الصفحة 711

فإنّ هذا حرام من الاصل فالزائد من الضرورة حرام بلا شك، فأي فساد لو لزم التحريم من منعه؟!.

وإن قال: جائز من الاصل لا القول بحرمته.

فيرد عليه ما قال الملا عليّ القاري بعد نقل قوله: «وفيه أنّه كان يمكن أن يمنعها منعاً لا يرجع إلى حدّ التحريم»(1) إنتهى ; وهذا واضح فإن المنع ليس منحصراً في التحريم، ويمكن أن يمنع منعاً لا يرجع إلى التأثيم.

فالعجب منه! كيف ذهب عليه مثل هذه الواضحات، ووقع في مثل هذه الخرافات.

ثمّ العجب! من القاري حيث رضى بكراهة ضرب الدفّ، مع أنّه صرّح قبل ذلك بأن ضرب الدفّ لا يجوز إلاّ بمثل النذر وغيره ممّا أذن فيه الشارع، مع أنّ النذر قد حصل بأدنى الضرب فيكون الزائد عليه حراماً.

وبالجملة: ظهر من هذا البهتان أنّه لو سلمنا إنعقاد نذر فعل المحرم، فكان ضرب الامرأة للدفّ زائداً على ما حصل به الوفاء بالنذر حراماً، فكيف يجوز نسبة إقرار النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها زائداً على ذلك؟!.

وقال الطيبي:

«فان قلت: كيف قرر إمساكها عن ضرب الدفّ ههنا بمجيء عمر، ووصفه بقوله: (إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر)، ولم يقرر إنتهاء أبي بكر (رضي الله عنه) الجاريتين اللتين كانتا تدفّان أيام منى؟ قلت: منع أبا بكر بقوله (دعهما) وعلّله بقوله: (فإنها أيام عيد) وقرّر ذلك هنا، فدلّ ذلك على أنّ الحالات والمقامات متفاوتة، فمن

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 404 (6048).


الصفحة 712
حالة تقتضي الاستمرار ومن حاله لا تقتضيه»(1) إنتهى.

وهذا بيان مجمل، وتقرير متلجلج، لا داعي لنا الى ردّه وإبطاله، فإنّه لا مساس له بإشكالنا، وهو ما أوضحناه من أنّ هذا الفعل كان حراماً فكيف جاز للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الامر به وسماعه وتقريره، ولو فرض جوازه بالنذر فكان الزائد عما يحصل من أداء النذر حراماً.

وقال عليّ القاري بعد نقل هذا القول:

«ويمكن أن يقال: منع الصدّيق لهما عن فعلهما بحضور الحضرة النبوية لا يخلو أنّه من قصور آداب البشريّة، فلذا قرر له ذلك وبيّن له سبب استمرار فعلهما هنالك، وأمّا هنا لو دخل عمر ورآها على حالها بحضرة سماع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه لم يكن يمنعها كما هو مقتضى حسن آدابه، لكن لمّا جعل الله مآتاه سبباً لانتهائها عن فعلها المكروه بحسب أصله، ولو صار مندوباً بموجب نذره، واستحسنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرر إمتناعها وقدّر منته بالقوّة الالهيّة الغالبة على الارادة الشيطانية»(2) إنتهى.

وهذا كما تراه! أيضاً لا يحل الاشكال ولا يدفع الاعضال، ولكنا نحمد له حسن صنيعه ونشكر له جميل فعله بخليفته الاول، حيث نسبه إلى قصور الاداب، والخروج عن دأب الخطاب في حضرة سيّد الانجاب، والعجب! أنّه مع ذلك يصف الثاني بحسن الاداب وكرائم الفعال، وينسى سوء فعاله وشناعة أقواله، التي استمر عليها طريقة من الاقدام في حضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل ردّ أوامره ومراغمته

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 404 (6048)، وقد نقل كلام الطيبي بالكامل.

(2) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 404 (6048).


الصفحة 713
ومخالفته، كما في قصّة القرطاس وغيرها(1).

ثم يرد على كلامه وجوه:

الاوّل: إنّه قال في هذا المقام: إنّ هذا الامر ـ أعني ضرب الدفّ ـ بحسب أصله مكروه ; وقد صرح قبل ذلك كما نقلنا عنه بأنّه غير جائر. بل من أقبح القبيح، فما باله نسى ذلك مع قرب العهد!، اللهم إلاّ أن يأوّل المكروه بالحرام، فإنّه قد يطلق ذلك عليه.

والثاني: إنّه قال بتقليد التوربشتي: إنّه صار هذا الامر بالنذر مندوباً ; مع أنّه قد صرّح قبل ذلك بأنّه صار واجباً بمقتضى ا لنذر، فلِمَ حَمَدَ الانتهاء وجعله من الشيطان؟!.

وهذا الاشكال لا يدفعه ما قرّره من الخبط: «والحال من أنّه كان بحسب أصله مكروهاً فصار بحسب النذر مندوباً»، فانّه خبط وجنون لا يدري ما محصله!.

لانّه إن أراد أنّه إستحسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) الانتهاء منه وجعله من الشيطان، كان من جهة أنّه كان في الاصل كذلك، فهذا لا يقول به ذو شعور!، لانّ الفعل الذي يكون واجباً وراجحاً يثاب على فعله ويؤجر عليه، وإن كان في وقت حرام لا يقول مسلم أنّه مذموم وأنّه من الشيطان، فإنّ الصوم مثلاً واجب راجح في سائر الايام وحرام في يوم العيد، ولا يجوز أن يقال لصوم شهر رمضان وغيره من الايام أنّه مذموم من الشيطان.

____________

(1) اما قضية القرطاس فقد ذكرها البخاري في صحيحه في كتاب المرض، وكذا مسلم في آخر كتاب الوصية، وأمّا افعاله الاخرى كاعتراضه في يوم الحديبية (انظر المغازي للواقدي: 2/606)، واعتراضه على بشارة رسول الله للموحدين كما ذكر مسلم في صحيحه: 1 / 44، وابن حجر في فتح الباري، وقضية حجب نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).


الصفحة 714
وإن كان فرضه أنّه في ذلك الوقت أيضاً كان مذموماً وحراماً فلذلك حمد الانتهاء منه وجعله من الشيطان، فمع أنّه لا يستفاد من كلامه، صريح في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل المحرم وارتكبه! العياذ بالله من ذلك.

وبعضهم ذكر في شرح هذا الحديث كلاماً آخر أفسد من كلّ ماذكروه، وقد نقله القاري وانتدب لابطاله وإفساده، وكفاناً مؤنة التوجّه الى نقضه ورده، حيث قال:

«وقيل: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) علم إنتهائها عما كانت فيه بمجيء عمر، فسكت ليظهر بذلك فضل عمر ويقول ما قال، إنتهى ; ولايخفى أنّ هذه العلّة مدخولة، فإنّ الزيادة تبقى معلولة» إنتهى.

ثمّ قال القاري بعد ذلك: «نعم لا يبعد أن يكون إنتهاء مدّة ضرب الدفّ على طريق العرف بابتداء مأتي عمر في مجلس الحضرة النبويّة، وأظنّ أنّ هذا أظهر وأولى ممّا تقدم، والله أعلم»(1) إنتهى.

وهذا الذي أبداه من التأويل العليل الذي بحّهُ، في الحقيقة محض التلبيس والتسويل وإن كان في الظاهر أحسن من جميع هفواتهم وأولى من تراهاتهم، ويظنّ الجاهل! أنّه دافع للاعضال، قاطع للاشكال، فيفتخر ويباهي، ويمرح وينادي بأنّ الامر قد وضح والاشكال قد ارتفع.

ولكنه في الحقيقة مثل سائر خرافاتهم ويضاهي ما مضى من سقطاتهم، لانّه مع قطع النظر في ضرب الدفّ من أصله حرام وقبيح ولا يصير بالنذر جائزاً:

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 405 (6048).


الصفحة 715
نقول أوّلاً: إنّه قد صرّح التوربشتي: بأنّ الوفاء بالنذر قد حصل بأدنى ضرب، وقد نقله القاري أيضاً قبل ذلك، فالقول بأنّ إنتهاء مدّة ضرب الدفّ على طريق العرب بابتداء مأتي عمر، تغليط لعظماءه وتسفيه لعلماءه!.

وثانياً: إنّه لو كان هذا الامر قبل مجيء عمر جائزاً أو راجحاً، وصار عند مجيء عمر حراماً وشنيعاً، لانّه تأدى بهذا المقدار النذر الواجب، فلا يكون في إنتهاء المرأة عن ذلك مدخل عمر، وإنّما إنتهت لانتهاء القدر المصار جائزاً!، فلماذا نسب ذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مجيء عمر، وجعله من بركات قدره، وفرع عليه بأنّ الشيطان يخاف منه؟!.

وثالثاً: إنّ ما وضعوه على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّ الشيطان ما خاف منه ولا من أصحابه، وجرى هذا الفعل المنكر بين يديه وبين يدي هؤلاء، ولمّا أتى عمر خافه الشيطان وارتفع هذا المنكر، فلو كان هذا الفعل قبل مجيء عمر راجحاً وجائزاً، لما كان لذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ووقوعه بين يديه وبين يدي أصحابه وارتفاعه عند مجيء عمر، وتفريعه على ذلك تخوف الشيطان من عمر معنى!، وهذا ظاهر في كمال الظهور.

ثمّ إنّ القاري ذكر وجهاً آخر يظهر منه جنونه، وإختلاطه وإختباطه، وإنّه صار في شيوخه مجنوناً لا يدري ما يقول، وفي أيّ وادي يجول، حيث قال:

«ثمّ ظهر لي وجه، وهو أن يقال: إنّ عمر (رضي الله عنه) ما كان يحب ما صورته يشبه باطلاً، وإن كان هو من وجه حقٌّ»(1) إنتهى.

وهذا الكلام ليس من الخبط والفساد والبطلان والشناعة بحيث يتوجه أحّد

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 405 (6048).


الصفحة 716
لابطاله وإفساده ويذكره عاقل ولو نقلاً، ولكن الضرورة الى إظهار قمازيهم(1)داعية الى ذلك، وكلّ من نظر فيه يظهر سخافته وسفاهته، ولكن أخاف إنْ إقتصرت على مجرد ذلك ولم ابيّن وجه الفساد، ينسبني أهل العناد الى الادعاء بلا دليل والتشنيع من غير تعويل.

فأقول أوّلاً: إنّ الامر الذي يكون حقّاً لا معنى لعدم محبّته والتنفر عنه ولو كان يشبه باطلاً!، فإنّ المشابهة بالباطل لو كان يوجب عدم محبّة الحقّ، يوجب أنّ لا يوجّب كثير من أحكام الدين، فإنّه لم يخلّو من أحكام الشرع إلاّ ويشبهه باطل، والحقّ ما أمر الله ورسوله بفعله وإتباعه وإلزامه ومحبّته، ولكن لا غروّ من ابن الخطّاب أن لا يحبّ الحقّ ويكرهه، فإنّه أخزاه الله كان كارهاً للحقّ من أصله مبغضاً للدين وفضله لا يحبّ منه شيء.

ثمّ إنّه إن أراد بيان مجرّد حال طبيعة ابن الخطاب أعمّ من أن يكون ممدوحاً أو مذموماً، فلاحاجة للكلام عليه، بل نحن نسلم ونشايعه ونوافقه ذلك ونزيد عليه، بأنّ ابن الخطاب كان لا يحب الحقّ أصلاً وكان يبغضه سواء كان مشابهاً للباطل أو لا.

وإن أراد كون ذلك ممدوحاً، فنطالبه بالدليل والبرهان على ذلك ولا يكفي مجرّد الادعاء؟.

وثانياً: [ إذا كان ] عدم محبّة الحقّ الذي يشبه الباطل ممدوح، فما بال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن فيه هذه الصفة، ولا في أبي بكر ولا في عثمان ولا في عليّ؟!، وإن كان ذلك مذموماً، فما بالك تذكر مخازي إمامك وفضائحه ومطاعنه؟!.

____________

(1) اي ردائة قولهم، فالقمز: صغار المال ورديئه ورذاله الذي لا خير فيه / لسان.


الصفحة 717
وثالثاً: إنّه يظهر من قوله: إن أراد أنّ ضرب الدفّ كان أمراً حقاً، ولكنه كان بصورة الباطل فلذا لم يرتضيه ابن الخطاب، فاذا كان الامر كذلك، فلما جعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الامر من الشيطان؟!، وهذا ينافي ما سبق من تأويله: ذلك بأنّ الوفاء بالنذر إنّما حصل عند مجيء عمر!.

ورابعاً: إنّ سلمنا أنّ ابن الخطّاب لا يحبّ حقاً يشبه باطلاً، ولكن اي مدخل لذكر ذلك في هذا المقام، فإنّ ابن الخطاب لم ينه عن ذلك ولم ينكره، حتى يقال ذلك في توجيهه، وإنّما انتهت المرأة بمجرّد رؤيته!.

وخامساً: إنّ هذا الكلام الذي قال باستهواء الشيطان ينادي بأعلى صوته: إنّ ابن الخطاب كان أفضل من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان لا يحبّ حقاً لمشابهته الباطل وما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك!.

ثمّ إنّهم قد وضعوا ضرب الدفّ بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصّة اخرى محصلها: «إنّ عائشة كانت تضرب الدفّ بين يديه، وجاء أبو بكر فلم يزجرها، ولمّا جاء عمر وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوته كفها».

ولعمري، إنّ حديث الدفّ والكفّ من أعظم الكذب والفريّة، وصريح البهتان والعصبيّة، وقد غلب على الحكيم الترمذي عارفهم وقدوتهم ذلّة المعصية، فصحّح وصدّق هذه التهمة الكريهة.

قال الحكيم الترمذي في نوادر الاصول، في ذكر عمر ناصحاً محقاً:

«روي لنا أنّ ابن جريح، عن ابن أبي الترمذي، عن جابر، قال: (دخل أبو بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة تضرب بالدفّ، فقعد ولم يزجرها لما رأى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء عمر فلمّا سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)صوته كفها عن ذلك، فلمّا خرجا قالت عائشة: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حلالاً فلمّا

الصفحة 718
دخل عمر صار حراماً؟!، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس كلّ الناس مرخاً عليه يا عائشة)(1)».

فهذه كلمة تكشف عن جميع ما قلناه!، والشك بقبح هذه الفرية الشنيعة محرماً على كل مؤمن مسلم معتقد للاسلام والشريعة، فإنّها تتضمّن صراحة ونصاً أنّ عائشة أم المؤمنين وزوج الرسول، التي لا تترك السنّة ولا فضيلة ثبت لها ضربة الدفّ، ثمّ إنّها إرتكبت ذلك بين يدي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمع ضرب الدفّ ولم ينهها، وإنّ أبا بكر خليفتهم وإمامهم أيضاً شارك في ذلك المنكر والفعل الشنيع، فقد أثبتوا طعناً عظيماً على الرسول وزوجته وأبيها، وغرضهم من ذلك كلّه إثبات فضيلة عمر!.

لعمري! هل هذا إلاّ جنون وخبط وسفه، وقد علمت سابقاً أنّ ضرب الدفّ باعتراف القاري حرام شنيع، فكيف إستجازوا نسبته إلى عائشة وسماع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاه وتقريره على ذلك؟! هل هذا إلاّ زندقة وإلحاد.

ثمّ ما تمحله القاري وأمثاله من التأويلات الركيكة فيما سبق لا يجري منها شيء في هذا الخبر.

وبالجملة: لو غشيهم نور التوفيق، وسقوا كاساً من رحيق التحقيق، لكفّوا أنفسهم عن تصديق حديث ضرب الدفّ والكفّ، ولم يؤثروا في هذا المضمار خيباً وتقريباً، ولم يصدقوه ولم يصوبوه تصويباً.

____________

(1) نوادر الاصول (سلوة العارفين) للترمذي: 2 / 32 الاصل المائة. وفيه:

«وروى جابر (رضي الله عنه)قال: دخل أبو بكر (رضي الله عنه) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يضرب الدفّ عنده، فقعدو لم يزجر لما رأى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء عمر (رضي الله عنه) فلمّا سمع رسول الله صوته كفّ عن ذلك، فلمّا خرجا قالت عائشة (رض) يا رسول الله كان حلالاً فلما دخل عمر صار حراماً! فقال (عليه السلام): يا عائشة ليس كلّ الناس مرضياً عليه».


الصفحة 719
ألا يدرون أنّ مرتبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم المراتب، ودرجته أعلى المدارج، وهو أتقاهم وأفضلهم، فكيف يسمع ضرب الدفّ عنده وسماع صوته؟! هل ذلك إلاّ بهتان بيّن وكذب جليّ.

وكذلك ترى الواضع وضع على عائشة أنّها سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ ضرب الدفّ كان حلالاً فلمّا جاء عمر صار حراماً؟!، فإن هذا القول صريح في إستبعاد هذا الكذب الموضوع، وما وضعوه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جواب هذا السؤال لا يشفي علّة، ولا ينفع أداماً، ولا يثلج صدراً.

وقد قال الحكيم الترمذي حمقاً بعد نقل هذا الخبر:

«إنّ المقربين صنفان: صنف منهم قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة، فقد ملكتهم هيبته، فالحقّ (سبحانه وتعالى) يستعملهم في كلّ أمر، فهم مشرفون على الامور مشمرون لها، وصنف آخر قد أرخى من عنانه، فالامر عليه أسهل لانّه قد جاوز قلبه هذه الخطة، فقلبه في محلّ الشفقة في ملك الوحدانية، وكلّما كان القلب محلّه أعلى ومن القربة أوفر حضّاً، كان الامر عليه أوسع، [ لانّ نفسه مؤتمنة وانّ الله تعالى يلطف ](1) بعبده المؤمن، فإذا علم منه أنّ نفسه صعبة وأنّه محتاج الى اللجام، ألجمها بلجام الهيبة وأبدى في قلبه من سلطانه وعظمته لئلاّ يفسد، وإذا علم أنّ نفسه لينة كريمة، أرخى من عنانه فأبدى على قلبه من الوحدانية ما انفرد قلبه ونفسه وماتت شهوته وذهل عن ذكر نفسه فان أرخى عليه قلبه لم يفصل [ فهو يستعمله وهو يكلؤه، فالمحقّ في الظاهر أعلى فعلاً عند أهله والاواه في الباطن أعلى ](2)»(3).

____________

(1) في المصدر [ وهذا لانّ الله تعالى تلطف بلطف ].

(2) اثبتناه من المصدر.

(3) نوادر الاصول (سلوة العارفين) للترمذي: 2 / 32 الاصل المائة.


الصفحة 720
وفضل ما نمقه من القعاقع(1)!، لانّ من كان محلّه أعلى وحظه أوفر من القربة والزلفى فهو موسّع عليه مرخى عنانه، بخلاف من ليس كذلك ومحله دون ذلك، فإنّه لصعوبة نفسه وشراسة طبعه محتاج إلى اللّجام بلجام، والامتشاق بزمام.

وغرضه أن يوجه هذا الكذب ويخترع له توجيهاً وتسويلاً، فإنّه بصريحه دالّ على تفضيل ابن الخطاب على سيّد العلماء الانجاب، حيث سمع صوت عمر كفه وهابه، فهذا غاية في الدلالة على أفضليّة عمر وأورعيته وكونه أشدّ ورعاً وتقوى وصلاحاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنده!.

فرام الحكيم الترمذي أن يقلب الامر الصريح، ويجعل لهذه القصّة البداهة والصراحة دالّة على أفضليّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومفضوليّة عمر، وذلك لقاعدة كليّة سخيفة، وهي:

إنّ من كان أقرب عند الله وأفضل وأمثل فهو في وسعة، ويجوز إرتكاب هذه الامور، وإمّا من ليس هذه صفته فهو في شدّة وصعوبة لنقصان محلّة!، يعني أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا كان أفضل من عمر وأقرب إلى الله تعالى في سعة قد أرخي عليه، فلذلك سمع ضرب الدفّ، وأمّا عمر فلمّا كان مفضولاً ولم يكن محلّه كمحلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يكن هو في سعة فلا يجوز له سماع ضرب الدفّ، فلذلك كفّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عائشة عن ضرب الدفّ عند سماع صوته، وعلى ذلك حمل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس كلّ الناس مرخاً عليه.

ولا يخفى! على المتأمّل المتدرّب الفاحص عن حقيقة الاُمور، إنّ هذا

____________

(1) القعقعة، صوت طائر ضخم من طيور البرّ.

وفي الحديث: (فجيء بالصبي ونفسه تقعقق، أي تضطرب ـ يعني كلما صدرت الى حال لم تلبث ان تصبر الى حال اخرى تقربه من الموت / لسان.


الصفحة 721
الكلام من قبيل أضغاث الاحلام، وهفوات مالها من نظام، حيث لا يساعده العقل والنقل، بل العقل دالّ على من كان أقرب وأفضل فهو في غاية الضيق والضنك، ولذلك قد اشتهر: (ان حسنات الابرار سيئات المقربين)، وأيضاً تتبع النقل يساعد ذلك، حيث وجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاة الليل وغيرها دون سائر الامّة!.

ثمّ لو سلمنا أنّ العقل والنقل لا يدلّ على إبطال هذا الكلام، ولكن لا ريبة في عدم دليل على صحته، وعلى المدعي أن يأتي به ولا يكفي مجرّد الادعاء من غير شاهد؟.

ثمّ إن سلمنا أنّ الاقرب في وسعة بخلاف المفضول، فلا نسلم أنّ الاقرب يجوز له إرتكاب الحرام، وهذا من ضروريات دين الاسلام، وقد سبق آنفاً أنّ ضرب الدفّ حراماً، فكيف جوّزه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقرّه وسمعه؟! هل هذا إلاّ كذب وبهتان!.

ثمّ ممّا يمحق هذا التسويل الباطل، ويزمهق هذا التأويل الركيك، إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)لو كان منشأه ضرب الدفّ اسماعه [ لكان ] بخلاف (فَلْيَضْحَكُوا قُلِيلاً وَلْيَبُكُواْ كَثِيراً)(1).

وبالجملة: لابد لهم من أنّ يعترفوا بكذب الحديث وبطلان ما تفوه بن الحكيم الترمذي، أو تمام الالتزام بأفضليّة عائشة من عمر!.

ولا يكتفى بذلك! بل يلزم تفضيل عثمان بل تفضيل عليّ (عليه السلام) أيضاً على عمر، حيث سبق في الرواية السابقة المنقولة عن الترمذي أنّ عثماناً وعلياً (عليه السلام)أيضاً سمعوا ضرب الدفّ والغناء من الجارية السوداء ولما جاء عمر كفت عن ذلك.

____________

(1) التوبة الاية: 82.


الصفحة 722
والحكيم الترمذي يقول على حذو ما قال هناك في هذه الرواية أيضاً: إنّ عمر لمّا لم يكن مرخاً عليه هابته المرأة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرخاً عليه، ولذلك سمع ضرب الدفّ والغناء ولم ينه الجارية السوداء ولم تهبه!، فعلى ذلك يلزم تفضيل عثمان وعليّ أيضاً على عمر حيث يثبت كونهما مرخاً عليهما بخلاف عمر، بل يثبت تفضيل الجارية السوداء أيضاً على عمر!، فإنّ في تقرير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الجارية على ضرب الدفّ والغنآء، دلالة على أنّ هذه الجارية أيضاً كانت مرخاً عليها بخلاف عمر، وقد اعترف الحكيم بأنّ الارخاء صفة الافضل والاقرب.

وبالجملة: قد أرخى الحكيم الترمذي على عينه بضربة الحجاب والغطاء، فتفوه بهذا الكلام المشتمل على ضروب من الزلل والخطاء، ولو حمل قوله: (ليس كلّ الناس مرخاً) على أنّ معناه: ليس كلّ الناس مرخاً على بصيرته، أي ليس كلّ أحّد ممن غطى على بصيرته وحجب عليه عقله وتسلط عليه الشيطان، فلا يبصر الحقّ ولا يحترز عن الحرام فعلى بصره غشاوة، لكان ذلك المعنى أنسب بما دلّ عليه صريح الحديث من تفضيل ابن الخطاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكونه أورع واتقى منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وارتكابه الحرام معاذ الله من ذلك، وكأنّ الواضع خذله الله أقصد ما ذكرنا، فحرفه الحكيم الترمذي الى ماذكره لبساً للامر.


الصفحة 723

الفصل الحادي والعشرون
[ في عدم محبّة عمر للباطل ]

ومن أفضح الفرية، وأقبح التهمة، ما يروون من حكاية شنيعة تشتمل على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ عمر لا يحب الباطل).

قال في الرياض في فضائل عمر:

«ذكر إختصاصه بشهادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفي حبّ مطلق الباطل عنه: عن الاسود بن سريع، قال: (أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّي قد حمدت الله تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ ربّك تعالى يحب المدح، هات ما امتدحت به ربك تعالى، قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل يستأذن أدلم طوالاً أعسر أيسر، قال: فاستنصتني له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته، قال: كما يصنع بالهرّ، فدخل الرجل فتكلّم ساعة ثمّ خرج، ثمّ أخذت اُنشده أيضاً ثمّ رجع بعد، فاستنصتني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ووصفه أيضاً، فقلت: يا رسول الله من ذا الذي تستنصتني له؟ فقال: هذا رجل لا يحبّ الباطل،

الصفحة 724
هذا عمر بن الخطاب) خرجه أحمد»(1).

وقال الوصابي في الاكتفاء:

«وعن الاسود بن سريع (رضي الله عنه) قال: (أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّي حمدت الله بمحامد ومدح وإياك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله تعالى يحبّ المدح هات ما امتدحت به ربّك، قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل يستأذن أدلم طوال عسر أيسر، فاستنصتني له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصف لنا أبو سلمة، فقال: كما يصنع بالهرّ، فدخل الرجل فتكلم ساعة ثمّ خرج، ثمّ أخذت أنشده أيضاً، ثمّ رجع مرّة أخرى فاستنصتني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا الذي تستنصتني له؟ فقال: هذا الرجل لا يحبّ الباطل، هذا عمر بن الخطاب)، أخرجه الامام أحمد في مسنده في تأييد هذا الكلام الذي سبق نقله آنفاً حيث قال متصلاً به.

ويؤيده ما روي عن الاسود بن سريع، قال: (أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّي قد حمدت الله بمحامد، فقال (عليه السلام): إنّ ربك تعالى يحبّ المدح هات ما امتدحت ربّك، قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل يستأذن له فاستنصتني له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته، قال: كما يصنع بالهرّ، فدخل الرجل فتكلّم ساعة ثمّ خرج، ثمّ أخذت أنشده أيضاً، ثمّ رجع بعدما استنصتني، فقلت: يا

____________

(1) الرياض النضرة للطبري: 1 / 209 (642)، وانظر مسند أحمد: 12 / 241 (15527)، فضائل الصحابة لاحمد: 1 / 260 (334).


الصفحة 725
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذا الذي تستنصتني؟ فقال: هذا رجل لا يحبّ الباطل، هذا عمر بن الخطاب) أخرجه أحمد»(1) إنتهى.

ولعمري، إنّي إذ أنقل مثل هذه الكفريات والشنائع أستشيط غضباً، ويتألم قلبي، ويتوجع رأسي، وأفقد القرار ولا أملك الاصطبار، ويشقّ عليّ إلتماسها، ويصعب عليّ التوجه لها، ثمّ أقبر على نفسي، وأقول: كيف! يكتفي السنّة بمجرّد إدعاء بطلان هذه الهفوات، لانّهم إذا رأوا أنّ عليّ القاري الذي هو من نحارير العلماء ومشاهير الفضلاء، ذو فضل غزير وعلم كبير، وشأن رفيع ومكان منيع، معدود من أئمّة الاسلام والاعلام الفخام، ذو لحية طويلة وهيئة جميلة، قد ذكرها في كتابه(2)، وعدّها من فضائل خليفته، واحتج وإستدلّ بها، وكيف! تكون باطلة لا سيّما هذا البطلان الذي أدّعيه، فيلجئ ذلك الى الكلام والخوض والتقرير والتحرير، وإلاّ كان الانسب الاعراض عن مثل هذه الشنائع والفضائح والالحاد والزندقة، وإنّني لاصير حيراناً، ولا أدري! كيف أوضح الواضحات، وأبيّن الجليّات، واستدلّ على الضروريات، فإنّ من أراد أن يثبت وجود الارض ويستدلّ عليه بالدلائل، يصعب عليه جدّاً كيف ابتلى بإثبات ما لا يحتاج الى الاثبات وإيضاح الواضحات.

وإنّي كنت قد كتبت سابقاً على هامش شرح القاري، حين انتهيت من مطالعتي له إلى هذا الحديث: حديث يظهر وضعه لمجنون، فضلاً عن سفيه، فضلاً عن عاقل، فضلاً عن فاضل.

____________

(1) الاكتفاء للوصابي: مخطوط.

(2) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 405 (6048).


الصفحة 726
وبالجملة: أتعجب! من هؤلاء الناصبة المتوقحين، كيف يتجرّؤن على تصديق مثل هذه الاكاذيب الخبيثة؟!.

أو ما ترى ما بهذا الحديث من البهتان والعدوان، والكذب والافتراء، حيث يصرّح وينادي بأعلى صوته أنّه ـ العياذ بالله ـ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّ الباطل!، حيث سمع ما أنشده الاسود وقد سماه باطلاً بنفسه، ويتضمّن نسبة المناقضة إليه والافتراء على الله، حيث قال أولاً: (إنّ الله يحبّ المدح) وقد سمّاه آخراً باطلاً، فإذا كان باطلاً فنسبت حبّه إلى الله إفتراء منه على الله!.

ثمّ يتضمّن تخفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عمر بن الخطاب بسماعه الباطل!، وإنّما هذا شأن الفسّاق والفجّار، حيث يرتكبون المعاصي والمخازي خفية، فإذا جائهم صالح أو تقي تركوها.

ثمّ يتضمّن تفضيل أعظم، من أنّه يحبّ هو الباطل ويسمعه ويقول في حقّ ابن الخطاب أنّه لا يحبّ الباطل!.

ثمّ يتضمّن تسمية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدح الله وثناءه باطلاً!، وهذا الحاد فضيح وكفر صريح، فإنّ من سمى حمد الله تعالى ومدحه وثناءه باطلاً، كان كافراً بلا شك ولا شبهة.

فالعجب! من القاري كيف ترك في حبّ ابن الخطاب دين الاسلام وألقاه وراءه ظهرياً، وجعل خوف الله نسياً منسياً، فأقدم على تصديق هذا الكذب والافتراء، المشتمل على الطعن والارزاء على من خلقت لاجله الارض والسماء.

ثمّ أغرب من ذلك! ما فاه به القاري بعد نقل هذا الحديث، حيث قال:

«وأطلق عليه باطلاً وهو متضمّن حقّاً، لانّه حمد ومدح لله، إلاّ أنّه من

الصفحة 727
جنس الباطل، إذ الشعر كلّه جنس واحد»(1) إنتهى ; وقد قال مثل ذلك المحبّ الطبري في الرياض بعد نقل الحديث(2).

من هناك! أجد القاري لو راى مافيه من الخزيّ والشناعة والفضيحة لما فاه به، ولكن الله يتمّ بإجراء هذه الهفوات على ألسنتهم حجّة على عباده، كيف يرضى مسلم أن يسمي مدح الله وثنائه تعالى باطلاً؟!، وأي كفر أعظم من ذلك!، وأي الحاد أكبر من هذا!، وإن جوز إطلاق الباطل عليه من جهة كونه شعراً ومن الشعر ما يكون باطلاً، فليجز إطلاق الكفر على الشهادة لانّه من جملة الكلام ومن الكلام ما يكون كفراً!.

ومن العجيب! أنّ القاري نفسه قال في جمع الوسائل في شرح الوسائل:

«روي باسناد حسن عن عائشة، قالت: (سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشعر، فقال: هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح) ; قال العلماء: معناه أنّ الشعر كالنثر، لكن التجرد له والاقتصار عليه مذموم»(3) إنتهى.

فما ذكره القاري في جمع الوسائل، صريح في إبطال كلامه الباطل الصادر عنه في شرح المشكاة في محاماة تصديق هذا الكذب الشنيع، الذي قلّما يوجد له في الشنائع مماثل، فإنّه كما تراه نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باسناد حسن: (إنّ الشعر كالنثر حسنه حسن وقبيحه قبيح) فما تفوّه به في المرقاة من أنّ الشعر كلّه جنس واحد، ومدح الله تعالى وثنائه في الشعر أيضاً من جنس الباطل،

____________

(1) انظر مرقاة المفاتيح لعلي القاري: 10 / 405 (6048).

(2) انظر الرياض النظرة للطبري: 1 / 260 (642).

(3) جمع الوسائل في شرح الشمائل للقاري: 2 / 34.


الصفحة 728
ويجوز عليه إطلاق لفظ الباطل كلّه، وهذره هذيان باطل.

وفي شمائل الترمذي وشرحه للقاري دلائل كثيرة على كذب هذا الخبر المفترى، وشناعة ما تفوّه به القاري في إصلاحه، فما ذكره فيه عن جابر بن سمرة أنّه قال: (قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الشعر أكثر من مائة مرّة، وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم)، فإنّ ذلك أوّل دليل على كذب مافي هذا الخبر وشناعته، حيث وضع فيه مهابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر، واستنصات المنشد للشعر عند مجيء عمر، وتسميته شعر مدح الله تعالى باطلاً ; وهذه عبارة الشمائل وشرحه لعلي القاري:

«حدّثنا عليّ بن حجر، ثنا شريك، عن سماك ـ بكسر وتخفيف ـ ابن حرب، عن جابر بن سمرة ـ بفتح فضم ـ قال: (جالست النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من مائة مرّة، وكان) ـ بالواو وفي نسخة فكان ـ (أصحابه) اي في جميع المجالس وفي بعضها (يتناشدون الشعر) ـ أي يطلب بعضهم بعضاً ان ينشد الشعر المحمود والانشاد: هو أن يقرأ شعر الغير، وفي بعض النسخ يتناشدون من باب المفاعلة ـ (ويتذاكرون) ـ أي في مجالسهم دائماً أو أحياناً (أشياء) أي منظومة أو منثورة (من أمر الجاهليّة) وفي بعض النسخ من أمور الجاهليّة وفي بعضها من أمر جاهليّتهم (وهو ساكت) أي غالب لمّا غلب عليه من التحري في الله أو التفكر في أمر دنياه وعقباه، أو المعنى ساكت عنهم بأنّه لم يمنعهم عن إنشاد الشعر وذكر أمر الجاهليّة، لحسن خلقه في عشرتهم وزيادة الفتهم ومحبتهم يدفع الحرج عن مباحاتهم بناءً على حسن نياتهم، وأخذ الفوائد والحكم من حكاياتهم كما هو شأن العارفين في مشاهداتهم [ ففي كلّ شيء له شاهد * دليل على أنّه واحد ] (وربما تبسم) بصيغة الماضي، وفي بعض النسخ يتبسم بصيغة المضارع

الصفحة 729
(معهم) ـ أي مع أصحابه، والمعنى أنّه كان أحياناً يتبسّم على رواياتهم وبيان حالاتهم وتحسين مقالاتهم، منها أنّه قال واحد من أصحابه ممن صار من جملة أحبابه: ما نفع صنم أحداً مثل ما نفعني صنمي فاني جعلته من الحيس لما كان لي من الكيس فنفعني في زمن القحط ومن كان معي من رهط، فتبسم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال الاخر: رأيت ثعلباً صعد فوق صنمي وبال على رأسه وعينه حتى [ غمر ](1) فقلت شعراً: [ أربٌ يبول الثعلبان برأسه ]، فتركت طريقة الجاهليّة ودخلت في الشريعة الاسلاميّة.

هذا وقال ابن حجر فيه حلّ استماع الشعر وانشاده ممّا لا فحش ولا خناء فيه، وإن كان مشتملاً على ذكر شيء من أيام الجاهليّة ووقائعهم في حروبهم ومكارمهم، ويحتمل أنّ أشعارهم التي كانوا يتناشدونها فيها الحثّ على الطاعة وذكرهم أمور الجاهليّة للندم على فعلها، فيكون من القسم الاوّل الذي هو سنّة لا مباح فقط، لكن قاعدة: أنّ التأسيس خير من التأكيد، تؤيد أنّ المراد بها الاباحة وثمة السنّة، كما قرّرته خلافاً لشارح، قلت: الصواب ما شرح الله لصدر ذلك الشارح... الخ»(2).

وأيضاً في الشمائل:

«إنّ الشريد بن سويد أنشد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مائة بيت من أبيات اُميّة بن أبي

____________

(1) في المصدر [ عمي ].

(2) جمع الوسائل في شرح الشمائل للقاري: 2 / 4343، وانظر الشمائل المحمدية للترمذي: 94 (256)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري للعسقلاني: 12 / 170 باب ما يجوز من الشعر.


الصفحة 730
الصلت، وكلّما انشده بيتاً قال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): هية إستزاده»(1).

وأقرّ القاري في شرحه: بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إستحسن شعر اُميّة وإستزاد من إنشاده لما فيه من الاقرار بوحدانيّة الله تعالى، فكيف يصدّق عاقل بعد ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هاب عمر من إنشاد الاشعار بين يديه، ولا سيّما الشعر المشتمل على مدح الله وثنائه باطلاً!.

وهذه عبارة الشمائل وشرحه لعلي القاري:

«حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا مروان بن معاوية، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، وكذا رواه أبو داود وابن ماجة، عن الشريد بن السويد، قال: (كنت بردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) بكسر فسكون أي رديفه وزاد في مسلم يوماً ـ فقال هل معك من شعر أميّة بن أبي الصلت شيء، فقلت: نعم، فقال: فأنشدته بيتاً، فقال: هيه ثمّ أنشدته بيتاً فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت، ففيه دلالة صريحة على أنّ قوله: (فأنشدته مائة قافية) إنّما كان بعد تناشده، وأنّ المراد بالقافية البيت وأطلق الجزء وأراد مجازاً (من قوله أميّة) بالتصغير (بن أبي الصلت) قال ميرك: هو ثقفي من شعراء الجاهليّة أدرك مبادئ الاسلام وبلغه خبر مبعث سيّد الانام لكنه لم يوفّق بالايمان وكان غواصاً في المعاني، ولذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأنه: آمن لسانه وكفر قلبه، وذلك لاقراره بالوحدانيّة والبعث وكان متعبد في الجاهليّة ويؤمن بالبعث وينشد في ذلك الشعر الحسن وأدرك الاسلام ولم يسلم، وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنّ قوله

____________

(1) الشمائل المحمدية للترمذي: 95 (258).


الصفحة 731
تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي أتَيْنَاهُ آيَاتِنَا....)(1) الاية، نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ التوراة والانجيل في الجاهليّة، وكان يعلم بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مبعثه فطمع أن يكون هو، فلمّا بعث إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصرفت النبوّة عن أميّة حسده وكفّره، وهو أوّل من كتب بسمك اللهم ومنه تعلمته قريش، فكانت تكتب به في الجاهليّة، (كلما انشدته بيتاً) أي كلّما قرأت له بيتاً فهو في باب الحذف والايصال لما في القاموس انشد الشعر قرأه (قال لي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)) وهو كذا في أدب المفرد للبخاري (هيه) بكسر الهاء وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية، قالوا والهاء الاولى مبدلة من الهمزة وأصلها إية وهي للاستزادة في الحديث المعهود، والمقصود أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استحسن شعر اُميّة وإستزاد من إنشاده لما فيه من الاقرار بوحدانيّة الله تعالى والبعث، قال ميرك وغيره من الشرّاح: إيه اسم يسمى به الفعل لانّ معناه الامر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل اية بغير تنوين، فإن وصلت نونت فقلت ايّه حديثاً وقوله [ وقفنا فقلنا ايه عن امّ سالم ]فلم ينون وقد وصل لانّه قد يرى الوقف، قال بعضهم: إذا قلت ايه يا رجل تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما، كأنّك قلت: هات الحديث، وإن قلت له ايه فكأنّك قلت حديثاً ما لانّ التنوين تنوين تنكير وفي البيت أراد التنكير فتركه لضرورة، فاذا أسكنه وكففته قلت: ايّها بالنصب عنا، وإذا أردت التبديل قلت: ايها بمعنى هيهات (حتى انشدته مائة يعني بيتاً) بالنصب على أنّه مفعول، يعني وفي نسخة بيت بالجر على أنّه حكاية تمييز مائة، قال الحنفي: روي بالنصب والجرّ، وجه النصب ظاهر ووجه الجرّ على أنّه حذف

____________

(1) الاعراف الاية: 175.