الصفحة 163
على المحدثين.

ولا يقدح في نقل هذه الآيات اختصاصه بالدائنين به، لأن المعتبر في صدق الناقل وصحة المنقول ثبوت الصفة التي معها يتعذر الكذب وإن كان الناقل فاسقا، وقد دللنا على ثبوتها لناقلي المعجزات، فيجب القطع على صدقهم وسقوط السؤال.

على أن النقل مفتقر إلى داع خالص من الصوارف، ولا داعي لمخالف الإسلام الراكن إلى التقليد العاشق لمذهب سلفه لنقل (1) ما هو حجة عليه مفسد لنحلته، بل الصوارف عنه خالصة من الدواعي، فلذلك لم ينقل مشاهدو المعجزات من مخالفي الله لما شاهدوه ونشأ خلفهم عن سلف لم ينقلوها إليهم، فانقطع نقلها منهم، ولا يقيم هذا عذرهم لثبوت الحجة بنقلها ممن بيناه، مع كونهم مخوفين من العذاب الدائم بجحدها.

ويقلب هذا السؤال على مثبتي النبوات من مخالفي الإسلام، بأن يقال:

لو كانت المعجزات اللاتي يدعون ظهورها على إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ثابتة لنقلها كل مخالف، فمهما انفصلوا به كان انفصالا منهم.

وإذا ثبتت بنبوة نبينا عليه السلام وجب اتباعه والعمل بما جاء به على الوجه الذي شرعه، والحكم بفساد كل ما خالفه من النحل، وضلال مخالفه والقطع على كفره، لكون ذلك معلوما من دينه عليه السلام.

(في النسخ)

ولا يقدح في ثبوت النبوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله بعض اليهود: من أن النسخ يؤدي إلى البداء.

____________

(1) في النسخة: " العاشق لمذهب إلى سلف النقل ".

الصفحة 164
لأن الفعل لا يكون بداء إلا أن يكون المأمور به هو المنهي عنه بعينه، وأن يكون المكلف واحدا، والوقت واحدا، والوجه واحدا، لأنه لا وجه للنهي عن المأمور به مع تكامل الشرائط المذكورة إلا أن الآمر ظهر له ما كان مستترا، وهذا مستحيل فيه تعالى، لكونه عالما لنفسه، ومتى اختل شرط واحد لم يكن بداء بغير شبهة، بل تكليف حسن.

وما أتى به نبينا عليه السلام ليس ببداء، لأن المنهي عنه به عليه السلام غير المأمور به موسى، والمكلف غير المكلف، والوقت غير الوقت، والوجه والصفة غير الوجه والصفة، وإنما هو تكليف اقتضت المصلحة بيانه.

وقد بينا أن الوجه في البعثة بيان المصالح من المفاسد، وما هو كذلك موقوف على ما يعلمه سبحانه، فمتى علم اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من اختصاص المصلحة بفعل أو ترك مدة، وكون ذلك بعد انقضائها مفسدة أو لا مصلحة فيه، فلا بد من إسقاطه، وإلا كان نبوته مفسدة أو ظلما لا يجوزان عليه سبحانه.

ولذلك متى علم سبحانه في عمل معين كونه مصلحة لمكلف ومفسدة لآخر وجب أمر أحدها به ونهي الآخر عنه، وإن علم في فعل معين كونه مصلحة لمكلف وفي فعل آخر مفسدة له فلا بد من أمره بأحدهما ونهيه عن الآخر، وإن علم أن الفعل في وقت مصلحة وفي آخر مفسدة فلا بد من أمره به في وقت المصلحة ونهيه عن مثله في وقت المفسدة، وإن علم أن إيقاع الفعل على وجه يكون مصلحة وعلى آخر يكون مفسدة فلا بد من الأمر بإيقاعه على وجه المصلحة والنهي عن وجه المفسدة.

الدلالة على حسن التكليف مع هذه الوجوه قبح ذم من كلف مع تكاملها أو بعضها، ولأن تجويز قبح التكليف والحال هذه ينقض النبوات، لأنه لا وجه لها إلا ما ذكرناه، ولا انفصال من الملحدة والبراهمة فيما يقدحون به - من اختصاص

الصفحة 165
الامساك بالسبت دون الأحد، ووجوب العبادة في وقت معين وقبحها في غيره، وتحليل مثل المحرم في وقتي الصوم والافطار وفي تحريمه مثل المحلل على كل حال، كالشحم والمختلط باللحم والمتميز منه، ووجوب السبت على من بعث إليه موسى دون غيره ممن تقدم أو عامر أو تأخر - إلا بإسناد ذلك إلى المصلحة الموقوفة على ما يعلمه سبحانه.

وإذا تقرر هذا، وكان ما أتى به نبينا عليه السلام من الشرائع مغايرا لأعيان ما كلفوه، وفي غير وقته، وعلى غير وجهه، وبغير مكلفيه حسب ما بيناه ثبت حسنه ووجوبه، لكونه مصلحة معلومة بصدق المبين.

أما إن قيل: بينوا لنا ما النسخ لنعلم تميزه من البداء؟

قيل: هو كل دليل رفع، مثل الحكم الشرعي الثابت بالنص بدليل لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

وقلنا: رفع مثله.

لأن رفع عين المأمور به بداء.

وقلنا: شرعي.

لأنه لا مدخل للنسخ في العقليات.

وقلنا: ثابتا.

لأنه لا يرفع ما لم يجب مثله.

وقلنا: بدليل.

لأن سقوط التكليف بعجز أو منع أو فقد آلة أو غير ذلك من الموانع لا يكون نسخا.

وقلنا: مع تراخيه عنه.

لأن المقارن لا يكون نسخا، لو قال تعالى: صل مدة سنة كل يوم ركعتين، لم يكن سقوط هذا التكليف بانقضاء الحول نسخا.


الصفحة 166
ومتى تكاملت هذه الشروط كان نسخا، والمرفوع منسوخا، والرافع ناسخا.

وتأمل كل ناسخ ومنسوخ في شرعنا يوضح عن تكامل هذه الشروط فيه.

وامتناعهم من النظر في دعوتنا وتحرزهم من تخويفنا - بدعواهم أن موسى عليه السلام أمرهم بإمساك السبت أبدا وتكذيب من نسخه - إخلال بواجب التحرز، واعتصام بغير حجة، لأنه لا طريق لهم إلى العلم بصحة هذا الخبر، بل لا طريق لهم إلى إثباته واحدا، وإنما يخبرون عن اعتقادات متوارثة عن تقليد، لافتقار ثبوت النقل المتواتر وما ورد من طريق الآحاد إلى العلم بأعيان الأزمنة وتعيين الناقلين في كل زمان، لأن الجهل بالزمان يقتضي الجهل بمن فيه وتعذر العلم به، وفقد العلم بثبوت الناقلين فيه يمنع من العلم بالتواتر والآحاد بغير إشكال.

وهذان الأمران متعذران على اليهود، لأنه لا يمكن أحدا منهم دعوى حصول النص بأعيان الأزمنة متصلة بوجود اليهود فيها إلى زمن موسى، وإن ادعاه طولب بالحجة، ولن يجدها بضرورة ولا دلالة، والأزمان المعلوم وجود اليهود فيها لا سبيل لمم إلى إثبات ناقلين من جملتهم آحاد فضلا عن متواترين.

وإذا تعذر الأمران لم يبق لاعتقادهم صحة هذا الإخبار إلا التقليد الذي لا يؤمن مخوفا ولا يقتضي تحرزا.

ولأن وجوب التحرز من تخويفنا ضروري، والعلم بما تخوف منه ممكن لكل ناظر في الأدلة، وما يدعى على موسى إذا لم يكن إثباته على ما أوضحناه قبح التكليف معه، وهو سبحانه لا يكلف على وجه يقبح، فيجب لذلك القطع على سقوط تكليف شرعهم وفرض التمسك به بخبر غير ثابت بعلم ولا ظن، مع الخوف العظيم من المتمسك به.

على أن الخبر المذكور من جنس الأقوال المحتملة للاشتراط

الصفحة 167
والتخصيص والتقييد والتجوز بغير إشكال، والمعجز بخلاف ذلك، فلو فرضنا صحته لوجب تخصصه أو اشتراطه أو تقييده أو نقله عن حقيقة إلى المجاز لثبوت النسخ لشرعهم بالمعجز الذي لا يحتمل التأويل، إذ لا فرق بين تخصيص القول أو اشتراطه أو نقله عن أصله بالدليل الأصلي واللفظ والعقلي، بل العقلي آكد، وإذا جاز نقل الألفاظ عن موضعها بمثلها، فبالأدلة العقلية أجوز.

على أن موسى عليه السلام إن كان قال هذا لم يخل من أحد وجهين:

إما أن يريد الامتناع بالنسخ وتكذيب من أتى به وإن كان صادقا بالمعجز.

أو يريد ذلك مع فقد علم التصديق.

وإرادة الأول لا يجوز لكونه قادحا في نبوته، بل في جميع النبوات، لوقوف صحتها على ظهور العلم بالمعجز وفساد كونه دالا في موضع دون موضع.

فلم يبق إلا أنه عليه السلام إن كان قال ذلك فعلى الوجه الثاني الذي لا ينفعهم ولا يضرنا.

وليس لمم أن يتعذروا مما لزمناهم: بفقد دليل على نبوة من ادعى نسخ شرعهم.

لأن فقد ذلك ليس بمعلوم ضرورة، فيجب عليهم أن يجتنبوا السكون إلى ما هم عليه حتى ينظروا فيما يدعوا إليه وبخوفوا منه، ومتى فعلوا الواجب عليهم علموا صحة نبوة نبينا عليه السلام وفساد ما يدينون به، لأنا قد دللنا بثبوت الأدلة الواضحة على نبؤته عليه السلام، وإلا يفعلوا يؤتون في فقد العلم بالحق من قبل أنفسهم وبسوء اختيارهم والحجة لازمة لهم.

ثم يقال لهم: دلوا على نبؤة من تزعمون أنكم على شرعه.

فإن فزعوا إلى ترتيب العبارة عن الاستدلال بالتواتر بمعجزات موسى عليه السلام، طولبوا بإثبات صفات التواتر، فإنهم لا يجدون سبيلا إليها حسب

الصفحة 168
ما أوضحناه، وإذا تعذر ذلك سقط دعواهم ولزمتهم الحجة.

ثم يسلم لهم دعوى التواتر وتقابلوا بالنصارى، فلا يجدون محيصا عن التزام النصرانية وتصديق عيسى، أو تكذيبه وموسى عليهما السلام، إذ إثبات أحد الأمرين والامتناع من تساويهما لا يمكن.

وكل شئ يقدحون به في نقل النصارى يقابلون بمثله من البراهمة، وللنصارى أكبر المزية، لحصول العلم للأكل مخالط باتصال وجودهم في الأزمنة إلى من شاهد المعجزات وتعذر مثل ذلك فيهم، ولا انفصال لهم من النصارى بضلالهم في إلهية المسيح عليه السلام، أو القول بالنبوة، أو الاتحاد، لتميز (1) النقل من الاعتقاد بصحة دخول الشبهة في الاعتقاد وارتفاعها عن التواتر، وثبوت صدق المتواترين وإن كانوا ضلالا أو اعتقدوا عند هذا النقل ضلالا.

ألا ترى إلى وجود كثير من العقلاء قد ضلوا عند ظهور المعجزات على الأنبياء والأئمة عليهم السلام، فاعتقدوا لذلك إلهيتهم، ولم يمنع ذلك من صدقهم فيها، لانفصال أحد الأمرين من الآخر.

وإلزامهم على هذه الطريقة نبوة نبينا عليه السلام لتواتر المسلمين في الحقيقة بالمعجزات الظاهرة عقيب دعواه أبلغ في الحجة، لأنه لا يمكنهم القدح في نقل المسلمين بشئ مما قدحنا به في نقلهم وما قدحوا به على النصارى.

وهذا كاف، والمنة لله.

____________

(1) في النسخة: " ولو تميز ".

الصفحة 169


(مسائل الإمامة)





الصفحة 170

(الغرض من الإمامة وصفات الإمام)

والغرض في الإمامة المنفردة عن النبوة ما بينا من حصول اللطف بها، وعموم الاستصلاح لكل مكلف يجوز منه فعل القبيح، ويجوز اختصاص هذه الرئاسة بهذا اللطف.

ويجب له نصبه الرئيس ذي الصفات التي بينا وجوب تأثير ثبوتها وانتفائها في الاستصلاح لكل والاستفساد.

ويجوز أن يكون الرئيس الملطوف للخلق بوجوده مؤديا عن نبي ومنفذا لشرعه أو نائبا في ذلك عن إمام مثله، ويعلم كونه كذلك بقوله، لأن قيام البرهان على عصمته يؤمن المكلف كذبه فيما يخبر به.

فإذا ثبت كونه مؤديا فلا بد من كونه معصوما من القبائح، للوجوه التي لما كان النبي عليه السلام كذلك.

وعالما بما يؤذيه، لاستحالة الأداء من دون العلم، وإن كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجب كونه عالما بكل معروف ومنكر، لكون الأمر بالشئ والحمل عليه فرعا للعلم بحسنه، وكون اللهي عن الشئ والمنع منه فرعا في الحسن (1) للعلم بقبحه، ولأن الحمل على فعل ما يجوز الحامل عليه كونه قبيحا.

والمنع مما يجوز المانع منه كونه حسنا قبيح.

وإن تعبد بإقامة حدود وجب كونه ممن لا يواقع ما يستحق به، لأن ذلك يخرجه عن كونه إماما، وإن تعبد بجهاد وجب كونه أشجع الرعية، لكونه فئة لهم، ويجب أن يكون هذه حاله عابدا زاهدا مبرزا فيهما على كافة الرعية، لكونه قدوة فيهما.

____________

(1) كذا في النسخة.

الصفحة 171
ويجوز من طريق العقل أن يبعث الله سبحانه إلى كل مكلف نبيا وينصب له رئيسا، ويجب ذلك إذا علم كونه صلاحا، وإنما علمنا أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا إمام في الزمان إلا واحد بقوله عليه السلام المعلوم ضرورة من دينه، حسب ما قدمناه.

وهذه الصفات الواجبة والجائزة حاصلة للأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وعليهم - الملطوف بوجودهم لأمته، المحفوظ بهم شرعه، المنفذون لملته، المتكاملو الصفات التي بينا وجوب كون الرئيس والحافظ عليها -: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ابنا علي، ثم علي بن الحسين، ثم محمد ابن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد ابن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم الحجة بن الحسن صلوات الله عليهم أجمعين، لا إمامة في الملة لغيرهم، ولا طريق إلى جملة الشريعة من غير جهتهم، ولا إيمان لمن جهلهم أو واحدا منهم.

الدلالة على ذلك: ما بيناه من وجوب الصفات للرئيس العقلي والحافظ للتكليف الشرعي، وفقد دلالة ثبوتها لمن عداهم، أو دعوى بها فيمن سواهم ممن ادعى الإمامة، أو ادعيت له ممن استمر القول بإمامته.

وفساد خلو الزمان من إمام، لكون ذلك مفسدة لا يحسن التكليف معها، وقيام البرهان على ضلال من خالف أهل الإسلام.

ولأنه لا أحد قطع على ثبوت هذه الصفات المدلول على وجوب حصولها للإمام إلا خصها بمن عيناه من الأئمة عليهم السلام، فيجب القطع بصحة هذه الفتيا، لأن تجويز فسادها يقتضي فساد مدلول الأدلة، وذلك باطل.

وهذان الدليلان كافيان في إثبات إمامة الجميع مجملا ومفصلا، ونحن نفرد لإمامة كل منهم كلاما يخصها.


الصفحة 172
ولا يعترض هذين الدليلين مذاهب الكيسانية والناووسية والواقفة وأمثالهم.

لإسناد الجميع ما يذهبون إليه إلى دعوى حياة الأموات المعلوم ضرورة موتهم، ولأنهم أجمع منقرضون، فلا يوجد منهم إنسان معروف، فخرج لذلك الحق من جملتهم.

(عصمة الأئمة)

وليس لأحد أن يقول: إن الأمة وإن لم تقطع على عصمة من ادعيت له الإمامة في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن ذكرتموه من ذريته عليهم السلام، فليست قاطعة على نفيها عنهم، وهو موضوع الحجة من استدلالكم، كما لا يجب نفي العصمة عن كل من لم يقطع على نفيها عنه، بل نجيز فيهم وفي كل من لم نرفه أو عرفناه بالعدالة أن يكون معصوما وإن لم يقطع على ثبوتها له.

لأنا إذا كنا قد دللنا على كون العصمة من صفات الإمام الواجبة - كالاسلام والحرية والعدالة المجمع على اعتبارها في الإمام - وجب القطع على نفي إمامة من لم يقطع على كونه معصوما، كما يجب مثل ذلك فيمن لا يعلم إسلامه وحريته وعدالته، وإن جوزنا كونه بهذه الصفات، فلا فرق عند أحد من الأمة في فساد الإمامة بين أن يعلم كون من ادعيت له عريا من هذه الصفات وبين أن لا يعلم عليها.

فيجب القضاء في العصمة، ووجوب القطع على ثبوتها للإمام، ونفي إمامة من لم يقطع على ثبوتها له، كالقضاء على سائر الصفات، لوجوب ثبوت الكل للإمام.

وليس لأحد أن يقول: استدلالكم هذا مبني على الإجماع، وأنتم لا تجعلوه حجة.


الصفحة 173
لأنا بحمد الله لا نخالف في كون الإجماع حجة، وإنما نمنع من خالفنا من إثباته حجة من الطرق التي يدعيها، والخلاف في ذلك المذاهب لا يقتضي إنكاره، فكيف يظن بنا ذلك مع العلم بإثباتنا معصوما في كل عصر من جملة الفرقة الإسلامية.

وليس له أن يقول: اعتباركم صحة الإجماع مقصور على المعصوم الذي لو انفرد قوله لكان حجة.

لأن اعتبارنا دخول المعصوم في الإجماع كاعتبارهم دخول العالم في كل إجماع، وفساده بخروجه عنه، فإن كان اعتبارنا دخول المعصوم في الإجماع كاعتبارهم دخول العالم في كل إجماع وفساده بخروجه عنه، فإن كان اعتبارنا دخول المعصوم مانعا من الإجماع فحالهم أقبح.

على أن استدلالنا بهذه الطريقة صحيح من دون اعتبار الإجماع، لأنا قد بينا من طريق العقل وجوب الإمامة والعصمة، وذلك يقتضي صحة فتيانا من وجهين:

أحدهما: حصول العلم الضروري من دينه عليه السلام ببقاء الحق في أمته إلى انقضاء التكليف، وأنه لا يجوز كفر جميعها، وجحد إمامة المعصوم كفر، لكونه من جملة الإيمان لا يجوز اتفاق الأمة عليه.

فإذا تقرر هذا، وعلمنا أن الأمة في القول بإمامة الأئمة عليهم السلام من لدن النبي عليه السلام وإلى الآن بين قائل بعصمة الإمام وجاحد لها، علمنا ضلال الجاحد لها وصواب القائل بها، إذ لو ضل القائل كالجاحد لاقتضى ذلك الشهادة على جميع الأمة بالكفر، وقد أمنا ذلك، فوجب القطع على صواب الدائن بالعصمة.

الثاني: أنا آمنون كون الحجة المعصوم الموفق في جميع الأقوال والآراء والأفعال من جملة الفرق المخالفة للاسلام، لقيام البرهان على ضلال جميعها، ولا

الصفحة 174
من فرق الأمة المنكرة للعصمة لضلالها أيضا.

وإذا وجب هذا اقتضى كونه من جملة الفرقة القائلة بالعصمة، ووجب لذلك القطع على صوابها فيما أجمعت عليه، فصح استدلالنا من غير افتقار بنا إلى اعتبار الإجماع.

(معجزات الأئمة)

ومن الحجة على إمامة أعيان الأئمة عليهم السلام، أنا قد دللنا على وقوف تعيين الإمام على بيان العالم بالسرائر سبحانه بمعجز يظهر على يديه، أو نص يستند إليه، وكلا الأمرين ثابت في إمامة الجميع.

أما المعجز فعلى ضروب:

منها: الإخبار بالكائنات، ووقوع المخبر مطابقا للخبر.

ومنها: الإخبار بالغائبات.

ومنها: ظهور علمهم ذي الفنون العجيبة في حال الصغر والكبر، وتبريزهم فيه على كافة أهل الدهر، على وجه لم يعثر عليهم بزلة ولا قصور عند نازلة ولا انقطاع في مسألة، من غير معلم ولا رئيس يضافون إليه غير آبائهم، وفيهم من لا يمكن ذلك فيه، كالرضا وأبي جعفر وأبي محمد عليهم السلام.

وإعجاز هذه الطريقة من وجهين:

أحدهما: أن العادة لم تجر فيمن ليس بحجة أن يتقدم في علم واحد - فضلا عن عدة علوم - من غير معلم.

الثاني: أن كل عالم عدا حجج الله سبحانه محفوظ عنهم التقصير عند المشكلات، والعجز عند كثير من النوازل، والانقطاع في المناظرة.

ومنها: تعظيمهم مدة حياتهم من المحق والمبطل، وشهادة الكل على لؤم من ينقصهم وإن كان عدوا، والإشارة بذكرهم بعد الوفاة، وخضوع العدو والولي

الصفحة 175
لمشاهدهم، وهجرة الفرق المختلفة إليها، وتقربهم إلى مالك الثواب والعقاب سبحانه بحقهم، مع فقد الخوف منهم والطمع فيما عندهم، وحصول عكس هذا الأمر فيمن عداهم من منتحلي الإمامة وذوي الخلافة بنفوذ الأمر وثبوت الرجاء والخوف.

وهذه الطرق منها ما هو معلوم ضرورة، كظهور علمهم، وثبت تعظيمهم في الحياة وبعدها.

ومنها ما هو معلوم للأكل ناظر في الأخبار ومتأمل الآثار، لثبوت التواتر به، كالنص، على ما نبينه.

ومن ذلك: رد الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الجمجمة، وإحياء الميت بصرصر، وضرب الفرات بالقضيب وبسوطه (1) حتى بدت حصباؤه، وكلام أهل الكهف، إلى غير ذلك من آياته الثابتة.

ومن ذلك: ضرب الحسن بن علي عليهما السلام النخلة اليابسة بيده فأينعت حتى أطعم الزهري من رطبها، وقوله لأخيه الحسين عليهما السلام: قد علمت من سقاني السم، فإذا أنا مت فاحملني إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجدد به عهدا، وستخرج عائشة لتمنع من ذلك، فكان كما قال.

ومن ذلك: ما سمع من كلام رأس الحسين عليه السلام، وقوله عليه السلام قبل مسيره لأم سلمة: إني مقتول في طريقي هذا، وقوله لعمر بن سعد - وقد قال له: إن قوما سفهاء يزعمون أني أقتلك -: إنهم ليسوا سفهاء، ولكنهم علماء، وإنه يسرني ألا تأكل من تمر العراق شيئا، فكان كما قال.

ومن ذلك: كلام الحجر الأسود لعلي بن الحسين عليهما السلام، وشهادته

____________

(1) في النسخة: " وبصوبه "، وما أثبتناه هو الأنسب، وهو من إثبات الهداة نقلا عن تقريب المعارف.

الصفحة 176
له بالإمامة، ودعاؤه (1) للظبي فجاءه فأكل معه من الطعام، وإخباره عبد الملك ابن مروان بقصة الكتاب إلى الحجاج، وإخباره أن الله تعالى قد زاد في ملكه لذلك زمانا طويلا، وإخباره بولاية عمر بن عبد العزيز وقصة يزيد.

ومن ذلك: عود النخلة اليابسة لأبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ذات تمر وانتشاره عليه وعلى أصحابه، ومسح يده على عيني أبي بصير حتى رأى الحاج ثم مسحه عليهما فرجعتا، وإنفاذه الجن في حوائجه.

ومن ذلك: مسح أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام على عين أبي بصير حتى رأى السماء ثم أعاده، وإخباره المنصور بما آل إليه أمره، وإخباره الشامي بحاله منذ خرج من منزله وإلى أن وصل إليه.

ومن ذلك: دعاء أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام الشجرة فجاءت تخد الأرض خدا ثم أشار إليها فرجعت، وخطابه للأسد، وقصصه مع علي بن يقطين، وقوله لهشام بن سالم بعد شكه وقوله في نفسه: أين أذهب إلى الحرورية أم إلى المرجئة أم إلى الزيدية؟ فقال له: إلى إلي، لا إلى الحرورية ولا إلى المرجئة ولا إلى الزيدية.

ومن ذلك: إخراج أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام السبيكة من الأرض لإبراهيم بن موسى، وفهمه كلام السخلة، وإخباره بقصة آل برمك قبل وقوعها بصفتها، وقصة الغفاري وما عليه من الدين المجهول.

ومن ذلك: توضؤ أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام في مسجد ببغداد يعرف موضعه بدار المسيب في أصل نبقة يابسة، فلم يخرج من المسجد حتى اخضرت وأينعت - حدثني الشيخ أبو الحسن محمد بن محمد، قال: حدثنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد المفيد رضي الله عنه أنه أكل من نبقها وهو لا عجم

____________

(1) في النسخة: " ودعا قره ".

الصفحة 177
له - وقصة الشامي وتخليصه من الحبس من غير مباشرة.

ومن ذلك: قصة أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام مع علي بن مهزيار، وخروجه في القيظ بآلة الشتاء، وإخباره بما أضمره في عرق الجنب، وقصة صالح بن سعيد وخان الصعاليك، وقصة يونس النقاش والفص الياقوت.

ومن ذلك: قصة أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام مع زينب الكذابة، وقصة السنور.

ومن ذلك: لصاحب الزمان عليه السلام: قصة المصري والمال، وقصة الحسين بن فضل، وقصة أحمد بن الحسن، والتوقيعات على أيدي السفراء بفنون الغائبات.

في أمثال لهذه الآيات، يطول بذكرها الكتاب، ويخرج به عن الغرض بهذا المختصر، من أراد الوقوف على جميع ذلك وجده في تصانيف شيوخنا رضي الله عنهم، وفيما ذكرناه كفاية.

وجميعه إذا تؤمل وجد مختصا به تعالى، على وجه خارقا للعادة، مطابقا لدعوى من ظهر على يده الإمامة، فاقتضى صدقه كسائر المعجزات.

وطريق ثبوت هذه الآيات تواتر الإمامية بها، كالنص الجلي على ما نوضحه.

إن قيل: ظهور المعجز على يد المدعي فرع لجوازه، فدلوا على ذلك.

قيل: المعجز للتصديق نائب مناب قوله تعالى: صدق هذا علي، وذلك يقتضي جواز ظهوره على من للناظر مصلحة في العلم بصدقه، وقد بينا حصول اللطف بوجود الإمام، وتعذر تميزه من دونه أو ما يستند إليه من النص، فيجب ظهوره عليه بحيث لا نص ينوب منابه، وهذا يقتضي جوازه مع ثبوته، بل يجوز ظهوره على من يستحق التعظيم من الصالحين، ليقطع المكلف على كونه مستحقا للتعظيم، فيفعله خالصا من الاشتراط، ولا يقتضي ذلك التنفير عن النظر في

الصفحة 178
معجزات الأنبياء عليهم السلام، ولا يمنع من كونها مثبتة لهم بالنبوة، لأن الباعث على النظر في المعجز هو الخوف من فوت المصالح، وذلك حاصل في مدعي الإمامة والصلاح كمدعي النبوة، فيجب كون الناظر مدعوا مع الجميع.

فأما كونه مبينا، فإنما يبين الصادق من الكاذب، ثم يرجع الناظر إلى قوله المؤيد به قاطعا على صدقه آمنا من دعواه النبوة وليس بنبي، أو الإمامة مع كونه صالحا حسب، لكون المعجز مؤمنا من ذلك.

وأيضا فإنا نعلم ظهور الآيات على من ليس بنبي ولا إمام، كمريم وأم موسى.

أما مريم، فنطق المسيح عليه السلام حين الوضع وفي المهد عقيب دعواها البراءة مما قذفت به، ومعاينتها الملك مبشرا لها عن الله تعالى بما يفتقر معه إلى معجز لتعلم كونه رسولا لله سبحانه إليها، ونزول الرزق عليها من السماء وهي في كفالة زكريا عليه السلام.

وأما أم موسى، فإخباره سبحانه بالإيحاء إليها، والوحي معجز ولأن إلقائها موسى في اليم واثقة برجوعه إليها يقتضي علمها بصحة الوعد، وذلك لا يمكن إلا بالمعجز وإذا كان ظهور المعجز على من ليس بنبي واجبا في حال وجائزا في آخر وحاصلا في آخر، ووجدنا الناقلين من الشيعة جماعة لا يجوز عل بعضهم الكذب في المخبر الواحد - على ما نبينه فيما بعد - ينقلون هذه المعجزات خلفا عن سلف، حتى يتصلوا في النقل عن الطبقات التي لا يتقدر في خبرها الكذب لمن شاهدها ظاهرة على أيدي الحجج المذكورين عليهم السلام، ثبت كونها واقتضى ذلك إمامتهم عليهم السلام.


الصفحة 179

(النص على إمامة الأئمة)

وأما النص فعلى ضربين:

متناول للجميع عليهم السلام.

ومختص بكل واحد منهم.

فالأول من طرق:

منها: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1).

وذلك يقتضي علم المسؤولين كل مسؤول عنه وعصمتهم فيما يخبرون به، لقبح تكليف الرد دونهما، ولا أحد قال بثبوت هذه الصفة لأهل الذكر إلا خص بها من ذكرناه من الأئمة عليهم السلام وقطع بإمامتهم.

ومنها: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (2).

فأمر باتباع المذكورين، ولم يخص جهة الكون بشئ دون شئ، فيجب اتباعهم في كل شئ، وذلك يقتضي عصمتهم، لقبح الأمر بطاعة الفاسق أو من يجوز منه الفسق، ولا أحد ثبتت له العصمة ولا ادعيت فيه غيرهم) فيجب القطع على إمامتهم واختصاصهم (3) بالصفة الواجبة للإمامة، ولأنه لا أحد فرق بين دعوى العصمة لهم والإمامة.

ومنها: قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (4).

____________

(1) النحل 16: 43، الأنبياء 21: 7.

(2) التوبة 9: 119.

(3) في النسخة: " ولا اختصاصهم ".

(4) النساء 4: 83.

الصفحة 180
فأمر سبحانه بالرد إلى أولي الأمر، وقطع على حصول العلم للمستنبط منهم بما جهله، وهذا يقتضي كونهم قومة (1) بما يرجع إليهم فيه مأمونين في أدائه، ولا أحد ثبتت (2) له هذه الصفة ولا ادعيت له غيرهم، فيجب القطع على إمامتهم من الوجهين المذكورين.

ومنها: قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (3).

وقوله: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) (4).

فأخبر تعالى بثبوت شهيد على كل أمة - كالنبي عليه السلام - تكون شهادته حجة عليهم.

وذلك يقتضي عصمته من وجهين:

أحدهما: ثبوت التساوي بينه وبين النبي عليه السلام في الحجة بالشهادة.

الثاني: أنه لو جاز منه فعل القبيح والاخلال بالواجب لاحتاج إلى شهيد بمقتضى الآية، وذلك يقتضي شهيد الشهيد إلى ما لا نهاية له، أو ثبوت شهيد لا شهيد عليه، ولا يكون كذلك إلا بالعصمة، ولم تثبت هذه الصفة ولا ادعيت إلا لأئمتنا عليهم السلام، فاقتضت إمامتهم من الوجه الذي ذكرناه.

ومنها: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (5).

____________

(1) كذا في النسخة، وقال الجوهري في الصحاح 5: 2017: وقوام الأمر بالكسر: نظامه وعماده، يقال: فلان قوام أهل بيته وقيام أهل بيته، وهو: الذي يقيم شأنهم.

(2) في النسخة: " يثبت ".

(3) النساء 4: 41.

(4) النحل 16: 89.

(5) البقرة 2: 143.

الصفحة 181
فأخبر تعالى بكون المذكورين عدولا ليشهدوا عنده على الخلق " وذلك يقتضي ثبوت هذه الصفة قطعا للأكل واحد منهم للاشتراك في الشهادة، ولم تثبت هذه الصفة ولا ادعيت لغيرهم، فدلت على إمامتهم من الوجوه التي ذكرناها.

ومن ذلك: ما اتفقت الأمة عليه من قوله عليه السلام: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا.

فأخبر عليه السلام بوجود قوم من آله مقارنين للكتاب في الوجود والحجة، وذلك يقتضي عصمتهم، ولأنه عليه السلام أمر بالتمسك بهم، والأمر بذلك يقتضي مصلحتهم، لقبح الأمر بطاعة من يجوز منه القبح مطلقا، ولأنه عليه السلام حكم بأمان المتمسك بهم من الضلال، وذلك يوجب كونهم ممن لا يجوز منه الضلال، وإذا ثبتت عصمة المذكورين في الخبر، ثبت توجه خطابه إلى أئمتنا عليهم السلام، لعدم ثبوتها لمن عداهم أو دعواها له، وذلك يقتضي إمامتهم من الوجهين المذكورين.

ومن ذلك: قوله عليه السلام: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها وقع في النار.

وفي آخر: هلك.

وذلك يفيد عصمة المرادين، لأنه لا يمكن القطع على نجاة المتبع مع تجويز الخطأ على المتبع، وعصمة المذكورين تفيد توجه الخطاب إلى من عيناه وتوجب إمامتهم على الوجه الذي بيناه.

في أمثال لهذه الآيات والأخبار، قد تكرر معظمها في رسالتي الكافية والشافية (1).

____________

(1) هما للمؤلف قدس سره.