يكفينا، ولا حاجة لنا بالعترة.
وليس هناك تفسير معقول غير هذا بالنسبة إلى هذه الحادثة، اللّهم إلاّ إذا كان المراد هو القول بإطاعة الله دون إطاعة رسوله، وهذا أيضاً باطل وغير معقول..
وأنا إذا طرحت التعصّب الأعمى والعاطفة الجامحة، وحكّمت العقل السليم، والفكر الحرّ، لملت إلى هذا التحليل، وذلك أهون من اتّهام عمر بأنّه أوّل من رفض السنّة النبوية بقوله: "حسبنا كتاب الله".
وإذا كان بعض الحكّام قد رفض السنّة النبوية بدعوى أنّها متناقضة، فإنّه اتّبع في ذلك سابقة تاريخية في حياة المسلمين، مع أنّي لا أحمّل عمر وحده مسؤولية هذه الحادثة وحرمان الأُمة من الهداية، وحتّى أكون منصفاً في حقّه أحمّلها هو ومن معه من الصحابة الذين قالوا مثل مقالته، وعضّدوا بذلك موقفه معارضة لأمر رسول الله.
وإنّي لأعجب لمن يقرأ هذه الحادثة ويمر بها وكأنّ شيئاً لم يكن، مع أنّها من أكبر الرزايا كما سمّاها ابن عبّاس(1).
وعجبي أكبر من الذين يحاولون جهدهم الحفاظ على كرامة صحابي وتصحيح خطئه، ولو كان ذلك على حساب كرامة رسول الله، وعلى حساب الإسلام ومبادئه.
____________
1- لا يقال: "بأنّ قول ابن عبّاس هذا اجتهاد منه، وهو معارض بقول عمر واجتهاده". فانّا نقول: إنّ اجتهاد ابن عباس جاء موافقاً للنصّ حيث أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يكتب ما يعصم الأمة من الضلال والاختلاف، فمنع بعض الصحابة واتهامهم النبي (صلى الله عليه وآله) كان من أعظم الرزايا والمصائب، ولكن اجتهاد عمر جاء مخالفاً للنصّ ومعارضاً له ومانعاً إيّاه، وهو الذي سبّب الاختلاف والفرقة، فأيّ اجتهاد هذا؟!
ولماذا نهرب من الحقيقة، ونحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا؟ لماذا لا نعترف بأنّ الصحابة بشر مثلنا، لهم أهواء وميول وأغراض، ويخطئون ويصيبون؟
ولا يزول عجبي إلاّ عندما أقرأ كتاب الله وهو يروي لنا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما لاقوه من شعوبهم في المعاندة رغم ما يشاهدونه من معجزات.. {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1).
لقد صرتُ أدرك خلفية موقف الشيعة من الخليفة الثاني الذي يحمّلونه مسؤولية الكثير من المآسي التي وقعت في حياة المسلمين، منذ رزية يوم الخميس التي حرمت الأمة من كتاب الهداية الذي أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يكتبه لهم، والاعتراف الذي لا مناص منه هو: أنّ العاقل الذي عرف الحقّ قبل معرفة الرّجال، يلتمس لهم في ذلك عذراً، أمّا الذين لا يعرفون الحقّ إلاّ بالرّجال فلا حديث لنا معهم(2).
____________
1- سورة آل عمران: 8. 2- وهنا شبهة كثيراً ما يثيرها القوم ذوداً عن صاحبهم، فيقولون: "إذا لم يمتثل عمر أمر النبي باحضار الكتاب، فعليّ أيضاً لم يمتثل أمره يوم الحديبية حينما أمره بمحو اسمه". قلت: إنّ الأخبار في هذا الأمر مضطربة جداً، ففي بعضها لم يسمّ الكاتب ولم يعيّن، وفي بعضها أنّ الكاتب كان عليّ (عليه السلام)، وفي أُخرى كان المشركون هم الذين يكتبون (كما في المصنف لابن أبي شيبة 8: 507). والذي نستفيده من مجموع الأخبار الواردة في صلح الحديبية أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يملي وكان غيره يكتب، فالنبي (صلى الله عليه وآله) لما قال للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، أو قال له اكتب محمّد رسول الله، اعترض عليه سهيل وأبى، ثمّ غيّر (صلى الله عليه وآله) وقال: اكتب كذا، وكُلّ هذا كان قبل أن يكتب الكاتب ما أملاه النبي (صلى الله عليه وآله). ففي صحيح البخاري كتاب الشروط باب 602، وفي غير البخاري أيضاً: ".. فدعا النبي (صلى الله عليه وآله)الكاتب فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللّهم كما كنت تكتب... فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اكتب باسمك اللّهم، ثمّ قال: هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنّا نعلم انّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبدالله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنّي رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمّد بن عبد الله. وجاء في لفظ آخر: "فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليّ: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأمسك سهيل بيده فقال: ما نعرف الرحمن، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اكتب باسمك اللّهم فكتب، فقال: هذا ما صالح محمّد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بيده فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولا، اكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله..." أنظر: تفسير الطبري 13: 109 ح24423، والدر المنثور للسيوطي 6: 75 سورة الفتح نقله عن النسائي ومسند أحمد والحاكم وقد صححه، وأبي نعيم في الدلائل وابن مردويه. وأنت ترى أنّ الرسول كان يملي، وسهيل كان يعترض، وكان الكاتب يكتب بعدما يعترض سهيل وبعدما يغيّر النبي(صلى الله عليه وآله) املاءه، وهذا هو المعقول، والمتفق عليه عند أرباب السير والتاريخ. أما ما رواه البخاري أيضاً في كتاب المغازي باب 160 وما رواه غيره بنفس الألفاظ تقريباً من أنّ علياً (عليه السلام) امتنع من الامحاء، فقد جاء في نفس الخبر مباشرة هكذا: "فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله)الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: هذا ما قاضى محمّد بن عبدالله..." فأنت ترى أنّه صريح في نسبة الكتابة إلى رسول الله، وهذا ما يخالف صريح القرآن واتفاق الأمة بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان أميّاً ولم يكتب شيئاً قط، فهذا الحديث مردود بمخالفته القرآن ولا يعتد به، ويبقى ما ذهبنا إليه هو الصحيح دون غيره. وقد ذكر عثمان الخميس في كشف الجاني: 77 عدة إشكالات على الإمام علي (عليه السلام) واعتبرها مؤاخذات عليه، ونحن نكتفي بما أجاب الشيخ عبدالله الدشتي في كتابه رزية الخميس في الاجابة على هذه التوهمات الموجودة في ذهن عثمان الخميس، قال: 262. "قيل: "فإننا لا نحصي لعلي بن أبي طالب سيئة واحدة من كتب الفريقين بينما نجد لغيره مساوئ كثيرة في كتب أهل السنة كالصحاح وكتب السير والتاريخ". ورد الكاتب ردا قبيحا وقال: "ترددت في الكتابة عنها - أخطاء علي - ... وفي النهاية ترجح عندي أن أذكرها لإسكات أصوات تعالت بالباطل وفي الحقيقة إنّ المآخذ التي على علي في كتب الشيعة أعظم بكثير بل لا تقارن بما في كتب السنة". نقول: كان أسلافه أكثر تأدبا وأقرب للحقائق فقد نقل ابن الجوزي في (المنتظم): "عن أبي سعيد الخرقي قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي قلت: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثُمّ قال: يا بني، إيش أقول فيهما، اعلم أنّ عليّاً كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فوضعوا له فضائل كيدا منهم له" المنتظم 3:372، وأورده كذلك ابن حجر في (فتح الباري) (فتح الباري 7:105)، وجلال الدين السيوطي في (تاريخ الخلفاء) (تاريخ الخلفاء 199). وأما هذا الناصب الذي تجرأ وسطر مطالب هي أوهن من بيت العنكبوت وليست في الحقيقة إلاّ مخاز للكاتب لا مآخذ على إمام المتقين (عليه السلام). وهو لم يكتف بنقل روايات لا قيمة لها وفق المقاييس الحديثية والرجالية عند الشيعة أو لا دلالة لها على مدعياته، بل تجده يزيف في النقل كي يثبت ويوصم عليا (عليه السلام) بما يدور في خلده المريض. إنّ من يقول لا نحصي لعلي سيئة واحدة لا يرد عليه بروايات ضعيفة أو موضوعة في بعض الكتب ثُمّ يقال له إنّ هذه سيئات ثبتت لعلي (عليه السلام). وهنا نذكر بأنّه يشتم ويسب ويلعن الكاذبين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما ينقل حديث من مسند أحمد بن حنبل أو غيره من المسانيد والسنن، لأنّ الناقل لم يتحقق من صحته، وفي الوقت نفسه يقوم هو بذات الفعل، فينقل روايات من كتب الشيعة دون التحقق من كونها صحيحة عندهم أم لا؟ بل يستند إلى مجرد وجودها في كتبهم على إثبات أن الشيعة يقبلون بها، كم هو أعمى من يشتم الغير لأفعال لا يتورع هو عن القيام بأشدّ منها؟ وأما الموارد التي ذكرها. أولا: الموارد التي ذكرها من كتب السنة: المورد الأوّل: قال: روى البخاري عن عكرمة قال: إنّ عليّاً حرق قوما فبلغ ابن عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدل دينه فاقتلوه. نقول: مادام صرح بأنّ الراوي للحديث هو عكرمة فمن الجدير عرض ما ذكره ابن حجر العسقلاني عن عكرمة هذا في مقدمته على شرح البخاري حينما يتعرض لرجال البخاري الذين طعن فيهم، يقول: "عكرمة أبو عبد الله مولى بن عبّاس احتج به البخاري وأصحاب السنن، وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقروناً بسعيد بن جبير، وإنّما تركه مسلم لكلام مالك فيه، وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك وصنفوا في الذب عن عكرمة... فأما أقوال من وهاه فمدارها على ثلاثة أشياء: على رميه بالكذب، وعلى الطعن فيه بأنّه كان يرى رأي الخوارج، وعلى القدح فيه بأنّه كان يقبل جوائز الأمراء فهذه الأوجه الثلاثة يدور عليها جميع ما طعن به فيه..." مقدمة فتح الباري :425. ثم أخذ ابن حجر في عد من كذب عكرمة فقال: "فالوجه الأوّل فيه أقوال فأشدها ما روى عن ابن عمر أنّه قال لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وكذا ما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال ذلك لبُرد مولاه، فقد روى ذلك عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد بن المسيب، وقال إسحاق بن عيسى بن الطباع سألت مالكا أبلغك أنّ ابن عمر قال لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عبّاس، قال: لا، ولكن بلغني أنّ سعيد بن المسيب قال ذلك لبُرد مولاه، وقال جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد دخلت على علي بن عبد الله بن عبّاس وعكرمة مقيد عنده، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنّه يكذب على أبي، وروى هذا أيضا عن عبد الله بن الحارث أنه دخل على علي، وسئل ابن سيرين عنه، فقال: ما يسوءني أن يدخل الجنّة ولكنه كذّاب، وقال عطاء الخراساني قلت لسعيد بن المسيب: إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج ميمونة وهو محرم؟ فقال: كذب مخبثان. وقال فطر بن خليفة قلت لعطاء: إنّ عكرمة يقول سبق الكتاب الخفين، فقال: كذب سمعت ابن عبّاس يقول: أمسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء، وقال عبد الكريم الجرزي: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة كره كرى الأرض؟ فقال: كذب، سمعت ابن عبّاس يقول: إنّ أمثل ما أنتم صانعون استئجار الأرض البيضاء. وقال وهب بن خالد: كان يحيى بن سعيد الأنصاري يكذبه، وقال إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى وغيره: كان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه، وقال الربيع: قال الشافعي وهو يعني مالكاً سيء الرأي في عكرمة، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديث عكرمة، وقال عثمان بن مرة قلت للقاسم: إنّ عكرمة قال: كذا، فقال: يا بن أخي، إنّ عكرمة كذاب يحدث غدوة بحديث يخالفه عشية. وقال الأعمش عن إبراهيم لقيت عكرمة فسألته عن البطشة الكبرى، فقال: يوم القيامة، فقلت: إنّ عبد الله يعني ابن مسعود كان يقول البطشة الكبرى يوم بدر، فبلغني بعد ذلك أنّه سئل عن ذلك فقال: يوم بدر. وقال القاسم بن معن بن عبد الرحمن: حدثني أبي حدثني عبد الرحمن، قال: حدث عكرمة بحديث فقال: سمعت ابن عبّاس يقول كذا وكذا، قال فقلت: يا غلام، هات الدواة قال: أعجبك؟ فقلت: نعم، قال: تريد أن تكتبه؟ قلت: نعم قال: إنّما قلته برأيي. وقال ابن سعد: كان عكرمة بحرا من البحور، وتكلم الناس فيه، وليس يحتج بحديثه فهذا جميع ما نقل عن الأئمة في تكذيبه على الإبهام" مقدمة فتح الباري :425. فهل يمكن بعد ذلك الالتفات إلى الدفاع عن البخاري في الاعتماد عليه كما حاول أن يقوم بذلك ابن حجر وبعض المتعبدين بصحة كُلّ ما في البخاري؟ ثُمّ إنّ ابن حجر نفسه في كتاب الجهاد من (الفتح) قال: "وفي رواية بن أبي عمر ومحمّد بن عباد عند الإسماعيلي جميعاً عن سفيان قال: رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمارا الدهني اجتمعوا فتذاكروا الذين حرّقهم علي فقال أيوب فذكر الحديث، فقال عمار: لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثُمّ دخن عليهم" فتح الباري 6:151. إذن هناك من ينكر الحادثة وإنّه لم يكن إحراق في البين. وذهب ابن جرير الطبري في كتابه (تهذيب الآثار) (تهذيب الآثار: 70)، مسند علي (عليه السلام) أن الذي حدث هو قتلهم ثُمّ إحراق جيفهم، وأورد أخبار كثيرة تثبت ذلك، وذكر خبر الغلاة وفيه: " فضرب أعناقهم، ثُمّ حفر لهم حفر النار وألقاهم فيها" نفس المصدر السابق: 82. إضافة إلى ذلك فهناك سؤال: على فرض صحة الحديث من أين الجزم بصحة رأي ابن عبّاس وخطأ علي (عليه السلام)؟ لاحظ ما ذكره ابن حجر في (الفتح) في كتاب استتابة المرتدين: "فبلغ ذلك عليّاً، فقال: ويح أم ابن عبّاس، كذا عند أبي داود وعند الدارقطني بحذف أم، وهو محتمل أنّه لم يرض بما اعترض عليه ورأى أنّ النهي للتنزيه كما تقدم بيان الاختلاف فيه، وسيأتي في الحديث الذي يليه مذهب معاذ في ذلك وأنّ الإمام إذا رأى التغليظ بذلك فعله، وهذا بناء على تفسير كلمة ويح بأنها رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد التحريم مطلقا فأنكر" فتح الباري 12:271. وقال ابن حجر: "قوله (فأمر به فقتل) في رواية أيوب فقال: والله لا أقعد حتّى تضربوا عنقه، وفي رواية الطبراني التي أشرت إليها: فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها. ويمكن الجمع بأنّه ضرب عنقه ثُمّ ألقاه في النار، ويؤخذ منه أنّ معاذاً وأبا موسى كانا يريان جواز التعذيب بالنار وإحراق الميت بالنار، مبالغة في إهانته، وترهيباً عن الاقتداء به" نفس المصدر السابق: 274. المورد الثاني: قال: روى البخاري عن علي بن أبي طالب: أنّ رسول الله طرقني وفاطمة ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أنّ يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثُمّ سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ جَدَلاً). نقول: الحديث صحيح وفق المقاييس الرجالية المشهورة عند علماء الحديث من أهل السنة، ولكن اشتهار علي (عليه السلام) بالعبادة وقيام الليل هو أمر معروف عند جميع العلماء، ويكفي ذلك لكي يوصف هذا الحديث بالشذوذ؟ لكنها ضوابط ذكروها لكي تجرى في بعض الروايات دون الأخرى والمقياس هو الأهواء، والشذوذ واضح إلى درجة ترى أن علماءهم يصرحون بورود الإشكال على المتن مع تبنيهم لصحة الرواية. قال الآلوسي في تفسيره بعد نقله الرواية المذكورة: لا شبهة في الحديث إلا أنّ فيه إشكالاً يعرف بالتأمّل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال: المختار في معناه أنّه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل: قال (صلى الله عليه وآله وسلم)ذلك تسليماً لعذرهما وأنه لا عتب، تفسير الآلوسي 9:432. فترى أنّ المحاولات التي يسعى بها علماء السنة في شرح الحديث تنبع من شذوذ الحديث ونكارة متنه في حق علي (عليه السلام)، وكم من حديث صحيح الإسناد يرفضونه لأنّه شاذّ ومع ذلك يقبلون مثل هذا الحديث ويضعونه في الصحاح. ألا يرون أنّ هذا الحديث ينافي قوله تعالى في حق الصحابة: (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً) الفتح: 29، وعلي (عليه السلام) أولهم ودخوله فيهم متفق عليه بين الشيعة والسنة، ولذا ترى بعضهم حاول أن يبين الحادثة المزعومة بشكل لا يبدو فيها منقصة لعلي (عليه السلام). فقد نقل ابن حجر في (فتح الباري) عن ابن بطال عن المهلب قال : "فيه أنّه ليس للإمام أن يشدد في النوافل حيث قنع (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول علي (رضي الله عنه): أنفسنا بيد الله، لأنّه كلام صحيح في العذر عن التنفل ولو كان فرضا ما عذره، قال: وأما ضربه فخذه وقراءته الآية فدال على أنّه ظن أنّه أحرجهم فندم على إنباههم كذا" فتح الباري 3:11. وذكر ابن حجر في (الفتح): "ونقل ابن بطال عن المهلب ما ملخصه أن عليا لم يكن له أن يدفع ما دعاه إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة بقوله ذلك بل كان عليه الاعتصام بقوله، فلا حجة لأحد في ترك المأمور انتهى، ومن أين له أن عليا لم يمتثل ما دعاه إليه فليس في القصة تصريح بذلك، وإنما أجاب علي بما ذكر اعتذارا عن تركه القيام بغلبة النوم، ولا يمتنع أنه صلى عقب هذه المراجعة إذ ليس في الخبر ما ينفيه. وقال الكرماني حرضهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار الكسب والقدرة الكاسبة ، وأجاب علي باعتبار القضاء والقدر، قال: وضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخذه تعجباً من سرعة جواب علي، ويحتمل أن يكون تسليماً لمّا قال. وقال الشيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: في هذا الحديث من الفوائد مشروعية التذكير للغافل خصوصاً القريب والصاحب، لأنّ الغفلة من طبع البشر فينبغي للمرء أن يتفقد نفسه ومن يحبه بتذكير الخير والعون عليه، وفيه أنّ الاعتراض بأثر الحكمة لا يناسبه الجواب بأثر القدرة، وأن للعالم إذا تكلم بمقتضى الحكمة في أمر غير واجب أن يكتفي من الذي كلمه في احتجاجه بالقدرة، يؤخذ الأوّل من ضربه على فخذه، والثاني من عدم إنكاره بالقول صريحا، قال: وإنّما لم يشافهه بقوله (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ جَدَلاً) الكهف:54، لعلمه أنّ عليّاً لا يجهل أن الجواب بالقدرة ليس من الحكمة، بل يحتمل أن لهما عذراً يمنعهما من الصلاة فاستحيا علي من ذكره، فأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدرة، ويؤيد رجوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم مسرعاً. قال: "ويحتمل أن يكون علي أراد بما قال استدعاء جواب يزداد به فائدة، وفيه جواز محادثة الشخص نفسه بما يتعلق بغيره، وجواز ضربه بعض أعضائه عند التعجب وكذا الأسف" فتح الباري 13:314، انتهى كلام ابن حجر. والقارئ يرى التكلف والجهد المبذول في شرح الحديث بالشكل الذي يحرص فيه علماء الحديث أن لا يتعارض مع العلم بعبادة وخضوعه (عليه السلام)للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين رفضه القيام للصلاة، كُلّ ذلك لتقيدهم بمقولة أن كُلّ ما في كتاب البخاري صحيح، هذه المقولة التي لم يرد فيها كتاب ولا سنة، وأما أهل الجهالة فكُلّ جهدهم الإساءة إلى علي (عليه السلام) لأنّهم من سنخ معاوية. علة الحديث: ويغلب على الظن أنّ علّة الحديث هو ابن شهاب الزهري عالم البلاط الأموي، فقد نقل عنه ابن عساكر في (تاريخ دمشق) الواقعة التالية والكلام للزهري قال: "قال لي ـ عبد الملك بن مروان ـ قد فرضت لك فرائض أهل بيتك، ثُمّ التفت إلى قبيصة فأمره أن يثبت ذلك في الدواوين، ثُمّ قال: أين تحب أن يكون ديوانك مع أمير المؤمنين هاهنا أم تأخذه ببلدك، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أنا معك فإذا أخذت الديوان أنت وأهل بيتك أخذته. قال: فأمر بإثباتي ونسخة كتابي أن يوقع بالمدينة...، قال: ثُمّ خرج قبيصة بعد ذلك قال: إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يثبت في صحابته وأن يجرى عليك رزق الصحابة وأن يرفع فريضتك إلى أرفع منها فأكرم باب أمير المؤمنين... ولزمت عسكر عبد الملك وكنت أدخل عليه كثيراً، قال: وجعلني عبد الملك فيما يسائلني يقول من لقيت فجعلت أسمي له وأخبره بمن لقيت من قريش لا أعدوهم... قال: وتوفي عبد الملك بن مروان فلزمت الوليد بن عبد الملك حتّى توفي ثُمّ سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك، فاستقضى يزيد ابن عبد الملك على قضائه الزهري وسليمان بن حبيب المحاربي جميعاً قال: ثُمّ لزمت هشام بن عبد الملك. قال: وحج هشام سنة ست ومائة وحج معه الزهري فصيّره هشام مع ولده يعلمهم ويفقههم ويحدثهم ونجح معهم فلم يفارقهم حتّى مات بالمدينة" تاريخ دمشق 5:324. وقال ابن عساكر: "قال - الزهري ـ : فخرجت فتجهزت حتّى قدمت المدينة، فجئت سعيد بن المسيب في مجلسه في المسجد، فدنوت لأسلم عليه فدفع في صدري، وقال: انصرف وأبى أن يسلم علي. قال: فخشيت أن يتكلم بشيء يعيبني به فيرويه من حضره قال: فتنحيت ناحية قال: واتبعته ليخلو، فلمّا خلا وبقي وحده مشيت إلى جنبه فقلت: يا أبا محمّد، ما ذنبي أنا ابن أخيك ومن مؤديك؟ قال: فما زلت أعتذر إليه وأتنصل إليه وما يكلمني بحرف وما يرد علي بكلمة حتّى إذا بلغ منزله واستفتح ففتح له فأدخل رجله ثُمّ التفت إلي فقال: أنت الذي ذهبت بحديثي إلى بني مروان؟" نفس المصدر السابق: 298. ونقل ابن عساكر في نفس الجزء: "عن نافع بن مالك عم مالك بن أنس قال: قلت للزهري: أما بلغك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من طلب شيئاً من العلم الذي يراد به وجه الله يطلب به شيئاً من عرض الدنيا دخل النار"؟ فقال الزهري: لا ما بلغني هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فقلت له: كُلّ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغك؟ قال: لا. قلت: فنصفه؟ قال: عسى. قلت: فهذا في النصف الذي لم يبلغك" تاريخ دمشق 55: 366. ونقل عن الشافعي قوله: "يقولون نحابي ولو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم" نفس المصدر السابق: 368. ونقل: عن يزيد بن الهذلي عن مكحول قال: "إنّما الزهري عندنا بمنزلة الجراب يؤكل جوفه ويلقى ظرفه". وعن علي بن حوشب الفزاري قال: "سمعت مكحولاً وذكر الزهري، فقال: كُلّ كليله وكانت به لكنة، قال يزيد: قل قليله أي رجل هو لولا أنّه أفسد نفسه بصحبة الملوك" نفس المصدر السابق: 368. ونقل عن عمرو بن رديح قال: "كنت مع ابن شهاب الزهري نمشي فرآني عمرو ابن عبيد فلقيني بعد فقال: ما لك ولمنديل الأمراء يعني ابن شهاب..." نفس المصدر السابق: 368. ومن هنا قدح فيه ابن معين كما في (تهذيب التهذيب) عند ترجمته للأعمش قال: "حكى الحاكم عن ابن معين أنّه قال: أجود الأسانيد الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فقال له إنسان: الأعمش مثل الزهري، فقال: تريد من الأعمش أن يكون مثل الزهري؟ الزهري يرى العرض والإجازة ويعمل لبني أمية والأعمش، فقير، صبور، مجانب للسلطان، ورع عالم بالقرآن" تهذيب التهذيب: 4:195. وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو داود حدثنا شعبة قال : "خرجت أنا وهشيم إلى مكة... فما قدمنا مكة مررت به وهو قاعد مع الزهري فقلت: أبا معاوية من هذا؟ قال: شرطي لبني أمية، فلمّا قفلنا، جعل يقول حدثنا الزهري فقلت: وأين رأيته؟ قال: الذي رأيتـه معي. قلت: أرني الكتاب فأخرجه فخرقته" سير أعلام النبلاء 7:226. وروى ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن إبراهيم الجعفري قال: كنت عند الزهري أسمع منه فإذا عجوز قد وقفت عليه فقالت: يا جعفري لا تكتب عنه فإنه مال إلى بني أمية وأخذ جوائزهم. فقلت: من هذه؟ قال: أختي رقية خرفت. قالت: خرفت أنت كتمت فضائل آل محمد. تاريخ مدينة دمشق 42: 228. فهل بعد كُلّ تلك الخدمة للزهري في البلاط الأموي ولآل مروان الذين انشغلوا بسب علي (عليه السلام) مدة سبعين عاماً على منابرهم وكتمان فضائل آل البيت(عليهم السلام) وذلك للبغض الشديد لعلي (عليه السلام) يمكن أن تقبل رواية من الزهري في حقّ علي (عليه السلام) ولمجرد أن البخاري نقلها في صحيحه؟ المورد الثالث: قال: يثير الشيعة دائما مسألة إغضاب أبي بكر لفاطمة على قصة فدك ويقولون إنّ أبا بكر أغضب فاطمة ومن أغضب فاطمة، أغضب رسول الله، ومن أغضب رسول الله أغضب الله، ثُمّ نقل عن مسلم خبر خطبة علي (عليه السلام) ابنة أبي جهل وتأذي فاطمة... إلى أن يقول: من الذي أغضب فاطمة؟ نقول: هذا الكلام يمكن أن ينفع من يتعبد بصحة كُلّ ما في البخاري ومسلم ويضع عقله والعلم جانباً، وأما من لا يؤمن بهذه الأسطورة المنسوجة في الفكر السني، فلا يسلم بصحة ما ورد من خطبة علي ابنة أبي جهل وغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تبعاً لغضب ابنته. ومن يتأمّل في الرواية لا بدّ أن يتساءل كيف يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسل من ربه بشريعة ثُمّ يكون أوّل الناس الذين يرفضون تطبيق أحكامها التي تؤذيهم، ويجهر بذلك على المنابر وأمام الملأ لكون فاطمة "بضعة منه يؤذيها ما يؤذيه"؟ فماذا بقي من كونه أسوة وقدوة وضعه الله تعالى للناس جميعا؟! إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل الناس في رفض الأهواء والتسليم لحكم الله عزّ وجلّ، وكيف تكون فاطمة سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنّة (عليها السلام) بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمّ هي تغضب من حلال أحله الله، وهل الإيمان يكون بتحكيم الهوى في قبول الأحكام؟ أو هل هذه أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحيح مسلم؟ أو هل هذه هي التربية النبويّة لفاطمة (عليها السلام)؟ وهل نتمسك برواية ونعتبر صحتها لأن مسلم رواها في صحيحه بينما نرتضي أنّ يطعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ولائه لأحكام ربه؟! نعم نحن بين خيارين أنّ نحكم بأنّ الرواية غير صحيحة وإنّ وردت فيما سميت بالصحاح، أو نقول: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يترفع أن يطبق أحكام الله على نفسه في الحالات التي تؤذيه، وفي اختيار الأمر الأوّل السلامة لديننا. هذا من جهة متن ومعنى الحديث، أما من جهة السند: فالحديث في البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة مروي عن طريق المسور بن مخرمة، وانفرد الترمذي بروايته عن ابن الزبير. أما رواية الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير ففي ذلك يقول ابن حجر في فتح الباري: "وخالفهم أيوب فقال عن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير، أخرجه الترمذي وقال: حسن،... والذي يظهر ترجيح رواية الليث لكونه توبع ولكون الحديث قد جاء عن المسور من غير رواية ابن أبي مليكة" فتح الباري: 9:327. وكذلك قال: "... أخرجه الترمذي وصححه وقال: يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة سمعه منهما جميعاً، ورجح الدارقطني وغيره طريق المسور والأوّل أثبت بلا ريب، لأنّ المسور قد روى في هذا الحديث قصة مطولة قد تقدمت في باب أصهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). نعم، يحتمل أن يكون ابن الزبير سمع هذه القطعة فقط أو سمعها من المسور فأرسلها" فتح الباري 7:105. وهذا الأخير هو الصحيح والظاهر، ولو سلم أنّه سمعه من ابن الزبير فهو والمسور سواء في العداء لأهل البيت(عليهم السلام) كما سيأتي. نعم، روى الحاكم الخبر في المستدرك: 3:173، ولكن بسند مرسل عن سويد ابن غفلة، وعلق الذهبي في التلخيص على الخبر: بأنّه مرسل قوي، وقال في (سير الأعلام) عن سويد: قيل له صحبة ولم يصح، ورواه عن أبي حنظلة رجل من أهل مكة وعلق عليه الذهبي بقوله: مرسل، وروى ثالثا الخبر عن عبد الله ابن الزبير سير أعلام النبلاء: 4:70. فالحق أنّه لا يوجد صحابي ينقل الخبر غير المسور، وقد صرّح في الرواية بقوله: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: إنّ فاطمة منّي...". قال ابن حجر في (الفتح): "قال ابن سيد الناس: هذا غلط والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ كالمحتلم، أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى علي بن الحسين، قال: والمسور لم يحتلم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّه ولد بعد ابن الزبير فيكون عمره عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمان سنين" فتح الباري: 9:327. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة المسور: "... ووقع في صحيح مسلم من حديثه في خطبة علي لابنه أبي جهل قال المسور: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا محتلم يخطب الناس فذكر الحديث وهو مشكل المأخذ، لأنّ المؤرخين لم يختلفوا أنّ مولده كان بعد الهجرة، وقصة خطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو من ست سنين أو سبع سنين فكيف يسمى محتلما..." تهذيب التهذيب:10:137. أفلا تعجب أيّها القارئ خطبة يذكر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً مثل هذا لا يحفظه من الصحابة إلاّ صحابي كان عمره ست أو سبع سنين حين الخطبة !! وقد أجاد ابن حجر التعليق على قول المسور بن مخرمة لعلي بن الحسين حين قدومه المدينة من عند يزيد بن معاوية حين مقتل حسين بن علي رحمة الله عليه: "هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ فقلت - أي علي بن الحسين - له: لا، فقال: هل أنت معطي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فإنّي أخاف أن يغلبك القوم عليه؟ وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبدا حتّى تبلغ نفسي، إنّ علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وساق الخبر المروي في البخاري. قال ابن حجر في (الفتح): "ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصّبه لعلي بن الحسين حتّى قال: إنّه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحداً منه حتّى تزهق روحه، رعاية لكونه ابن فاطمة محتجاً بحديث الباب، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين لما فيه من إيهام غض من جده علي بن أبي طالب حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حيث اقتضى أن يقع من النبي في ذلك من الإنكار ما وقع. بل وأتعجب من المسور تعجبا آخر أبلغ من ذلك وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعاية لخاطر ولد ابن فاطمة وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه أعني الحسين والد علي الذي وقعت له معه القصة حتّى قتل بأيدي ظلمة الولاة" فتح الباري: 9:327. فابن حجر يورد أمرين: الأوّل: كيف يذكر المسور لعلي بن الحسين ما يجرح عواطفه بهذه القصة في الوقت الذي يريد إظهار ما في نفسه من حب له، كتمهيد لطلب سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منه؟ الثاني: إذا كان هذا الحب لآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند المسور لماذا لم يساهم في نصرة الحسين (عليه السلام) ضد ظلمة الولاة بنفسه في حين أنّه يدعي أنّه يبذل نفسه للسيف، هل السيف أهم وأشرف من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وهنا حاول ابن حجر أن يبرر تصرف المسور بما لا يجدي. ثُمّ ذكر ابن حجر إشكالا آخر يخدش الرواية في كتاب فرض الخمس في بيان مناسبة ذكر قصة السيف مع خطبة علي لابنة أبي جهل: "... وقال الكرماني: مناسبة ذكر المسور لقصة خطبة بنت أبي جهل عند طلبه السيف من جهة أنّ رسول الله كان يحترز عمّا يوجب وقوع التكدير بين الأقرباء، أي فكذلك ينبغي أنّ تعطيني السيف حتّى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه، أو كما أنّ رسول الله كان يراعي جانب بني عمّه العبشميين فأنت أيضاً راع جانب بني عمّك النوفليين لأنّ المسور نوفلي فتح الباري: 6:214. ثُمّ قال ابن حجر: "كذا قال، والمسور زهري لا نوفلي (وهو رد ابن حجر على الكرماني)، قال: أو كما رسول الله كان يحب رفاهية خاطر فاطمة (عليها السلام) فأنا أيضا أحب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها فاعطني السيف حتّى أحفظه لك. قلت: وهذا الأخير هو المعتمد وما قبله ظاهر التكلف، وسأذكر إشكالا يتعلق بذلك في كتاب المناقب" انتهى كلام ابن حجر. وهذا المعتمد عند ابن حجر مردود بأنّه إذا كان ذكر القصة ليظهر المسور لعلي ابن الحسين (عليه السلام) أنّه يحب رفاهية خاطره فأي خصوصية للسيف، فعلي بن الحسين (عليه السلام) قد قدم إلى المدينة بعد مقتل الحسين (عليه السلام) بحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نساء ثكلى وأطفال يتامى، فهل رفاهية الخاطر وإظهار المحبة لأبناء فاطمة (عليها السلام) في مثل هذا الحال يكون في ضمان حفظ سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من أيدي الظلمة فقط؟ وعلى فرض صحة القصة كيف نجيب على هذه التساؤلات؟ إذ تضمنت خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر كما ذكر البخاري عبارة: "وإنّي لست أحرم حلالا ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله أبداً". ونتساءل ما معنى هذا الكلام؟ فهل يعقل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر بهذا المظهر الحاد في رفض حكم عام من أحكام الله العامة لأنّها ستطبق على ابنته. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقر بأنّ علياً (عليه السلام) لم يرتكب حراماً، فأقصاه أن يكون النهي تنزيهياً مراعاة لفاطمة الزهراء (عليها السلام) ولكنه مع ذلك صعد المنبر وأعلن القصة على الملأ وشهر بعلي (عليه السلام)، فهل هذا الأمر يتلاءم مع شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الذي ثبت من أنه "كان إذا بلغه عن الرجل الشي لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا"، وكذلك ورد عنه "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قل ما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه". وقد التفت ابن حجر إلى هذه الناحية حيث قال: "وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قل أن يواجه أحداً بما يعاب به"، ثُمّ اعتذر قائلاً: "ولعله إنّما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة (عليها السلام)" فتح الباري: 7:86. نعم الأمر معقول مع وجود حكم خاص بفاطمة (عليها السلام)، فيحرم الزواج على سيدة نساء العالمين، وبناء على كون الأمر على هذا النحو الطبيعي أن يصرح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، كما أنّه لا يتناسب مع قوله إنّي لا أحرم حلالا، ولا مع تصوير الأمر بأنّه خاصّ بالمورد بملاحظة عبارة لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)مع بنت عدو الله بحيث لو كان غيرها لما اعترض، ولا مع عبارة إنّي أخاف أن تفتن في دينها. نعم السياق المعقول لمثل ذلك بناء على الرؤية السنية هو ما رواه الحاكم في (المستدرك) من أن عليّاً استشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له : أتأمرني بها، فقال: لا فاطمة مضغة مني ولا أحسب إلاّ و أنّهاتحزن وتجزع، فقال علي: لا آتي شيئا تكرهه. المستدرك على الصحيحين: 3:173، ولكن كما قلنا هو خبر مرسل. ويكفي لرفض الخبر ما رواه الشيخ الصدوق في (الأمالي) كما عن (البحار) عن علقمة قال: قلت للصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله، إنّ الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلك صدورنا؟ فقال (عليه السلام): "يا علقمة إنّ رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط، وكيف تسلمون ممّا لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحجج الله (عليهم السلام)... ألم ينسبوا نبينا محمّدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنّه شاعر مجنون؟ ألم ينسبوه إلى أنّه هوى امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتّى استخلصها لنفسه؟... وما قالوا في الأوصياء أكثر من ذلك ألم ينسبوا سيد الأوصياء (عليهم السلام) إلى أنّه يطلب الدنيا والملك؟... ألم ينسبوه إلى أنّه (عليه السلام) أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل على فاطمة (عليها السلام)وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شكاه على المنبر إلى المسلمين فقال: إنّ عليّاً يريد أن يتزوج ابنة عدو الله على ابنة نبي الله ! ألا إنّ فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني ومن سرها فقد سرني ومن غاظها فقد غاظني" بحار الأنوار: 70:2. المهم أن الحديث مرفوض عند الشيعة متنا وسنداً، وقد أشار ابن حجر إلى ذلك في (الفتح) حينما ذكر تكذيب السيد المرتضى للخبر لأنّه من رواية المسور وكان فيه انحراف عن علي (عليه السلام) فتح الباري: 7:86. فالعلة كُلّ العلة في المسور، فيكفي أولاكونه من جنود عبد الله بن الزبير الذي أضل أباه وزين له حرب علي في معركة (الجمل)، بل الخوارج ينتهلون منه قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) : "وقد انحاز إلى مكة مع ابن الزبير وسخط إمرة يزيد وقد أصابه حجر منجنيق في الحصار، قال الزبير بن بكار كانت الخوارج تغشاه وينتحلونه،... قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلاّ صلى عليه... وعن عطاء بن يزيد كان ابن الزبير لا يقطع أمراً دون المسور بمكة" سير أعلام النبلاء: 3:391. ونقل ابن عساكر في (تاريخ دمشق): "عن الزبير بن بكر: وكانت الخـوارج تغشى المسـور بن مخرمة وتعظمه وينتحلون رأيه" تاريخ دمشق: 58:161. نعم، يمكن أن يكون هناك أصل للخبر تمثل في إشاعة بثها المنافقون حول علي (عليه السلام)بأنّه تقدم لخطبة ابنة أبي جهل أذية لهما، فبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ مثل هذا لا يجوز بالنسبة إلى زوج سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، فلا تؤذى بمثل هذا الأمر. فقد روى الصدوق في (العلل) كما عن البحار عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): "جاء شقي من الأشقياء إلى فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: أما علمت أنّ عليّاً قد خطب بنت أبي جهل... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال علي: والذي بعثك بالحق نبيّا ما كان منّي ممّا بلغها شيء ولا حدثت بها نفسي" بحار الأنوار: 43:201، لكن الخبر ضعيف السند منكر المضامين. بقيت لدينا مسألة إغضاب أبي بكر للزهراء (عليها السلام)، فنحن أمام قضية منطقية واضحة، نرجو من علماء أهل السنة أن يبينوا الخطأ إذا كانت هناك مغالطة في البيّن أن أبا بكر أغضب فاطمة (عليها السلام) كما في الصحيح بشكل غير قابل للتأويل، ومن أغضب فاطمة (عليها السلام) أغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أغضبه (صلى الله عليه وآله وسلم)أغضب الله تعالى. ولنقل أنّ عليّاً (عليه السلام) أيضا أغضب فاطمة (عليها السلام) كما تعتقدون ألم يؤيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فاطمة (عليها السلام) مع أنّ الأمر كان حلالا لعلي (عليه السلام)، فلماذا لا تخطأون أبا بكر مع فرض أنّ الأمر جائز له؟! ألم يكن تسليم فدك جائزا له فلماذا لم يرضها ويعطها فدكاً كما أرضاها علي (عليه السلام) وترك الخطبة؟! بل تقولون إنّ عثمان أرضى قرابته ومنهم مروان فأقطعهم فدكاً، وقد روى ذلك ابن حجر في (فتح الباري) فتح الباري: 6:204. المورد الرابع ذكر ما روي عن البراء بن عازب في صحيح البخاري ونقله العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) من تفاصيل صلح الحديبية، قال: لما صالح رسول الله أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب بينهم كتاباً فكتب محمّد رسول الله فقال المشركون: لا تكتب رسول الله لو كنت رسولا لم نقاتلك فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بيده، واعتبر امتناع علي (عليه السلام)عن الكتابة معصية منه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). نقول: مر سابقا الحديث في هذا الموضوع، وعبارة "ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده" التي نسبها للمجلسي في (بحار الأنوار) ذكرها المجلسي بحار الأنوار: 38:328، نقلا لرواية البخاري فلا يصح اعتبار المذكور في البحار مصدرا آخر للرواية، فضلا عن أنّ العبارة في تلك الصفحة "قال: لا والله لا أمحوك أبدا"، ونقل البحار للرواية من مصادر العامة لم يكن خافيا في الصفحة ولكنه تعام وتعصب، فالمجلسي في الباب 67 المعنون بأنّ عليّاً (عليه السلام)كان أخص الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر الرواية بالشكل التالي: 39 - وروى ابن الأثير في جامع الأصول عن البخاري ومسلم بسنديهما عن البراء بن عازب... ونقل الخبر. وأما عبارة علي (عليه السلام) المنقولة في (بحار الأنوار) نقلاً عن (أعلام الورى) أي من مصادر الشيعة فهي: "يا رسول الله إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة" بحار الأنوار:20:362، وقد مر الحديث عن هذا الأمر فيما سبق فليراجع. المورد الخامس: روى عن مسند أحمد عن علي أنّه أتى النبي فقال إن أبا طالب مات ، فقال له النبي: اذهب فواره، فقال علي: إنّه مات مشركا، فقال رسول الله: اذهب فواره. قال: "لو وقع هذا من عمر أو أبي بكر لقالوا كيف لا ينفذون أمر رسول الله وهل هم يعلمون رسول الله؟". نقول: الرواية التي فيها زيادة قول علي (عليه السلام) "إنّه مات مشركاً" والتي اعتبرها اعتراضاً من علي (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، رواها أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب (مسند أحمد بن حنبل: 2:153 ـ 759)، وذكرت مرة أخرى (نفس المصدر السابق:332 برقم1093)، عن وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب، ولكن ليس فيها زيادة "إنّه مات مشركا"، وروى الخبر أحمد مرتين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي، الأولى تحت رقم 807 والثانية تحت رقم 1074 ولم تذكر فيهما الزيادة السابقة. قال محقق الكتاب معلقاً على السند الأوّل المتضمن للزيادة: "إسناده ضعيف ناجية بن كعب هو الأسدي كما حققه الحافظ في (التهذيب) قال ابن المديني: لا أعلم أحداً روى عنه غير أبي إسحاق وهو مجهول ولم يوثقه غير العجلي، وقد وهم الحافظ في (التقريب) فقال عنه: ثقة! وأما قوله في (التهذيب) إنّ ابن حبان ذكره في (الثقات) فهو وهم منه أيضا فإنه ليس فيه وإنّما ذكره في (المجروحين) 3:57، وقال: ناجية بن كعب من أهل الكوفة وهو الأسدي يروي عن علي، روى عنه أبو إسحاق وأبو حسان الأعرج كان شيخاً صالحاً إلاّ أنّ في حديثه تخليطاً لا يشبه حديث أقرانه الثقات عن علي فلا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد، وفيما وافق الثقات فإنّ احتج به محتج أرجو أنّه لم يجرح في فعله ذلك. قلنا: وقد ضعف الحديث البيهقي في (السنن)، وتبعه النووي في (المجموع) 5:144، فضعفه ونقل البيهقي عن علي بن المديني أنّه قال: في إسناده بعض الشيء"، انتهى كلام المحقق. وكم حديث في مسند أحمد فيه دلالة على الحقّ رده هذا الكاتب لضعف سنده، ولكنه هنا حينما يبلغ الحديث موضعاً صرّح هو بأنّه "وقفت عندها كثيراً وترددت في الكتابة فيه... هل يجوز أن أذكر ما أراه من مآخذ على علي (رضي الله عنه)... مع أنّي لا أقصد الإساءة" لا يأبه بالسند، وينقل ما شاء للإساءة إلى أمير المؤمنين وإن لم يدل على المطلوب بمتنه أو كان ضعيفا في سنده. وأغلب الظن أنّ زيادة "مات مشركاً" توهم من شعبة، فقد روى الخطيب في (تاريخ بغداد) عن أبي بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله - ابن حنبل ـ يقول: "كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئا قليلاً وربما وهم في الشيء" تاريخ بغداد: 9:260). ويظهر أنّه كان متعصّباً ضد علي (عليه السلام) فقد ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء): "قال أمية بن خالد قلت لشعبة: إنّ أبا شيبة حدثنا عن الحكم عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى أن صفين شهدها من أهل بدر سبعون رجلاً قال: كذب أبو شيبة، لقد ذاكرت الحكم فما وجدنا أحداً شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة ابن ثابت" سير أعلام النبلاء: 7:221. قال الذهبي: قلت: قد شهدها عمار بن ياسر والإمام علي أيضاً. كما ذكر الخطيب ما يدل على رفضه أن ينشر الحديث المنقول عن علي (عليه السلام)فقد روى في (تاريخ بغداد) عن أبي داود الطيالسي أنّه قال : "كنا عند شعبة بن الحجاج في البيت وجراب معلق، فالتفت فإذا هو في السقف، فقال: "ترون ذلك الجراب؟ والله لقد كتبت فيه عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو حدثتكم به لرقصتم" تاريخ بغداد: 9:261. فلماذا يمتنع عن ذلك، مع أن وثاقة الحكم وعبد الرحمن من المسلمات عندهم؟! هذا من جهة السند. وأما من ناحية متن الحديث، فالروايات في هذا الشأن من دون تلك الزيادة كُلّها تكمل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم علي (عليه السلام) دعاءاً عد من خصائص علي (عليه السلام). فتتمة الحديث: "قال اذهب فواره ثُمّ لا تحدث شيئاً حتّى تأتيني، قال: فواريته ثُمّ أتيته، قال: اذهب فاغتسل ثُمّ لا تحدث شيئا حتّى تأتيني قال: فاغتسلت ثُمّ أتيته قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها. ولذلك جعل النسائي في (السنن الكبرى) هذه الرواية تحت باب "ما خص به النبي عليّاً من الدعاء" وفيها يقول علي (عليه السلام): "لما رجعت قال لي كلمة ما أحب أن لي بها الدنيا فاغتسلت ودعا لي بدعوات ما يسرني ما على الأرض بشي منها" السنن الكبرى للنسائي: 5:151. فعلى فرض صدور تلك الجملة من علي (عليه السلام)، ألا يمكن أن تعتبر كقول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة: 30)، هل اعتبره أحد العلماء اعتراضا من الملائكة ومأخذاً عليهم كما حاول أن يتخذه مأخذا على علي (عليه السلام). المورد السادس قال: روى البخاري دخل العبّاس وعلي على عمر فقال العبّاس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا.... فاستب علي وعبّاس... قال: كيف يسب علي عمّه العبّاس؟ قال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): "(فقال عبّاس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا) زاد شعيب ويونس (فاستب علي وعبّاس)، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض (اقض بيني وبين هذا الظالم، استبا)، وفي رواية جويرية (وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن)، ولم أر في شي من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء بخلاف ما يفهم قوله في رواية عقيل (استبا)" فتح الباري: 6:205. إذ الرواية في صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفي بلفظ "فأذن لهما، فقال عبّاس: يا أمير المؤمنين، فاقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن" صحيح مسلم: 3:1377)، ولم ينسب إلى علي (عليه السلام) أنّه صدر شيء منه اتجاه عمه. ثم تابع ابن حجر قائلا: "واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال: لعل بعض الرواة وهم فيها، وإن كانت محفوظة، فأجود ما تحمل عليه أنّ العبّاس قالها دلالا على علي لأنّه عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنّه مخطئ فيه وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد قال: ولا بد من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ومن ذكر معه ولم يصدر منهم إنكار لذلك مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر" (فتح الباري الصفحة السابقة). وقال ابن حجر في (الفتح): "قال ابن التين: معنى قوله في هذه الرواية (استبا) أي نسب كُلّ واحد منهما الآخر إلى أنّه ظلمه، وقد صرّح بذلك في هذه الرواية بقوله (اقض بيني وبين هذا الظالم) قال: ولم يرد أنّه يظلم الناس وإنّما أراد ما تأوله في خصوص هذه القصة ولم يرد أن عليّاً سبّ العبّاس بغير ذلك لأنّه صنو أبيه، ولا أنّ العبّاس سبّ عليّاً بغير ذلك لأنّه يعرف فضله وسابقته، وقال المازري: هذا اللفظ لا يليق بالعبّاس وحاشا عليّاً من ذلك فهو سهو من الرواة، وإن كان لا بد من صحته فليؤول بأن العبّاس تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر..." فتح الباري: 13:280. وأما الكرماني فقد قال في شرحه لصحيح البخاري: "(استبا) أي تخاشنا في الكلام وتكلما بغليظ القول كالمستبين" (شرح صحيح البخاري للكرماني - مجلد 12 - ج25 ص50). وأما القاضي عياض فقد قال في (إكمال المعلم): "وقول العبّاس: (اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الخائن الغادر) قال الإمام - المازري - اللفظ الذي وقع من العبّاس لا يليق بمثله، وحاشا عليّاً منه أنّ يكون به بعض هذه الأوصاف فضلاً عن كلها أو أن يلم بها ولسنا نقطع بالعصمة إلاّ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لمن شهد له بها لكنا مأمورون بتحسين الظن بالصحابة (رض)، ونفي كُلّ رذيلة عنهم، وإضافة الكذب لرواتها عنهم، إذا استدت طرق التأويل. وقد حمل بعض الناس هذا الرأي على أنّ أزال من نسخته ما وقع في هذا الحديث من هذا اللفظ، وما هو بعده ممّا هو في معناه تورعاً عن إثبات مثل هذا، أو لعله يحمل الوهم على رواته" إكمال المعلم: 6:77. أنظر أخي كيف يشكك علماء السنة في صحة نسبة هذا الأمر إلى العبّاس ، وكيف يستعجل إنسان بجهالته ويقطع بنسبة هذا الأمر إلى علي (عليه السلام)، فهؤلاء التفتوا إلى أن إثبات مثل هذه الأقوال إلى الصحابة يضر بعدالتهم وقدسيتهم التي يؤمنون بها، وأما الجاهل فلا يستطيع أن يلتفت إلى ذلك لأن ولعه بإثبات أخطاء لعلي (عليه السلام) أعماه. ثم يتابع المازري كلامه قائلاً: "وإن كان هذا اللفظ لا بد من إثباته ولا يضاف الوهم إلى رواته فأمثل ما حمل عليه أنّه صدر من العبّاس على جهة الإدلال على ابن أخيه، لأنّه في الشرع أنزل منزلة أبيه، وقال في ذلك ما لا يعتقد أنه مخطئ فيها أو أن هذه الأوصاف وقع فيه على مذهبه من غير قصد لها بل كان علي (رضي الله عنه) متأوّلاً فيها..." وتابع كلامه قائلا: "ومن الدليل على أن هذه الطريقة هي التي تسلك في التأويل أو ما في معناها أن مجلساً حضر فيه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو أمير المؤمنين وقد عرف من تشددّه في الحدود والأعراض وبعده عن المداهنة ما فات به الناس وفيه عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد (رض) ثُمّ قال هذا ولا ينكره منكر... وما ذلك إلاّ لما تأولناه من أنّهم فهموا بقرينة الحال أنه قال ما لا يعتقد على جهة المبالغة في الزجر لعلي (رضي الله عنه) وزاد له حرمة الأب والأب لا ينبغي أن ينصف منه في العرض هذا عندي وجه تأويل ما وقع في هذا" انتهى ما نقله القاضي عن المازري. هذا ما يراه علماء الحديث وشراح البخاري ومسلم في هذا الأمر وكُلّ التبرير منصب على أنّه أمر صدر من العبّاس دون علي (عليه السلام)، لأنّه المقدار المعلوم عندهم. المورد السابع: قال ـ بعد نقل رواية لمسلم ـ: كثيرا ما يقول الشيعة كيف يمكن أن يكون عمر خليفة للمسلمين، وهو لا يعرف حكم التيمّم، ونحن نقول هذا علي بن أبي طالب لا يعرف حكم المذي. نقول: هذا الأمر الذي جعله من المآخذ على الإمام علي (عليه السلام)، هو في غاية الغرابة، فهل يستوي من يجهل حكم شرعي - على مبناهم بصحّة هذا الخبر، لأنّه في صحيح مسلم - في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسأل عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)إمّا مباشرة أو بواسطة مع وجود العذر، مع من يجهل حكم شرعي بأهمّيّة التيمّم وسعة الابتلاء به، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمان على نزول حكمه وتبليغه إلى الناس؟! بل حكمه بيّن في القرآن الكريم، و يفترض أن خليفة المسلمين على اطّلاع بآياته وأحكامه؟! وقد روي أنّه (عليه السلام) كان يحتاط في ذلك بحيث سبّب الأذى والمشقّة لنفسه (عليه السلام) وفي ذلك يقول ابن حجر في (فتح الباري): "ووقع في رواية لأبي داود والنسائي وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصة عن علي، قال: كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتّى تشقق ظهري، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تفعل" فتح الباري: 1:380. ويقول: "... وفيه استعمال الأدب من ترك المواجهة بما يستحى منه عرفا، وحسن المعاشرة مع الأصهار، وترك ذكر ما يتعلّق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها" فتح الباري: 1:381). فابن حجر يرى تصرّف علي (عليه السلام) من حسن الأدب وتوقير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانظر إلى الرؤية السليمة إلى النصّ، وقارنها بالكلمات التي يشم منها رائحة النصب. وأمّا عن موقف عمر المختلف تماما، فيذكر ابن حجر في (فتح الباري) رواية البخاري: "عن شقيق بن سلمة قال: كنت عند عبد الله - عني ابن مسعود - وأبي موسى فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع ؟ فقال عبد الله: لا يصلّي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "كان يكفيك هكذا فضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكفيه الأرض..." قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك؟ فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمّار كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم، فقلت لشقيق: فإنّما كره عبد الله لهذا؟ قال: نعم. ثم قال ابن حجر: "وفيه جواز التيمّم للجنب بخلاف ما نقل عن عمر وابن مسعود" نفس المصدر السابق: 1:455. إذاً لعمر رأي في مقابل الحكم الشرعي الذي بلّغه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس، والذي ذكره القرآن في آية التيمّم، فهل يشبه حال من جهل الحكم ومنعه الحياء لمكان ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من السؤال عنه - لو أردنا التنزّل وقبول الخبر - وشقّ على نفسه باحتياطات ثقيلة كالاغتسال في الشتاء، فهل حاله حال من نزلت آية التيمّم في زمن الرسالة النبويّة، ثمّ بعد عقد من الزمان يسأله رجل ـ كما يروي مسلم في صحيحه كتاب الحيض باب التيمّم ـ فيقول: إنّي أجنبت فلم أجد ماء فقال: لا تصلّ. لا أعرف كيف نفسّر فتوى خليفة المسلمين بترك الصلاة عند عدم وجود الماء، مع وجود آية التيمّم الصريحة في القرآن؟ فعلي (عليه السلام) حينما جهل الحكم كان فرداً في الأمّة ولم يرد نصّ في المورد الذي سأل عنه، بينما عمر حينما قال هذا الرأي كان خليفة المسلمين، وأفتى بخلاف حكم نزل فيه نصّ قرآني واضح، هذا ما يؤاخذ عليه عمر. الموارد التي ذكرها من كتب الشيعة: قال: "أمّا المآخذ التي على علي بن أبي طالب من كتب الشيعة فإنّي أستغفر الله كثيراً من ذكرها لأنّها تدلّ على خبث طوية من رواها". نقول: كتابه على الأغلب مبنيّ على اتهام الشيعة بأنّ استدلالاتهم لم تبتن وفق المصادر المعتبرة عند السنّة والروايات الصحيحة، ويرمي الآخرين بالكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لأنّه لم يتحرّ الدقّة في تصحيح علماء السنّة للحديث المستدلّ به. لذا فمن الغريب أن يقوم هو بنفس الأمر الذي ذمّ الآخرين عليه، فاستدل بروايات موجودة في كتب الحديث عند الشيعة مثل كتاب (بحار الأنوار) والذي يصرّح علماء الشيعة بأنّها كتب جامعة للحديث لا أكثر، وهي متروكة لأهل التحقيق والبحث لتمييز الصحيح من غيره فيها. فهلاّ حكم على نفسه بالأحكام السابقة وشَتَمَها؟ نترك الأمر للمنصفين
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.
والأعجب من ذلك أنّه يعبّر عن رواة الشيعة وكتّابها الذين نقلوا الأخبار بأنّ رواياتهم لها تدلّ على خبث الطوية في حين أنّك سترى أنّ منها ما يوجد في المصادر الروائية للسنّة، بل بعضها في الصحاح، والأغرب أنك ترى ذلك في أوّل الأمثلة التي يوردها، فانظر معي أيّها القارئ:
المورد الأول:
نقل عن (البحار) خبراً عن علي (عليه السلام)، قال: سافرت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... وكان له لحاف ليس له لحاف غيره، ومعه عائشة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينام بيني وبين عائشة ليس علينا ثلاثتنا لحاف غيره، فإذا قام إلى صلاة الليل يحطّ بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتّى يمسّ اللحاف الذي تحتنا...
والأدهى من ذلك أنّهم يروون في الكافي عن أبي عبدالله، قال: في الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد يجلدان مائة جلدة.
نقول: والمجلسي صاحب كتاب (بحار الأنوار) بدوره نقل الرواية عن كتاب (الاحتجاج) للشيخ الطبرسي الذي ينقل الخبر معّلقاً عن سليم بن قيس، وجلّ روايات (الاحتجاج) محذوفة الاسناد ممّا يفقدها قدرا كبيرا من القيمة، والخبر موجود في واحد من نسخ كتاب سليم بن قيس المشهور والمتداول دون النسخ الأخرى.
والعجب أنّ مثل تلك الرواية وردت مصححة في مصادر السنة، فهل تصفح هذا الكاتب كتاب (المستدرك) للحاكم يوماً، ورأى أي مثالب وضعت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنّها مناقب للصحابة؟ وإليك هذا المثال:
روى الحاكم في (المستدرك) في مناقب الزبير بن العوام، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: "أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غداة باردة فأتيته وهو مع بعض نسائه في لحافه فأدخلني في اللحاف فصرنا ثلاثة".
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. (المستدرك على الصحيحين ـ ج3 ص410).
فما تقول في مثل هذه الرواية المذكورة في مصدر سنّي كتب بقصد جمع الروايات الصحيحة، بل أقرّ الذهبي بصحّة الخبر، فهل تجرأ الآن وتقول إنّها تدلّ على خبث طوية الحاكم النيسابوري والذهبي، أم تتراجع عن شتائمك; لأنّ القائل من أتباع مذهبك، أليس من الأولى أن تقول: لعن الله من صحّح هذه الرواية قبل أنّ تقول لعن الله من وضعها.
والأدهى ذكر الكاتب لرواية الكافي من أنّ الرجل والمرأة يوجدان في لحاف واحد يجلدان مائة جلدة، فالعجب من هذا العمى أو التعامي الذي يجعله يوحّد بين روايتين إحداهما واضحة في كونهما عاريين تحت اللحاف بقرينة شروح العلماء وقرينة الروايات الأخرى في الباب، مثل الرواية العاشرة التي تنصّ على أنّ عليّاً (عليه السلام) كان إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجرّدين جلدهما حدّ الزاني. (الكافي ـ ج7 ص182)، والثانية صريحة بأنّه إذا قام إلى صلاة الليل يحطّ بيده اللحاف من وسطه حتّى يمس اللحاف الفراش الذي تحتنا.
المورد الثاني
نقل عن (البحار) قول علي (عليه السلام): "غدا علينا رسول الله، ونحن في لفاعنا فقال: السلام عليكم فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثُمّ قال: السلام عليكم فسكتنا".
قال الكاتب: فكيف لا يردّ السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّتين؟
نقول: الحديث نقله المجلسي عن (علل الشرائع) للصدوق (علل الشرائع - ج2 ص65)، وفي رواته: أبي الورد بن تمامة، والحريري وهو سفيان، وأحمد ابن الحسن القطّان، والحسن بن علي بن الحسين السكري، والحكم بن أسلم كلّهم مجهولون، لم نعثر لهم على ترجمة.
فأيّ قيمة لحديث هذا سنده، نعم بقيّة الرواية وهي تعليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)التسبيح للزهراء وعلي عليهما السلام عوضا عن طلب الخادم متواتر عند الفريقين في روايات متعدّدة.
كما أنّ تتمّة الرواية فيها ما يشعر بأنّ عدم ردّ السلام على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)مرّتين كان بسبب اعتبارهم السلام من خلف الباب نوع استئذان، وعدم الإجابة يعبّر عن عدم وجود إذن بالدخول: "فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثمّ قال: السلام عليكم فسكتنا، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثا فإن أذن له وإلاّ انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله ادخل..."
فقوله "وقد كان يفعل ذلك، يسلّم ثلاثا فإن أذن له وإلاّ انصرف" مشعر بأنّ عادة القوم كانت كذلك، فالسلام من وراء الباب لم يكن إلاّ للاستئذان في الدخول.
ويدلّ عليه ما رواه النسائي في السنن الكبرى عن علي (عليه السلام): "كانت لي منزلة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن لأحد من الخلائق فكنت آتيه كُل سحر، فأقول: السلام عليك يا نبيّ الله فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه" (السنن الكبرى للنسائي - ج5 ص141 (8503)).
قال محقق الكتاب: إسناده ثقات غير عبد الله صدوق.
وفي مصادر السنّة ذكرت روايات صحيحة يمتنع فيها عمر عن ردّ السلام، فقد روى مسلم في صحيحه كتاب الآداب باب الاستئذان عن أبي سعيد الخدري، قال: كنّا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتّى وقف فقال: أنشدكم الله! هل سمع أحد منكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول "الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع" قال أبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات، فلم يؤذن لي فرجعت، ثمّ جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أنّي جئت فسلمت ثلاثا، ثمّ انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو استأذنت حتّى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا..." (صحيح مسلم - ج3 ص1694 ح34).
وروى "جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله ابن قيس فلم يأذن له فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثمّ انصرف..." (نفس المصدر السابق - ح37).
قال ابن حجر قد ذكر في فتح الباري عند شرحه لما رواه البخاري : عن أبي سعيد، قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ...:"
وفي الحديث أيضا أنّ لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان أن لا يأذن، سواء سلّم مرّة أو مرّتين أم ثلاثا، إذا كان في شغل له ديني أو دنيوي يتعذّر بترك الأذن معه للمستأذن..." (فتح الباري - ج11 ص31).
وروى الترمذي عن أبي سعيد، قال: استأذن أبو موسى على عمر فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قال عمر واحدة، ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: السلام عليكم أأدخل؟ قال عمر ثنتان، ثمّ سكت ساعة، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: ثلاث، ثمّ رجع..."، وروى مثله مسلم في صحيحه (صحيح مسلم - ج3 ص1695).
وقال أبو بكر بن العربي في (عارضة الأحوذي) ـ عند شرحه للحديث السابق الوارد في باب ما جاء في الاستئذان ثلاثة ـ: "قول عمر واحدة ثنتان ثلاثا يعدّدها، دليل على أنّه يجوز للرجل السامع للاستئذان أن لا يردّ، ولا يأذن إذا كان ذلك لغرض صحيـح ومقصـود بيّن" (عارضة الأحوذي - ج5 ص119).
ألا تعجب أيّها القارئ، فابن العربي يستنبط من فعل عمر عدم الوجوب إذا كان بقصد الاستئذان، وأمّا هذا الجاهل فيرى فعل علي (عليه السلام) خطأ، ولا يمكن استنباط حكم من أفعاله.
وروى أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب كم مرّة يسلّم الرجل، عن قيس بن سعد، قال: زارنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منزلنا فقال: "السلام عليكم ورحمة الله" فرّد سعد ردّا خفيّاً، قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ذره يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "السلام عليكم ورحمة الله"، فردّ سعد ردّاً خفيّاً، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "السلام عليكم ورحمة الله"، ثمّ رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتبعه سعد فقال: يا رسول، إنّي كنت أسمع تسليمك وأردّ عليك ردّاً خفيّاً لتكثر علينا من السلام..." (سنن أبي داود - ج4 ص515)، وفي آخر الرواية لم يرد أيّ ردع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل أنّه قال في آخر الرواية: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"، أليس كل ذلك دليل على أنّ السلام إذا كان بقصد الاستئذان لا يجب ردّه؟ وهل الردّ اخفاتا يعّد ردّاً في الفقه؟
المورد الثالث