) الرياض النضرة للطبري: 1 / 245 (590، 592)، وانظر مسند أحمد: 5 / 189 (5696)، الجامع الكبير للترمذي: 6 / 56 (2681)، صحيح بن حبّان: 15 / 305 (6881) (6882).


الصفحة 686

الصفحة 687

الفصل التاسع عشر
[ في علم عمر ونسبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ]

ومن أعجب الاعاجيب، بل أكذب الاكاذيب، ما وسم برواية البخاري ومسلم والترمذي صحاحهم السقام، بوسمة العيب والملام، وقد رواه أحمد وأبو حاتم أيضاً وغيرهما من محدثيهم الاعلام.

ففي مشكاة المصابيح:

«عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (بينا أنا قائم أُتيت بقدح لبن، فشربت حتى إنّي لارى الرَّيَّ يخرج في أظفاري، ثمّ أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أوّلته يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: العلم) متفق عليه»(1) ; أي رواه البخاري ومسلم في صحيحهما.

وقال القاري في شرحه:

«ورواه أحمد وأبو حاتم والترمذي وصححه»(2) إنتهى.

____________

(1) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 341 (6039)، وانظر صحيح البخاري: فضائل الصحابة: 5 / 70، صحيح مسلم: 4 / 1482 (2391).

(2) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 393 (6039)، ومسند أحمد: 5 / 517 (6243)، وصحيح ابن حبّان: 15 / 300 (6878)، والجامع الكبير للترمذي: 4 / 125 (2284).


الصفحة 688
فلما فرغوا من إثبات فضائل عمر من وحي الملك العلام، ونقلوها عن لسان جبرئيل (عليه السلام) وأفضل الرسل الكرام، شرعوا في إثباتها من المنام، وراموا أن يفضوا لبانتهم من قدح اللبن، ويرووا عطاش طلبة فضائله بفضل الرسول الكريم ذي المنن، فيقدحوا بذلك زيناً ومأثره، وينشبوا أظفارهم في مفاخره، ولم يدروا أن كلّ ذلك من أضغاث الاحلام، وأكاذيب المنام، ومفضحات الاوهام، وإنّ حديث القدح يعود عليهم قدحاً، وذكر الفضل لا يمكن أن يثبتوا به لامامهم فضلاً ومدحاً!.

وإنّ هذا الكذب لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل، ولا يصدّقه إلاّ أحمق ضليل، لانّه ينادي رافعاً صوته أنّ عمر كان في غاية العلم، ونهاية الحذاقة، وكمال البراعة، وأقصى الفضل، وأبلغ الوقوف على المسائل الشرعيّة، وأوسع الاطّلاع على الاحكام الدينيّة، فإنّه شرب مما شرب منه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واستقى فضله، فكان علمه من علمه وفضله من فضله، فيستحيل عليه أن يعجز في المسائل الدينيّة المشكلة، والاحكام الشرعيّة المعضلة، فإنّ من غذي بأفايق لبن الرسالة، واستسقى من شرب النبوّة والجلالة، يتنوّر بنور الالهام ويصيب حقائق الاحكام.

مع أنّه قد ثبت أنّ عمر كان جاهلاً في أكثر المسائل، غافلاً عن أعظم العلم الفاضل، وإن تصديت لاظهار تردده وتحيّره وجهله وعجزه عن حلّ العويصات، وإضطرابه كاضطراب الارشية في الطوى البعيدة عند نزول المشكلات، لطال نطاق الكلام وخرجنا عن المرام، ومن أراد الاطلاع عن نبذ من جهالاته في الاحكام، فليراجع تشييد المطاعن تصنيف الوالد الماجد الهمام، أحلّه الله دار

الصفحة 689
السلام(1)، يجد فيه ماهو رواء الاوام، وشفاء العرام، ودواء السقام(2).

وها أنا أقتصر على ذكر بعض قصصه التي تدلّ على أنّه لم يكن ممّن يعد في العلماء، فضلاً عن أن يكون شارباً لفضل سيّد الانبياء:

فمنها مسألة الجدّ: التي إستنفد فيها عمر الجهد والجدّ، واستفرغ الوكد والكدّ، فعاد في علمها نعس الجدّ ضريع الخدّ(3)، وقابله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سؤاله عنها بالردّ والصدّ، وهذا من أشنع الطعن الذي ليس لفظاعته حدّ، ولايوجد لها في المخازي ندّ!.

ففي كنز العمّال:

«عن سعيد بن المسيب، عن عمر، قال: (سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف قسم الجدّ؟ قال: ما سؤالك عن ذلك يا عمر؟ إنّي أضنك أنّ تموتُ قبل أن تعلم ذلك) قال سعيد بن المسيب: فمات عمر قبل أن يعلم ذلك، عب هق، وأبو الشيخ في الفرائض»(4) إنتهى.

فهذا الحديث الذي رواه شيوخ السنّة وأئمتهم الحذّاق، وأعمدة مهرة الباحثين البارعين، الخائضين في غوامض الحديث، الغائصين في بحار النقد

____________

(1) كتاب تشييد المطاعن للسيّد محمّد قلي الموسوي النيسابوري الهندي والد صاحب العبقات طبع بطبعة حجريّة بجزئين.

(2) الاوام: العطش ; ويقال الابرش والابرص: الاعرم / لسان.

(3) أنعَسَ الرجل إذا جاء ببنين كسالى / لسان.

في الحديث عن عليّ (عليه السلام): أضرع الله خدودكم: أي أذلّها / لسان من خطبة 69 لنهج البلاغة.

(4) كنز العمال: 11 / 57 (30611)، وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 245.


الصفحة 690
والتحقيق، أعني عبد الرزاق والبيهقي وأبا الشيخ، ونقله السيوطي والمتقي، صريح في أنّ عمر كان عن مقام الفضل والفهم والعلم والدراية هابطا،وردّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سؤاله ذلك ساخطا، وجعله عن علمه وإدراكه قانطا، وجعل سؤاله عنه مرراً لا يغني ولا يفيد، وأبان أنّه لا يعلم ذلك حتى يرتحل ويطعن إلى رمسه بجهله الشديد!.

وهذا يدلّ على كمال غباوته، وقلّة فطنته، وعدم ذكائه، وسخف عقله، وجمود ذهنه، وخمود فكره، وإعوجاج طبعه، وبعده عن الفهم والعلم، وعجزه عن إدراك مسألة واحدة، فضلاً عن غيرها من المسائل الغامضات، والاحكام العويصات، والمآخذ الدقيقة، والحجج اللطيفة، التي يحتاج فيها إلى عقل صحيح، ورأي وزين، وفكرة نقّادة، وطبيعة وقّادة، وذهن ثاقب، وفكر صائب.

فإنّ قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وما سؤالك عن ذلك يا عمر... الخ)، صريح في أنّ سؤال عمر عن هذه المسألة لا فائدة فيها، وإنّه لا ينبغي له السؤال عنها، وهل هذا إلاّ تصريح بعجزه عن فهمها، وعدم إستطاعته وإضطلاعه بإدراكها!.

وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أظن أنّك تموت قبل أن تعلم) غاية التصريح والاجهار بقصوره وعجزه، وهبوطه عن الادراك والعلم، وإبتلاءه بالجهل والجمود والغباوة!، وظنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المصيب المطابق للواقع، وقد صرّح بصدقه سعيد بن المسيب، وصرّح بأنّه مات عمر ولم يعلم مسألة الجدّ.

وقد علم من رواياتهم وأخبارهم المعتمدة الموثوقة، إنّ عمر قد بالغ في تحصيل العلم بهذه المسألة، وكدّ فيها وجدّ واجتهد أبلغ ما يكون، وناظر في ذلك،