وإذا لم يحصل له العلم بهذه المسألة على ما أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إخباراً بالغيب، وصدق إخبار سعيد بن المسيّب، دلّ ذلك على كمال غباوته، وخمود فطنته وعجزه، وبعده عن درجة العلماء بل المحصلين، وهل من شأن أدنى محصل ـ فضلاً عن العلماء المجتهدين والفضلاء البارعين، فضلاً عن أئمة الدين وهداة الخلق أجمعين ـ أن يبالغ ويجتهد ويكدح ويدأب في تحصيل مسألة من المسائل العلمية وإن كانت غامضة، ويناظر فيها ويستفسر عنها العلماء على طول الزمان ومرّ الدهور، ثمّ لا يحصل له العلم بها!!.
فيرجع عنها بخفي حنين، حسيراً حصيراً، خائباً خاسراً، ويموت على ذلك بنص من يستفسر عنه على أنّه لا يعلم ذلك حتى يموت، وإنّ سؤاله عنهما ممّا لا ينبغي ولا يجدي، فكلّ أحد ممن أُوتي قسطاً من الدراية والانصاف، يعلم قطعاً وبتاً أنّ ذلك ليس من أدنى طلبة العلم الذين يعتد به فضلاً عن العلماء والفضلاء!.
فيالله وللمسلمين! كيف يعتقد أحد أنّ عمر مع ما سمعت من حاله كان من العلماء المجتهدين أو الفضلاء؟!، فضلاً عن أن يكون شارباً لفضل خاتم النبيين، فائقاً مبرزاً على الصحابة أجمعين، وفيهم عليّ أمير المؤمنين، وحبر هذه الامّة ابن عباس الكاشف عن كلّ معنى دقيق متين.
ثمّ من أطرف الطرائف! الدالة على جسارة عمر وجهله وجرأته على الله ورسوله، وعدم إحتفاله وفقدان إكتراثه بالافتضاح والخزي بين يدي الله ورسوله
____________
(1) انظر تحفة اثنا عشرية للدهلوي: الباب العاشر مطاعن عمر: 611.
والقاصرون الجاهلون الفاقدون للفحص والتتبع والنقب عن أحاديثهم ورواياتهم، إن أقدموا على إنكار ثبوت ماذكرت، يفضحون أنفسهم ومذهبهم وأتباعهم وأوليائهم وشيوخهم وقادتهم، كما لا يخفى على ناظر التحفة وأمثالها.
ولكن العلماء الكرام أجزل الله مساعيهم الجميلة، وأعطاهم في ثواها(2)المناصب الجميلة، قد أثبتوا ذلك واستشهدوا عليه برواياتهم وأخبارهم، ومنهم الوالد الماجد ـ قدّس الله نفسه وطيّب رمسه ـ نقل في تشييد المطاعن عن فتح الباري:
«أخرج يزيد بن هارون في كتاب الفرائض، عن هشام بن حسان، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة بن عمرو، قال: (أني حفظت عن عمر في الجدّ مائة قضيّة كلّها ينقض بعضها بعضاً).
وروينا في الجزء الحادي عشر من فوائد أبي جعفر الرازي بسند صحيح
____________
(1) انظر كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 58 (30613)، والسنن الكبرى للبيهقي: 6 / 245، والمصنف لابن أبي شيبة: 6 / 270 (31256)، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: 10 / 261 (19043).
(2) مأخوذ من المثوى، فمثوى الرجل: منزله / لسان.
وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر، وتأوّل البزار صاحب المسند قوله: قضايا مختلفة، على إختلاف حال من يرث مع الجدّ، كأن يكون أخ واحد أو أكثر، [ أو أخت واحدة أو أكثر ]، ويدفع هذا التأويل بما تقدم من قول عبيدة بن عمرو: ينقض بعضها بعضاً»(1) إنتهى.
وقد قال القسطلاني أيضاً مثل ذلك في شرحه على البخاري(2).
وقد نقل هذه الرواية ابن أبي شيبة والبيهقي وابن سعد وعبد الرزاق أيضاً في كتبهم المشهورة وأسفارهم المعتمدة، كما في كنز العمال:
«عن عبيدة السلماني، قال: (لقد حفظت عن عمر بن الخطاب في الجدّ مائة قضيّة مختلفة، [ كلها ينقض بعضها بعضاً ]) ش ق ابن سعد عب»(3).
وقد نظر هذه الرواية محققهم عبد الرؤوف المناوي أيضاً في فيض القدير(4).
وبالجملة: حكم عمر في هذه المسألة بمائة قضيّة مختلفة، قاض عليه
____________
(1) تشييد المطاعن لمحمد قلي الكنتوري: 2 / 962، وانظر فتح الباري للعسقلاني: 13 / 506.
(2) انظر ارشاد الساري للقسطلاني: كتاب الفرائض: 14 / 153.
(3) كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 58 (206513)، وانظر المصنف لابن أبي شيبة: 6 / 270 (21256)، السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 245، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: 10/261 (19043).
(4) فيض القدير للمناوي 5 / 263.
ولا يوجد في الكتاب والسنّة من الدلائل والحجج ما يوهم هذا الاختلاف والاضطراب العظيم في هذه المسألة، بل ولا عشرها!، فلم يبق إلاّ أنّ عمر حكم فيها بمحض هواء النفس، وما خالطه من الوساوس فأمره من الهواجس، ولم يستند في ذلك الى أدنى شبهة ولو كانت ضعيفة، فضلاً عن أن يرجع فيها الى دليل وبرهان من الكتاب والسنّة!.
ولا ريبة في أنّ الحكم في الدين بلا إستناد الى الكتاب والسنّة، بمحض الرأي السخيف والعقل الضعيف ولو كان ذلك الحكم واحداً من عظائم الجرائم، فضلاً عن مائة حكم باطل.
ثمّ إنّ قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما سؤالك عن ذلك يا عمر... الخ)، أصدق شاهد على أنّ كلّ ما حكم به من القضايا في هذه المسألة خارج الصواب، غير مستند الى السنّة والكتاب!، فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) صريح في عدم حصول علمه له وعجزه عن فهمه، فجسارته على هذه القضايا المختلفة ليس إلاّ عدوان ومجازفة، ولعب وسخر بالدين، ومخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم التصديق والايقان به ; وقد نصّ ابن حجر في الصواعق على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرجو إلاّ الامر المحقّق المطابق
ثمّ إنّ قول سعيد بن المسيب أيضاً كاف في إثبات أن حكم عمر في هذه المسألة كان لا لعلم بها، بل مات وهو جاهلاً عنها ذاهلاً حقيقتها!.
فكيف يوقن عاقل أنّ هذا المجتري الغير المبالي الجاهل المعاند، الذي يحكم في مسألة واحدة بمائة قضيّة مختلفة بعد أن يظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لا يعلمها، كان شارباً لفضل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه كان صدّيقه، أعلم الصحابة وأشرفهم وأفضلهم، وأعلاهم قدراً، وأجملهم ذكراً، وأثقبهم فهماً، وأكثرهم علماً؟!.
ومنها مسألة الكلالة: وهي مفضحة لاهل الضلالة، مراغمة أنوف أهل البطالة، فإنّها أيضاً قد راجع فيها عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً، وإستفسر عنها إستفساراً، فلم يفهم الجواب ولا شعر بالحكم الصواب، فحسر وكلّ وسئم وملّ، حتى نصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنّه يراه أنّه لا يعلمها أبداً!، وهذا ثبت برواياتهم الصحيحة متناً وسنداً.
ففي كنز العمال:
«عن سعيد بن المسيب: (إنّ عمر سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كيف يورث الكلالة؟ قال: أو ليس قد بيّن الله ذلك؟ ثمّ قرأ (إن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امرَأَةٌ...)(2) الخ، فكأن عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طيب نفس فسأليه عنها! [ فسألته عنها ]، فقال: أبوك
____________
(1) الصواعق لابن حجر: 2 / 625.
(2) النساء الاية: 12.
فهذا كما تراه صريح في أنّ عمر قد سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مسألة الكلالة مرّة بعد أخرى، فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل الله تعالى بما هو الاحرى، فلم يفهم ولا أحس في الاستنباط ولا أجاد، بل عجز عن فهمها وإدراكها ووقع مثل الحمار في الرحل، ولا سارع ذهنه الى علمها وتبيّنها مثل أهل الفضل!.
ولعلّه ظنّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالهه شحاً في تبيينه وضنته، فتشبث بذيل الذرائع والاواخر والوسائل بسوء المظنة، فحداه ذلك الى الالتجاء الى إبنته وجعلها منتهزة لرضا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطيبته، فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كغير شاعرة، وعثوره على حقيقة الامر، وهو أبين عنده من طلوع الفجر، ففضحها بكشف جلية الحال، وأبان لها أنّ أباها هو الذاكر لهذا السؤال، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّي أرى أباك لا يعلمها أبداً).
وهذا تصريح وأي تصريح! بأنّ عمر بالغ في العجز والغباوة وسوء الفهم غاية، غير سالك من حسن الفعل طريقاً جدداً، وهذه المسألة مثل مسألة الجدّ طباق النعل بالنعل، وحذوا القذّة بالقذّة، مثبتة عجز عمر، وجمود ذهنه، وعدم استطاعته، وهبوطه عن مقام العلم والفضل والذكاء والتعقل والفهم.
ومع ذلك لم يقنع عمر بالجهل، ولم يصبر على كفّ نفسه عن الاقتحام في هذه المسألة، فحكم فيها برأيه ووهمه!، فافتضح وخزى، ثمّ اضطرب وتلوّن
____________
(1) كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 78 (30688).
«عن الشعبي، قال: (سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إنّي أقول فيها برأي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء، أراهُ ما خلا الوالد والولد، فلمّا استخلف عمر، قال: الكلالة ما عدا الوالد ـ وفي لفظ من لا ولد له ـ فلما طعن عمر، قال: إنّي لاستحي الله أن أخالف أبابكر، أرى أنّ الكلالة ما عدا الوالد والولد) ص عب ش والدارمي وابن جرير وابن المنذر»(1) إنتهى.
وهذه الرواية صريحة منادية، بان عمر لم يكف نفسه ولا روعها، ولا جذب ولا كبح عنانها عن الجسارة على الحكم في مسألة الكلالة، فمرّة حكم قطعاً بأنّ الكلالة ما عدا الوالد، وفي لفظ من لا ولد له، ثمّ لمّا قارب حلول النقم، ومكافات عصيان بارئ النعم، ومجازاة زلة القدم، إعتراه على مخالفة الخالفة الاوّل الندم والسدم(2)، فخالف حكمه الاول وجنح الى موافقة الاوّل وزعم أنّه المعوّل، فحكم بأنّ الكلالة ما عدا الوالد والولد.
وهذا كلّه جهل وجزاف، وجسارة على التفوّه بما هجس في الخلد، فإنّ الفتوى في هذه المسألة على نهج الشرع مستحيل عليه! بحكم الرسول المعصوم المسدد، حيث نصّ على أنّه يراه لا يعلمها الى الابد، وقد اعترف بنفسه أيضاً برؤية عدم حصول العلم له في هذا المجال، مستنداً بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال ما قال!.
____________
(1) كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 79 (30691)، وانظر المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: 10/304 (19191)، سنن الدارمي: 2 / 822 (2860).
(2) السَّدَمُ: بالتحريك: الندم والحزن، والسدم: الهم، وقيل هم مع ندم / لسان.
والعجب من عمر! يظهر الحياء من الله في مخالفة أبي بكر، ومع ذلك لا يستحي عمر من مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند وفاته وقرب مماته، فإنّ الفتوى في هذه المسألة مع نصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنّه يراه أنّه لا يعلمها مخالفة صريحة، ومعاندة قبيحة.
ثمّ إنّ عمر لمّا كان في الحقيقة عن هذه المسألة جاهلاً، وقد قال ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له لمّا استفسره عنها سائلاً، لم يكن له مع الحكم فيها برأيه السخيف الفاسد وفهمه الافين أن يخفي حقيقة الحال،فكما أنّه أقرّ في هذه الرواية برؤية جهله وعدم حصوله علمه له عائداً بعد ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال، كذلك أقرّ بجهله في هذه المسألة في مقامات شتى ومجالس مختلفة!.
ففي كنز العمال:
«عن عمر، قال: (لان أكون أعلم الكلالة أحبّ إليّ من أن يكون لي مثل قصور الشام) ابن جرير»(2) إنتهى.
فهذا كما تراه صريح في جهله عن الكلالة، وعدم قدرته وإستطاعته بعلمها.
____________
(1) أي: نعوذ بالله من الرجوع بعد الاستقامة والنقصان بعد الزيادة، فالحور النقصان والكور الزيادة / لسان.
(2) كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 80 (30692).
«عن ابن سيرين: (إنّ عمر كان إذا قرأ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا)(1) قال: اللهم من بيّنت له الكلالة فلم يُبيّن لي) عب»(2) إنتهى.
وقد ظهر من هذا أيضاً أنّ عمر لم يتبيّن له الكلالة وعاش في الجهالة، وإنّه كان بمنزلة الجمود والغباوة إذ لم يفهم تبيين ربّ العالمين، وقال في خطابه كالمعترض بالعقل الافين ما يشعر بظاهره أنّه منكر لتصديقه تعالى في التبيين، وهل شنيعة أشنع من هذا الجهل والعناد المبيّن؟!، والله الهادي وهو خير موفق ومعين.
وبالجملة: مسألة الجدّ والكلالة أبين شاهد وأوضح دلالة على كذب الحديث المتضمن لشرب عمر فضل من ختمت به الرسالة.
ومن العجب! على ما تفوّه به القاري في شرح هذا الحديث، وهذه العبارة في المرقاة:
«وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن ـ وفي رواية إذ رأيت قدحاً اتيت به فيه لبن ـ فشربت حتى إني ـ بكسر الهمزة وقد يفتح ـ لارى الريّ ـ بكسر الراء وتشديد الباء، أي أثر اللبن من الماء ـ يخرج ـ أي يظهر، وفي رواية يجري ـ في أظفاري، ثمّ أعطيت فضلي ـ أي سؤري الكثير الخالص ـ عمر بن الخطاب) فلا ينافي ان سؤره
____________
(1) النساء الاية: 176.
(2) كنز العمال للمتقي الهندي: 11 / 80 (30694)، وانظر المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: 10/304 (19193).
وهذا كما تراه يدلّ على أنّ ابن الخطاب أختص بالعطاء الكثير الخالص من الفضالة، وإنّ ما كان للاوّل كان من الحثالة، فهل هذا إلاّ عين تفضيل الثاني على الاوّل، وهو خلاف إجماع أهل الضلالة؟!.
ولعمري، إنّي لاتعجّب طويلاً!! كيف صدر من القاري مثل هذا الكلام المزري على من له خير إمام، فإنّه من صرّح بأنّ الفضل الذي أوله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بالعلم وأعطاه عمر بن الخطاب كان خالصاً كثيراً، وإنّ سؤره الذي حصل لابي بكر كان قليلاً نزيراً، فقد صرّح بأعلميّة عمر من أبي بكر، وما هذا إلاّ مخالفة لما كان نسمعه منهم حديثاً وقديماً من تفضيل الاوّل على الثاني!.
ولم يكتفي القاري على التصريح بقلّة ما حصل لابي بكر، فأضاف لفظ (جداً) المصرح بأنّ السؤر الذي أعطي الاوّل كان في نهاية القلّة والنزارة، وهذا غاية الازراء به والثلب والعيب عليه.
وبالجملة: فإنّ الحديث إذا كان بتصريح القاري دالاً على أعلميّة عمر من أبي بكر، أظهر أفضليته عليه، فلم يبق في كذبه شبهة ومراء، ولله الحمد والثناء.
ثمّ إنّ الحديث صريح في إختصاص الثاني بإعطاء الفضل وحيازته لذلك الفضل، ليس فيه أنّ غير عمر كأبي بكر وعثمان وغيرهما حصل لهم أو وصل إليهم شيء من سؤره، ولو كان قليلاً أو غير صاف، فمن أين أخذ ذلك القاري وذكره؟!.
____________
(1) مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 392 (6039).
ثمّ انظر نصب القاري وعداوته لاهل البيت، حيث يقول: وإنّ ما وصل إلى عليّ (عليه السلام) من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن صافياً من الكدر، وهذا هو النصب الصريح بل الكفر الاكفر، فإنّ كون عليّ (عليه السلام) حائزاً للعلوم الدينيّة، فائزاً بالمقامات السنيّة من العلوم الشرعيّة، ممّا لا يمكن أن يشك فيه ويستراب، فإنّه أمر قد ثبت كالشمس الطالعة مالها من حجاب، ونصت عليه شيوخ النصاب، وقد أطلت فيه ذيل القول واستوعبت الكلام في كتابي الكبير في الامامة(1)، وفقني الله لان أعجل إتمامه.
ثمّ إنّ قول القاري صريح في أنّ علم أبا بكر كان أقلّ من علم عليّ (عليه السلام)وعثمان أيضاً!، لانّه وجّه عدم منافاة إعطاء السؤر الخالص الكثير بحصول السؤر لابي بكر، بأنه كان سؤر أبي بكر قليلاً جداً وسؤر عمر كان كثيراً فلا يتنافيان، ثمّ قرّر عدم منافاته لما أعطي عليّ (عليه السلام) وعثمان، بأنّ ما أعطياه كان غير صاف وسؤر عمر كان صافياً، فهذا صريح في أنّ ما أعطي عليّ (عليه السلام) وعثمان إنّما كان يتمايز عن سؤر عمر في عدم الصفاء لا في القلّة، لانّه لو كان سؤرهما أيضاً قليلاً لشركهما مع أبي بكر، غاية الامر كان يقول: إنّ سؤرهما يتمايز من وجه آخر أيضاً.
____________
(1) اشاره إلى كتاب عبقات الانوار للمصنف، مطبوع.
الفصل العشرون
[ في خوف الشيطان من عمر ]
ومن أكبر بهتانهم، وأعظم عدوانهم، إنّهم وضعوا في فضيلة عمر ما يقتضي تفضيله على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا عين الكفر والالحاد، والمروق من الدين والرشاد، ولكنهم حائرون في تيه العناد، سادرون في غلواء اللداد، لا يشعرون بما في هذه الاكاذيب التي إفتراها الوضاعون الاوغاد من الخلل والخزي والفضيحة والفساد.
وإن إحتجبتك الشكوك والاوهام، وظننتني أني أنسبهم الى القبائح العظام، من غير برهان يوجب الافحام، فانظر!
الى صحيح الترمذي والمشكاة وغيرهما من مصنفات علمائهم الاعلام.
قال في المشكاة:
«عن بريد، قال: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّي كنت نذرت إن ردّك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدّفِّ وأتغنّى، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن كنت نذرت فأضربي، وإلاّ فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو
وهذه الفريّة الواضحة التي تكاد السماوات يتفطّرن منها وتنشق الارض وتخرّ الجبال، وهذا من أعظم الاكاذيب، وأفضح الاباطيل، وأشنع المبطلات، وأوضح الترهات، لا يصدّقها إلاّ ملحد ماجن، أو مشرك فاسق!.
الله الله! كيف تسمح نفوسهم بالاقدام لتفضيل ابن الخطاب على أبي الائمة الانجاب، وسائر الصحابة الاطياب، حتى طفقوا ينقلون تفضيله على خاتم النبيين وترجيحه على صاحب الشرع المبين؟!.
أفليس صريح هذا الكذب الشنيع أنّ الشيطان ما كان يخاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ضربت المرأة الدفّ بين يديه ولم تنته، ولمّا جاء عمر ألقت الدفّ، وأيّ إلحاد أعظم، وأيّة زندقة أكبر من هذه!.
____________
(1) لا يوجد في المصدر.
(2) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 443 (6048)، وانظر الجامع الكبير للترمذي: 6 / 62 (2390)، وكذا ذكره البيهقي في السنن الكبرى: 10 / 77، وأحمد في فضائل الصحابة: 1 / 233 (480) وفي مسنده أيضاً.
سبحان الله! كيف يوقن مؤمن بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يخافه الشيطان، ويجري بين يديه المنكر والفعل الشنيع، ويخاف الشيطان من عمر ويهابه، ولا يمكن جريان المنكر بين يديه؟!.
وما نقلوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صريح في أنّه فضل عمر على نفسه، حيث قال: (إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر، إنّي كنت جالساً وهي تضرب...) الخ، فإنّ ذلك ينادي رافعاً عقيرته أنّ هذا الفعل الشيطاني لم تنته المرأة عنه بجلوس النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهت عنه بمجيء عمر!.
ثمّ إنّهم لو لم يبالوا بتفضيل ابن الخطاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكان عليهم أن يبالوا بتفضيله على أبي بكر، الذي يجعلونه حسنة من حسناته ـ وهو سيئة من سيئاته ـ فإنّ ذلك ينادي بأفضليته عليه أيضاً، حيث لم يخف الشيطان منه وخاف من ابن الخطاب!، وكيف كان يخاف الشيطان منه وأنّه قد أقرّ على المنبر أنّ الشيطان كان يعتريه(1)؟!.
وقد اعتراني الغضب وقت كتابة هذا الحديث، وأخذني من الحيرة ما لا
____________
(1) خطب أبو بكر في الناس وقال: «يا أيها الناس... فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني ـ إلى أن قال ـ ألا وإنّ لي شيطاناً يعترني فاذا أتاني فاجتنبوني...»، انظر تاريخ الامم والملوك لابن جرير الطبري 3 / 210 ـ 211 طبعة مصر، والامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 16، ومجمع الزوائد للهيتمي 5 / 182، وكنز العمال 3 / 135 ـ 136، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1 / 261، والبداية والنهاية لابن كثير 6 / 307.
لانّه إذا بلغ من حال جلاعتهم وصفاقتهم، ووقاحتهم وإلحادهم، وزندقتهم وكفرهم، ومجانبتهم للاسلام والدين، وتخريبهم للشرع المبين، إنّهم لا يكترثون بنسبة القبائح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكرون تفضيل ابن الخطاب عليه، ولا يخافون مهاباً ولا يهابون عقاباً!.
فبأيّ حجّة أتمسّك لالزامهم، وبأيّ دليل أتشبث لافحامهم؟!، فإنّهم قد تركوا الاسلام والدين، وأذروا الشين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعلوه ممّن يغلبه الشيطان ولا يهابه، فاذا كان هذا حال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم، فكيف بعلي (عليه السلام)وضعوا عليه أيضاً أنّه سمع هذا الغناء المنكر الذي هو من الشيطان وما خاف الشيطان منه؟!.
وينبغي للمسلم أن يبكي على الاسلام وينوح على الدين، حيث ضيعته هؤلاء الملاحدة، وجعلته هدف سهام الملام لاولئك الزنادقة.
ثمّ إنّي أعلم أنّهم لا يقتصرون مني على هذا الكلام، بل ينسبوني الى الملام ويقولون: إنّه ليس في هذا الحديث مخالفة للاسلام، ولا يلزم طعن ولا عيب على أسلافنا الاعلام، وإنّك في هذه التشنيعات إلى السلاطة والتعدّي عن الحق وترك الانصاف أقرب، فلابدّ أن أعطف نفسي قهراً وقسراً إلى بيان وجوه قبح كذب هذا الافتراء، وإن كان يصعب عليّ جدّاً أن أتشبّث في إثبات شناعة مثل هذا الالحاد والزندقة الظاهرة بذيل الدلائل.
فأقول أوّلاً: يظهر من هذا الحديث أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أجاز ضرب الدفّ
وهذا حرام محض وإثم وفسق، لما يصرّح به آخر هذا الحديث الموضوع أيضاً ـ والعياذ بالله ـ أن يسمع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يجوّز سماع الغناء، ثمّ من المرأة الاجنبيّة.
ولو قيل: إنّه ليس في الحديث تصريح بوقوع الغناء بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قلنا: قال عليّ القاري في شرحه للمشكاة، في شرح قوله: (أتغنى):
«دليل على أنّ سماع صوت المرأة بالغناء مباح إذا خلا عن الفتنة»(1)إنتهى.
فظهر أنّه يدلّ هذا القول على وقوع الغناء بين يديه أو تجويزه بالقول!، ولو لم يكن ذلك لما أستدلّ على إباحته، وتحريم الغناء ومندمته ممّا إستفاضت به الاخبار، وصرحت به العلماء الاخيار.
وهذا صاحب المشكاة نفسه قد روى:
«عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء الزّرع) رواه البيهقي في شعب الايمان»(2).
والاحاديث الكثيرة الدالة على حرمة الغناء وشدّة مذمته مذكورة في كنز
____________
(1) مرقاة المفاتيح لعليّ القاري: 10 / 43 (6048).
(2) مشكاة المصابيح للتبريزي: 3 / 37 (4810)، وانظر شعب الايمان للبيهقي: 4 / 279 (5100).
قال عليّ القاري في شرح قوله: (وإلاّ فلا):
«ففيه دلالة ظاهرة على أنّ ضرب الدفّ لا يجوز بالنذر ونحوه مما ورد في الاذن من الشارع كضربه في إعلان النكاح، فما استعمله بعض مشايخ اليمن من ضرب الدفّ حال الذكر فمن أقبح القبيح، والله ولي دينه وناصر نبيّه»(2).
وإنّ توهم أنّ ضرب الدفّ والغناء جائز بالنذر بل واجب، فمدفوع بأنّ الحرام لا ينعقد نذره ولا يصير بالنذر جائز ولا واجباً، فإنّ من نذر أنّه نجح حاجته أو وقع كذا كذا فيزني ويشرب الخمر لا يجوز له الزنا، وهذا في كمال الظهور.
وأمّا ثانياً: فلانّ ما إفتراه الواضع ـ قاتله الله وأهواه جهنّم وساءت مصيراً ـ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه قال: (إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر...) الخ، يدلّ دلالة واضحة لا مرية فيها أنّ الغناء وضرب الدفّ كان من الشيطان، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتكب الحرام حيث سمع الغناء وضرب الدفّ، بل أجاز الحرام حيث أجاز ذلك، وإنّ علياً وأبا بكر وعثمان أيضاً ارتكبوا الاثم والحرام حيث سمعوا ضرب الدفّ، وإنّ الشيطان ما كان يخافهم وكان يخاف عمر!.
فيلزم منه شناعات:
إحداهما: إرتكاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحرام وفعل المعصية!، وتجويز ذلك
____________
(1) انظر كنز العمّال للمتقي الهندي: 15 / 218 (40658) (40659) (40670)، فردوس الاخبار للديلمي: 3 / 241 (4204)، السنن الكبرى للبيهقي: 10 / 223، مفتاح السعادة: 1 / 376.
(2) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 403 (6048).
وثانيها: تفضيل عمر بن الخطاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان الشيطان يخاف منه دونه!، فألقت المرأة الدفّ لمّا أتى عمر بن الخطاب، وضربت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)العياذ بالله من ذلك.
وثالثها: تفضيل عمر على أبي بكر، فلو لم يكن لهم مبالاة بتفضيل ابن الخطاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فليحذروا من تفضيله على أبي بكر!.
ورابعها: إرتكاب عليّ الحرام، ولكن كيف يبالون بنسبة المعصية الى عليّ (عليه السلام) إذا لم يهابوا من نسبته الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!.
وخامسها: فسق أبي بكر وعثمان حيث سمعوا ضرب الدفّ، وهو حرام وقبيح كما صرّح به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
والعجب! أنهم ألقوا جلباب الحياء فراموا إصلاح هذا الافتراء، فأتوا بكلمات الخبط والجنون وجاءوا من الحماقة والسفاهة بسجون.
فقال التوربشتي:
«إنّما مكنها (صلى الله عليه وآله وسلم) من ضرب الدفّ بين يديه لانّها نذرت، فدل نذرها على أنّها عدّت إنصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليها، فإنقلب الامر فيه من صفة اللهو الى صفة الحقّ، ومن المنكر الى المستحب، ثمّ إنّه لم يكره من ذلك ما يقع به الوفاء بالنذر، وقد حصل ذلك بأدنى الضرب، ثمّ عاد الامر بالزيادة الى حدّ المكروه، ولم يرَ أن يمنعها لانّه لو منعها (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرجع الى حدّ التحريم، فلذا
وهذا كلام كما تراه ينادي بإختباط قائله وسفه صاحبه، وإنّه رام أنْ يصلح باطلاً فوقع في الاباطيل، وقصد ترويج كاسد فهوى في الاضاليل، بكلام غير مربوط، وبيان غير مضبوط، وتويجه فاسد مغلوط، وفيه وجوه من الخلل وضروب من الزلل:
أمّا أوّلاً: فلانّه قد بينّا أنّ ضرب الدفّ حرام، والحرام لا يصير بالنذر جائزاً، ولا الباطل حقاً، ولا المرجوح راجحاً.
وأمّا ثانياً: فلانّه لو فرض إنعقاد النذر، لكان الضرب بالدفّ واجباً!، كما قال عليّ القاري في شرح هذا الحديث:
«وفيه دليل على أنّ الوفاء بالنذر الذي فيه قربة واجب» إنتهى ; فما معنى تسميته مستحباً؟!.
وأمّا ثالثاً: فلانّه قد صرّح: أن الوفاء بالنذر قد حصل بأدنى ضرب فكان ما زاد على ذلك حراماً، فكيف جوّزه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينه عنه؟!.
فإنّا قد بينّا قبل ذلك أنّ الضرب بالدّف حرام، فلو فرض جوازه بالنذر يجب الاقتصار على ما يحصل به أداء النذر، ويكون ما زاد عليه حرام ولا معنى لكون الزائد مكروهاً، لانّه إن كان داخلاً في النذر كان واجباً، وإن كان خارجاً كان حراماً، ولعله لا يرى حرمة ضرب الدفّ رأساً!، وهذا لا غرو منهم، فإنّهم قد أحلوا كثيراً من المحارم والمناهي والملاعب والملاهي.
وأمّا رابعاً: فإنّ تعليله ترك منعه، بأنّ لو منعه لكان راجعاً إلى التحريم، من العجائب!!.
____________
(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 404 (6048)، وقد نقل كلام التوربشتي بالكامل.