الصفحة 110
فهو (1) قادر بقدرة، لتجدد كونه كذلك بعد أن لم يكن، وخروجه عن ذلك وأحواله على ما كانت عليه، ولتزايد مقدورات بعضنا على بعض.

وهي من فعل الله تعالى، ليوفر دواعينا في أحوال الحاجة، وتعذرها لا لوجه.

ومن حكمها إيجاب حالة المختار وتصحيح الفعل من الحي بدليل تعذره مع انتفائها.

ومن صفتها أن لا يصح بها الفعل إلا مع استعمال محلها، بدليل تعذر الاختراع علينا، ووقوف تأثيرها على المشارة لمحلها أو لما ماسته.

وهي قدرة على الضدين، لصحة تصرف كل قادر في الجهات المتضادة، ولو كان ذلك عن قدرتين (3) لصح انتفاء إحداهما، فيوجد قادر لا يصح منه التصرف في الجهات، والمعلوم خلاف ذلك.

وتأثيرها مختص بالأحداث، بدليل ثبوت صفة القدم من دونها وتعذر إيجاد الموجود، ولأن المتجدد عند القصد إلى المقدور من صفاته هو الحدوث، وهي متقدمة للفعل، لاختصاص تأثيرها بالأحداث، فيجب أن تكون موجودة في حال عدمه، ولأن الحاجة إليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود، فإذا وجد استحال تعلقه بها، ولا فرق في استغنائه عنها بوجوده بين أول حال وثانيها، ولأنا قد دللنا على تعلقها بالضدين، فلو كانت مصاحبة لهما مع كونها موجبة عندهم لاقتضى ذلك اجتماع الضدين وهو محال.

ولا يجوز حدوث الفعل على وجهين، لأن ذلك لو جاز بقادر أو قادرين لصح تفريقهما، لأن القادر على جمع (3) الصفتين قادر على تفريقهما، وذلك

____________

(1) في النسخة: " وهو ".

(2) في النسخة: " قدرين ".

(3) في النسخة: " جميع ".

الصفحة 111
يقتضي فعل أحدهما في حال الحدوث والآخر في حال البقاء، وفيه إيجاد الموجود مع استحالته.

وأيضا وصفه الحدوث لا يتزايده إذ لو كان الفعل صفة زائدة على مجرد حدوثه لوجب أن يكون لها حكم زائد على الأولى، ونحن نعلم أنه لا حكم للمحدث ولا صفة يزيد على كونه محدثا، لأن الأحكام كلها المشار إليها مع صفة زائدة حاصلة مع الأولى، فلا يجوز إثبات مما لا فرق بين إثباته ونفيه.

ولا يجوز حدوث مقدور واحد بقادرين ولا قدرتين (1)، لأنه لو كان لا يمتنع أن يتوفر دواعي أحدهما إليه وصوارف الآخر عنه، فإن وقع اقتضى إضافته إلى من يجب نفيه عنه، وإن ارتفع اقتضى نفيه عمن وجب إضافته إليه، وكونه بقدرتين يصح انتفاء إحداهما، فإن وقع فبقدرة معدومة وإن ارتفع خرجت الأخرى من كونها قدرة عليه، وكلاهما محال، وإذا استحال مقدور واحد بقادرين أو قدرتين وتجدده على وجهين فسد مذهب النجار والأشعري، لكونهما مبنيين على ذلك.

مسألة: (في عدم تعلق القدرة بالإعدام)

والإعدام لا تتعلق بقدرة ولا قادر، لأن العدم ليس بذات ولا صفة ولا حكم، ولا يعقل منه غير خروج الذات عن الوجود، فلا يصح تعلقه بقادر ولا قدرة، لأنه لا بد لتعلق (2) القدرة من متعلق، وإذا لم يكن العدم ذاتا ولا صفة ولا حكما استحال تعلقه بقادر

____________

(1) في النسخة: " ولا قدرين ".

(2) في النسخة: " لمتعلق ".

الصفحة 112
وأيضا فلو تعلق الأعدام بالقادر يجري مجرى الأحداث في وقوف حصوله على قادر، واستحالة ثبوت من دونه، فيودي إلى صحة بقاء ما لا يبقى من الأعراض، بأن لا يقصد القادر إلى أعدامها، وذلك محال.

مسألة: (في قبح تكليف ما لا يطاق)

ويقبح تكليف ما لا يطاق، وحقيقته: ما يتعذر وقوعه من المكلف لفقد قدرة عليه، أو حصول عجز لو كان معنى، أو فقد آله أو بنية أو علم فيما يحتاج إليها، أو حصول منع، أو تعليق بزمان لا تصح في مثله.

الدليل على ذلك: ذم كافة العقلاء من كلف غيره ما يتعذر وقوعه من جهته لأحد الأسباب التي ذكرناها، ووصفه بأنه تكليف لما لا يطاق.

مسألة: (في التكليف)

التكليف حسن لكونه تعريضا لما لا يصل إليه إلا به، ويشتمل على خمس مسائل:

أولها: ما التكليف؟

وثانيها: (ما يجب كون المكلف عليه من الصفات.

وثالثها:) (1) ما يجب كون المكلف تعالى عليه من الصفات.

(ورابعها) (2): بيان الغرض في التكليف.

____________

(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في النسخة، وأثبتناه لاقتضاء السياق له.

(2) في النسخة:، " وثالثها ".

الصفحة 113
وخامسها: بيان المكلف وصفاته التي يحسن معها التكليف.

فأما حقيقة التكليف، فهي: إرادة الأعلى من الأدنى ما فيه مشقة على جهة الابتداء، الدليل على صحة ذلك: أنه متى تكاملت هذه الشروط وصف المريد بأنه مكلف، والإرادة بأنها تكليف، والمراد منه بأنه مكلف، ومتى اختل شرط لم يثبت شئ من هذا الوصف.

وأما ما يجب كون المكلف عليه من الصفات فيجب أن يكون المكلف بالحسن (1) منعما بنعم يوجب طاعته على المكلف، معلوما أو مظنونا من حاله أنه لا يريد (2) قبيحا.

وأما ما يجب كونه تعالى عليه من الصفات في حق (3) كونه مكلفا ما يشق فعلا وتركا تعريضا للثواب، ويلزم المكلف عبادته كذلك، فينقسم إلى صفات هو سبحانه تعالى عليها، وصفات يتعلق بأفعاله.

فأما ما يخصته تعالى، فكونه تعالى قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، عالما بكل معلوم، لا يجوز خروجه عن الصفتين، ليقطع المكتف على وصوله إلى ما لا يحسن التكليف من دونه.

ومريدا، لا (ن) اختصاص (4) التكليف بوجه يفتقر إلى كون المكلف سبحانه مريدا له دون غيره.

وعلى الصفات التي لا تتم هذه الصفات من دونها، أو هي مقتضاة عنها، كموجود وحي وقديم.

____________

(1) في النسخة: " ما يحسن ".

(2) في النسخة؟ " لا مريد ".

(3) كذا في النسخة.

(4) في النسخة: " ومريدا لاختصاص ".

الصفحة 114
وينفي عنه تعالى ما يقدح في ثبوتها: من التشبيه، والادراك بالحواس، والحاجة، والثاني.

وأما ما يتعلق بأفعاله، فأن يكون حكيما لا يفعل قبيحا، ولا يريده، ولا يخل بواجب، من حيث كان تجويز خلاف ذلك يرفع الثقة بما لا يحسن ح ؤ التكليف إلا معه، ويعلم ما يقتضي ذلك من المسائل وفساد ما يقدح فيه.

وأن تكون له نعم يستحق بها العبادة، بأن تكون مستقلة (1) بأنفسها لا تفتقر إلى غيره.

وأن تكون أصولا للنعم، فلا تقدر نعمة منفصلة عنها، ولا يحصل من دونها.

وأن يبلغ في الغاية في العظم إلى حد لا يساويها نعمة.

وإنما قلنا ذلك، لأن العبادة المستحقة له تعالى غاية في الشكر، فلا بد من اختصاصها بغاية من العظم، وافتقار كل نعمة إليها من حيث اختص شكرها بالغاية التي لا يبلغها شكر، وهو كونه عبادة.

وقد علمنا ما هو عليه تعالى من الصفات، وكونه حكيما بما تقدم، وعلمنا ثبوت الشروط التي اعتبرناها في نعمه: من الايجاد والحياة والإقدار وفعل الشهوة والمشتهى، وكون ذلك أصلا لكل نعمة، وافتقار كل نعمة إليها، وتعذر انفصالها منها، وبلوغها الغاية في العظم، وانغمار جميع نعم المحدثين في جنب بعضها.

فيجب كونه تعالى مستحقا للعبادة دون كل منعم.

(في الغرض من التكليف)

ويجب أن يكون له تعالى غرض في التكليف يحسن لمثله، لأن خلوه من غرض أو ثبوت غرض لا يحسن لمثله لا يجوز عليه سبحانه.

____________

(1) في النسخة: " مستقبلة ".

الصفحة 115
ويجب كونه تعالى مزيحا لعلة المكلف بالتمكين والاستصلاح والبيان، لأن تكليفه من دون ذلك قبيح على ما بينته.

وأما الوجه في ابتداء الخلق وتكليف العقلاء منهم، فالخلق جنسان:

حيوان، وجماد.

فالغرض في إيجاد الحي منه لينفع المكلف بالتفضل والثواب، ويجوز العوض، ويجوز أن يكون في خلقه لطف غيره.

وغير المكلف فالتفضل والعوض، ويجوز أن يكون في خلقه (1) لطف للمكلف.

وغير الحي الغرض في خلقه نفع الحي.

وقلنا: إن الغرض في تكليف العاقل التعريض للثواب.

لأنه سبحانه لما خلقه وأكمل عقله وجعله ذا طباع يقبل (2) إلى القبيح وينفر عن الواجب، ولم يغنه بالحسن عن القبح، ولم يجز أن يكون ذلك لغير غرض لكونه عبثا، ولا لغرض هو الانتفاع به أو دفع الضرر لاستحالتهما عليه تعالى، ولا للإضرار به لكونه ظلما، ولا لدفع الضرر عنه لكونه قادرا على ذلك من دون التكليف فيصير عبثا.

علمنا أن الغرض هو التعريض للنفع.

وقلنا: إن التعريض للنفع حسن.

لعلمنا - وكل عاقل - بحسن تكلف (3) المشاق في أنفسنا، وتعريض غيرنا لها تعريضا للنفع، واستحقاق المدح من عرض غيره لنفع، كاستحقاقه على إيصاله إليه.

____________

(1) أي: في خلق غير المكلف.

(2) في النسخة: " قبل ".

(3) في النسخة: " يحسن تكليف ".

الصفحة 116
وقلنا: إن هذا النفع ثواب.

لأن ما عداه من ضروب المنافع يحسن منه تعالى الابتداء بها، فلا يجوز أن يكلف المشاق لما يحسن الابتداء به، لأن ذلك عبث لا يجوز عليه سبحانه.

وقلنا: إن الثواب مما يقبح الابتداء به.

لكونه نفعا واقعا على جهة الاعظام مقترنا بالمدح والتبجيل، ومعلوم ضرورة قبح الابتداء بالمدح والتعظيم، وإنما يحسن مستحقا على الأمور الشاقة الواقعة عن إيثار، ولذلك اختصت منافع من ليس بعاقل من الأحياء بالتفضل والعوض دونه، لتعذر استحقاقهم له.

ووجود الجماد لنفع الحي ظاهر في أكثره، وما لا يعلم ذلك من حاله تفصيلا فمعلوم على الجملة، من حيث كان خلاف ذلك يقتضي كون موجده سبحانه عابثا، وذلك فاسد.

ولا يقدح في حسن تكليف العاقل للوجه الذي بيناه تكليف من علم من حاله أنه يكفر أو يعصي، لأن الوجه الذي حسن تكليف من علم من حاله أنه يؤمن قائم فيه، وهو التعريض للثواب، وكونه سبحانه عالما من حاله أنه لا ينتفع بما عرض له لا ينقض الغرض المجري بالتكليف إليه، لأن المعرض للنفع الممكن من الوصول إليه محسن إلى المعرض وإن علم أو ظن أنه لا ينتفع، بل يستضر بسوء اختياره.

يوضح ذلك: حسن عرض الطعام على الجائع، وإدلاء الحبل إلى الغريق لينجو وإن ظن أنهما لا يفعلان.

والقديم سبحانه وإن علم في من عرضه بتكليفه لنفع عظيم أنه لا يقبل ما يصل به إليه، بل بسوء (1) النظر لنفسه، فيختار هلاكه على بصيرة من أمره

____________

(1) في النسخة: " بشر النظر ".

الصفحة 117
وتمكن من صلاحه، لا يخرجه سبحانه عن كونه محسنا إليه بالتعريض للنفع العظيم، ولا يقتضي قبح فعل المكلف وسوء نظره لنفسه قبح فعله تعالى من التعريض.

فما (1) اختاره العبد المسئ وعلمه سبحانه بأنه لا يؤمن ليس بوجه قبح، كما أن علمنا بأن جميع الكفار لو جمعوا لنا ودعوناهم لم يؤمنوا ليس بمقتض لقبح دعوتنا لمم إلى الإيمان.

وآكد ما اعتمد عليه في هذا الباب: أنه سبحانه قد كلف من علم أنه يكفر أو يعصي مع علمنا بحكمته سبحانه، وأنه لا يفعل قبيحا ولا يريده، وقد كلف من علم أنه يكفر أو يعصي، فيجب القطع على حسنه، لكونه من فعله، وهذا يغني عن تكلف كلام لإفساد كون هذا التكليف لشئ من وجوه القبح، كالظلم والاستفساد وغيرهما.

وإذا كان الوجه في حسن التكليف كونه تعريضا، فينبغي أن نبين ما التعريض المقتضي لحسن التكليف، وهو مفتقر إلى شروط ثلاثة:

أولها: أن يكون المعرض متمكنا مما عرض له.

وثانيها: أن يكون المعرض مريدا لما عرض بفعله للثواب.

وثالثها: أن يكون المعرض عالما أو ظانا وصول المعرض إلى ما عرض له متى فعل ما هو وصله إليه.

والدلالة على الشرط الأول: قبح تعريض الأعمى لما لا يتم إلا بالرؤية، والزمن لما لا يصل إليه إلا بالسعي، بأوائل العقول.

والدلالة على الشرط الثاني: أن من مكن غيره بإعطائه المال من المنافع والمضار لا يكون معرضا له لأحدهما إلا بالإرادة.

____________

(1) في النسخة: " مما ".

الصفحة 118
وكون المكلف مريدا لما عرض لفعله النفع (1) كاف عن كونه مريدا للنفع في حال التعريض، لأن من عرض ولده للتعليم ليستحق المدح والتعظيم يكفي في حسن تعريضه كونه مريدا التعليم ما أجري به إليه من المدح والتعظيم، بل لا يحسن إرادتهما في حال التعريض، لكونهما غير مستحقين في تلك الحال، ولهذا قلنا: إنه سبحانه مريد للتكليف في حال الامر به أو إيجابه عقلا، دون ما هو وصله إليه من الثواب، لقبح إرادة ثواب التكليف في تلك الحال، ولأن الثواب متأخر عن التكليف، وكونه تعالى مريدا للشئ قبل حدوثه لا يصح، لكون الإرادة الواقعة على هذا الوجه عزما يستحيل عليه تعالى.

وليس لأحد أن يقول: إن إعلام المكلف وجوب الواجب وقبح القبيح يغني عن (2) كونه مريدا.

لأن ذلك يقتضي كونه معرضا لما أعلم وجوبه وإن كره فعله، وذلك فاسد، ولأن أحدنا قد يعلم غيره وجوب واجبات وقبح أشياء ولا يكون معرضا لأحدهما إلا بكونه مريدا.

والدلالة على الشرط الثالث: أن التعريض بسلوك طريق إلى مصر لا يوصل إليه منه على حال ليصل إليه قبيح.

وهذه الشروط أجمع ثابتة في تكليفه تعالى، لأنه مريد لما كلفه حسب ما دللناه عليه، والمكلف قادر على ما كلفه، معلوم من حاله وصوله (3) إلى ما عرض له من الثواب بامتثاله ما كلفه حسب ما دللنا عليه، وذلك يقتضي حسن التكليف،

____________

(1) في النسخة: " للنفع ".

(2) في النسخة: " أن ".

(3) في النسخة: " ووصوله ".

الصفحة 119
وإذا ثبت حسن التكليف وجب، لأنه لا واسطة بين وجوبه وقبحه، من حيث كان القديم سبحانه قادرا على أن يغني العاقل بالحسن عن القبيح، فإذا لم يفعل وأحوجه إليه بالشهوات المخلوقة فيه وخلى بينه وبينه، فلا بد أن يكلفه، لأنه إن لم يكلفه الامتناع منه وإن شق تعريضا لعظيم النفع بالثواب كان مغريا له بالقبح، وذلك لا يجوز (عليه) تعالى.

وأما بيان الأفعال التي تعلق بها التكليف وصفاتها، فمن حق ما تعلق التكليف بفعله أو تركه عقلا وسمعا صحة إيجاده، لأن تكليف ما لا يصح إيجاده قبيح، كالجواهر والحياة، ولا يحسن تعلقه بما لا يستحق بفعله أو بأن لا يفعل الثواب، لأن الغرض الذي له حسن كونه تعريضا للثواب، فلا يحسن تكليف ما لا يوصل بفعله أو تركه إليه.

وهو ينقسم إلى ما يستحق بفعله الثواب، وإلى (1) ما يستحق بأن لا يفعل العقاب وهو الواجب، وإلى ما لا حكم لتركه وهو الندب والاحسان، وإلى ما يستحق بأن لا يفعل الثواب وهو القبيح، ولا مدخل للمباح في التكليف، حيث كان لاحظ لفعله ولا تركه في استحقاق الثواب، وما لا يوصل إلى الثواب لا يحسن تكليفه.

ولا بد لما كلف إليه تعالى فعله أو تركه من وجه اقتض ذلك فيه، لأنه لولا وجه اقتضاه لم يكن ما وجب أولى بذلك من الندب أو القبيح من الوجوب والندب.

والتكليف على ضربين: ضروري، ومكتسب.

والضروري على ضربين: واجب، وندب.

والواجبات على ضربين: أفعال، وتروك.

____________

(1) في النسخة: " ونقسم إلى ".

الصفحة 120
والأفعال: العدل، والصدق، وشكر النعمة، وأمثال ذلك.

والتروك: الظلم، والكذب، والخطر (1)، وتكليف ما لا يطاق، وأمثال ذلك.

وجهة وجوب الأفعال وقبح التروك كونها عدلا وصدقا وظلما وكذبا، لأن كل من علمها كذلك علم وجوب ذلك وقبح هذه.

والمندوبات على ضربين: أفعال، وتروك.

والأفعال: الإحسان، والحلم، والجود، وقبول الاعتذار والعفو وأشباه ذلك.

والتروك: خلاف ذلك.

وجهة كون هذه مندوبا إليها كونها كذلك، لأن كل من علمها علمها مندوبا إليها.

والمكتسب على ضربين: عقلي وسمعي.

والعقلي: العلم بحدوث العالم وإثبات محدثه، وما يجب كونه تعالى عليه من الصفات وإحكام أفعاله وما يتعلق بها، والحكم لجميعها بالحسن، ولا تعلق لشئ منه بأفعال الجوارح ولا ترك فيه، وجهة وجوب هذا التكليف كونه شرطا في العلم بالثواب والعقاب الذي هو اللطف في التكليف الضروري، ولكونه شرطا في شكر النعمة، وقد سلف برهان ذلك.

والسمعي على ضربين: أفعال، وتروك.

والأفعال: مفروض، ومسنون.

وجهة وجوب الفرائض: كونها لطفا في فعل الواجب العقلي وترك القبيح، وقبح تركها لأنه ترك لواجب.

وجهة الترغيب في المسنون: كونه لطفا في المندوب العقلي، ولم يقبح تركه

____________

(1) في النسخة: " والخطير ".

الصفحة 121
كما لم يقبح ترك ما هو لطف فيه.

والتروك: الزنا، والربا، وشرب الخمر، وسائر القبائح الشرعية، وجهة قبحها: كون فعلها مفسدة في القبح العقلي، ووجب تركها لأنه ترك لقبح.

والواجب في هذا التكليف العلم دون الظن، وطريقه الكتاب والإجماع والسنة المأثورة عن الصادقين عليهم السلام، والعمل به لوجوهه المخصوصة، وقد دللنا على صحة هذه الفتيا وفصلنا ما أجملناه هاهنا في مقدمتي كتابي العمدة والتلخيص في الفروع.

ومن شرط الحسن في تكليف هذه الأفعال والتروك تقوية دواعي مكلفها إلى ما يختار عنده أفعالها، وصوارفه عن تروكها، أو يكون إلى ذلك أقرب، دون ما يقتضي الإلجاء المنافي للتكليف، لأن ذلك جار مجرى التمكين.

فمتى علم سبحانه في شئ كونه لطفا في التكليف على أحد الوجهين وكان مختصا بمقدوره سبحانه فلا بد أن يفعله، وإن كان من مقدورات المكلف فلا بد من بيانه له وإيجابه عليه، وإن كان اللطف لا يتم إلا بفعله تعالى وفعل المكلف وجب عليه سبحانه فعل ما يختص به وبيان ما يختص المكلف وإيجابه، وإن كان من فعل غير المكلف فعلم سبحانه أن ذلك الغير يفعل هذا اللطف حسن تكليف هذا، وإن علم أنه لا يختاره وفي أفعاله تعالى أو أفعال المكلف بدل منه فعل ما يختصه وبين ما يختص المكلف، وإن لا يكن له بدل أسقط تكليف ما ذلك اللطف لطف فيه، لأن تكليفه (1) والحال هذه قبيح على ما بينته، وتكليف غيره ما لا مصلحة له فيه قبيح أيضا، وإن كان لطفه يتعلق بفعل قبيح أو بما لا يصح إيجاده فلا بد من إسقاط تكليفه، لتعلقه بما لا يصح إيجاده أو يقبح (2) فعله.

____________

(1) في النسخة: " تكليف ".

(2) في النسخة: " أو بقبح ".

الصفحة 122
وقلنا بوجوب ما ذكرناه.

لأنه لا فرق في قبح المنع بينه وبين قبح المنع من التمكين.

يوضح ذلك: أن من صنع طعاما لقوم يريد حضورهم نفعا لهم وعادته جارية في استدعائهم برسول، فلم يفعل الارسال مع كونه مريدا لحضورهم يستحق الذم، كما لو أغلق الباب دونهم، ولا شبهة في وجوب ما يستحق الذم بتركه.

وإذا صح هذا وكان القديم سبحانه مريدا لتكليفه، فلا بد أن يفعل له ما يعلم أنه يختار التكليف عنده أو يكون أقرب إليه، أو يبتنه (1) له إن كان من فعله، وسقط تكليفه إن كان معلقا بما لا يصح إيجاده أو يقبح أو مختصا بفعل غيره مع العلم بأنه لا يفعله ولا بدل (2) له، لكونه تعالى عادلا لا يخل بواجب في حكمته سبحانه.

وما هو من فعله تعالى لا بد أن يكون معلوما للملطوف له به أو مظنونا أو معتقدا لكونه داعيا، وما لا يعلم ولا يظن ولا يعتقد لا يكون داعيا، وسواء كان ما هو من فعله تعالى لطفا في واجب أو مندوب إليه أو ترك قبيح، فإنه يجب في حكمته سبحانه فعله، لكونه مريدا للجميع، وبيان ما هو لطف من فعل المكلف في التكاليف الثلاثة.

فأما ما يختص المكلف، فالواجب عليه فعل ما هو لطف في واجب وترك قبيح، وترك ما هو مفسدة فيهما، وهو في لطف المندوب بالخيار ولا فرق في إعلامه ما هو لطف له في تكليفه وإزاحة علته بين أن ينص له على كونه كذلك وبين أن يوجب عليه فعلا بدليل عقلي أو سمعي، فيعلم بذلك كونه لطفا في واجب، أو

____________

(1) في النسخة: " يثبته ".

(2) في النسخة: " ولا بد ".

الصفحة 123
يوجب عليه تركه فيعلم بذلك كون فعله مفسدة، أو يرغبه في فعل أو ترك فيعلم كونه لطفا في مندوب، بحسن تكليفه ما هذا اللطف لطف فيه وإن جهله كذلك إذا كان متمكنا من العلم به، لكون علته مزاحمة بالتمكين وإن فرط فيما يجب عليه.

ومن شرط اللطف أن يتأخر عن التكليف ولو بزمان واحد لكونه داعيا، ولا يتقدر الدواعي إلى غير ثابت، فإن علم سبحانه في فعل من الأفعال أنه إن صاحب التكليف دعا إلى اختياره فليس ذلك بلطف، لكونه وجها وسببا لحصول التكليف (1).

فوصف هذا الجنس من الأفعال بأنه لطف اشتقاقا من التلطف للغير في إيصال المنافع إليه، ويسمى صلاحا لتأثيره وقوع الصلاح أو تقريب المكلف إليه، ويسمى استصلاحا على هذا الوجه، ويسمى منه توفيقا ما وافق وقوع الملطوف به فيه عنده.

ويسمى منه عصمة ما اختار عنده المكلف ترك القبيح على كل حال تشبيها بالمنع من الفعل، وإن كان الفعل القبيح إنما ارتفع مع اللطف باختيار المكلف ومع المنع لأجله، فساوى الحال في ارتفاع القبيح على كل وجه وإن اختلف جهتا الارتفاع، فلذلك سمي الملطوف له بهذا الضرب من اللطف معصوما، ويجوز أن يكون الوجه في التسمية بمعصوم من حيث كان مفعولا له ما امتنع معه من القبيح تشبيها بالممنوع على الوجه الذي بيناه.

ولا يلزم على هذا عصمة سائر المكلفين، لأن ما له هذه الصفة من الألطاف موقوف على ما يعلمه سبحانه من كونه مؤثرا في اختيار المكلف ما كلف فعله أو تركه، وما هذه حاله يجوز أن يختص ببعض المكلفين، ولا يكون في المعلوم

____________

(1) في النسخة: " لكونه وجها وسببا لحصول التكليف وسببا لحصول التكليف ".

الصفحة 124
شئ يعلم من حال الباقين كونهم مختارين لما كلفوه عنده، فيختص فعله إذ ذاك بمن علم من حاله كونه غير مختار عنده لشئ من القبائح، دون من علم أنه لا يترك القبح عند شئ من الأفعال، كما خبر عنهم سبحانه بقوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) (1)، يريد: أن يشاء إلجائهم، وكقوله سبحانه: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) (2)، وأمثال ذلك من الآيات الدالة على وجود مكلفين لا يختارون شيئا من الطاعات، ولا يتركون شيئا من القبائح، وإن فعل لمم كل آية.

يحسن تكليف من يعلم أنه لا لطف له وأنه يطيع أو يعصي على كل حال، لأنه متمكن بجميع ضروب التمكين مما كلف ولم يمنع واجبا، وليست هذه حال من لطفه في القبيح أو فيما لا نهاية له، لأن هذا اللطف لم يفعل له، فقبح تكليفه.

وأما الصلاح الدنيوي العري من وجوه القبح فغير واجب، لأنه لا تعلق له بالتكليف ولا له في نفسه صفة وجوب كالصدق والإنصاف، لأن وجوب ما هذه حاله معلوم ضرورة على جهة الجملة ومكتسبا على جهة التفصيل، ولأنه لو كان له وجه يقتضي وجوبه لكان ذلك لكونه نفعا، وذلك يوجب كل نفع لا ضرر فيه على الفاعل والمفعول له، والمعلوم ضرورة خلاف ذلك، لوجودنا (3) سائر الأغنياء من العقلاء يمنعون غيرهم ماله هذه الصفة ولا يستحقون (به) الذم (4) من أحد.

وتعلق القائلين بالأصلح في إثبات وجه لوجوبه: بذم مانع الاستظلال

____________

(1) الأنعام 6: 111.

(2) البقرة 2: 145.

(3) في النسخة: " لوجوب " وفوق الباء ورد: " دنا ".

(4) في النسخة: " ولا يستحقون بالذم ".

الصفحة 125
بظل حائطه، والتقاط المتناثر من حب زرعه، وتناول الماء من نهره.

ليس بصحيح، لأنه لو كان الوجه فيه كونه نفعا خالصا لوجب كل نفع خالص، لأن صفة الوجوب لا تختص بمثل دون مثل، وقد علمنا ضرورة خلاف ذلك، وإنما قبح المنع بحيث ذكروه لكونه عبثا لا غرض فيه، ولهذا متى حصل فيه أدنى غرض حسن، ولو كان الوجه في قبح منعه كونه نفعا خالصا لم يحسن، لوجود غرض فيه كالظلم، على أن مثالهم بخلاف الأصلح، لقولهم بوجوب فعل ما فيه نفع خالص، وقد علمنا أنه لا يجب بناء الحائط للاستظلال به، ولا حفر النهر لتناول الماء منه، ولا نثر الحب للالتقاط، وإذا لم يجب فلا شاهد لهم.

ولا لهم أن يتعلقوا في إيجابه: بأن فاعله جواد ومانعه بخيل (1)، وصفة الجود مدح وهو جدير بها سبحانه، وصفة البخل ذم لا يجوز عليه تعالى.

لأن ذلك تعلق بعبارة يجوز غلط مطلقها وصوابه، ولا يجوز إثبات وجه الوجوب والقبح للموصوف ضرورة أو استدلالا؟ ولا يجوز عند أحد من العلماء إثبات صفات الذوات بها، على أن المعلوم اختصاص إطلاق الجود والبخل بغير من ذكروه، لأنه لا أحد يصف من لم يمنع من الاستظلال والالتقاط الذي هو شاهد طم بأنه جواد، وإنما يصفون بذلك من أكثر الإحسان كحاتم وإن كان عليه فيه ضرر، بل لا يصفون بالجود من له إحسان ما، ولو كان الجود اسما لمن ذكروه لوجب اختصاصه به، أو إطلاقه، والمعلوم خلاف ذلك.

وأما بخيل فليس بوصف لمن ليس بجواد، يعلمنا بوجود أكثر العقلاء غير موصوفين بالجود ولا البخل، ولو كان اسما لمن منع نفعا خالصا لوجب وصف كافة العقلاء به، حتى الأنبياء والأوصياء والفضلاء، لأنه لا أحد منهم إلا وهو مانع ماله هذه الصفة، وإنما هو مختص بمانع الواجب عليه لغيره، لكونه اسما للذم

____________

(1) في النسخة: " محيل ".

الصفحة 126
حسب ما نطق به القرآن، وإطلاق العرب له (1) (على) مانع القرى (2) لاعتقادهم وجوبه عليهم، ولهذا لا يصفون به من أخل بواجب يختصه، ولا مانع التفضل على كل حال، ويجوز أن يكون ذلك مجازا، والمجاز لا يقاس عليه ولا يجعله أصلا يرجع إليه.

فسقط ما تعلقوا به معنى وعبارة، والمنة لله.

وأيضا فإن المفعول منه في الوقت الواحد لا بد من انحصاره، لوجوب انحصار ما يخرج إلى الوجود، وما زاد عليه مما حكمه حكمه في النفع لا يخلو أن يكون مقدورا له تعالى أو غير مقدور ولا يصح كونه غير مقدور، لكونه تعالى قادرا لنفسه، ولكونه مقدورا لا يخلو أن يكون واجبا أو غير واجب، وكونه واجبا يقتضي كونه تعالى غير منفك في حال من الاخلال بالواجب، فلم يبق إلا أنه غير واجب.

وليس لأحد أن يقول: فأنتم تجيزون فعل الأصلح، فيلزمكم في الجواز ما ألزمتموه في الوجوب.

لأن الاخلال بالواجب لا يجوز عليه تعالى، والاخلال بالجائز جائز منه، فافترقا بغير شبهة.

وليس له أيضا أن يقول: القدر الزائد إن كان صلاحا فلا بد أن يفعله، وإن لم يكن كذلك فلا مسألة علينا.

لأنا فرضنا مساواة القدر الزائد المعدوم لما وجد منه في الصلاح، فاقتضى سقوط وجوب الأصلح، أو كونه تعالى غير منفك من الاخلال بالواجب، فسؤالهم إذن خارج عن تقديرنا.

ولنا في هذا الدليل نظر لا يحتمله كتابنا هذا.

____________

(1) لفظ: " له " ورد في نسخة بدل.

(2) في النسخة: " تعرى ".