الصفحة 30
وجاء في الكامل في التاريخ أن أول من بايعه هو قيس بن سعد الأنصاري وقال له: «مدّ يدك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلّين فقال الحسن على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط فبايعه الناس وكان الحسن يشترط عليهم أنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت»(1).

إلى جانب الكوفة بايعت البصرة والمدائن وسائر العراق وبايعه الحجاز واليمن وفارس ولم يتخلف عن البيعة سوى معاوية ومن والاه.

وشرع الحسن في تنظيم أمور الدولة واتخذ جملة من الإجراءات أهمها: تعيين الولاة وبادر إلى زيادة أفراد الجيش في عطائهم إدراكا منه لما أصاب هذا الجيش من جراحات بعد الحروب العديدة التي خاضها مع الناكثين والمارقين والقاسطين.

وأرسل كتاباً إلى معاوية يدعوه فيه للدخول فيما دخل فيه الناس وإن يدع البغي ويحقن دماء المسلمين ويهدده إن هو أبى بالقتال:

____________

(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج3 ص742.


الصفحة 31
«واتق الله ودع البغي واحقن دماء المسلمين فو الله مالك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق ليطفئ الله الثائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين. وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين وحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين»(1).

وردّ معاوية بردٍّ يعبق علواً واستكباراً رافضاً عروض الحسن بالدخول في البيعة مدّعياً أنه أولى بالخلافة:

«قد علمت أني أطول منك ولاية وأقدم منك لهذه الأمة تجربة وأكثر منك سياسة وأكبر منك فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ.. (إلى أن يقول:) والحال بيني وبينك اليوم مثل الحال الذي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) فلو علمت أنك أضبط مني للرعية وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ورأيتك لذلك أهلا»(2).

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج16 ص227.

(2) م س ص 228.


الصفحة 32
وأرسل معاوية في الآفاق يجمع قواه ويستنفر الجنود، وما فتئ يراسل الحسن مرغباً تارة بما يريد من الخراج وأن يكون الأمر له من بعده ومُهدِّداً طوراً آخر بأن يقتل على يد رعاع الناس..

ولم يغيّر الحسن (عليه السلام) موقفه البتة وبقي ثابتاً على خياره، وكتب له ردّاً يتعالى فيه عن الخوض في التفاصيل قائلاً:

«تركت جوابك خشية البغي عليك وبالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام».

وأدرك معاوية أن الحسن مصمم على محاربته فسار نحو العراق، وبلغ الحسن سير معاوية وأنه وصل جسر منبج فأمر الناس والعمال بالتهيؤ ونادى مناديه في الكوفة يدعوهم للتجمع في المسجد وخطب فيهم الحسن (عليه السلام):

«..أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرهاً ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: اصبروا إن الله مع الصابرين.. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. بلغني إن معاوية بلغه أنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أُخرجوا رحمكم الله

الصفحة 33
إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا»(1).

ولكن الناس سكتوا وما تكلم منهم أحد‍!! فقام أصحاب الإمام عدي بن حاتم وسعد بن عبادة، ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة فأنّبوا الناس على سكوتهم وحرضوهم على الخروج، وسار الحسن وخرج الناس معه إلى أن بلغوا دير عبد الرحمن، فأقام به ثلاثاً حتى تجمّع الناس.

وفي دير عبد الرحمن انقسم جيش الحسن إلى قسمين حيث أرسل الإمام عبيد الله بن العباس ليلقى معاوية في مسكن وقال له:

«يابن عم إني باعث إليك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة فَسِر بهم وليّن لهم جانبك وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيك.. وليكن خبرك عندي كل يوم.. وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله وان أُصبت فقيس بن

____________

(1) م ن ص: 229.


الصفحة 34
سعد على الناس وإن أُصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس»(1).

وسار عبيد الله حتى أتى مسكن (اسم مكان على نهر دجيل) وسار الحسن حتى نزل ساباط (اسم مكان قرب المدائن).

وهنا انطلقت مؤامرات معاوية ببث الدعايات والدعايات المضادة بين شقّي جيش الحسن؛ واستطاع أن يستميل عبيد الله بن العباس بعد أن بث دعاية في العسكر أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلما تقتلون أنفسكم؟

لقد انطلت الحيلة على عبيد الله بن العباس الذي أعزاه معاوية بقوله: «إن الحسن راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً وإلا دخلت وأنت تابع ولكن إن أجبتني الآن أنا أعطيك ألف ألف درهم أُعجّل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلتُ الكوفة النصف الآخر».

وانسلّ عبيد الله بن العباس إلى جيش معاوية ومعه بضعة آلاف من جيش الحسن وأصبح الناس ينتظروه للصلاة فلم

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد: مصدر سابق ص230.


الصفحة 35
يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطب فيهم فثبّتهم وذكر عبيد الله فنال منه ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو فأجابوه.. وخرج بسر بن أرطأة فصاح يا أهل العراق ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع وإمامكم الحسن قد صالح فعلام تقاتلون أنفسكم فقال لهم قيس بن سعد: اختاروا إما أن تقاتلوا بلا إمام أو تبايعوا بيعة ضلال. فقالوا بل نقاتل بلا إمام. وحاول معاوية استمالة قيس بكل وسيلة فكتب إليه قيس: «والله لا تلقاني أبداً إلا بيني وبينك الرمح».

ولم تتوقف حدود المؤامرة على جيش مسكن فقد تآمر معاوية على النصف الآخر من الجيش حيث أرسل مبعوثين إلى الحسن حملوا إليه كتب بعض أعيان الكوفة ممن كاتبوا معاوية يطالبونه الأمان ويعدونه تسليم الحسن إليه وكان من مهمة هذا الوفد ترويج دعاية مفادها أن الحسن سيصالح معاوية فاضطرب المعسكر وزاد اضطراباً مع وصول أنباء مسكن فنادى الحسن الصلاة جامعة وخطب في الناس قائلاً:

«أما بعد فو الله أني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلقه لخلقه وما أصبحت محتملاً على مسلم

الصفحة 36
ضغينة ولا مريد له بسوء ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا علي رأي غفر الله لي ولكم وأرشدني لما فيه محبته ورضاه إن شاء الله»(1).

فنظر الناس بعضهم لبعض، وقالوا ما نراه إلا يريد الصلح مع معاوية كفر الرجل! وشدوا على فسطاطه وانتهبوه وأخذوا مصلاه من تحته وهموا بقتله لكن خاصة من أنصار الإمام أحاطوا به، وركب فرسه ولما بلغ مظلم ساباط قام رجل وقال: «يا حسن أشرك أبوك ثم أشركت أنت» وطعنه بالمعول فوقعت في فخذه. وحُمل الإمام إلى المدائن على سرير وبها سعيد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله وقد كان علياً ولاه على المدائن فأمّره الحسن عليها، فأقام عنده يعالج نفسه.

وازدادت بصيرة الحسن (عليه السلام) بخذلان القوم وفساد نيات المحكّمة فيه لما أظهروه من السب والتكفير له واستحلال دمه ونهب أمواله ولم يبق معه من يأمن غوائله إلا خاصة من شيعة أبيه وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وأنفذ إليه بكتب أصحابه

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج16 ص231.


الصفحة 37
الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه.. فاشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروط كثيرة وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة فلم يثق الحسن بامتثاله غير أنه لم يجد بدا من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة(1).

ولما عزم الحسن على الصلح قام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:

«إنا والله ما يثنينا شك في أهل الشام ولا ندم وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبي السيوف وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى».

____________

(1) المفيد: الإرشاد، الأعلمي ط3 1989 ص190.


الصفحة 38
فناداه الناس من كل جانب البُقيَة! البُقيَة..(1)

هكذا اختار ما تبقى من الجيش الحياة.. ورضوا بالصلح.. وسيأتي في الفصل اللاحق تفصيل عنه..

المرحلة الخامسة: من العودة إلى المدينة إلى الاستشهاد.

لم يبق الحسن (عليه السلام) طويلاً في الكوفة بعد عقد الصلح وغادر نحو المدينة مع الحسين وأهل بيته. وجعل الناس يبكون ويسألونه ما حملك على ما فعلت؟ فيقول: «كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبداً إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً فليت شعري لمن يصلحون بعدي»(2).

وقبل أن يتجاوز موكب الحسن (عليه السلام) الكوفة كثيراً أرسل إليه معاوية أن ارجع لتقاتل طائفة من الخوارج أعلنوا العصيان والتمرّد في جوارها فأبى أن يرجع وكتب إلى معاوية «لو آثرت أن أقاتل أحداً من

____________

(1) ابن الأثير: الكامل، ج3 ص406.

(2) ابن الأثير: الكامل، ج3 ص407.


الصفحة 39
أهل القبلة لبدأت بقتالك قبل أي أحد من الناس»(1).

واستقرّ الإمام الحسن بالمدينة ودامت هذه الفترة من سنة (41هـ) عام الصلح إلى سنة (51هـ) سنة استشهاده.

وتفرغ الإمام في هذه المرحلة لنشر الإسلام وخدمة دين الله وتعليم أحكامه وتعاليمه. فعن السيوطي في تدريب الراوي أنه «كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثير منهم وأباحها طائفة وفعلوها منهم علي وابنه الحسن»(2).

وبفضل جهوده المباركة قامت مدرسة علمية بالمدينة: ذكر المؤرخون بعض أعلامها: ومنهم ابنه الحسن المثنى والمسيب بن نخبة، سويد بن غفلة والعلاء ابن عبد الرحمن والشعبي وهبيرة بن بركم والأصبغ بن نباتة وجابر بن خلد وأبو الجوزا وعيسى بن مأمون بن زرارة ونفالة بن المأموم وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي وأبو مريم قيس الثقفي وطحرب العجلي وإسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن

____________

(1) م ن ص: 308.

(2) محسن الأمين: أعيان الشيعة، دار التعارف 1976 ج1 ص577.


الصفحة 40
قيس(1).

وقد أصبحت يثرب بفضل هؤلاء عاصمة العلم والدين والأدب وأصبح الإمام الحسن ملاذ الباحثين والدارسين. ففي تحف العقول، كتاب من الحسن البصري يسأل الإمام عن اختلافهم في القدر وحيرتهم في الاستطاعة وعقب قائلاً:

«فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك (عليهم السلام) فإن من علم الله علمكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم».

فأجاب الحسن (عليه السلام):

«بسم الله الرحمن الرحيم وصل إليّ كتابك ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذا ما أخبرتكم، أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره إن الله يعلمه فقد كفر ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر. إن الله لم يطع مكرهاً ولم يعص مغلوباً ولم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه أقدرهم بل أمرهم تخييرا ونهاهم تحذيرا فإن ائتمروا بالطاعة لم

____________

(1) باقر شريف القرشي: حياة الإمام الحسن، دار البلاغة ص280 (نقلا عن تاريخ ابن عساكر).


الصفحة 41
يجدوا عنها صاداً وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا ألزموها كرهاً بل منّ عليهم بأن بصّرهم وعرّفهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم لا جبراً لهم على ما أمرهم به فيكون كالملائكة ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين والسلام على من اتبع الهدى»(1).

هذا إشعاع الحسن العلمي، وأما الإشعاع الآخر فهو الخلق الرفيع والآداب المعنوية التي بثها الإمام بين الناس فهيمن على القلوب وفرض احتراماً وإجلالاً على الجميع، فقد تحدثت كتب الروايات عن قصص تواضعه وإجارته للفارين من بطش معاوية وعماله.

وكان إذا صلى الغداة في مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس فيجلس إليه سادة الناس يسألون عن أمور دينهم ويتحدثون بين يديه، وكان إذا توضأ تغير لونه، وإذا ذكر الموت أو البعث أو الصراط يبكي حتى يغشى عليه وإذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم وسأل الله الجنة

____________

(1) الحراني: تحف العقول، مؤسسة الأعلمي ص166.


الصفحة 42
وتعوذ من النار.. وقد قاسم الله ماله ثلاث مرات وخرج منه كله مرتين وحج خمساً وعشرين حجة وأن النجائب لتقاد بين يديه وهو ماش على قدميه يقول: «أستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته».

وإذا رآه الناس ترجلوا احتراماً له وإكراماً، فإذا أعياهم المشي جاء بعضهم إلى الإمام وطلبوا منه أن يركب أو أن يبتعد عن الطريق لأن الناس لا تجرؤ على الركوب والإمام يسير فينحرف الإمام بمن معه عن جادة الطريق ليركب الناس رواحلهم.

وفي الواقع، المصادر التاريخية لا تسعفنا بكثير من المعلومات عن الحسن في هذه المرحلة أيضاً، ولكن هناك حدثان لا بد من الإشارة إليهما لقوّة دلالتهما وهما:

  الحدث الأول:

رفضه (عليه السلام) مصاهرة معاوية، فقد أرسل معاوية إلى عامله في المدينة مروان بن الحكم ليخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد فأجابه عبد الله إن أمر نساءنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه.

فأقبل مروان إلى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله فقال (عليه السلام)

الصفحة 43
اجمع من أردت فجمع مروان الهاشميين والأمويين في صعيد واحد وخطب فيهم أن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر ليزيد ابن معاوية على حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه بالغاً ما بلغ.

فقام الإمام الحسن: ونقض كلام مروان.. وقال: «وقد رأينا أن نزوج زينب من ابن عمها القاسم محمد بن جعفر وقد زوجتها منه وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة».

ولما بلغ معاوية ذلك قال:


خطبنا إليهم فلم يفعلواولو خطبوا إلينا لما رددناهم(1)

  الحدث الثاني:

قدوم وفد من الكوفة للإمام يطلبون منه نقض العهد بعد أن أخلّ معاوية بشروطها والرجوع إلى الحرب ولكن الحسن (عليه السلام) ردهم رداً جميلاً موضحاً لهم الاستراتيجية الجديدة التي اعتمد عليها: التريث ما دام معاوية حياً، وقال لهم: ليكن كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيا فإن يهلك معاوية ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على

____________

(1) باقر شريف القرشي: حياة الإمام الحسن، ص288.


الصفحة 44
رشدنا والمعونة على أمرنا وان لا يكلنا إلى أنفسنا فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(1).

وضاق معاوية ذرعاً بالحسن (عليه السلام) الذي يزداد نفوذه الروحي والعلمي يوما بعد آخر في المدينة وفي أنحاء العالم الإسلامي. وأحس أن الحسن قد ورطه في هذه الشروط التي طفق ينقضها واحدا بعد آخر ويفضح نفسه أكثر فأكثر.. وقَدَّر أن خطته بتوريث الملك لابنه يزيد لن تمرّ والحسن موجود فقرّر اغتيال الإمام، فأوكل معاوية تنفيذ المهمة إلى إحدى زوجات الحسن (عليه السلام) وهي جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي التي سقته السم وقد كان معاوية دس إليها أنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم وزوجتك يزيد فكان ذلك الذي بعثها على سمّه فلما مات وفى لها معاوية بالمال وأرسل إليها إنا نحب حياة يزيد لولا ذلك لوفينا لك تزويجه(2).

ولما أحس الحسن (عليه السلام) ما أصابه وأدرك قرب منيته قال للحسين: «لقد سقيت السم مراراً ما سممت مثل هذه المرة لقد

____________

(1) راض آل ياسين: صلح الحسن ص302.

(2) المسعودي: مروج الذهب، ج3 ص5.


الصفحة 45
لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلبها بعود معي فقال الحسين: من سقاك؟ فقال أتريد أن تقتله إن يكن هو فالله أشد نقمة منك وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء»(1).

وأوصى الحسن حسيناً؛ ومما جاء في وصيته:

«فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم وتكون لهم خلفاً ووالدا وأن تدفنني مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإني أحق به وببيته فإن أبوا عليك فأنشدك الله وبالقرابة التي قرب الله منك والرحم الماسة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره لما كان من أمر الناس إلينا»(2).

وكان تجهيز الحسن وتشييعه في موكب لم تعهد المدينة له مثيلاً حيث تداعى الناس من كل حدب وصوب يودعون ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى قيل إنه لو طرحت إبرة في البقيع حيث دفن الحسن أخيراً لما وقعت إلا على رأس إنسان لشدة الزحام.

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج16 ص236.

(2) محسن الأمين: أعيان الشيعة، ج1 ص585.


الصفحة 46
ولما همّ الحسين أن يدفن أخاه الحسن كما أوصاه عند جده مُنع من ذلك، وقيل إن عائشة هي التي بادرت بالمنع، وتقول مصادر أخرى إن مروان بن الحكم جمع بني أمية وهم بدورهم استنفروا عائشة، وجاء في شرح النهج: إن عائشة يومذاك ركبت بغلاً واستنفرت مروان بن الحكم وبنو أمية.. وذلك قول القائل «فيوماً على بغل ويوماً على جمل».

وقول ابن أخيها القاسم بن محمد: «يا عمة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء».


الصفحة 47

الفصل الثاني:



معاهدة الصلح..
البنود والسياق التاريخي



اختلف المؤرخون في متعلقات الصلح: بنوده، مكانه، زمانه بالضبط.. ومَن طلب الصلح أوّلا؟.. الخ..

وما يهمنا أساساً بنود هذا الصلح؛ حيث رجحنا من خلال الفصل الأول أن يكون الصلح طلباً من معاوية، لقي استجابة من الإمام الحسن (عليه السلام) لأسباب سنذكرها فبعض الروايات تذكر أن معاوية بعث للإمام الحسن كتاباً مختوماً وطلب منه أن يشرط ما يريد، ذكر ذلك الطبري وابن الأثير، ولكن معاوية نكل لما كان الإمام الحسن قد بعث له في الصلح واشترط عليه شروطا قبل أن يصل إليه كتاب معاوية.


الصفحة 48
وتفيد بعض الروايات الأخرى أن الإمام الحسن (عليه السلام) أرسل سفيرين إلى معاوية هما عمرو بن سلمة الهمداني ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده فأعطاهما هذا الكتاب:


بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان..

إني صالحتك أن لك الأمر من بعدي ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد (صلّى الله عليه وآله) وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد لا أبغيك غائلة ولا مكروها وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال وعلى أن لك خراج يسار دار أبجرد تبعث إليهما عمالك وتصنع بهما ما بدا لك(1).

وفي رواية ثالثة يرويها بعض المؤرخين أن الإمام كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحد من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال أما عشرة

____________

(1) انظر: باقر شريف القرشي: حياة الإمام الحسن بن علي، ج2 دار البلاغة ط1993 ص221 و 227.


الصفحة 49
أنفس فلا أؤمنهم فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده فراجعه الحسن أني لا أبايعك أبداً وأنت تطلب قيساً أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت فبعث إليه معاوية حينئذٍ برقّ أبيض وقال اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه فاصطلحا على ذلك واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده فالتزم ذلك كله معاوية(1).

وذكر جماعة من المؤرخين أن الإمام ومعاوية اصطلحا فارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقع عليها كل منها: وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم وعلى أن أصحاب علي وشيعته

____________

(1) انظر: باقر شريف القرشي: حياة الإمام الحسن بن علي، ج2 دار البلاغة ط1993 ص221 و 227.


الصفحة 50
آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه وعلى أن لا يبغي للحسين بن علي ولا لأخيه الحسن ولا لأحد من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) غائلة سراً ولا جهراً ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق شهد عليه فلان بن فلان وكفى بالله شهيداً(1).

وذكر صاحب شرح النهج رواية مفادها: أن معاوية بعث عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح فدعواه إليه فزهداه في الأمر وأعطياه ما شرط له معاوية وألا يتبع أحد بما مضى ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه ولا يذكر علي إلا بخير وأشياء شرطها الحسن فأجاب إلى ذلك وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة وانصرف الحسن أيضاً إليها وأقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة، واجتمع إلى الحسن (عليه السلام) وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) يلومونه ويبكون إليه جزعاً مما فعله(2).

____________

(1) انظر باقر القرشي: م س ص226.

(2) ابن أبي الحديد: شرح النهج، م س ج11 ص233.


الصفحة 51
ولأجل تجاوز هذه التناقضات والاختلاف في الروايات والوصول إلى أقرب صورة عن واقع الصلح قام الشيخ راضي آل ياسين في كتابه (صلح الحسن) بمحاولة للتنسيق بين هذه الشروط المتناثرة في الروايات المختلفة وصاغها في شكل بنود خمسة: وهي:

- المادة الأولى: تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله (صلّى الله عليه وآله) وبسيرة الخلفاء الصالحين.

- المادة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.

- المادة الثالثة: أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وان لا يذكر عليا إلا بخير.

- المادة الرابعة: استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف يشمله تسليم الأمر وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن كل عام ألفي ألف درهم وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس وأن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم وان يجعل ذلك من خراج دار أبجرد (مدينة داراب ولاية

الصفحة 52
بفارس على حدود الأهواز).

- المادة الخامسة: على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويَمَنهم وأن يؤمّن الأسود والأحمر وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم وأن لا يتبع أحد بها بما مضى وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا وان لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم وان لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه وعلى ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا. وعلى أن لا ينبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سراً ولا جهراً ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.

هذه أهم البنود كما أوردها الشيخ آل ياسين: وانفرد صاحب كتاب حياة الإمام الحسن (عليه السلام) ببندين لم يذكرهما الأول وهما:

أولاً: أن لا يسميه أمير المؤمنين (نقلا عن تذكرة الخواص للجوزي).


الصفحة 53
ثانياً: ألا يقيم عنده الشهادة (نقلا عن أعيان الشيعة).

هكذا وعلى قاعدة هذا الصلح تمت البيعة، وبايع الكوفيون وسلم الحسن (عليه السلام) الأمر لمعاوية والأرجح أن العملية تمت في الكوفة على خلاف ما تدعيه بعض المصادر من وجود لقاء آخر في مسكن لعقد الصلح.. وتجمع ثان من أجل تسليم الأمر بحضور الناس.. «فالأقرب انه لم يكن هناك لقاء في مسكن فقد ذهب الحسن مباشرة من المدائن إلى الكوفة حيث انعقدت البيعة العامة»(1).

ونودي في الناس إلى المسجد وخطب معاوية في الجموع قائلاً: «أما بعد.. ذلكم فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها إلا غلب باطلها حقها» وانتبه معاوية لما وقع فيه فاستدرك «إلا ما كان من هذه الأمة فإن حقها غلب باطلها».

«يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون

____________

(1) هشام جعيط: الفتنة دار الطليعة ص320.