الصفحة 89
داع خالص من الصوارف، وتتوفر صوارف الآخر عنه، فإن يوجد يقتضي ذلك إضافته إلى من يجب نفيه عنه، وإن لا يوجد يجب نفيه عمن يجب إضافته إليه، وكلا الأمرين محال.

وقلنا: إن تقدير قادرين لأنفسهما يوجب كون مقدور ما واحدا.

لأن من حق القادر لنفسه أن يكون قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا إذ تخصيص مقدوراته وانحصارها يخرجه عن كونه قادرا لنفسه، وإذا صح هذا فمقدور كل قادر لنفسه يجب كونه مقدورا لمماثله في هذه الصفة، وذلك يحيل تغاير مقدورهما.

طريقة أخرى

وهو لا يخلو أن يكون مقدورهما واحدا أو متغايرا، وكونه واحدا يقتضي إضافة الفعل إلى من يجب نفيه عنه، أو نفيه عمن يجب إضافته إليه، لصحة اختلاف الدواعي والصوارف منهما، وكونه متغايرا يقتضي اجتماع الضدين، وارتفاع الفعل من القادر عليه لغير وجه، وكلاهما محال، فثبت أن صانع العالم سبحانه واحد.

وقلنا بذلك لأن تقدير تغاير مقدورهما يصحح توفر دواعي أحدهما إلى ما توفرت عنه صوارف الآخر، فإن يوجد المقدوران يجتمع الضدان، وإن يرتفعا فلغير وجه معقول، من حيث علمنا أنه لا وجه يقتضي تعذر الفعل على القادر لنفسه.

وليس لأحد أن يقول: وجه ارتفاع المقدورين كونهما قادرين على ما لا نهاية له.

لأن المصحح لوقوع الفعل هو كون الذات قادرة، فلا يجوز أن يجعل ذلك وجها لتعذره، لأنه يقتضي كون المصحح للشئ محيلا له، وذلك فاسد.


الصفحة 90
وليس له أن يقول: وجه التعذر أن أحدهما ليس بالوجود أولى من الآخر.

لأنا نعلم هذا في مقدوري الساهي، وقد يوجد أحدهما.

وليس له أن يقول: اشتراكهما في العلم بالمقدورات والدواعي منهما يحيل اختلاف الدواعي منهما.

لأن الاشتراك في العلم بالشئ وما يدعو إلى فعله لا يمنع من اختلاف الدواعي إليه، يوضح ذلك: علم كل عاقل بحسن التعقل، وما للمحتاج إليه فيه من النفع وعدم الضرر لما، وقد يدعو بعض العالمين بذلك دواعي فعله، وينصرف عن ذلك آخرون.

طريقة أخرى

وهو أنا قد دللنا على أن فاعل العالم سبحانه مريد بإرادة موجودة لا في محل، فلو كانا قديمين لم يخل إذا فعل أحدهما أو كلاهما إرادة على الوجه الذي يصح كونه مريدا بها، لم يخل أن يوجب حالا لهما، أو لأحدها، أو لا يوجب.

وإيجابها لها محال إيجاب الإرادة الواحدة لحيين، كاستحالة إيجابها لحي واحد حالتين، لأن إيجاب الإرادة لحي واحد حالتين أقرب من إيجابها لحيين، فإذا استحال أقرب الأمرين فالأبعد أولى بالاستحالة.

وأيضا فإن إيجاب الإرادة الحال أمر يرجع إلى ذاتها، فلو أوجبت في بعض المواضع حالا لحيين لوجب أن يوجب ذلك في كل موضع، لأن الحكم المسند إلى النفس لا يجوز حصوله في موضع دون موضع، وقد علمنا استحالة الإرادة الواحدة حالا لحيين فيما بنينا (1)، فيجب الحكم بمثل ذلك في كل إرادة.

وإيجابها لأحدهما محال، لأنه لا نسبة لها إلى أحد القديمين إلا كنسبتها

____________

(1) كذا في النسخة، والظاهر: " بينا ".

الصفحة 91
إلى الآخر، ولا وجه لتخصصها بأحدهما.

وإن لا يوجب حالا يوجب قلب جنسها، وهو محال.

وإذا كانت دالة على كون فاعلها مريدا، وكان تقدير قديم ثان يحيل كون فاعل العالم سبحانه مريدا، ثبت أنه واحد لا ثاني له.

وليس لأحد أن يخصص إيجابها حالة المريد لمن هي فعله، وتابعة لدواعيه دون الآخر، كما يقولون فيمن فعل فيه إرادة لدخول النار وهو مشرف على الجنة:

في أن هذه الإرادة لا تؤثر، لكونها غير تابعة لدواعيه، ولا يدخل هذا المريد إلا الجنة، لمجرد الداعي.

لأن الدليل مبني على استحالة حصول موجب الإرادة، وهو حال المريد مع تقدير قديمين، ولا يفتقر ذلك إلى حدوثها تابعة لدواعي محدثها، فإنما تحتاج إلى ذلك في تأثرها دون إيجابها الحالة المقتضاة عن نفسها الواجب حصولها بشرط وجودها على كل وجه، ألا ترى أن الإرادة المفروض فعلها في الحي لدخول النار قد أوجبت كونه مريدا، وإنها لم تؤثر دخولها لكونها غير تابعة لدواعيه، فصار القدح وفقا للاستدلال على ما تراه، والمنة لله.

ولأن اختلاف دواعي القديمين محال، لاختصاص دواعي القديم بالحكمة المستحيل تعري قديم منها، وعلى هذا الدليل ينبغي أن يعول من طريق العقل، لاستمراره على الأصول وسلامته من القدح.

طريقة أخرى

وهو علمنا من طريق السمع المقطوع على صحته: أن صانع العالم سبحانه واحد لا ثاني له، والاعتماد على إثبات صانع واحد سبحانه من طريق السمع أحسم لمادة الشغب وأبعد من القدح، لأن العلم بصحة السمع لا يفتقر إلى العلم بعدد الصناع، إذا كانت الأصول التي يعلم بصحتها صحة السمع

الصفحة 92
سليمة، وإن جوز العالم بها تكاملها لأكثر من واحد، من تأمل ذلك وجده صحيحا.

وإذا لم يفتقر صحة السمع إلى تميز عدد الصناع أمكن أن يعلم عددهم من جهته، فإذا قطع العدد بكونه واحدا وجب العلم به، والقطع ينفي ما زاد عليه.

مسألة: (في لزوم الاعتقاد بمسائل التوحيد)

وإذا تقرر ما قدمناه من مسائل التوحيد وعلمنا صحتها بالبرهان، لزم كل عاقل اعتقادها، أمنا من ضررها، قاطعا على عظيم النفع بها، وفساد ما خالفها من المذاهب، وحصول الأمان من معرتها، ونزول الضرر بمعتقدها، من حيث كان علمه بحدوث الأجسام والأعراض يقضي بفساد مذاهب القائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم، وعلمه بحاجتها إلى فاعل قادر متخير عالم حي يوجب فساد مذهب من أضافه إلى علة أو طبيعة أو غير ذلك ممن ليس في هذه الصفات.

وعلمنا بكونه تعالى قديما لا يشبه شيئا ولا يدرك بشئ من الحواس، يبطل مذهب الثنوية والمجوس والنصارى والصابئين والمنجمين والغلاة ومجيزي إدراكه تعالى بشئ من الحواس من فرق المسلمين، لإثبات هؤلاء أجمع إلهية الأجسام المعلوم حدوثها، لحدوث كل جسم على ما قدمناه.

هذا إن أرادوا بالقدم إلهية أعيان الأجسام التي هي: نور وظلمة، وشيطان، وكوكب، وصنم، وبشر كعلي والمسيح عليهما السلام.

وإن أرادوا أمرا يجاور هذه الأجسام، فالمجاور لا يكون إلا جسما.

وإن أرادوا أمرا حالا، فالحلول من خواص الأعراض، وإن أرادوا بالادراك المعقول منه.


الصفحة 93
وإن أرادوا غير ذلك أشاروا إلى ما لا يعقل، لأن كل عبارة يعبرون بها من قولهم: اتحد، واختص، وتعلق، وغير ذلك، متى لم يريدوا به مجاورة أو حلولا لم يعقل، وفساد ما لا يعقل ظاهر، وكذلك القول في إدراك لا يعقل.

وعلمنا (1) بتفرده سبحانه بالقدم والصفات النفسية التي عيناها يبطل مذاهب: الثنوية، والمجوس، وعباد الأصنام، والطبايعيين، والصابئين، والمنجمين، والغلاة، والمفوضة، والقائلين بقدم الصفات زائدا على ما تقدم.


الصفحة 94

الصفحة 95


(مسائل العدل)





الصفحة 96

الصفحة 97

مسألة: (في معنى الكلام في العدل)

الكلام في العدل كلام في أحكام أفعاله وما يتعلق بها من أفعال خلقة، والحكم بجميعها بالحسن، ويتقدم أمام ذلك الحسن والقبيح والطريق إلى العلم بهما، ويلي ذلك أحكام الأفعال.

مسألة: (في الحسن والقبيح)

الحسن: ما يستحق به المدح مع القصد إليه، وينقسم إلى: واجب، وندب، وإحسان.

فالواجب هو: ما يستحق به المدح وبأن لا يفعل ولاما يقوم مقامه الذم، وينقسم إلى: واجب مضيق لا بدل منه، وإلى ماله بدل، وإلى ما يختص كل عين، وما هو على الكفاية، وإلى ما يتعين، وإلى ما لا يتعين.

والندب هو: ما يستحق به المدح ولا ذم على تركه، وهو مختص بالفاعل.

والاحسان هو: ما قصد به فاعله الأنعام على غيره، ومن حقه تعلقه بغير الفاعل، ويستحق فاعله المدح لحسنه والشكر على المنعم عليه، وصفة الحسن مشترطة في جميع أجناسه بانتفاء وجوب القبح.

والقبيح هو: ما يستحق به الذم (1)، وينقسم إلى فعل قبيح كالظلم، وإخلال بواجب كالعدل، بشرط إمكان العلم بوجوب الشئ وقبحه.

والحسن والقبح على ضربين: عقلي، وشرعي.

____________

(1) في النسخة " بالذم "

الصفحة 98
فالشرعي: كالصلاة، والزكاة، والزنا، والربا.

والعقلي: العدل، والصدق، وشكر المنعم، والظلم، والكذب، والخطر.

ولا خلاف في أن الطريق إلى العلم بحسن الشرعيات وقبحها السمع، وإن كان الوجه الذي له كانت كذلك متعلقا بالعقليات.

والخلاف في العدل والصدق والظلم والكذب وما يناسب ذلك، فالمجبرة تدعي اختصاص طريق العلم به السمع، والصحيح اختصاصه بالعقول.

والعلم به على وجهين: ضروري، ومكتسب.

فالضروري هو: العلم على الجملة بقبح كل ضرر عري من نفع يوفى عليه، ودفع ضرر أعظم، أو استحقاق، أو على جهة المدافعة، وبكل خبر بالشئ على ما هو به، إلا وجوب شكر كل نعمة.

والمكتسب هو: العلم بضرر معين بهذه الصفة، وخبر معين، وكون فعل معين شكر النعمة.

وقلنا: إن الأول ضروري، لعمومه كافة (1) العقلاء، وحصوله ابتداء على وجه لا يمكن العالم إخراج نفسه عنه بشبهة، كالعلم بالمشاهدات، ولو كان مكتسبا لوقف على مكتسبه، فاختص ببعض العقلاء، وأمكن إدخال الشبهة فيه كسائر العلوم المكتسبة.

وليس لا حد أن يقدح في هذا بخلاف المجبرة.

لأن المجبرة لا تنازع في حصول هذا العلم لكل عاقل، وهو البرهان على كونه ضروريا، ودخول الشبهة عليهم بأنه معلوم بالسمع تسقط، لعمومته العقلاء من دان منهم بالسمع وأنكره، وبمخالفته السمعيات بدخول الشبهة فيها وبعده عنها، وبحصول الشك في جميع السمعيات بالشك في النبوة وارتفاع الريب بقبح

____________

(1) في النسخة: " كأنه ".

الصفحة 99
العقليات والحال هذه، وبكون السمع المؤثر للحسن والقبح معدوما في حال وقوع الحسن والقبح من المكلف، مع استحالة تأثير المعدوم ووجوب تعلق بما أثر فيه على آكد الوجوه، وبعدم (1) السمع المدعى تأثيره في أفعالنا، لاختصاصه به تعالى.

وإسناد ذلك إلى الميل والنفور ظاهر الفساد، لاختلاف العقلاء فيما يتعلق بالميل والنفور، واتفاقهم على قبح الظلم والكذب وحسن الصدق والعدل، ولأن الميل والنفور يختصان المدركات وقد نعلم قبح ما لا ندركه، ولأنا قد نعلم قبح كثير مما نميل إليه وحسن كثير مما ننفر عنه، ولأنا نعلم ضرورة استحقاق فاعل العدل والصدف المدح وفاعل الظلم والكذب الذم، ولا يجوز إسناد ذلك إلى الميل والنفور المختصان به تعالى، وقبح ذم الغير ومدحه على ما لم يفعله.

وقلنا: إن التفصيل مكتسب، لوقوف حصوله لمن علم الجمل، ولو كان ضروريا لجاز حصوله من دونها.

مسألة: (في كونه تعالى قادرا على القبيح)

وهو تعالى قادر على القبح من جنس الحسن، وإنما يكون قبيحا لوقوعه على وجه، وحسنا لوقوعه على وجه، كقول القائل: زيد في الدار فإن كان متعلق الخبر بالمخبر عنه على ما هو به فهو حسن، وإن كان متعلقه بخلاف ما هو به فهو قبيح، فلو لم يكن تعالى قادرا على القبيح لم يكن قادرا على الحسن.

وأيضا فلا يخلو القبيح أن يكون جنسا أو وجها، وكونه تعالى قادرا على جنس ووجوهه، لقيام الدلالة على كونه قادرا لنفسه، والقادر لنفسه يجب أن

____________

(1) في النسخة " وبعد ".

الصفحة 100
يكون قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، لأن كونه قادرا يصحح تعلقه بكل مقدور، وما صح من صفة النفس وجب، لأنه لو لم يجب لاستحال من حيث لا مقتضي لوجوب ما جاز في صفة النفس خارج عنها، فلا يتقدر فرق بين الصحة والوجوب فيها.

ولأن كون القادر قادرا يصحح تعلقه بكل مقدور، والمقتضي للحصر والتخصيص هو القدر المتعلقة بأجناس مخصوصة يستحيل تعلقها بغيرها، وبما زاد على الجز الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد والوقت الواحد على ما بينته، فيجب الحكم فيمن كان قادرا لا بقدرة بكونه قادرا على كل جنس وقدر ووجه، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا لنفسه، وجب كونه قادرا على القبيح جنسا كان أو وجها.

ولأن خروج القبيح عن كونه مقدورا له سبحانه يخرجه عن كونه قادرا جملة، لأنا نقدر عليه مع كوننا قادرين بقدر محدثه، فالقبيح إن كان وجها لجنس فتعذره يقتضي تعذر الجنس، وإن كان جنسا ضدا للحسن فتعذره يقتضي تعذر ضده، فيجب الحكم في من لا يقدر عليه بكونه غير قادر، وقد ثبت كونه قادرا، فيجب أن يكون قادرا عليه.

ولأنا نقدر على القبيح، وهو آكد حالا منا في كونه قادرا، لصحة تعلقه بما لا يقدر عليه من الأجناس والمقادير في كل حال وعلى كل وجه.

وقول النظام: إنه لو كان سبحانه قادرا على القبيح لصح منه وقوعه، فيقتضي ذلك خروجه تعالى عن كونه عالما أو غنيا، أو انتقاض دلالة القبيح على ذلك.

يسقط بوجوب كونه قادرا على كل ما يصح كونه كذلك والقبيح (1) من

____________

(1) في النسخة: " كذلك هو القبيح ".

الصفحة 101
جملته، وهذا كاف في سقوط الشبهة.

على أنا نستأنف كلاما في إسقاطها، فنقول: إنا قد علمنا أنه لا يصح وقوع مقدور العالم الذي لا يجوز عليه العبث إلا لداع، والداعي إلى فعل القبيح المعلوم هو الحاجة، وهي مستحيلة فيه تعالى، فلا يتوهم منه تعالى وقوعه على حال، لعدم ما لا يصح وقوع المقدور المعلوم إلا معه، كما (لا) يقع مع العجز عنه، وإن اختلف جهتا التعذر، ألا ترى أنا لا نتوهم وقوع فعل معين ممن أعلمنا الله سبحانه فيه أنه لا يختاره وإن كان قادرا عليه، ولا فرق بين أن نعلم بخبره تعالى عن حال الغير أنه لا داعي له إلى فعل ما وبين أن نعلم بالدليل أنه لا داعي له إلى القبيح في وجوب القطع على تعذر وقوعه منه.

وإذا صح هذا وعلمنا أنه سبحانه لا داعي له إلى القبيح لكونه عالما بقبحه، وبأنه غني عنه، وجب القطع على ارتفاع المقدور على كل حال.

وأيضا فلو فرضنا وقوعه منه مع تعذره لاقتضى ذلك نقض دلالته على الجهل أو الحاجة، من حيث قدرنا وقوعه من العالم الغني، كما لو قيل لنا: لو ظهر المعجز على يد كذاب ما كانت يكون حال المعجز فإنما كانت دلالته على الصدق منتقضة.

ولا يلزم على هذا أن يقال لنا: فقولوا الآن بانتقاض دلالتهما.

لأن المفروض محال، ورد الجواب يحسنه، والحال الآن بخلاف ذلك، فلا يجوز لنا الحكم بانتقاض دلالة القبيح ولا المعجز.

مسألة: (في كونه تعالى لا يفعل القبيح)

وهو تعالى لا يفعل القبيح، لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، وقلنا ذلك لأن

الصفحة 102
صفة القبح صارفة (1) عنه.

وكذلك من علم وصوله إلى نفعه بالصدق على الوجه الذي يصل إليها بالكذب لا يؤثره على الصدق، وإنما يصح إيثاره على الصدق متى جهل قبحه، فينتفي الصارف، أو دعت إليه الحاجة، فيقابل داعيها صارف القبح فيؤثره.

وأيضا فالقبح يستحق به الذم والاستخفاف وخفوض الرتبة، وذلك صارف قوي عنه، لا يجوز معه إيثاره إلا لجهل به، أو لحاجة زائدة عليه، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه، فلا يصح منه مواقعة القبيح.

وإذا كانت هذه القضية سارية في القبح، وجب القطع على انتفاء الداعي منه تعالى إلى شئ منه، وتعذر وقوع جميعه، ولا يلزم على ذلك وقوع كل حسن، لأن صارف القبح موجب لارتفاعه ممن علمه واستغنى عنه، وداعي الحسن غير موجب، لعلمنا بأن أحدنا قد يفعل الشئ لحسنه، ولا يفعل كل ما شاركه في صفة الحسن كصدقة درهم لحسنها، وترك أمثالها مع مساواتها لها في صفة الحسن، ولا يجوز أن يترك كذبا لقبحه ويفعل مثله.

وليس لأحد أن يقول: كما لا يفعل القبيح إلا لجهل به أو اعتقاد حاجة إليه، فكذلك الحسن قد لا يفعل إلا لاجتلاب نفع أو دفع ضر، فيجب أن لا يفعله سبحانه لاستحالة الضر والنفع عليه.

لأنا قد بينا تعذر وقوع القبيح إلا لجهل أو لحاجة، فيجب فيمن لا يصحان عليه أن لا يفعله على حال، والمعلوم ضرورة في الحسن خلاف ذلك، لوقوعه منه تعالى، مع استحالة النفع والضر عليه.

ولأنا نعلم إرشاد الملحد الضال عن الطريق إليها، وعن التردي في البئر، بحيث لا يراد أحد ولا يرجو معه نفعا ولا دفع ضرر، فلم يبق لفعله وجه إلا مجرد

____________

(1) في النسخة: " صاره ".

الصفحة 103
الحسن، ولأن من علم وصوله إلى نفع أو دفع ضرر بالصدق كالكذب لا يختار إلا الصدق، ولا وجه لذلك إلا مجرد الحسن.

مسألة: (في ما يصح تعلق إرادته وكراهته به وما لا يصح)

قد بينا كونه تعالى مريدا أو كارها، فينبغي أن نبين ما يصح تعلق إرادته به وكراهته وما لا يصح ذلك فيه.

وكون المريد مؤثرا مختص بحدوث الفعل، لكون هذه الحال وجها لوقوع الفعل على صفة دون صفة، ووجه الفعل كيفية لحدوثه، فيجب أن يكون ما أثره مصاحبا لحدوثه، فإذا اختص تأثيرها بالحدوث.

والمحدثات على ضربين:

أفعاله تعالى، وهو على ضربين:

مفعول لغرض يخصه، كالواجب في حكمته، والاحسان إلى خلقه، وكلاهما مراد، لأن العالم بالفعل المخلى (1) بينه وبين إرادته القاصد بفعله غرضا يخصه لا بد من كونه مريدا له، لولا ذلك لم يكن بأن يفعله لذلك الغرض دون غيره.

والثاني: مفعول لغرض يخص غيره كالإرادة، وما هذه حاله لا يجب كونه مرادا، لأن الداعي إلى المراد داع إلى إرادته، فهي كالجزء منه، فلا يفتقر إلى إرادة يخصها.

ولا يصح أن يكره شيئا من أفعاله، لأن كونه سبحانه كارها لشئ يقتضي قبحه، وهو لا يفعل القبيح، ولأن الواقع من مقدوراته تعالى قد بينا وجوب كونه تعالى مريدا (له)، فلا يجوز أن يكون كارها (له)، لأن ذلك يقتضي كونه مريدا

____________

(1) في النسخة: " المحلى ".

الصفحة 104
كارها لشئ واحد، وهو محال.

وأفعال عباده سبحانه على ضربين: واقع عن إلجاء، وإيثار.

وما وقع بإلجائه تعالى لا بد من كونه مريدا له، لأنه بإلجاء في حكم فعله، ولا بد من وقوع ما هذه حاله، لكونه جاريا مجرى فعله الذي لا بد من وقوعه متى أراده، فلا مجوز إلجاؤه إلى قبيح، لأن ذلك مقتض لكونه فاعلا له، وقد بينا فساد ذلك.

وما وقع بإلجاء غيره تعالى حكمه حكم ما اختاره العبد الملجأ من حسن وقبح، وسنبينه.

وعلى كلا الوجهين لا تجد من كون الملجأ مريدا لما ألجئ إليه، إذ معنى كونه ملجأ توفر دواعيه لخوف الضرر، أو لرجاء النفع، وخلوص الدواعي إلى الفعل يقتضي كون القادر مريدا.

والواقع عن إيثار على ضروب: واجب، وندب، وقبيح، ومباح.

فالواجب والندب مرادان له تعالى بغير شبهة، لأنه قد أمر بهما ورغب فيهما " والأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة، لعلمنا بوجود جنسه وصيغته وليس بأمر، ولتجدد إرادته تعالى لذلك حال الأمر به، وتعلقها بالمراد المكلف فعله على جهة الإيثار له المصحح لغرض المجري بالتكليف إليه، لافتقار ما يجب فعله أو تركه أو الترغيب فيه في كونه كذلك إلى تعلق إرادته سبحانه على وقوعه على هذا الوجه.

ولا يجوز أن يكره شيئا مما أراده من أفعال عباده الواجبة والمندوبة، لأن كراهيته تقتضي قبح المكروه، وقد علمنا حسن هذه الأفعال عبادة الواجبة (1) تعالى مريد لما على ما دللناه عليه، فلا يجوز أن يكون كارها لما، لأن ذلك يقتضي

____________

(1) كذا في النسخة.

الصفحة 105
كونه تعالى مريدا كارها للشئ الواحد مع استحالته.

وأما القبيح فهو سبحانه كاره له، لأنه قد نهى عنه، والنهي لا يكون نهيا إلا بالكراهة، لوجود الجنس والصيغة فيما ليس بنهي، ولأنه تعالى لا يجوز أن يريد القبيح لما بينته، ولا يجوز أن يكون غير مريد له ولا كاره، لأن ذلك يخرجه عن حد التكليف، فلم يبق إلا كونه كارها له، وإذا ثبت أنه تعالى كاره لقبائح العباد، لم يجز أن يريد شيئا منها، لأن ذلك يقتضي كونه مريدا كارها لها، مع فساد ذلك.

وأيضا فإن إرادة القبيح قبيحة، لأن كل من علمها إرادة قبيح علم قبحها، يوضح ذلك: توجه ذم العقلاء إلى مريد القبيح كفاعله، فلو أراد تعالى القبيح لم يرده إلا بإرادة يفعلها على ما بيناه من وقوف كونه مريدا على فعله الإرادة له، وهذا يقتضي كونه فاعلا للقبح، وقد بينا فساد ذلك.

وتعلق المجبرة في كونه تعالى غير مريد لها لم يقع من الطاعات، ومريدا لما يقع من القبائح، بأنه لو أراد ما لا يقع فوقع ما لا يريد وارتفع ما أراد للحقه نقص، كالملك المريد من عبيده نصرته متى لم يقع منهم، ما أراد كان مغلوبا.

ظاهر السقوط، لأن وقوع المكروه وارتفاع المراد إنما يدل على نقص المريد الكاره إذا كان في ذلك نفع له وفي خلافه ضرر عليه، وهو قادر على المنع مما كره والحمل على ما أراد، كإرادة الملك من أنصاره الذب عن دولته وكراهية القعود عن نصرته، فيه نفع له وفي خلافه ضرر عليه، فمتى لم يقع ما أراد ويرتفع ما كونه لحقه نقص، لتعلق الضرر به وعجزه عن دفعه عنه.

والتكليف بخلاف ذلك، لأنه لا يتعلق به تعالى منه نفع ولا ضرر بل هما مختصان بالمكلف، وإن كان فعل ما أراده وترك ما كرهه مختصا بنفع المأمور المنهي، وكان هذا النفع مختصا بوقوع ذلك وارتفاع هذا بإيثاره، وهو قادر على إلجائه إلى فعل المراد وترك المكروه، كإرادة سلطان الإسلام وأنصاره من أهل الذمة الإيمان، وكراهيتهم منهم الكفر، لما لهم في ذلك من النفع المختص بإيثارهم دون إلجائهم،

الصفحة 106
مع كونهم قادرين على إلجائهم إليه واصطلامهم دونه، لم يكن في ذلك نقص على المريد الكاره، ولم يصفه أحد بالغلبة.

وهذه صفة ما أراده تعالى وكرهه من عباده، لأن نفعه مختص بهم وهو موقوف على حصول ذلك عن إيثارهم دون قهرهم، مع كونه سبحانه قادرا عليه وإن لم يفعله، فلا يجوز وصفه تعالى - لوقوع القبائح التي كرهها، وارتفاع الطاعات التي أرادها منهم - بصفة نقص، تعالى عن ذلك، ولا وصفهم بأنهم غالبون له تعالى، كما لا يصف أحد أهل الذمة بكونهم غالبين لسلطان الإسلام وأنصاره، لإيجادهم خلاف ما أراد منهم.

وأما المباح من أفعالهم فلا يصح كونه مريدا له ولا كارها، لأن كونه مرادا يقتضي كونه طاعة، وكونه مكروها يقتضي كونه قبيحا، وذلك يخرجه عن صفة الإباحة.

مسألة: (في كونه تعالى متكلما)

وهو تعالى متكلم، وكلامه فعله.

وأولى ما حد به الكلام أن يقال: هو ما تالف من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة.

الدلالة على ذلك: أنه متى تكاملت هذه الصفات كان كلاما، وإن اختل شئ منها لم يكن كلاما.

وإذا ثبت أنه من جنس الصوت، وعلمنا ضرورة تجدده بعد عدم - لإدراكنا له بعد أن كنا غير مدركين له، وعدمه بعد وجوده، لانتفاء كونه مدركا في الثاني من حال إدراكه، إذ لو كان باقيا لاستقر إدراكنا له - فثبت أنه محدث.

والمتكلم من فعل الكلام، بدليل وقوعه بحسب أحواله.


الصفحة 107
وإذا ثبت حدوث الكلام وكونه من دخل المتكلم، وجب أن يكون تعالى قادرا عليه، لكونه قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، والكلام كذلك.

والطريق إلى العلم بكونه متكلما هو السمع، وقد علمنا ضرورة من دين النبي عليه السلام أن القرآن كلامه تعالى، وإذا ثبت كونه تعالى متكلما وجب أن يكون كلامه فعله، لثبوت الاشتراك فيما له كان المتكلم متكلما، ولأن كلامه تعالى من جنس الصوت، وهو محدث، فيجب كونه محدثا، ولأنه خطاب لمخاطبين، فلو كان قديما لكان ما فيه من الأخبار الماضية كذبا وباقي الأخبار والأوامر والنواهي عبثا، وهو يتعالى عن ذلك، ولأنه قد أخبر أنه محدث، فقال: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) (1)، و (من الرحمن محدث) (2).

وقول المخالف: إن القديم هو ما هذا الكلام حكاية عنه.

ظاهر الفساد، لأنا قد بينا أن الكلام من جنس الأصوات، وهي محدثة، فيجب الحكم بحدوث كل كلام، لكونه صوتا، وما ليس بصوت لا يكون كلاما.

ولأن ما هذا القرآن حكاية عنه لا يخلو أن يكون من جنس هذا الكلام أو مخالفا له، فإن يكن من جنسه فحكمه حكمه في الحدوث، وإن كان من غير جنسه لم يجز أن يكون هذا القرآن حكاية له، لأن الشئ لا يكون حكاية لما ليس مثلا له، ولمن جاز أن يكون هذا المتلو حكاية لما ليس من جنسه ليجوزن ذلك في أصوات الطير، بل في كل جنس من الأعراض، فيوصف بأنه قرآن، وهذا ضلال.

ولأن ذلك يقتضي أن لا يوصف هذا بأنه قرآن ولا كلام الله تعالى، لأنه ليس بكلام الله ولا هو القرآن، وإنما القرآن خلافه، وهذا كفر، وقد وصف الله

____________

(1) الأنبياء 21: 2.

(2) الشعراء 26: 5.

الصفحة 108
تعالى هذا المتلو بأنه قرآن وكلامه وأنه منزل من لدنه، وكل ذلك يقضي (1) بفساد ما قالوه.

والقرآن وإن كان محدثا، فوصفه بأنه مخلوق بدعة، وإن كان المعنى واحدا، لأمور:

منها: أنه لا يوجد هذا الاسم في كتاب ولا سنة، بل الوصف له مختص بالأحداث.

ومنها: أن وصف الكلام بأنه مخلوق يفيد: مكذوب، يقال: هذا كلام مخلوق ومختلق ومخترق ومفتعل بمعنى مكذوب، ومنه قوله: (وخرقوا له بنين وبنات) (2)، وقوله: (إن هذا إلا خلق الأولين كه (3)، وإذا كان إطلاق الخلق على الكلام يفيد الكذب وجب تنزيه كلامه تعالى عن هذا الوصف.

ومنها ما روي عن أئمتنا عليهم السلام من القول بتبديع من وصفه بالخلق.

مسألة: (في الجبر والاختيار)

والتأثيرات الواقعة من جهة العباد مباشرها ومتولدها هم المحدثون لها دونه.

وقالت المجبرة بأسرها: إن المتولد من فعل الله تعالى.

وقال جهم في المباشر ما قاله في المتولد.

____________

(1) في النسخة: " يقتضي ".

(2) الأنعام 6: 100.

(3) الشعراء 26: 137.

الصفحة 109
وقال النجار: هو فعل القديم والمحدث.

وقال الأشعري: هو من فعل الله تعالى خلق ومن العبد كسب.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: وجوب وقوعها بحسب أحوال من وقعت منه، ولو كانت فعلا لغيره من قديم أو محدث لاختلف الحال.

وليس لأحد أن يقول: إذا كان القديم تعالى قادرا على إيجادها مطابقة لأحوالكم، فما المانع من كونها فعلا له؟

لأن الوجوب يمنع من ذلك.

ولأن إثباته تعالى فرع لا ثبات محدث في الشاهد، فلا يصح ممن نفى محدثا في الشاهد أن يثبت غائبا.

ولأن إضافة (1) الفعل إلى فاعل لا تمكن إلا بوقوعه بحسب أحواله، فلا يجوز نفيه عمن يعلم تعلقه به على هذا الوجه، وإضافته إلى من لا تعلق بينه وبينه، وهو لو كان فعلا له لم يكن كذلك إلا لوقوعه منه على هذا الوجه.

وأيضا فمعلوم حسن الأمر والنهي وتوجه المدح والذم إلى من تعلق به التأثير الحسن والقبيح، ولا يجوز إسناد ذلك إلى الكسب لكونه غير معقول، بدليل تكرير المكالة (2) لمدعيه والمطالبة بإفهامه وارتفاع العلم بحقيقته.

ولأن ذلك ينتقض بالمتولد، كما نعلم حسن الأمر واللهي بالمباشر وتوجه المدح والذم عليه، يعلم مثل ذلك في المتولد، وهو كاف في صحة الاستدلال على كون العبد فاعلا، لأن إضافة المتولد إلى إحداثه يقتضي إضافة المباشر بغير شبهة.

وإذا ثبت كونه قادرا لحاجة الفعل في وقوعه إلى كون فاعله قادرا

____________

(1) في النسخة: " أضاف " (2) كذا في النسخة.