(مسألة التحكيم وتحميلها على أمير المؤمنين عليه السلام)
وأما تحكيمه عليه السلام الحكمين، فقد علم كل مخالط لأصحاب السيرة وناقلي الآثار أن ذلك لا يقع بإيثاره، بل المعلوم من حاله عليه السلام إرادة الحرب والمناجزة لمعاوية وكراهية التحكيم، وإنما ألجأه أصحابه إلى النزول على حكم معاوية فيما أراده وكادهم به من إيثار التحكيم، وتوعدوه على استدامة الحرب بالقتل، فلم يجد بدا من إجابتهم، إذ هم الأنصار الذين بهم يقاتل على عدوه، فإذا قعدوا عن نصرته واضطروه إلى مراد خصمه يضيق عليه فرض الرجوع إليهم، وإلا صاروا عونا عليه مع محاربيه، فلا يتم له أمر، ويعرض نفسه (1) ومن أطاعه للهلكة بغير شبهة، وفعل يقع على هذا الوجه عذر فاعله فيه واضح.
على أنه عليه السلام ما أجاب إلى (طلبهم) (2) والحال هذه إلا بشرط الرجوع إلى الكتاب والسنة الثابتة، لعلمه بأنهما لا يدلان على لمعاوية، بل هما دليلا إمامته وفرض طاعته والانقياد له، فلم يرجع بتحكيمه عليه السلام إلا إلى الحجة التي لو ابتدأ بها قبل الحرب لكان مصيبا، وكذلك فعل قبل المحاربة، وذلك شبهة المخالفين عليه من أصحابه.
ولهذا لما عدل الحكمان عن موجب الكتاب والسنة لم يمض حكمهما، وتجهز لحرب
____________
(1) في النسخة: " ويعرض عنه نفسه ".
(2) في النسخة غير مقروءة، وأثبتنا ما استظهرناه.
فأي شبهة في التحكيم، أو فيما ذكروه قبله يمنع من النص عليه، أو تقتضي تصويب المتقدمين له؟! لولا جهل الخصوم بمواقع الأدلة والشبهة!!
بطلان خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين (ع)
وأمور متفرقة
(بطلان خلافة القوم على مقتضى مذهبنا)
فأما فسادها من مذاهبنا الصحيحة فمن وجوه:
أحدها: ثبوت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام حسب ما دللنا عليه، إذ كان ثبوتها يسقط فرض النظر في إمامتهم فضلا عن صحتها، ويقتضي القطع على فسادها.
وليس لأحد أن يقول: لم كنتم (أولى) بأن تمنعوا من إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، لدعوى إمامته عليه السلام ممن منع من ثبوت إمامته، لصحة إمامتهم.
لاستناد ثبوت إمامته عليه السلام إلى العقول والأفعال التي لا تحتمل (1)، والكتاب والسنة المتقدمة على ما معه يدعى (2) ثبوت إمامة القوم من الاختيار المتعلق بفعل الأمة بعد النبي الذي لا حكم له مع النص، ولا يحسن فعله مع تقديره، ولا يتوهم مع أدلة العقل وبرهان الفعل، ولا قدح بدعواه في ذلك، كما لا قدح بخلق المؤذيات وذبح الحيوان وإيلام الأطفال في حكمته تعالى، لوجوب تقدم النظر في إثبات فاعل لهذه الأشياء على النظر في حسنها من قبحها، وتقديمه يقتضي إثبات فاعل حكيم لا يجوز معه فعل القبيح ولا إرادته، فيسقط لذلك القدح، ويجب القطع على الحسن، وثبوت الفرض الحكمي في ذلك، وإن لم يتميز كذلك يجب تقديم النظر فيما يدعى من النص على ما يدعى
____________
(1) كذا.
(2) كذا.
وليس لأحد أن يقول: دعوى ثبوت النص على الاختيار وصفته والمختارين وصفتهم تمنع من النظر في دعوى النص على الإمامة.
لأن مدعي ذلك لا يستند (1) إلى كتاب ولا سنة معلومة، وإنما يعول (2) على أخبار آحاد، أو فعل الصحابة يوم السقيفة، ويزعم أن ذلك كاشف عن النص على الاختيار وصفته، وخبر الواحد لا يوجب العلم ولا يصح به العمل، ومجيز العمل به لا يجيزه في مسألتنا هذه، لعموم بلواها، وفعل الصحابة لا حكم له ولا داعي إلى النظر فيه مع دعوى برهان العقل، وثبوت النص من الكتاب والسنة المجمع عليهما على إمامة علي عليه السلام بغير شبهة عند متأمل.
ولأن الأمة في الآيات اللاتي ذكرناها والأخبار المعلومة رجلان: قائل إنها لا تحتمل النص، وهم القائلون بإمامة القوم على اختلافهم، وقائل إنها دلالة على النص، وهم الشيعة بأسرهم، وكل من قال ذلك قطع على فساد إمامتهم.
فعلى هذا يجب على كل مكلف أن ينظر في مقتضى هذه الآيات والأخبار المعلومة، ليعلم هل يدل على النص كما تزعم الشيعة، أو لا يحتمله كما يزعم مخالفوهم، من حيث كان تقدير كونها دالة على الإمامة يمنع من النظر في فعل الصحابة، لحصول الخوف المتقدم للنظر فيها على النظر في أدلتنا وارتكاب الخطر المرتفعين مع تقديم النظر فيها على فعل الصحابة، الذي لا يتقدر فيه ضرر (3)، لما يأمن كونها محتملة للنص، ومتى فعل الواجب عليه من تقديم النظر المتكامل الشروط علم دلالتها على النص المرتفع به احتمال فعل الصحابة، للدلالة على إمامة القوم، فقطع لذلك على فسادها.
____________
(1) في النسخة: " لا يستنده ".
(2) في النسخة: " يقول ".
(3) في النسخة: " ضرور ".
ومنها: قيام الأدلة على وجوب كون الإمام على صفات: من العدالة في الظاهر والباطن وماضي الزمان ومستقبله، والتقدم في العلم والفضل والشجاعة والزهد على الكافة.
وذلك يبطل إمامة القوم من وجهين:
أحدهما: أنه لا أحد من الأمة قطع على ثبوت هذه الصفات لواحد منهم، فتجب له فساد إمامتهم، لعدم القطع فيهم بما يجب ثبوته للإمام.
الثاني: أنه لا أحد قال بوجوب (1) هذه الصفات إلا قطع على فساد إمامتهم، فإذا كانت ثابتة بالأدلة الواضحة وجب بها القطع بصحة فتيا الدائن بها.
ومنها: أنه لا يخلو دليل إمامتهم من أن يكون نصا، أو دعوة، أو ميراثا، أو اختيارا، وقيام (2) الدلالة على أنها لا سبيل على تميز عين الإمام إلا بمعجز أو نص يستند إليه، فتبطل الدعوة والميراث والاختيار على كل وجه.
ويبطل النص، لأنه لا أحد قطع بما قلناه إلا منع من ثبوته للقوم، ولأن الإجماع سابق لدعوى هذه المذاهب عدا الاختيار، وأنه لم يحتج بها يوم السقيفة ولا بعده من ترشح للإمامة أو ادعيت فيه، وإذا خلت أعصار الصحابة والتابعين وتابعيهم من دعوى هذه المذاهب، وجب القطع على فسادها.
ولأن فساد إثبات الإمامة بالدعوى معلوم بأول نظر، لأنه إثبات ما لا دليل عليه إلا مجرد الدعوى التي لا تميز حقا من باطل، ولأنه لا دليل على كون الدعوة طريقا من كتاب ولا سنة، وما لا دليل على إثباته يجب نفيه.
____________
(1) في النسخة: " يوجب ".
(2) في النسخة: " وقيامه ".
ولأن الميراث منتقض بإجماع الأمة على اعتبار صفات الإمام، واستحقاق الميراث من لم يتكامل فيه، بل لم تثبت له صفة منها، ولأنه لا دليل على كون الميراث طريقا إلى الإمامة، وما لا دليل عليه يجب القطع بنفيه.
ولأن الاختيار مفتقر إلى نص معلوم على تسويغه، ولا سبيل على ذلك، ولأن الإمامة لا يملك التصرف فيما يستحقه الإمام بحق الولاية على الأمة، فمحال أن تثبت إمامته باختيار، لأن ذلك يقتضي تمليكه ما لا يملكه المختارون له، وذلك فاسد بأوائل العقول.
ولأنه يقتضي وجود عدة أئمة، أو انتقاض فرض الإمامة، أو فساد لا يتلافى، لأنه لا يخلو أن يكون العاقدون للإمامة جميع العلماء مع تسليم الكافة لهم من العامة، أو بعضهم.
ووقوفه على الكل يقتضي إيقاف الأمر إلى تجميع علماء الأمة وعامتها في مكان واحد للاختيار، ويتفق رأيهم على واحد بعينه، وذلك كالمتعذر، لأن تقدير اتفاق دواعيهم إلى ذلك، وقطع الأغراض الدينية والدنيوية، وانقياد أهل كل مصر وإقليم لأهل مصر واحد غير جائز في العادة، ولو جاز اتفاق ذلك - مع بعده - لكانت الحال في التعذر على ما بيناه، لتعذر المهتم بهذا الشأن والباعث عليه والجامع للكافة له.
وإذا تعذر حصوله بجميع الأمة لم يبق إلا تعلقه ببعضها، وفعل بعضها ليس بحجة، ولو كان حجة لاقتضى صحة أن يغلب ظن علماء كل إقليم بأنه لا يصلح للأمة إلا من يليهم أو يلي غيرهم.
وعقد كل فريق لمن غلب ظنه بصلاحه للإمامة فاسد من وجوه:
أحدها: أن فيه إثبات عدة أئمة في وقت واحد، والإجماع بخلاف ذلك.
ومنها: أنه يؤدي على استحلال بعضهم قتال بعض، لظنه به خروجه مما وجب عليه الدخول فيه من طاعة إمامه، كما قالوا مثل ذلك في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان المعقودة ببعض الأمة، وهذا ظاهر الفساد، ولما فيه من إراقة الدماء، وخراب الديار، والانقطاع عن جميع المصالح الدينية والدنيوية، فبطل القول بالاختيار، لما يؤدي إليه من الفساد.
ولا يجوز أن يكون النص طريقا إلى إمامتهم، لقصوره على دعوى الشذوذ، وتعذر معرفة الدائن به منذ أزمان، وفساد وقوف الحق في ملتنا على فرقة لا تعرف في أكثر الأزمان، ولاستناد دعوى مبنية على (3) خبر واحد لا يجوز إثبات الإمامة به باتفاق، ولو ثبت لم يدل، كخبر الأحجار والصلاة:
من حيث كان وضع النبي صلى الله عليه وآله مسجد قبا - على ما رووه - على حجر وقوله (4): أبو بكر، وثانيا وقوله: عمر، وثالثا وقوله: عثمان، ورابعا وقوله علي عليه السلام، لا يفيد بظاهره الإمامة ولا دليله، لأنه لو كان فيه حجة لاحتج به القوم يوم السقيفة، ولأحتج به أبو بكر في خلافة عمر، ولاستغنى به عمر عن الشورى، ولأحتج به عثمان يوم الدار، وذلك يدل على أنه مفتعل أو لا حجة فيه.
____________
(1) كذا في النسخة.
(2) في النسخة: " بعين ".
(3) في النسخة: " إلى ".
(4) في النسخة: " أو قوله ".
ولو سلم أن تقديمه للصلاة كان بأمره عليه السلام وأنه تولاها بنفسه - وإن كان فاسدا - لم يدل على الفضيلة فضلا عن الإمامة، لصحة عقد الصلاة عندهم بالفاسق، وعندنا بمن ظاهره العدالة وإن كان فاسقا عند الله، ولأن النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء عندهم من بعده قد قدموا للصلاة من لا يصلح للإمامة ولا يرشح لها ولا رشح باتفاق.
(بطلان خلافة القوم على مقتضى مذهبهم)
وأما فساد إمامة القوم على مقتضى مذاهب القائلين بها مع تقدير تسليمها فهو:
أنهم متفقون على أنه لا يصلح للإمامة إلا: الرجل، الحر، المسلم، العدل، العالم، الشجاع، السديد الرأي، العابد، الزاهد، القرشي على رأي الجمهور، فإذا تكاملت هذه الصفات لم تثبت إمامته إلا بنص من الله تعالى، واختيار من كافة العلماء، وتسليم من الباقين، مستند إلى نص منه تعالى على صفة الاختيار والمختارين، أو دعوة إلى نفس الموصوف، ومتى اختل شئ من الصفات لم يصلح المرء للإمامة، وإن دعي أو اختير لها لم تنعقد إمامته، وإن تكاملت لشخص ولم يحصل نص عليه لاختيار ولا دعوة لم تنعقد إمامته، وإن انعقدت بشئ من ذلك فوقع منه فسق انفسخ العقد وبطلت إمامة المعقود له.
ونحن بمشيئة الله وعونه نبين أن الصفات لم تتكامل لواحد من الثلاثة، ثم نسلمها ونبين أنه لم يحصل على إمامته نص ولا اختيار ولا دعوة، وأنه لو كانت صحيحة لكان قد وقع منهم في حال ولايتهم من القبائح ما يقتضي فسخها، ونبين أنه لم يقم دليل على كون
(عدم تكامل صفات الإمامة للقوم)
أما الحرية والقرشية وظاهر الإسلام:
فقد علم ما يقدح به الشيعة في أنسابهم وإسلامهم، ويرديه من حيث ميلادهم، وصحة ذلك يوجب القطع على نفي الحرية والقرشية والاسلام، ووروده فقط يمنع من القطع بثبوت ذلك المفتقر صحة الإمامة إلى ثبوته قطعا.
وأما العدالة:
فقد وقع منهم في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله ما يمنع منها، لفقد العلم بحصول التوبة منه، وثبت من أحداثهم بعده عليه السلام المعلوم حصول الاصرار عليها ما يمنع كل واحد من ذلك على أيسر الأمر من العدالة، ويقتضي فساد الولاية.
أما الواقع منهم في حياته عليه السلام:
فما روي من قصة التنفير به عليه السلام ليلة العقبة، والمعاهدة على نزع الأمر من أهله، وقد ورد ذلك من طريقي الخاصة والعامة، وعن جميع المنفرين والمعاقدين، والثلاثة من جملتهم، وذلك ضلال لم تثبت منه توبة.
ومنه: انهزامهم يوم أحد وخيبر وحنين، وكون المنهزم فاسقا، والنص بالتوبة عن المنهزمين في أحد وحنين مختص بالمؤمنين، وليسوا كذلك قطعا، وإن قطعنا نحن على نفي الإيمان عنهم بالأدلة، ولفقد ذلك في هزيمة خيبر.
ومنه: إحجامهم (2) عن الحرب في جميع المواطن المحتاج فيها إلى معاونة النساء والصبيان، وذلك إخلال بواجب.
ومنه: تعقب عمر ما قاضي عليه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنها ليست دينه،
____________
(1) كذا.
(2) في النسخة: " أحكامهم ".
ولهذه الأحاديث نظائر كثيرة، إيرادها مخرج لنا عن الغرض، من أرادها وجدها في كتاب الفاضح والمسترشد للطبري، والمعرفة للثقفي، وغيرهما.
وأما الواقع منم بعد النبي صلى الله عليه وآله وقبل الاستخلاف فضروب كثيرة:
منها: تخلفهم عن جيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مع تأكيد الأمر عنه عليه السلام - إلى أن فاضت نفسه - بإنفاذه، ولا فرق بين خلافه عليه السلام في ما أمر به من المسير مع أسامة، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة، وذلك فسق لا شبهة فيه، ودعوى خروج أبي بكر من البعث لا يفي شيئا، لثبوت الرواية به من كافة الشيعة، وقد بينا كون ما تواتروا به صدقا، وقد نقله الجمهور من أصحاب الحديث.
(ولو) سلم خروجه من البعث لكان إقراره عمر وأبا عبيدة والمغيرة وسالما على التخلف ومنعهم من النفوذ فسقا يمنع من عدالته، إذ لا فرق بين أن يخالف أمر النبي صلى الله عليه وآله، أو يمنع من نفوذه، ولأن فسق عمر ومن شاركه في العقد لأبي بكر - لخروجهم عن البعث بإجماع - كاف في تفسيق الجميع، لأنه لا أحد فرق بين القوم في العدالة أو الفسق، ولا يسوغ ذلك اجتهادا، لأنه لا حكم للاجتهاد مع ثبوت النص، لكونه فرعا له، ولأن تسويغه (2) في إبطال النص يقتضي فساد الشريعة جملة، وذلك
____________
(1) العبارة كذا وردت في النسخة.
(2) في النسخة: " تسويفه ".
ومنه: رغبتهم عن تولي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله، وتشاغلهم عن تغسيله وتجهيزه والصلاة عليه بأمر الدنيا إلى... من... (1) ويعيد من سلم الرغبة عن الصلاة على المبرز في الفضل والعبادة في الملة، فضلا عن... (2) ورسول الله صلى الله عليه وآله إليه، وهذا خبيث جدا.
ومنه: منازعتهم إلى السقيفة لانتهاز الفرصة، من غير توقف على حضور العلماء، ولا مشاورة أحد من بني هاشم، ولا مكاتبة لأحد من علماء الأمصار، ولا انتظار لحضورهم، وذلك إخلال بواجب عند المختارين.
ومنه: طلبهم الإمامة يوم السقيفة من غير جهتي النص والاختيار على ما نبينه، وتوصلهم فيها إلى رئاسة الدنيا بما يجب كونه خالصا لله تعالى، من قولهم: نحن السابقون، ونحن المهاجرون، ونحن الذين فعلنا في الإسلام كذا، ولا شبهة في فساد عمل يقرب به إلى منافع الدنيا، وفساد ذلك مع وجوبه عليهم يقتضي التفسيق بغير شبهة.
ومنه: رضى كل واحد منهم بتقليده الأمر بفعل من ليس فعله حجة من الملة على ما نبينه، ولا شبهة في فسق من قبل العقد له بمن لا يمضي به العقد عند أحد منهم، وإذا ثبت فسق القوم المعرضين للإمامة قبل ثبوت العقد لهم بها لم يصح العقد لعدم (ال) شرط المتفق عليه من وجوب عدالة المعقود له.
وأما العلم بما يحتاج إلى الإمام فيه:
فبرهان تعريهم منه واضح من وجوه:
منها: أن لم يحفظ عن نبي الهدى صلى الله عليه وآله نص يوصفهم به، مع نص على أحوال الصحابة في قوله:
أقرأكم أبي.
____________
(1) كلمات غير مقروءة.
(2) كلمة غير مقروءة.
وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ.
وأقضاكم علي.
وأنا مدينة العلم وعلي بابها.
وعلي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار.
وقوله لفاطمة عليها السلام: زوجتك أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم وإخراجه صلى الله عليه وآله القوم من القراءة وعلم الفرائض والأحكام والحلال والحرام دليل على تعريهم من الجميع.
ومنها: أنهم لو كانوا من علماء الصحابة وفقهائهم، لكانت حالهم في ذلك أظهر من حال علي عليه السلام، ومعاذ، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد، وأمثالهم الذين اشتهر حالهم في علم الفتيا، وسلم الكل لهم التقدم في العلم، لقوة سلطانهم، والتزام طاعتهم، والانقياد لهم، وكثرة شيعتهم إلى الآن، وفي فقد ذلك دليل على أنهم لم يكونوا من العلماء.
ولا يقدح في هذا ما روي عنهم من الفتيا في أعيان أحكام، وحصول الخلاف منهم في مسائل.
لأن المروي عنهم من ذلك لا يقصر عنه أدنى المتعلمين، ولا يعجز عنه بعض أتباع الفقهاء، لقلة عدده وتعريه من حجة واضحة، وخلو أكثره من برهان، وما يحتاج إليه الإمام من العلم غير ذلك، من وجوب علمه بالأصول العقلية والشرعية وجملة النصوص الشرعية، ليصح منه الاجتهاد عندهم.
ولأن إلى الإمام الأمر (بكل) معروف والنهي عن كل منكر، وذلك لا يحسن من دون العلم بحسن المأمور وقبح المنهي، إذ كان الحمل على فعل ما يجوز الحامل عليه كونه قبيحا والمنع مما يجوز المانع منه كونه حسنا قبيح، وهذا يقتضي كون الإمام عالما بكل حسن وقبح عقلي وسمعي، وحال القوم بخلاف ذلك.
ومنها: اعتراف كل منهم بالجهل والقصور عن رتبة الكمال في العلم، ورجوعه
فن ذلك: قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم، ولي شيطان يغريني، فإن استقمت فأعينوني، فإن زغت فقوموني.
فأخبر أنه يزيغ عن الحق ويفتقر إلى تقويمهم، ولو كان من أهل الاجتهاد لم يسغ له الرجوع إلى غيره، لكون كل مجتهد مصيبا وإن أخطأ وزاغ، وإن قصر راجع اجتهاده فرده إلى موجب الحكم، ولم يحتج إلى مقوم كسائر المجتهدين الذين عند خصومنا أن أبا بكر أفضلهم فيه وأعلمهم، ومن كان في هذه الرتبة فهو غني بفضل بصيرته وقوة اجتهاده عن غيره، وفي إيقافه التقويم عند الزيغ عن الحكم على غيره دليل على كونه عاميا.
ومن ذلك: جهله بالحكم في قصة فاطمة عليها السلام، وما يجب من قبول قولها بغير بينة على ما نبينه، وما يلزم في المسلمة من سماع بينتها والحكم بها، وعمله بما يعلم خلافه، وعمله في الإرث بخبر واحد، وترك ظاهر القرآن، مع وجوب تقديمه على أخبار الآحاد بإجماع.
ومن ذلك: جهله بما يجب على بني حنيفة بمنع الزكاة عن تحريم أو استحلال، وإجراؤه الفقراء والنساء والولدان مجرى عقلاء الأغنياء من الرجال، مع قبح ذلك بأدنى تأمل.
وجهله بالأب في قوله سبحانه (وفاكهة وأبا) (1)، ومعنى الكلالة وميراث الجدة، حتى أفتاه أمير المؤمنين عليه السلام.
إلى غير ذلك مما حفظ عنه من قصوره عن العلم بما يحتاج إليه المكلف، فضلا عن الإمام.
ومن ذلك: جهل عمر بموت النبي عليه السلام، مع وقوعه مشاهدة وتضمن
____________
(1) عبس 80: 31.
ومنه: جهله بموجب الحدود التي يختصه فرضها، حتى أمر مرة برجم الحامل، حتى منعه من ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وروي أنه معاذ، وقال له: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فرجع عن رجمها.
وأخرى: برجم المجنونة - مع إجماع الأمة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق - حتى نبهه أمير المؤمنين عليه السلام على ذلك، فرجع عنه.
وأخرى: أنه وجد على زعمه رجلا يفجر بامرأة، فأخذهما ليجلدهما، فلقيه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: ما لك ولهما؟ فقال: يا أبا الحسن وجدت هذا الرجل يفجر بهذه، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: عليك البينة، وإلا فلهما في جنبك حدان، إلا أن يعفوا، فاستعفاهما فعفوا، فقال: لولا على هلك عمر.
وجهله بما يجب في المملصة (2) حتى أفتاه أمير المؤمنين عليه السلام بلزوم الدية على عاقلته، ففضها لوقته على بني عدي، وقال: لولا علي هلك عمر.
وهذه أمور لا يجهلها من له أدنى أنس بالأحكام، فضلا عن العالم المبرز.
ومنه: جهله بالحكم في المنيرة بن شعبة، ووجوب تعزيره باتفاق.
ومنه: تكميله الحد على ابنه بعد الوفاة، وجهله بسقوط الحد عن الأموات.
ومنه: جهله بأن الثابت من دين النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز نسخه برأي ولا اجتهاد، حتى أقدم على تحريم متعة النساء برأيه، المعلوم تحليلها من زمن النبي صلى الله عليه وآله، وقد اعترف بذلك في قوله، ومتعة الحج، المنطوق بها في القرآن المجمع على صحتها.
____________
(1) الزمر 39: 30.
(2) أملصت المرأة بولدها: أسقطت. الصحاح 3: 1057 ملص.
ومنه: جهله بجزية المجوس، حتى أفتاه بها عبد الرحمن بن عوف.
ومنه: جهله بموضوع الشرائع، ووقوف فرضها ونفلها وحرامها على علام الغيوب، حتى شرع للناس صلاة موظفة مقننة لا يزاد عليها ولا ينقص منها.
ومنه: جهله بإباحة أهل الذمة الإقامة بين ظهراني (1) المسلمين، حتى جلاهم عن جزيرة العرب، وقال: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.
ومنه: جهله بصفة الاختيار وشروطه، حتى شور (2) الشورى، بخلاف ما قرره أصحاب الاختيار، وحكم فيها بما لا يجوز في الملة، ولا يجهله من له أدنى فطنة وأيسر بصيرة في الإسلام، على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله.
إلى غير ذلك من الأمور الدالة على جهله بما لا يجهله بعض المتفقهة، فضلا من رؤساء أهل الاجتهاد.
ومن ذلك جهل عثمان: بقبح رد من نفاه النبي صلى الله عليه وآله عن دار الهجرة إليها، ونفي حبيبه أبي ذر عنها، وإهانة (أوليائه) المخلصين، وتقريب أعدائه الفاسقين، وأحكام التسوية في العطاء.
وقصوره عن أدنى منزلة في العلم، لفقد ذكره في العلماء، وعدم الإسناد إليه بشئ من الأحكام يعتد بمثله.
في أمثال لهذا من فزع كل منهم إلى علي تارة، وإلى معاذ أخرى، وإلى زيد بن ثابت مرة، وإلى ابن عباس أخرى، وإلى غيرهم من علماء الصحابة عند بلوى الأحكام، وتقليدهم إياهم، وعملهم بفتياهم.
____________
(1) في النسخة: " الظهراني ".
(2) في النسخة: " سور ".
وأما الشجاعة:
فمعلوم خلو الثلاثة منها، وتقدم أدنا موصوف بشئ منها عليهم، وأن حالهم في مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسراياه ينقسم إلى أمرين:
إما تخلف عن القتال ونكوص عن النزال، بحيث الحاجة إليهم ماسة، كيوم بدر والأحزاب وأمثالهما، مما لا شبهة على متأمل للأخبار في تخلفهما في ذين اليومين وغيرها عن مباشرة الحرب وقتال الأقران.
وإما فرار على العقب، وإسلام النبي صلى الله عليه وآله، كيوم خيبر، وردهما فيه راية رسول الله صلى الله عليه وآله، مصرحين بالجبن، متلاومين على الفرار، وظهور الوهن لهزيمتهما في الإسلام، وغضب النبي صلى الله عليه وآله من ذلك، وذمهما عليه، ووصفهما بالفرار، ونفي محبة الله ورسوله لهما ومحبتهما له تعالى ولرسوله عليه السلام.
وانهزامهم يوم أحد، وإسلامهم رسول الله صلى الله عليه وآله ومن معه من خلصائه.
وانهزامهم يوم حنين، ورغبتهم بأنفسهم عن نصرة الرسول صلى الله عليه وآله ومن ثبت معه من إهله، واختصاص (1) أبي بكر من لوم الهزيمة فيه بما لم يشركه فيه أحد، لقوله: لن نغلب اليوم من قلة، ونزول القرآن بتوبيخه في قوله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين) (2).
ورجوع عثمان من الهزيمة بعد ثلاث، وتوبيخ النبي عليه السلام له بقوله: لقد
____________
(1) في النسخة: " وإنقاص ".
(2) التوبة 9: 25.
هذا مع فقد العلم بمقام واحد أغنوا (1) فيه عن الإسلام، أو بارزوا فيه قرنا، أو قتلوا بطلا معروفا على جهة الانفراد به أو المشاركة فيه، وثبوت ذلك لأضعف المسلمين ومن لا يعرف بشجاعة.
وإذا انتفت (2) عنهم الشجاعة التي يجب كون الإمام عليها، لكونه... (3) في الحرب - بل بعض صفات الشجاعة التي لو ثبتت لهم لم تنفع - خرجوا عن صفة من يصلح للإمامة.
وأما سداد الرأي في السياسة:
فبراء منه في سياسة الدين والدنيا.
أما سياسة الدين فجميع ما قدحنا به في عدا للهم من الأفعال الواقعة قبل العقد وما نذكره من ذلك بعده دال على قبيح سياستهم في الدين وموضح عن سوء رأيهم في المسلمين.
وأما سياسة الدنيا فلو صح رأيهم فيها لم ينفع، لأن المطلوب حسن سياسة الدين وما يتعلق به، دون الدنيا التي لا تعلق لها بالدين.
على أنهم لم يحسنوا سياسة الدنيا، لأن الداعي إلى فعل القبيح الانتفاع به، والإقدام عليه لا لانتفاع به ولا دفع الضرر (4) جهل مفرط وسوء رأي، وقد دللنا على قبح ولايتهم، لخلافها لمدلول الأدلة، فاقتضى ذلك خسران الآخرة، وكونهم عالمين بذلك إن كانوا ممن يعتقدها، وإلا يكونوا فالحجة ألزم.
ولم نجدهم استعملوا نفعا يجوز لمثله أن يختار العاقل القبيح، بل كانوا من التقلل
____________
(1) في النسخة: " أعتوا ".
(2) في النسخة: " انتفيت ".
(3) كلمة غير مقروءة.