سرّ الخليقة وفلسفة الحياة(1)
قال الله تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه:
{أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}(2).
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبينَ}(3).
مهما بلغ الإنسان في سير تقدّمه العلمي وتمدّنه الحضاري المزدهر بأحدث الصناعات والتكنولوجيا، فإنّه لا يزال يدور في فلك من المجهولات الآفاقيّة والأنفسيّة، فلو تسلّق سُلّم العلوم والفنون وسخّر الفضاء والقمر، فإنّه لا يكاد يرى نفسه إلاّ في بداية الطريق، وأنّ معلوماته وما كشفه ليست إلاّ كالقطرة أمام البحر الهائج من مجهولات الكون وأسراره، ولو وضع جهله تحت أقدامه لنطح رأسه السماء السابعة، ولا زالت جبال المجهولات لم تفتح قممها الشامخة التي تعلو السحاب، فإنّه ما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا، وفوق كلّ ذي علم عليم.
____________
1- طبع في مجلة (الكوثر)، العدد الأوّل سنة 1415 هـ.
2- المؤمنون: 115.
3- الأنبياء: 16.
ومن أعظم وأكبر مجهولاته، والذي ساير موكب البشرية منذ البداية وإلى يومنا هذا وغداً، هو أن يكشف سرّ الحياة وفلسفة الخلقة والهدف من هذا الكون الرحب، فما هي فلسفة الحياة؟!
خلاصة الأقوال
مهما تعمّق الباحث عن الحقيقة في هذا السؤال الرهيب، فإنّه يرى نفسه قد انغمر في بحار متلاطمة الأمواج، بعيدة الغور والمدى، وبلا ساحل يُرتجى، ومن مثلي ـ قصير الباع قليل المتاع، وفي مثل هذه العجالة ـ من الصعب بل كاد أن يكون مستحيلا أنّ اُوفّي وأقضي حقّ الموضوع، ولكن أوّل الغيث قطرة، وبالميسور لا يسقط المعسور، فوددت أن أذكر رؤوس أقلام في جواب هذا السؤال، عسى أن أفتح قلاع أفكار القارئ الكريم، فإنّ فيه انطوى العالم الأكبر، كما جاء في الأثر:
أتزعم أنّك جرمٌ صغير | وفيك انطوى العالم الأكبرُ |
فأقول مقدّمةً: إنّ الإنسان منذ أن خُلق وعرف نفسه، فإنّه يسأل عن علّة وجوده وحكمة خلقه وفلسفة حياته، ومن ثمّ ما هو الهدف والغاية من خلقة هذا الكون العظيم الدقيق بكلّ ما فيه من ذرّاته، ومن حركة الألكترون والنترون وإلى مجرّاته وحركة المجموعة الشمسيّة؟ ولماذا هذه الدنيا التي شُحنت بألوان الشقاء والعذاب والأهوال والأحداث كالزلازل والفيضانات والحروب، وكثير من الناس يشعر بالتعاسة والبؤس والحرمان؟!
قد اختلف الجواب عن ذلك، فمن كان متوغّلا في الملاذّ والشهوات وتغلّبت عليه القوّة البهيميّة، وجذبته المادّة وزخارف العيش، يجيب عن السؤال: بأنّه
{وَقَالُوا مَا هِي إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ}(1).
{وَالَّذينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ}(2).
ومنهم من يجيب أنّه خُلقنا للشقاء، فإنّ الحياة كلّها شقاء ونصب وتعب، ومنهم من يقول: خُلِق بعضنا للسعادة والبعض الآخر للشقاء، وهذا رأي الأشاعرة. وهذا كلّه من الجهل والرجم بالغيب. وقال بعض المتكلّمين: إنّ التكليف من الله سبحانه هو وجه الحكمة الذي لأجله حسن من الله تعالى خلق العالم بما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، فالله سبحانه خلق كلّ شيء للإنسان وخلق الإنسان ليكلّفه ثم يُثيبه، فإنّ الثواب هو العطاء الاستحقاقي والنفع المستحقّ على الله تعالى على سبيل التعظيم والإجلال ولا يكون إلاّ للمكلّفين، كثمرة التكليف حسب استحقاقهم ذلك. وقال بعضهم: خلق الله الخلق لأنّ الأمر أمره، والملك ملكه، ولا ينفعهم ولا يضرّهم، ولا لوجه يخرج به عن كونه عبثاً. وقال آخر: خلق الله الخلق لإظهار قدرته وقوّته، فبعض الخلق للنار، وبعض للجنّة. وذهب بعض الحكماء: إلى أنّ الخلق لا لغرض أعلى من صدوره لغرض، لما فيه من احتمال النقص لو صدر لغرض. وعند بعض الفلاسفة خلاف ذلك بأنّ الخلق لا لغرض هو الذي يدلّ على النقص.
____________
1- الجاثية: 24.
2- محمّد: 12.
القول السليم
والرأي الصائب كما هو معتقد الإماميّة:
إنّما خلق الله الأشياء من أجل الإنسان:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً}(1).
وخُلق الإنسان من أجل تكامله، فخلقنا لنتكامل ونتزوّد بالعلم والمعرفة والتقوى لنيل النعيم الأبدي، وليكون الإنسان خليفة الله في ظهور أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فخلقنا من الرحمة الإلهيّة ونشأنا بالرحمة، ونرجع بالعلم والعبادة إلى رحمة الله تعالى، كما عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وزبدة المخاض أنّ فلسفة الحياة هو التكامل، وذلك بالرحمة والعلم والعبادة، فالعلم من الله في قوس نزولي، والعبادة من الإنسان في قوس صعودي، وظاهر القوس الدائري وباطنه الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة.
توضيح ذلك: أنّ المعاني والمفاهيم على قسمين: إمّا حقيقيّة ـ كالإنسان والحيوان ـ بحيث لا يتوقّف تصوّرها وتعقّلها على معان اُخرى، وإمّا إضافيّة ـ أي
____________
1- الجاثية: 13.
والخلق مصدر من (خَلَقَ، يَخلُقُ، خَلقاً) يتوقّف تصوّره على معنى الخالق والمخلوق فهو رابط بينهما والحاصل منهما، فإذا أردنا أن نقف على سرّ الخلق والخليقة فلا بدّ أن نتصوّر سرّ الخالق وسرّ المخلوق، وبعبارة اُخرى سرّ العلّة الاُولى والمسمّى بعلّة العلل وهو واجب الوجود لذاته، وسرّ المعلول، وهو ما سوى الله سبحانه وتعالى وهو ممكن الوجود لذاته، فإنّ الله سبحانه وتعالى على حسب تعبير فلاسفة المشّاء هو علّة العلل، وما سواه المعلولات وإن كانت بعضها لبعض عللا.
وربما يقال: إنّ الله سبحانه فوق أن يوصف بذلك، فهو خالق العلّة والمعلول فكيف يتأطّر بمخلوقه ويدخل ضمن نظام العلّة والمعلول، كما يلزم قدم العالم بقدم علّته، إذ لا انفكاك بين العلّة والمعلول، فيلزم أن يكون موجباً ويسلب منه القدرة والاختيار، وكيف يكون ذلك؟ فإنّ لازمه نفي الذات، فإنّ القدرة عينها، فلا بدّ من معرفة الخالق والمخلوق حتّى نُشرف على سرّ الخلق. وهذا يحتّم علينا أن نسلّط الأضواء على غاية خلق هذا الكون تارة من ناحية الصانع والخالق الموجد الأوّل، بأنّه لماذا خلق وصدر عنه المخلوقات بمراتبها وعدم نهايتها؟ واُخرى نبحث من ناحية المخلوقات بأنّها لماذا صدرت عن الله سبحانه؟ وما هو السرّ وهو الحكيم العليم الخبير؟ وأنّه لم يخلق السماوات والأرض عبثاً ولا لهواً ولا لعباً، كما يحكم بذلك العقل السليم والفطرة المستقيمة، وتصرّح بذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
سرّ الخالق
ريما يقال لا يمكن معرفة سرّ الخالق، إذ الإنسان الممكن الفقير في وجوده وبقائه إنّما هو محاط بعلم الله وقدرته، فإنّ الله هو المحيط العليم القدير، فكيف المحاط يدرك المحيط، وكيف بالإنسان يدرك سرّ الله سبحانه في خالقيّته؟ فإنّه يستحيل ذلك.
ولكنّ الحديث ليس في ذات الله وسرّ كنهه حتّى يلزم الضلال والحيرة والكفر، لأنّا نُهينا أن نفكّر في ذات الله سبحانه، وإنّما اُمرنا أن نفكّر في صفاته وأسمائه، بل الحديث عن صفة من صفات الفعل، وهي صفة الخالقيّة، فإنّ الله هو الخالق والصانع والمصوّر الأوّل، وإليه تنتهي سلسلة العلل والمعاليل من الممكنات والمخلوقات، فربما من هذا المنطلق يمكن أن نستضيء ببصيص من نور واجب الوجود لذاته، لنعلم به من علمه السرّ في خلقه.
فلمّـا كان سبحانه وتعالى هو الوجود البحت المطلق المستجمع لجميع الصفات الجماليّة والكماليّة على نحو الإطلاق وبلا نهاية، فهو العالم القادر الحيّ المطلق في علمه وقدرته وحياته، كما تدلّ على ذلك البراهين الواضحة والأدلّة الساطعة، فهو الكمال المطلق والمطلق في الكمال.
والله المطلق في صفاته الثبوتية الذاتية والفعلية سبحانه وتعالى، من كماله المطلق: أن تتجلّى صفاته في مصنوعاته ومخلوقاته، فإنّ من يُجيد هندسة الطائرة
ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه: (كنت كنزاً مخفيّاً فخلقت الخلق لكي اُعرف)، فخلق ليظهر قدرته كما ورد في الحديث الشريف ـ كما سنذكره ـ فالخلق مظهر لأسماء الله وصفاته. وإنّما يقف على كُنه هذه الحقيقة وسرّها الأنبياء والأوصياء والأولياء الأمثل فالأمثل، كما جاء في زيارة الجامعة في زيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام): (السلام على حَمَلَة سرّ الله)، فأهل البيت (عليهم السلام) هم حملة الأسرار وهم أدرى بما في البيت، فلا نطرق باب سرّ الخالق أكثر من أن نقول ـ إن صحّ التعبير والقول ـ: إنّ الله سبحانه هو الكمال المطلق، ومن كمال كماله أن يتجلّى ويظهر في كلّ شيء كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده)، وقد ورد في دعاء سحر شهر رمضان: (اللهمّ إنّي أسألك من كمالك بأكمله وكلّ كمالك كامل، اللهمّ إنّي أسألك بكمالك كلّه)، وأنّ الله جميل ويحبّ الجمال، ومن جماله أن يظهر جماله (اللهمّ إنّي أسألك من جمالك بأجمله وكلّ جمالك جميل، اللهمّ إنّي أسألك بجمالك كلّه).
سرّ المخلوق في القرآن والسنّة
هذا وإنّما نطلق العنان في سرّ المخلوق، فإنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما من أجل الإنسان كما في قوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْض}(1).
وجاء في الحديث القدسي في خطاب الله سبحانه للإنسان: (خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي).
فإنّ الله جلّ جلاله خلق الكائنات وما في الطبيعة وما وراءها من أجل الإنسان، وخلق الإنسان ذلك الكائن الذي لا يزال مجهولا من أجله سبحانه، فهو خليفة الله في الأرض:
{إنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}(2).
والقرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم يلخّص لنا سرّ الخلق وفلسفة الحياة في حقائق ثلاثة: الرحمة والعلم والعبادة.
____________
1- الجاثية: 13.
2- البقرة: 30.
آية الرحمة:
قال الله تعالى:
{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(1).
آية العلم:
وقال سبحانه:
{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأرْضِ مَثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً}(2).
آية العبادة:
وقال جلّ جلاله:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ}(3).
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: {إلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلاّ ليعرفون، فإنّ العبادة لا تتمّ ولا تصحّ إلاّ بعد المعرفة، فما خلق الجنّ والإنس إلاّ ليعرفوه وإذا عرفوه عبدوه، فهو من باب إطلاق السبب على المسبّب.
في كتاب تحف العقول عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: (لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، ومن عرف دلّته معرفته على العمل، ومن لم يعرف فلا عمل).
____________
1- هود: 119.
2- الطلاق: 12.
3- الذاريات: 59.
قال مصنّف الكتاب الشيخ الصدوق عليه الرحمة: يعني بذلك أن يعلم أهل كلّ زمان أنّ الله هو الذي لا يُخلّيهم في كلّ زمان عن إمام معصوم، فمن عبد ربّاً لم يقم لهم الحجّة، فإنّما عبد غير الله عزّ وجلّ.
وإنّ الأئمة الأطهار ـ كما هو ثابت في محلّه ـ هم باب الله الذي منه يؤتى، ولولاهم لما عرف الله سبحانه، وإنّهم السبب المتّصل بين السماء والأرض، ووجه الله الذي يتوجّه إليه الأولياء(2).
عن ابن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام)، فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سُدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد.
في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): يقول الله تعالى: يا بن آدم لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ، فاتّخذني بدلا من كلّ شيء فإنّي ناصرٌ لك من
____________
1- علل الشرائع: 9.
2- ذكرت تفصيل ذلك في كتاب (هذه هي الولاية)، فراجع.
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ}، قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.
عن جميل بن درّاج، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، ما معنى قول الله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ}، فقال: خلقهم للعبادة، قلت: خاصّة أم عامّة؟ قال: بل عامّة.
تفسير آية العبادة
جاء في تفسير الميزان(1) للعلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في قوله تعالى: {إلاّ لِيَعْبُدُونِ} اللام فيه للغرض، إذ أنّه استثناء من النفي، ولا ريب في ظهوره في أنّ للخلقة غرضاً، وأنّ الغرض العبادة، بمعنى كونهم عابدين لله، لا كونه معبوداً، فقد قال: {لِيَعْبُدُونِ} ولم يقل: (لأعبد) أو (لأكون معبوداً لهم) فالعبادة غرض لخلقة الإنسان، وكمال عائد إليه، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله، كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضاً متوسّطاً ـ وربما هذا معنى قول الإمام (عليه السلام): (ليعرفون) ـ.
لا يقال: كون اللام في (ليعبدون) للغرض يعارضه قوله تعالى: {لا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فإنّ الظاهر كون الغرض من الخلقة الاختلاف.
كما يعارض قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ}(2)،
____________
1- الميزان 18: 385.
2- الأعراف: 179.
لأنّه يقال: أمّا الآية الاُولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، وأمّا الثانية فاللام للغرض لكنّه غرض تبعي وبالقصد الثاني، لا كما في {لِيَعْبُدُونِ}.
فإن قلت: مراد الله لا يتخلّف عن إرادته، فإذا أراد الله شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلو كان اللام للغرض لما تخلّف الناس عن العبادة، ومن المعلوم المشاهد أنّ كثيراً من الناس لا يعبدونه تعالى، فاللام ليس للغرض.
فالجواب: إنّما يرد الإشكال لو كان اللام من الجنّ والإنس للاستغراق، فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له وتخلّفاً من الغرض، والظاهر ـ والظواهر حجّة ـ أنّ اللام فيهما للجنس دون الاستغراق ووجود العبادة في النوع في الجملة تحقّق للغرض، ولا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد. نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، ولله سبحانه في النوع غرض، كما أنّ له في الفرد غرضاً.
وإن قيل: اللام للغرض ولكنّ المراد من العبادة العبادة التكوينية وليست التشريعية ـ التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية التي فيها الثواب والعقاب ـ فيكون كما في قوله تعالى: {وَإنْ مِنْ شَيْء إلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}(1)، فالعبادة تكوينية للجنّ والإنس كالتسبيح التكويني لكلّ شيء.
فالجواب: لو كانت تكوينيّة، فلماذا قد خصّص الله الجنّ والإنس بهما؟ كما أنّ سياقها سياق توبيخ الكفّار على ترك عبادة الله التشريعية، وتهديدهم على إنكار المعاد، وذلك يتعلّق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.
____________
1- الإسراء: 44.
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلّة والعبودية، وتوجيه وجهه إلى مقام ربّه، وهذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة، يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخِلقة، وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كلّ شيء ويذكر ربّه الغني المحض والعزيز المطلق، فيرى نفسه فقيراً مملوكاً لربّ العالمين، فيسلّم أمره إليه، فإنّه هو الضارّ وهو النافع. والإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا حياةً ولا نشوراً.
وأوّل العلم معرفة الجبّار، وآخر العلم تفويض الأمر إليه، فالإنسان الكامل من كان بين المعرفة والتفويض، متزيّناً بالعبادة، والدعاء روح العبادة:
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ}(1).
وعبادتكم، فإنّ الدعاء مخّ العبادة ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ والعبادة هي غرض الفعل، أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل.
ويظهر من النفي والاستثناء في الآية الشريفة، الذي هو من القصر ـ كما في علم البلاغة ـ أن لا عناية لله بمن لا يعبده، كما يفيده قوله تعالى:
{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ}.
وهذا يدلّ على أهمية الدعاء والعبادة. ولعلّ تقديم الجنّ على الإنس في آية
____________
1- الفرقان: 77.
{وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}(1).
ثمّ قد وقع نزاع بين الأعلام في علم الكلام في معرفة الله سبحانه، بأنّها اكتسابية ونظرية، أو أنّها بديهيّة وضروريّة. والحقّ أنّها من النظريات كما عند محقّقي المتكلّمين في قولهم: إنّ النظر أوّل الواجبات على المكلّفين.
وإنّ الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحثّ الإنسان على النظر والاستدلال والتعقّل والتفكّر والتدبّر، في المعرفة بالله تعالى وتوحيده وكمال قدرته وعلمه وغاية حكمته. قال الله تعالى:
{أوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهَ مِنْ شَيْء}(2).
وقال سبحانه وتعالى:
{الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا}(3).
فخلقنا برحمة الله للعبادة بعلم ومعرفة، وثمرة العلم العبادة:
{إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}(4).
وإنّما الدنيا دار امتحان، والغاية منه تكميل النفوس وتقرّبها إلى بارئها، فإلى الله المنتهى، وإنّ الإنسان كادح إلى ربّه كدحاً فملاقيه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
والمعرفة لا تكون نصيب النفوس المنافقة والمريضة الرجسة والمتلوّنة
____________
1- الحجر: 27.
2- الأعراف: 18.
3- الملك: 2.
4- فاطر: 28.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ اُمَّة رَسُولا أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(1).
فلا بدّ في إيمان العبد ومعرفته من إثبات (أن اعبدوا الله) ورفض (اجتنبوا الطاغوت) فعلى الإنسان أن يبذل كلّ ما في وسعه في تحصيل معرفة الله، ويبلغ الغاية التي خلق لأجلها.
وبالمعرفة يصل الإنسان الكامل إلى قاب قوسين أو أدنى، إلى جنّة عرضها السماوات والأرض:
{سَابِقُوا إلَى مَغْفَرِة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْض اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(2).
ورأس التقوى: المعرفة والعلم.
{وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ}(3).
____________
1- النحل: 36.
2- آل عمران: 133.
3- البقرة: 282.