ولو لم يدل على قبح سياستهم للدنيا إلا وضعهم من أهل بيت وفي رئاستهم المعظمين لديه على كافة أمته، والتصغير بهم، وقصدهم بالأذى، ومنع المنافع التي أمزجوا فيها أعداءهم، لكفى، إذ لا شبهة في فساد هذه السياسة، وقبح هذه السيرة، فأي شبهة تبقى على منصف في قبح سياسة من هذه حاله دينا ودنيا!!.
وأما عبادتهم:
فلم يعدهم أحد من الأمة من عباد المدينة، وإن كان ثم دعوى عبادة فليست المعتبرة في الإمام.
وأما الزهد في الدنيا:
فالمعلوم خلافه، من حرمهم عليها وطلبها من غير وجهها، إذ تخلفهم عن أسامة مع وجوب النفوذ معه، والمسارعة إلى السقيفة، وترك رسول الله صلى الله عليه وآله جنازة بين أهله، ومنافسة... (2)، وجعل أفعال الآخرة من السبق والهجرة ذريعة إلى الدنيا، وتعرضهم للأمر مع مناقشة الأنصار فيه، واستحقاق بني هاشم له، واعتقاد كل واحد من الفريقين كونه أولى به منهم، وخوف الشنان من ذلك والفتنة الصماء ينافي الزهد في الدنيا ويحيله، ويدل على قبح الحرص وسوء الطلب.
وأي عاقل يحسن منه دعوى الزهد في الدنيا لمن يحرص على تقلد الأمر على الأمة على هذا الوجه، مع اختلال جميع الصفات فيه على ما بيناه، وعلمه بذلك من نفسه، ويحمل الناس على بيعته طائعين وكارهين، ويخوف بالقتل على التخلف عنه
____________
(1) في النسخة: " صفقة ".
(2) كلمة غير مقروءة.
إلا جاهل بذلك من حالهم، أو مغمور بالعصبية لهم.
وإذا ثبت تعريهم من جميع الصفات التي لا يصلح للإمامة من لم يتكامل فيه باتفاق، سقط فرض النظر في دعوى اختيارهم وثبوت إمامتهم به، ووجب القطع على فسادها وضلال المتعرض لها والمعرض والدائن بها أولا وآخرا، والمنة لله.
(بطلان إمامة القوم حتى مع تقدير ثبوت صفات الإمامة لهم)
وأما فساد إمامتهم مع تقدير ثبوت الصفات التي معها يصح الاختيار، فهو أن صحته تفتقر عندهم إلى ثلاثة أشياء:
أحدها: ثبوت النص به وبصفة متولية، من حيث كان فقد النص يرفع الثقة بفعلهم.
الثاني: ارتفاع الموانع عن صحة العقد للمختار، إذ كان ثبوت مانع يحل الاختيار.
الثالث: وقوعه على الوجه الذي ذكروه، لأن وقوعه بغير صفته المعتبرة فيه يقتضي العقد له وكل مفقود، والمنة لله.
____________
(1) في النسخة: " عبق ".
(عدم ثبوت نص على إمامة القوم)
أما النص، فلو كان ثابتا لكان معلوما على وجه لا يحسن الخلاف فيه، لعموم بلواه، وتوفر الدواعي على نقله، وقوة البواعث على روايته لولاية المختار، وانبساط يده، وكثرة أعوانه، والنفع العظيم به، وعدم التحرز فيه، بعكس ما حصل في النص على أمير المؤمنين عليه السلام وصفة متوليه، وإذا فقد العلم به سقط دعوى ثبوته.
وليس لأحد أن يدعي النص على الاختيار بما روي عنه عليه السلام أنه قال: إن تولوها أبا بكر تجدوه (1) قويا في دينه ضعيفا في بدنه، وإن تولوها عمر تجدوه قويا في دينه قويا في بدنه، وإن تولوها عثمان يوسعكم مالا، وإن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا.
لأن فقد العلم بهذا الخبر دليل على افتعاله، لما ذكرناه من قوة الدواعي إلى نقل ما يعضد مذاهب القائلين بالاختيار، وانتفاء الصوارف (2) عنه.
والذي يدل على فساده أمور:
منها: أنه يتضمن وصف الرجلين بالقوة، مع حصول العلم بانتفائها (عنهما) من علم أو عبادة أو شجاعة، حسب ما قدمناه، فيصير كذبا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله.
ومنها: أنه لو كان ثابتا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار، فهو أبلغ من قوله: نحن المهاجرون الأولون، ونحن من قريش، وهم عترة النبي صلى الله عليه وآله، ولما لا يفعل ثبت أن الخبر مخرص (3).
ومنا قوله: قد اخترت لكم أحد الرجلين، يعني: عمر وأبا عبيدة، ولو كان الخبر صحيحا لوجب أن يقول: قد اخترت لكم أحد الرجلين: عليا أو عمر، إذ أخذ
____________
(1) في النسخة: " بحدوده "، وكذا في الموارد الآتية.
(2) في النسخة: " العوارف ".
(3) كذا في النسخة.
والخراص: الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا، وتخرص: أي كذب. الصحاح 3: 1035 خرص.
ومنها: أنه لو كان صحيحا لم يجز لأبي بكر أن ينص على عمر ويأخذ الناس ببيعته إلا بعد إحضار أمير المؤمنين وعثمان، وإجماع الأمة على أخذهم، ولكان له أن يحتج على من أنكر عليه ولاية عمر، ووصفه له بالفظاظة والغلظة، وتخويفه الله من ولايته عليهم، فيقول: ما وليتم (1) عليكم إلا من نص رسول الله صلى الله عليه وآله على اختياره.
ومنها: أنه لو كان صحيحا لأغنى عمر عن الشورى على أعيان المختارين، لأنه لم يبق منهم غير علي وعثمان، فكان ينبغي بمقتضى الخبر أن يختار أحدها، ولا يشرك معهما في الشورى من لم ينص النبي صلى الله عليه وآله على اختياره، ولا أن يتمنى لها سالما ولا ذكر له في النص، ولا يتكلف شيئا مما تكلفه من الاهتمام بأمر القائم مقامه، وقد كفاه النبي صلى الله عليه وآله ذلك بنصه على عينه.
ومنها: أنه لو كان صحيحا لم يجز لأبي بكر أن يتقدم على عمر، ولا يسوغ لأحد من الأمة تقديمه عليه، لكونه أقوى منه دينا وبدنا، ولا لواحد منهم على علي، للنص على كونه هاديا مهديا سلك بهم الطريقة المثلى قطعا، وفقد ذلك منهم.
على أن الحديث خبر عن حالهم، لو قد فعلوا لألفوا أبا بكر بصفة كذا، وعمر بصفة كذا، وعليا بصفة كذا.
والخبر كاشف كالعلم وليس بمقتض، وإنما المقتضي للإيجاب الأمر، وليس بأمر، إذ لو كان أمرا لم يجز لأحد منهم مخالفته، وقد بينا عملهم بخلافه.
وبعد فهو عري من النص على أعيان المختارين وصفاتهم من ذوي الحل والعقد، فلا ينفع في موضع الحاجة.
____________
(1) كذا.
(ثبوت المانع من اختيار القوم)
وأما ثبوت المانع من اختيار القوم فكونهم مرتبطين بطاعة أسامة وأتباعه في البعث، وتعذر الجمع بين الأمرين، كارتباط أسامة بذلك وخروجه بتعين فرض الانفاذ لأمره صلى الله عليه وآله عن النظر في أمر الإمامة فضلا عن الصلاح لها.
وقد صرح أبو بكر بوجوب هذا البعث، فقال: لو تخطفتني الطير من مجلسي ويفرق عني جندي حتى أبقى وحدي لم يكن لي بد من إنفاذ جيش أسامة.
وإذا كان معترفا بتضيق فرض الانفاذ فهو وصاحبا ومن عقد له من جملة الأتباع، خرجوا بذلك عن التأهيل للاختيار وإن تكاملت لهم صفات الإمام - المعلوم انتفاؤها عنهم - وذلك يسقط فرض النظر في حال العاقدين ومن عقدوا له.
(عدم حصول الاختيار بصفته المعتبرة)
وأما عدم الاختيار بصفته المعتبرة عن الثلاثة المتقدمين، فقد بينا أن صحته تفتقر إلى حضور جميع العلماء، للنظر في أحوال من يصلح للإمامة، فإذا استقر رأيهم على واحد وسلم لهم العامة الرضى به بايعوه، وهذا مفقود في الجميع.
أما عدم هذه الصفات المعتبرة في اختيار الأول فظاهر لكل متأفل، إذ معلوم لكل ناظر توليته الأمر عليه على (1) غير وجه الاختيار، من حيث علمنا وهم سبق الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، وترشحهم سعد بن عبادة للأمر، وعزمهم على بيعتهم (له) من غير مشاورة لمن عداهم أو تأخر عنهم من المهاجرين، وإنذار ابن ساعدة العجلاني عمر ابن الخطاب بحال الأنصار وما اجتمعوا له وعزموا عليه، ومجئ عمر إلى أبي بكر، ومضيهما إلى ظلة بني ساعدة، ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، والمغيرة بن شعبة، وسالم مولى أبي حذيفة - لا يعلم لهم سادس من المهاجرين ومن هاشم - ومن عداهم من المهاجرين مشغولون بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله، وما جرى بين حاضري
____________
(1) في النسخة: " وعلى ".
من السبق، والهجرة، والصبر على الأذى، والنصرة، والإيثار، والإيواء، والتحقق بالدار، وجعل كل منهما هذه الأفعال الدينية ذريعة إلى تولي الأمر، وقوة حجة المهاجرين بالقربى، وفزع الأنصار عند النكول عنها إلى المصالتة، وعلو كلمتهم لذلك، وقوة أمرهم على المهاجرين لكثرتهم، وقلة أولئك وإشرافهم على تمام الأمر لسعد بن عبادة، وفسخ بشر (1) بن سعد بن معاذ هذا النظام حسدا لابن عمه سعد، وإخماده نار الأنصار بقوله: ثواب نصرتكم وإيثاركم بالديار والأموال على الله تعالى، وهذا الأمر لقريش أهل بيت نبيكم وأقربائه، وانقطاعهم عن محاجته، وتقدمه إلى أبي بكر مبايعا، ومشاركة عمر وأبي عبيدة والمغيرة له في ذلك، ولحوق عشيرة بشير (2) بن سعد به، علما منها بما قصد له من إفساد الأمر على سعد بن عبادة، وامتناع سعد ومن (في) حيزه من البيعة، وأمر عمر بقتله في الحال لو أنفذ أمره، ومقامه على الخلاف إلى أن قتل غيلة، وقول الحباب بن المنذر لبشير بن سعد: والله ما حملك على مما صنعت إلا الحسد لابن عمك، وتطلبه أنصارا يمنع بهم من بيعة أبي بكر فلم يجد، فأقام على الخلاف، وتخلف بني هاشم قاطبة عن العقد وإنكارهم ما جرى، وتخلف أمير المؤمنين عليه السلام في منزله ومعه جماعة من بني هاشم وغيرهم، وامتناعه من البيعة أشد امتناع، ومجئ العباس وأبي سفيان إليه، وعرضهما أنفسهما على بيعته، واجتماع بني هاشم وجماعة من المهاجرين والأنصار إلى دار علي عليه السلام، وقصد القوم له بالرجال والسلاح، وخروج الزبير عليهم بالسيف مصلتا، وسقوطه لوجهه، وأخذ عمر السيف وضربه به الأرض حتى انكسر، وقوله: خذوا الكلب، واستخراجهم عليا عليه السلام... (3)، وتجريدهم للسيوف من حوله، وحملهم له على بيعة أبي بكر، وامتناعه منها، وقوله: والله لا أبايعكم
____________
(1) كذا في النسخة، ويأتي التعبير عنه ببشير.
(2) كذا في النسخة، ومر التعبير عنه ببشر.
(3) كلمة غير مقروءة.
وقول سلمان: كردا ونكردا وندان نم (1)، يعني: فعلتم وما فعلتم، وإفصاحه بالعربية: أما والله إذ عدلتم بها عن أهل بيت نبيكم ليطمعن فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء.
وذكر بريدة الأسلمي رأيه في بني أسلم، وقوله: لا أبايع إلا من أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أسلم عليه بإمرة المؤمنين.
وأخذهم الناس بالبيعة بالغلظة واللين.
وإذا كانت هذه الجملة معلومة لكل سامع للأخبار ومتأمل للسير والآثار، ثبت وقوع الولاية على الوجه الذي ذكرنا من الغلبة، دون ما يعتبرونه من صفة الاختيار، وإجماع العلماء له وترجيحهم بين الرجال، إلى أن يستقر لهم رأي على واحد فيبايعوه، ويسلم له الباقون، لبعد ما بين الأمرين وتنافيهما في الأوصاف.
وأما فقد الصفة المعتبرة عندهم في الاختيار من العاقدين له، فعلوم اختصاص الحضور في السقيفة بنفر يسير من المهاجرين، وغيبة بني هاشم وأكثر المهاجرين عنها، وخالف أكثر الحاضرين لها من الأنصار في العقد، وفيهم العلماء والمعتد بهم في الرضا والانكار والعامة الذين لا يصلح الاختيار مع كراهيتهم، لكونهم من الأمة الذين نص النبي صلى الله عليه وآله عندهم على نفي الخطأ عن إجماعهم، وإذا كان هذا معلوما لكل متأمل للسير والآثار فسدت إمامة المعقود له، لحصولها ببعض الأمة المتفق على جواز الخطأ عليها، وفسد (ت) لفسادها إمامة عمر وعثمان، لكون إمامتيهما فرعا لها ومبنية على صحتها باتفاق.
وليس لأحد أن يقول: إن الخلاف يوم السقيفة والتخلف الحاصل وغيبة من
____________
(1) كذا في النسخة، والظاهر أن الصحيح: كردند ونكردند وندانم، يعني: فعلوا وما فعلوا ولا أعلم.
لأن هذا لو سلم لهم لن ينفعهم شيئا، لاتفاقهم على أن الحجة في الإمامة وغيرها الإجماع، وهو معقود يوم السقيفة باضطرار، وفقده يقتضي تعري العقد فيها من حجة الصحة.
وإذا لم تنعقد إمامة أبي بكر يوم السقيفة، لفقد دليلها الذي هو الإجماع، ووقوعها بمن لا يعتد بمثله في الملة باتفاق، لم تنعقد فيما بعد بإجماع، لأنه لا أحد قال بفسادها يوم السقيفة إلا قال بذلك في كل حال، ولا أحد حكم بصحتها إلا بنى ذلك على ثبوتها يوم السقيفة، فإذا وضح برهان فسادها فيه سقط فرض النظر فيما بعده من الأحوال وما يدعى من اتفاق عليها أو خلاف فيها.
على أن ذلك مبني على ظهور التسليم من الجميع، وارتفاع النكير من الكل، وأنه دلالة الرضا، وأن الرضا هو دلالة الإجماع.
ونحن نبين أن النكير حاصل، وأنه لو كان مرتفعا لم يكن دلالة الرضا، وأن الرضا ليس بإجماع.
أما دعوى ارتفاع النكير فظاهر البطلان، لحصول العلم بموت سعد على الخلاف، وهو من العلماء الذين يجب الاعتداد به، وإقامة علي عليه السلام على النكير متخلفا في منزلة مدة التمكن من ذلك، مصرحا في أكثر أحواله لما يقتضي إنكاره.
كقوله في ابتداء الأمر: والله لا أبايعكم وأنتم أحق بالبيعة لي.
وقوله لما هدده بالقتل: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، ولم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله: ظلمت الحجر والمدر.
وقوله عليه السلام: ولقد سبقني في هذا الأمر من لم أشركه فيه ومن لم أهبه له، ومن لشئ له منه توبة إلا بنبي يبعث، ألا ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله، أشرف منه على شفا جرف هار انهار به في نار جهنم.
وقوله عليه السلام: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل
وقوله عليه السلام: ولئن تقمصها دوني الأشقيان، ونازعاني فيما (5) ليس لهما بحق، وهما يعلمان، وركباها ضلالة، واعتقداها جهالة، فلبئس ما عليها وردا، وبئس ما لأنفسهما مهدا، يتلاعنان في محلهما، ويبرء كل منهما من صاحبه بقوله: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.
في أمثال لهذه الأقوال المحفوظة عنه في ابتداء الأمر، وفي خلافة عثمان، وحين آل الأمر إليه وحصول العلم لكل مهتم بتدينه (6) عليه السلام بذلك وذريته وشيعته إلى يومنا هذا.
وما ظهر من إنكار سلمان الفارسي رضي الله عنه لأمرهم، ومشاركة الزبير، وجماعة من بني هاشم، وكثير من الأنصار، كقيس بن سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، وبريدة الأسلمي، وتخلف بلال عن البيعة إلى أن مات.
وإذا كان هذا النكير من وجوه الصحابة معلوما سقطت (7) دعواهم ارتفاعه (8).
على أن ارتفاع النكير لا يدل على الرضى، لاحتماله له ولغيره من الرجاء والخوف
____________
(1) كذا في النسخة " وفي النهج: " ثوبا " (2) كذا في النسخة، وفي النهج: " كشحا ".
(3) في النهج: " أو أصبر ".
(4) في النسخة: " هاتي ".
(5) في النسخة: " ونازعاني فيهما ".
(6) كذا.
(7) في النسخة: " سقط ".
(8) أي: النكير.
وبعد، فلو كان دلالة الرضى لم تكن فيه حجة، لأن تقلد أبي بكر الأمر أمر منفصل عن (1) رضى الإمامة به، فيصح أن يكون مخطئا في توليه الأمر، ويكون الممسك عن الإنكار عنه مخطئا، لإخلاله بالواجب عليه من الإنكار، ولا يكون ذلك إجماعا على الخطأ، لتغاير الفعلين المختلفين، إذ كان الدليل المانع من اتفاق الأمة على الخطأ مختصا بفعل واحد، لحصول العلم بخطأ كل فرقة من الأمة في مسألة ما ومسائل.
وعلى هذا التحرير لو سلم للقوم جميع ما يظنونه دليلا على إمامة أبي بكر لم ينفعهم، لخروجه عن كونه إجماعا.
وأما ولاية عمر، ففرع لإمامة أبي بكر، فإذا كانت فاسدة لما دللنا عليه لحقت بها في الفساد باتفاق.
وأيضا فعلوم حصولها بنص أبي بكر، وأنه كتب له الصحيفة بالعهد، وأخذ الناس بالرضى بها شاءوا أم أبوا، من غير إعلام بما فيها، وإنكار طلحة وجماعة من المسلمين عليه، ومضيه على رأيه، وإطراح نكيرهم، وهذا بغير شبهة مناف لما يعتبرونه من صفة الاختيار والمختارين.
وأما ولاية عثمان، فمبنية على ولاية الرجلين، فإذا كانت باطلة لحقت بها في البطلان بإجماع.
وأيضا فهي فرع لصحة الشورى ووقوع العقد فيها على المشروع، وسنبين فسادها وما اشتملت عليه من قبيح الأفعال، ومنافاتها لشريعة الإسلام على مذهب القائلين بالنص والاختيار، فاقتضى ذلك فسادها بغير ارتياب.
وبعد، فهي معلقة باختيار عبد الرحمن بن عوف خاصة، وليس بحجة في الملة، وإن جعله عمر عيارا على القوم، لكونه أيضا غير حجة عند مدعي إمامته، ولأنه رغب
____________
(1) في النسخة: " من ".
وكون ذلك عن جهل يخرجه (1) عن البصيرة بالدين، ويمنع من كونه عيارا على المسلمين، لو كان فعل واحد من فضلائهم عيارا عليهم.
وكونه عن علم يقتضي عظيم العناد للملة، والرغبة عن الكتاب والسنة إلى سيرة رجلين أحسن أحوالهما أن يكونا من أهل الاجتهاد، والذين يجوز عليهم الخطأ، وذلك مسقط لفعله لو كان يصح الاعتداد في عقد الإمامة بواحد.
وبعد، فكيف ساغ له (2) سوم علي عليه السلام - وهو من أفضل العلماء بغير نزاع - تقليد أبي بكر وعمر، مع تحريم التقليد على مثله باتفاق، وعدل عن بيعته لإبائه عليه السلام ما لا تجوز له الإجابة إليه من تقليد الرجلين، فكيف جاز له بيعة مجيب له إلى تقليد غيره، مع علمه - إن كان من أهل الاجتهاد - بأن العامي الذي يجوز له التقليد لا يصلح للإمامة، وتحريم التقليد على العلماء، وفسق المقلد منهم لغيره.
وأن عثمان إن (3) كان عاميا فاختياره للإمامة لا يجوز بإجماع، وإن كان عالما فقد فسق بإجابته إلى التقليد، فقبح اختياره على كل حال... (4) ومن اتبعه من أهل الخلاف وصونه من العقد قديما وحديثا امتناع علي عليه السلام من تولية الأمر مما فيه من عموم الصلاح للاسلام على سيرة الرجلين واشتراطه السيرة للكتاب والسنة على ضلال سيرتهما، لكونهما مخالفين للكتاب والسنة.
وهلا دل الحاضر من المسلمين ومن قلدهم إلى يومنا هذا إمساك عبد الرحمن عن موافقة علي عليه السلام عن وفق سيرة الرجلين للكتاب والسنة أنها مخالفة لهما؟!
____________
(1) أي: عبد الرحمن بن عوف.
(2) أي: عبد الرحمن بن عوف.
(3) في النسخة: " وإن ".
(4) كلمة غير مقروءة.
وأي ريب يبقى في تدين علي عليه السلام بضلال القوم وقبيح سيرتهما، وهو يرغب عن التمكين من معظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ الأحكام بولاية الأمر ولا بسيرتهما؟!
وأي شك يدخل على عارف بالاجتهاد، وما يجب كون الإمام عليه عند مثبتيه في فساد إمامة عثمان وهو يراه مبايعا على تقليد الرجلين، وفساد إمامته إن كان عاميا، وكونه فاسقا لا تجوز إمامته إن كان من أهل الاجتهاد؟!
وليس لأحد أن يقول: كيف تصح لكم هذه الدعوى وأنتم تعلمون مذاهب خصومكم في عدد العاقدين، ففيهم من يقول: واحد، وفيهم من يقول: اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة يعقدون لواحد؟
لأنه لا تنافي بين ما قلناه وبين هذه المذاهب، من حيث كان كل منهم لا يعتبر صحة العقد بهذا العدد خاصة، وإنما توقف ولايته عليه، ويعتبر تسليم باقي العلماء ورضاهم بالعقد وإمساك الباقين من الأمة الدال عنده على الرضى إن فقدت المبايعة.
وكيف يشتبه على متأمل أن أحدا من علماء الأمة يدين بصحة الإمامة بعقد بعض الأمة، مع فقد دعوى من أحد من أهلها، لكون الحجة ثابتة في شئ يفعل بعضها بل
____________
(1) في النسخة: " فلت ".
(2) في النسخة: " وفيهما ".
ولو كان ما ذكره السائل مذهبا، لاستغنى القوم الذاهبون إليه عن إيراد ما يظنونه دليلا على ثبوت الإجماع في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، من التعلق بالامساك وترك النزاع، وغير ذلك مما لا حجة فيه على ما بيناه، ولوجب عليهم الاشتغال بكون ما ذهب إليه كل فريق من العدد وجعله حجة في صحة العقد، ولما لم يتعرض لذلك أحد منهم ووجدنا الجميع يفتقر إلى مراعاة الإجماع في نصرة ما ذهب إليه ويقول: إذا عقد هذا العدد المخصوص وسلم الباقون، صح ما ذكرناه.
ولولا أن بعض من ينتمي إلى العلم بالاعتزال سأل عن ذلك - مع كثرة جهل أهل بلادنا بمذاهب الناس - لم يكن بنا حاجة إلى ذكره، لظهور فساده، وحصول الإجماع على خلافه.
(ذكر القبائح الواقعة منهم حال ولايتهم المقتضية لفسخها)
وتأمل هذا الكلام يغني عن إسقاط ما يتعلقون به في إمامة القوم من إجماع وغيره بالأحداث الواقعة منهم في حال ولايتهم، فهو إنا لو تجاوزنا لهم عن جميع ما قدمناه، لكانت القبائح الواقعة منهم في حال تعليمهم (2) كافية في فساد إمامتهم على كل حال، لأن ثبوت فسقهم في حال الولاية تعليمهم (3) الولاية كافية تمنع من ثبوت إمامتهم وصحة العقد بها قبل وقوع هذه الأحداث، فيقتضي فسخها لو كان العقد صحيحا بها، إذ لا أحد من الأمة أثبت فسقهم في حال ولايتهم إلا حكم بفساد عقدها وفسخ العقد الصحيح بالفسق الواقع بعده.
____________
(1) كذا في النسخة، والعبارة غير واضحة المعنى، ويحتمل الصحيح: " بكون الحجة ثابتة في شئ بفعل بعضها بل جميعها إلا عالم واحد ".
(2) كذا في النسخة.
(3) كذا في النسخة.
فمن ذلك الحادث في ولاية أبي بكر.
وهو على ضروب:
منها: تسميته بخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، مع العلم الضروري بكذبه في هذا الاسم على رسول الله صلى الله عليه وآله، إذا كانت ولايته على أحسن الأحوال مستنده إلى اختيار الأمة، والمختار باجتهادها لا يكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما يكون كذلك من نص صلى الله عليه وآله على خلافته، دون من تعلق استخلافه بفعل غيره عليه السلام.
وليس لأحد أن يقول: إذا كان اختيار الأمة له عن نص النبي صلى الله عليه وآله على الاختيار وصفة المختارين، فهو مضاف إلى النبي عليه السلام وإن وقع بغيره.
لأن (1) الأمر لو كان كذلك - مع أنا قد بينا فساد الدعوى له - لم يكن ما فعلوه من اختيار أبي بكر مسوغا لإضافة استخلافه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، لحصول العلم في عرف الاستخلاف بخلافه، وأنه لا يجوز أن يضاف إلى نبي ولا إمام ولا ملك استخلاف غيره إلا بعد أن يكون هو الناص على عينه.
ولهذا لا يضاف إلى الملك إمارات القرى الصادرة عن اختيار أمير (2) الإقليم المنصوب من قبل الملك المأذون له في الولايات، وكذلك حكم كل رئاسة منصوص عليها من قبل رئيس لا يضاف إلى الرئيس الأول استخلاف أحد ممن أذن له في استخلاف.
فكذلك إذا (3) كان الأمر على ما قالوه لم يجز إضافة خلافة أبي بكر إلى رسول الله صلى عليه وآله، وإن كانت حاصلة بفعل من أذن له بالاستخلاف على الجملة.
كما يقال في كل موضع ذكرناه: هذا خليفة الأمير أو خليفة الوزير، ولا يقال:
خليفة الملك إلا لمن نص الملك على خلافته، وإن كان الوزير والأمير مأذونا لهما في
____________
(1) في النسخة: " ولأن ".
(2) في النسخة: " الأمير ".
(3) في النسخة: " إذ ".
وإذا صحت هذه القضية ثبت فسقه، بكذبه على رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومنها: إرادته لتخلف عمر وأبي عبيدة وغيرهما من أنصاره عن النفوذ في جيش أسامة، مع وجوبه، وإرادة القبيح قبيحة، وكونه مريدا لذلك معلوم على وجه لا ريب فيه ومنها: قصة فدك، ومنعه فاطمة عليها السلام منها، وخطأه في ذلك من وجوه:
منها: قبضه يد النائب عنها (1) عن التصرف فيها بغير حجة، مع استقرار الشرع ومطابقته لأدلة العقل بحظر قبض اليد المتصرفة في شئ عنه بغير بينة تمنع منه.
ومنها: كونه حاكما فيما هو خصم فيه، وذلك ظاهر الفساد في الشرع.
ومنها: مطالبته بالبينة مع استغنائها عليها السلام عنها باليد، ووجوب ذلك عليه دونها، ورد دعواها ومطالبتها بالبينة، مع إجماع الأمة على صدقه ما في هذه الدعوى، فإن يجهل هذا الإجماع فليس من الأمة، وإن يعلمه فقد رد دعوى يعلم صحتها، وطالب بأمارة الظن مع ثبوت دلالة العلم، وأخذ منها ما يعلم استحقاقها، وإباحته لمن يعلم كونه غير مستحق له، وهذا عظيم جدا.
ومنها: قيام الدلالة على عصمتها من وجوه:
منها: قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2)، وفاطمة عليها السلام من جملة المذكورين بإجماع، ولا وجه للإرادة هاهنا إلا الأخبار عن ذهاب الرجس عن المذكورين وثبوت التطهير، لأن الإرادة المتعلقة بطاعات العباد لا تخص مكلفا من مكلف، والإرادة في الآية خرجت مخرج التخصيص للمذكور فيها والإبانة له من غيره، ولأن حرف إنما يثبت الحكم لما اتصل به وينفيه عما انفصل عنه، وذلك يمنع من حمل إرادة الآية على العموم.
____________
(1) في النسخة: " قبضه يدا النائب عنهما ".
(2) الأحزاب 33: 33.
ولا يجئ من ذلك القول بأن الرجل جهل عصمتها، لأنه لا تكليف له في ذلك.
لأن صحة دعواها عليها السلام إذا كانت مستندة إلى ثبوت عصمتها فلا بد من أن تحتج عليه بدليلها الذي لا حجة لها غيره، وإذا فعلت ذلك تعين عليه فرض النظر الذي (2) متى يفعله يعلم عصمتنا، وإن لا يفعل يخل بالواجب عليه، والاخلال بالواجب قبيح (3)، ومطالبة المعلوم الصدق بينة استظهار على العلم بالظن، وذلك جهل قبيح وظلم صريح.
ومنها: أنه لا يخلو أن تكون فدك مما يجب في الشرع تسليمه لفاطمة عليها السلام، أو مما يجب منعها منه، ولا ثالث هاهنا.
والقسم الأول يقتضي كون المانع ظالما، لإخلاله بالواجب من تسليم الحق إلى مستحقه، فاسقا لجهله بما يجب على الحاكم علمه.
والثاني يقتضي كونها - وحاشاها - مطالبة بما لا تستحقه، وكاذبة في دعواها وتظلمها من الحق الواجب عليها، ومشاركة أمير المؤمنين عليه السلام لها في ذلك، للرضي به وإقرارها عليه ومشاركتها في الدعوى والتظلم.
والإجماع بخلاف ذلك، فصح القسم الأول.
____________
(1) في النسخة: " ثبت ".
(2) في النسخة: " التي ".
(3) في النسخة: " قبح ".
لاتفاق العقلاء على أنه لا حكم للظن مع إمكان العلم ظنا (1) عن ثبوته، وقد أجمع المسلمون على صحة الحكم بالعلم، وأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله شهادة خزيمة بن ثابت فيما يعلم صحته، لاستناده إلى صدق النبي صلى الله عليه وآله وثبوت نبوته، وسماه ذا الشهادتين.
فلا عذر إذا لمن منع مستحقا يعلمه كذلك، ولا يصح وصفه عادلا مع قبضه يدا عما يعلم كونه ملكا لها، وإباحته لمن يعلم أنه لا يستحقه، لحصول العلم الضروري - الذي لا تصح مخالفته، ولا انتظار دليل عقلي ولا شرعي بخلافه - بكون من كان كذلك ظالما.
ومنها: رده شهادة أمير المؤمنين والحسنين عليهما السلام وأم أيمن بصحة النحلة، مع إجماع الأمة على عدالتهم وعلمهم بموقع الشهادة، وذلك يقتضي عدوله عن موجب الحكم إلى إرادة الظلم وفعله.
واعتذاره للرد: بأن عليا عليه السلام (زوج) والحسنين عليهما السلام ابنان وأم أيمن مولاة، وهم يجرون (2) إلى أنفسم بشهادتهم.
ليس بعذر، لأنه يقتضي القدح في عدالتهم المعلوم ثبوتها بإجماع، ويدل على شك القادح في عدالتهم في نبوة النبي صلى الله عليه وآله أو جهله، لحصول العلم من دينه بصواب (3) هؤلاء الشهود وكونهم من أعلا المباحين (4) درجة، إذ التصديق بثبوت هذه الصفة لهم والقدح في عدالتهم لا يجتمع.
ولأن هذا لو كان سببا مانعا من قبول شهادة العدل، لكانت فاطمة وعلي
____________
(1) كذا.
(2) في النسخة: " يحزنون ".
(3) في النسخة: " بثواب ".