ومنها: إخراجه العباس رضي الله عنه، مع عظم قدره في الإسلام، وحسن رأيه فيه في جميع الأحوال، وتخصيصه بقربى النبي صلى الله عليه وآله، وتعظيم النبي صلى الله عليه وآله له، وتكامل ما يعتبرونه من الشروط في الإمامة له، وتقديم النبي صلى الله عليه وآله له على جميع أصحاب الشورى، عدا علي عليه السلام.
وأي أمر يصلح له طلحة مع حمقه وكبره، والزبير مع بخله، وعبد الرحمن مع ضعفه، وعثمان مع سوء رأيه، وسعد مع فكاهته، لا يصلح له العباس؟!
واعتذاره ابنه مع زهده وعلمه، وإنكاره على المشير عليه به، واعتذاره بجهله بحكم الطلاق، إذ ذاك يقدح في إمامته (2)، لحصول العلم بجهله بكثير من الأحكام الراجع فيها إلى علي تارة وإلى معاذ أخرى وإلى غيرها من الصحابة.
والذي يزعم أن طلحة أو الزبير أو واحدا من الخمسة الذين يخيرهم أفقه من عبد الله، ومعظم ما يرويه الفقهاء عنه، ولا رواية بشئ من الفقه عن بعض القوم، وإن روي فيسير من كثير مما روي عن عبد الله، بل لم يرو عنه نفسه بعض ما روى عن ابنه، فإن كان لا يصلح للإمامة لجهله فأبوه بذلك أولى، لكونه أعلم منه، بدليل تضاعف المحفوظ عنه من الأحكام ما روي عن أبيه، وقوله معتذرا لإخراجه من الأمر.... واحد منهم بالخلائق، إشعار منه.... (3) إذ لو كانت الخلافة دينا، والسيرة عادلة، لكان الواجب المثابرة عليها، وحث الحميم على المشاركة فيها وإن شق ذلك، إذ كان الحازم في الدين لا يتملص من الحق، ولا يرغب بنفسه ولا خاصته عما به يتم الثواب إن شق بحمله
____________
(1) كلمة غير مقروءة وظاهرها: " ما يمسك ".
(2) أي: إمامة عمر.
(3) عدة كلمات غير مقروءة.
ومنها: قوله إني أكره أن أتحملها حيا وميتا، لأنه بما فعله في الشورى متحمل لها في حياته وبعد وفاته، إذ لا فرق بين أن ينص على واحد بعينه، وبين ما فعله من حصر الأمر في ستة نفر معيرا عليهم عبد الرحمن، منحجرا عليهم في اجتهادهم، إذ لو كان صادقا في كراهية تحميلها لأزجى الأمر على الأمة كلها.
ومنها: تخيره للشورى من يعلم هو وكل حاضر وغائب ومتجدد في الأزمنة كون غيره أسبق إلى الإسلام، وأفضل هجرة، وأعلم بصيرة، وأحسن بلاء في الإسلام، وأعلم بالأحكام، وأعرف بالسياسة، وآمن على الأمة ومن لم يعاب قط في شئ، ولا قدح عليه بشئ، كفضلاء بني هاشم، وذوي - السوابق والهجرة من قريش وغيرهم، وعظماء الأنصار المشهود لهم بصواب الرأي وحسن المآل.
في كونهم (1) مقدوحا في أنسابهم وبواطنهم، وتهمتهم على الإسلام وأهله.
(بيان حال عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن)
لتناصر الخبر من طريق (2) الشيعة وأصحاب الحديث بأن عثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن من جملة (3) أصحاب العقبة، نفروا (4) برسول الله صلى الله عليه وآله.
وأن عثمان وطلحة القائلان: أينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه؟! والله لو قد مات لأجلنا على نسائه السهام!!
وقول طلحة: لا تزوجن أم سلمة، فأنزل الله سبحانه: (وما كان لكم أن تؤذوا
____________
(1) العبارة كذا وردت في الأمل، ويوجد سقط ظاهر.
(2) في البحار: " طريقي ".
(3) في النسخة: " من الجملة ". والمثبت من البحار.
(4) في البحار: " الذين نفروا ".
وقول عثمان يوم أحد: لألحقن بالشام، فإن لي بها صديقا يهوديا.
وقول طلحة: لألحقن بالشام فإن لي بها صديقا نصرانيا، فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) (2) الآية.
وقول عثمان لطلحة وقد تنازعا: والله إنك أول أصحاب محمد تزوج يهودية (3)، فقال طلحة: وأنت والله لقد قلت ما يحبسنا هاهنا ألا نلحق بقومنا.
وقد روي من طريق موثوق به ما يصحح قول عثمان لطلحة، فروي أن طلحة عشق يهودية فخطبها ليتزوجها، فأبت إلا أن يتهود، ففعل.
وفيه قال الشاعر، شعر:
يهودية قالت وأومت بكفها | حرام عليك الدهر حتى تهودا |
وقدحوا في نسبه: بأن أباه عبيد الله كان عبدا راعيا بالبلقاء، فلحق بمكة، فادعاه عثمان بن عمرو بن كعب التميمي (4)، فنكح الصعبة بنت دزمهر الفارسي، وكان بعث به إلى اليمن، فكان بحضر موت خرازا.
وفيه يقول حسان بن ثابت، شعر:
ألم تر أن طلحة في قريش | به من الغطارفة العظام |
وكان أبوه بالبلقاء عبدا | في يده الشوك في جنح الظلام |
هو العبد الذي جلب ابن سعد | وعثمان من (ال) بلد الشآم |
وقول الآخر، شعر:
بني دزمهر والدعي أبوهم | رجيع (5) قد ألصقت بالأكارع |
____________
(1) الأحزاب 33: 53.
(2) المائدة 5: 51.
(3) في البحار: " بيهودية ".
(4) في البحار: " التيمي ".
(5) في النسخة: " رجع ".
بني... في أبوكم... | في الوادي يفتق الضفادع |
وأنتم ببيع اللحم أحدق منكم | بقرع الكاة بالسيوف القواطع |
وأما الزبير فكان أبوه ملاحا بجدة، وكان جميلا، فادعاه خويلد، وزوجه عبد المطلب صفية.
ورووا أن أسين بن زيد بن الحسن كان واليا على المدينة من قبل المنصور، فعزل وأقيم للناس رجاء أن يطلع عليه بجرم يعذر قي عزله، فلم يوجد له ذنب، فلما كان في اليوم الثالث دسوا عليه رجلا من ولد الزبير، فضربه بنعل في يده وقال: أنت الذي صنعت بي وصنعت، فقال له الحسني: ثكلتك أمك ومن أنت؟ قال: أنا من لا ينكر ولا يجهل، أنا فلان بن فلان بن الزبير بن العوام، قال: نعم يا بن الملاح هكذا ينبغي أن تكون، إن أحببت أن أدلك على سفن أبيك فعلت، فإنه كان ملاحا من أهل جدة وسفنه بها، قال الزبيري: يا معشر المسلمين اشهدوا على ما يقول لي وقد ولدتني صفية، قال: هي أدنتك من الظل، ولولاها لأضحيت في الشمس.
وأما سعد، فقد رووا عنه عليه السلام أنه قال: اتقوا دعوة سعد، يعني على الضلال.
وثبت أن عليا عليه السلام خطب الناس في خلافته فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا أخبرتكم بسائقها وقائدها وناعقها، فقال له سعد بن مالك: أخبرني كم في رأسي ولحيتي طاقة من شعر؟
قال: قد أعلمني خليلي أنك تسألني عن هذا، أخبرك أن على كل طاقة شعر في رأسك ملك يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطان يقرك، وأن في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله الحسين صلوات الله عليهما.
قال: وإن عمر بن سعد صبي يدرج.
وقد قدحوا في نسبه بأن السلافة بنت مالك العذري قدمت مكة ومعها ابن لها صغير يدعى مالك بن غراب من بني عذرة، فنزلوا على وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فنكح وهب السلافة، فولدت غلاما سماه مالكا، فمات الغلام، فوثب وهب بن عبد مناف - وقيل: هو وهيب - فأخذ ولد السلافة من غراب العذري، فادعاه وخاصم
وفي أبي وقاص مالك بن غراب العذري الملصق إلى وهيب بن عبد مناف يقول ضرار:
أمسى يناقرني لئيم واضع | عند المراغة مالك بن غراب |
فافخر بعذرة إن فخرت فإنهم | ولدوك واترك زهرة بن كلاب |
فإذا ظلمت فصخ فإنك منهم | يا آل عذرة عند كل خطاب |
وأم سعد بن مالك أبي وقاص حمية ابنة سفيان بن أمية بن عبد شمس، وقال: إنها ملصقة النسب بسفيان.
وأم حمية سمية أمة أبي السرح... (1).
وأما عبد الرحمن بن عوف، فأم عوف منبعة أمة خزاعية يقال فيها شر، وهي أم العيداق، يقال: إنها أمة عبد المطلب بن هاشم، ويقال: إنها أمة وحشية لبني كعب آجراها.... (2)، وهما عبدان لبني كعب، قطعت يد أحدهما في سرقة.
وهذه قدوح في أنسابهم إن كانت سلومة منعت على كل حال من تأهيلهم للإمامة، وإن كانت مظنونة فكذلك أيضا، لدخول الظن في هذا الباب كالعلم.
ولو لم يقدح فيهم إلا بما وصفهم به عمر لكفى في وجوب الرغبة عنهم إلى من لا طعن عليه بشئ، فكيف بما ذكرناه من حالهم المعلومة أو المظنونة.
هذا مع ظهور فسقهم وتهالكهم في رغبة الدنيا وإطراح الآخرة على رأي الفريقين، بحصرهم عثمان ومن معه من النساء والولدان والبهائم، ومنعهم جميعا الماء، وقتلهم لعثمان بعد ذلك، وطرحه جيفة لا يتمكن أحد من أوليائه أن يدفنه، ونكثهم بيعة علي عليه السلام.
إلى غير ذلك من الأحداث التي لا يتمكن أحد من إضافة شئ منها إلى أحد من
____________
(1) كلمة غير مقروءة.
(2) كلمة غير مقروءة.
(بيان حال عائشة وأصحاب الجمل)
وهذا من أوضح عندها وعند أعوانها على الانتصار له (1).
ولو صح خطأ القاتل لم يكن من الطلب بثأره في شئ، لبعد ما بينهما من النسب.
ولو كانت من أولياء الدم لكانت من ذلك بمعزل، لكونها امرأة من دونها رجال، فهم أولى بعثمان.
ولو صحت ولايتها في المطالبة لوجب اختصاصها بالتظلم إلى إمام المسلمين وحاكمهم ومن لا يتهم بميل إلى باطل ولا إيثار لهوى، ومن لم تزل تصفه من ذلك بما لم تصف أحدا، وابتداؤها بالحرب ليس من التحاكم في شئ.
ولو كانت الحرب سائغة لكانت من فروض الرجال دونها بغير خلاف.
ولو كانت الحرب من فروض النساء لكانت خارجة عن ذلك بنص التنزيل الموجب عليها لزوم البيت وإطالة الحجاب.
ولو كانت الحرب من فروضها لوجب قصرها على القتلة والأعوان على القتل الذين منهم طلحة والزبير، دون إمام المسلمين الملازم بيته ومن في حيزه من المهاجرين والأنصار الذين لم يقتلوا عثمان ولا رضوا بقتله عند كافة الخصوم من أوليائها إلى... (2).
هذا، ولو كان قتال القوم سائغا لقتلهم عثمان ورضاهم بذلك وولايتهم قتلته لوجب عليها أن تخصهم بالحرب والجهاد، دون أهل البصرة الذين (لم) يشعروا بشئ من ذلك ولا شركوا فيه بقول ولا فعل عند أحد من الخصوم.
فعلى أي وجه ساغ ذلك؟
____________
(1) كذا في الأصل، والظاهر وجود سقط قبل هذه العبارة.
(2) كلمة غير مقروءة.
وبأي شريعة ساغ لها مطالبة الناس بنكث بيعة أمير المؤمنين عليه السلام وقتال الممتنع من ذلك؟
وبأي برهان استحلت دم من قتل منهم من صلحاء المسلمين من غير حدث يوجب القتل؟
وبأي حجة حل لها الغدر بعثمان بن حنيف ومن معه من الأنصار والتنكيل به وقتلهم؟
وعلى أي مذهب ساغ لها فتح باب بيت مال المسلمين والتعرف فيه بغير إذن من الصحابة أهل العقد والحل عندها وعند شيعتها وأفاضل التابعين؟
ومالها لم ترتدع لتنابح كلاب الحوأب مع تقدم التحذير لها من رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، وإخبارها بكونها ظالمة في مسيرها؟!.
وبأي علة ساغ لها تفريق أموال المسلمين في المعونة على الفتنة فيهم؟
ومن أي وجه حل لها إظهار السلاح في دار الأمن؟
وما المانع لما إن كانت طالبة بالثأر من الرجوع إلى دعاء أمير المؤمنين عليه السلام إلى التحاكم إليه مع علمها بعدله وبعده عن الظلم؟
وما الصارف لا - إن كانت حضرت للإصلاح بين المسلمين على ما يهدي به أولياؤها - عن الرجوع إلى دعوة أمير المؤمنين عليه السلام لها إلى الكتاب والسنة؟
وما الصارف لما عن الرجوع إلى وعظه وتخويفه من خلاف الكتاب والسنة وما يتم ذلك من فساد أمر الأمة وسوء القضاء وإثارة الفتنة؟
ومالها لم تذكر الحجة في خروجها، والعذر في هتك حجابها، والوجه في قتالها، وجميع الأعذار للفتنة؟
وما لها لم تستثر من طلحة والزبير وهما من جملة القتلة بلا خلاف؟
وعلى أي وجه استحلت قتل حامل المصحف داعيا إلى ما فيه؟
وبأي دليل عقلي أو شرعي بدأت بحرب إمام الملة ومن في حيزه من ذوي
وبأي وجه استحلت دماءهم؟
وما الحامل لها تعريض أنصارها المقرين لها للقتل بمن يدعوها إلى المسالمة والمحاكمة؟
وهلا خافت مالك العقاب سبحانه إن كانت عارفة به من إراقة دماء الفريقين مع تمكنها من حقنهما؟
وهلا صرفها عن ذلك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام من المآثر الدالة على تحريم خلافه فضلا عن حربه، من قوله عليه الصلاة والسلام:
علي مع الحق والحق مع علي، وقوله عليه السلام: حربك حربي وسلمك سلمي، وأمثال ذلك، والشهادة له ولولديه ولجماعة ممن في حيزه بالجنة؟
ومالها لم ترتدع عن قتاله مع اختصاص نصرته بوجوه الصحابة وذوي البصيرة والورع وأنصار الله، واختصاص نصرتها بأغدار قريش والمؤلفة قلوبهم والمتهمين على الإسلام وأهل السواد وأجلاف الأعراب؟ لولا ما ذكرنا من عداوة علي عليه السلام التي لها عميت القلوب وطاشت الأفهام؟
وما لها لم تخف بحربها من قتل المشهود لهم بالجنة، كعلي والحسنين عليهم السلام وعمار وغيرهم من أهل بدر وحنين وبيعة الرضوان وفضلاء التابعين؟
ولم لم يرق أسمقها من... (1) أهل الحق عند الظهور عليهم وتجب إلى المسالمة ووضع السلاح المدعو إليهما؟ فتحقن بذلك باقي الدماء ويتلافى فارط الشقاق؟
ولم أحوجت إلى عقر الجمل ولم تجب إلى الأمان إلا قسرا؟
ولم لم تشكر عليا عليه السلام على ما من به عليها من التجاوز عن الانتقام منها
____________
(1) كلمة غير مقروءة.
ولم كفرت نعمته الظاهرة عليها وصرحت بذمه والتعريض به، وأظهرت الشماتة بقتله، واعترضت في دفن ولده، وأوصلت ذلك في أحوال التمكن إلى أن فارقت الدنيا؟
وأما طلحة والزبير، فمعظم ما قدمناه من وجوه الخطأ الواقع من عائشة قائم فيهما، لكونهما الزعيمين لأمرها المشاركين لما في جميع ما عددناه، فلا وجه لتكراره وتنقيصهما (1) أنهما من جملة من حصر عثمان وضيق عليه وشرك في قتله.
وفيهما يقول حسان بن ثابت، شعر:
من عذيري من الزبير ومن | طلحة هاجا أمرا له إعصار |
بم قالا للناس دونكم (2) العجل | فشبت وسط المدينة نار |
والأبيات معروفة.
فكيف يطلب بثأر المقتول من قتله؟!
ولأنهما بايعا طائعين ونكثا من غير حدث يحدث منه عليه السلام يوجب ذلك، إلا فوت الأمنية والطمع في الرئاسة.
ولأنهما هتكا حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله عن زوجته وإبرازها على رؤوس الأشهاد، وصانا حلائلهما.
وإذا تقررت هذه الجملة وصح لك ضلال أصحاب الجمل وقبح قصدهم وبعدهم عن الدين بكل واحد مما ذكرناه، فكيف بجميعه، فسقط الاعتراض بفعلهم.
(بيان حال معاوية وعمرو بن العاص ومن في حيزهما)
وأما معاوية وعمرو بن العاص ومن كان في حيزهم، فالواجب عليهم طاعة أمير المؤمنين عليه السلام والانقياد له والنزول على حكمه، لثبوت إمامته على أصولنا بالنص
____________
(1) كذا.
(2) في النسخة: " من دونكم ".
منها: قعودهم عن نصرة عثمان والدفع عنه، ظالميه عندهم، وهم من رعيته المرتهنين ببيعته، مع تمكنهم من ذلك.
ومنها: ظهور حال عمرو بن العاص في عداوة عثمان، لعزله عن مصر وإنكاره عليه وخروجه إلى أطراف الشام مؤلبا وكاتبا بأحداثه إلى البلاد، إلى أن قتل، ومشاركة معاوية، وحربه له في ذلك، لاختصاصه به وتولي الجميع له.
ومنها: كذبهم فيما أظهروه من الطلب بثأر عثمان المقتول بإيثارهم، لتمكنهم من نصرته وقعودهم عنها، وما ذكرناه من حال عمرو وولاية معاوية وجنده.
ومنها: خروجهم عن طاعة الإمام المختار على وجه لم يختر عليه أحد قبله، وإظهار شقاقه ومخالفة ما أجمع عليه العلماء من التابعين والصحابة.
ومنها: منعهم ما قبلهم من أموال المسلمين وصدقاتهم الواجب عليهم حملها إلى بيت مال المسلمين.
ومنها: اعتصامهم ببلاد الإسلام ومنع الإمام العادل عليه السلام وكافة العلماء المعتد بعقدهم وحلهم من التصرف فيها، وكونهم بذلك عاصين بغير إشكال.
ومنها: مطالبتهم بثأر من لا ولاية لهم في دمه.
ومنها: طلبهم ذلك على أقبح الوجوه من المجاهرة بحرب والفساد في البلاد المنافي لطلب القود المستحق في الشرع، ورغبتهم عما دعوا إليه من الكتاب والسنة.
ومنها: استحلالهم قتال أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام ومن في حيزهم من سابقي الصحابة وفضلاء التابعين المشهود لأكثرهم بالجنة من غير حدث يوجب ذلك بل
ومنها: شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومن في حيزه من فضلاء المسلمين عليهم بالضلال وتدينهم بذلك مع حصول العلم ببعدهم عن الهوى والفتيا والعمل بغير حق.
وإذا ثبت ضلال معاوية وعمرو ومن في حيزها على أصولنا وفسقهم على أصولهم وقبح أغراضهم فيما قصدوه، وجب الحكم بذلك عليهم ولا يجوز الاعتداد بفعلهم.
وليس لأحد أن يقول: فإذا كان علي عليه السلام وأصحابه على بصيرة من ضلال معاوية وأصحابه، فلم رجع عن قتاله الواجب عندكم إلى المسالمة وتحكيم الرجال الذين يجوز عليهم الخطأ؟
لأنا قد بينا وقوع التحكيم على جهة الاضطرار، وكونه لو كان عن إيثار حسن، لتعلقه بالكتاب والسنة الدالين على حق علي عليه السلام وباطل معاوية، وأن الحال لما جرت بخلاف ذلك لم يرض بها عليه السلام وأظهر النكير واهتم بقتال معاوية حتى عوجل دونه صلوات الله عليه، فاقتضى ذلك سقوط ما عورضنا به.
(ما أظهره القوم عند وفاتهم الدال على ضلالهم)
وقد تناصرت الروايات بما أظهره القوم عند الوفاة من التصريح بما بيناه، وإن كان ثابتا بالأدلة فاقتضى تأكيده.
فمن ذلك: قول أبي بكر في حديث طويل: ثلاث فعلتهن ليتني لم أفعلهن: ليتني لم أكشف بيت فاطمة عليها السلام ولو كان مغلقا على حرب، وليتني يوم السقيفة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان الأمير وكنت الوزير.
وهذا منه نص بما تقوله الشيعة وتأباه عامة مخالفيهم اليوم من الهجوم على باب فاطمة عليها السلام، ونص على قبيح ما أتاه في ذلك، وبرهان واضح على قبيح ولايته يوم السقيفة، لأنها لو كانت حسنة لم يتمن فقدها، وإن كانت حسنة فإنما تأسف على ما أوجبته من القبائح، إذ لا بد من وجه قبيح له تأسف.
وهذا موضح عن علمه من نفسه بقبح ما أتاه بخلافته.
وقوله وقد قيل له: استخلف، فقال: إني أكره أن أتحملها حيا وميتا.
ولو كانت خلافته لله رضى لكان تحملها قربة إليه سبحانه لا يجوز لمسلم التملص منها.
قوله: - وقد جمع بني عبد المطلب بعدما طعن - يا بني عبد المطلب أراضون أنتم عني؟ فقال رجل من أصحابه: ومن ذا الذي يسخط عليك، فأعاد الكلام ثلاث مرات، فأجابه رجل بمثل جوابه، فانتهره عمر وقال: نحن أعلم بما أشعرنا قلوبنا، إنا والله أشعرنا قلوبنا ما نسأل الله أن يكفينا شره، وأن بيعة أبي بكر كانت فلتة نسأل الله أن يكفينا شرها.
وهذا نص منه على قبيح ما فعل.
وقوله لابنه عبد الله وهو يسنده إلى صدره: ويحك، ضع رأسي بالأرض، فأخذته الغشية، (قال:) (1) فوجدت من ذلك، فقال: ويحك ضع رأسي بالأرض، فوضعت رأسه بالأرض فعفر بالتراب ثم قال: ويل لعمر وويل لأمه إن لم يغفر الله له.
وهذا تصريح منه بما أضفناه إليه.
وقوله حين حضره الموت: أتوب إلى الله من ثلاث: من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون الناس، واستخلافي عليهم، ومن تفضيلي المسلمين بعضهم على بعض.
وقوله: أتوب إلى الله من ثلاث: من ردي رقيق اليمن، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد إذ أمره رسول الله صلى الله عليه وآله علينا، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ألا نوليه منهم أحدا.
وما رووه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: كنت (عند) عمر وهو يموت، فجعل يجزع، فقلت: يا أمير المؤمنين أبشر بروح الله وكرامته، فجلعت كلما رأيت جزعه
____________
(1) من البحار.
(بيان كفر القوم ومناقشة الزيدية)
وإذا ثبت حدوث ما ذكرناه من القبائح الواقعة من الثلاثة في حال ولايتهم بطلب إمامتهم بها لاتفاقهم على ذلك، وإذا بطلت في حال بطلت في كل حال باتفاق.
وإذا ثبتت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام عقلا وسمعا، واقتضى ثبوتها ثبوت الصفات الواجبة للإمام له، وفسدت إمامة المتقدمين عليه على أصولنا وأصولهم.
ثبت أن الواقع منهم وممن اتبعهم متدينا بإمامتهم من محاربته عليه السلام وغيرهم كفر، لأنه لا أحد قال بوجوب عصمة الإمام إلا قطع بكفر القوم ومن دان بإمامتهم، ولأن كل من أثبت النص على أمير المؤمنين عليه السلام قال بذلك.
ولا يقدح في هذه الطريقة خلاف الزيدية، لانعقاد الإجماع بما قلناه، وانقراض الأزمان به قبل حدوث مذاهب الزيدية.
على أن لنا ترتيب الاستدلال على وجه يسقط معه خلاف الزيدية.
فنقول: لا أحد قال بالنص الجلي إلا قطع على كفر القوم، فتخرج الزيدية من هذه الفتيا، لأنها تنكر النص الجلي.
ولأنا نعلم وكل مخالط من دين أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من ذريته عليهم السلام القطع على كفرهم والدائن بإمامتهم، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما سلف، وفتياهم بذلك حجة، لكونهم معصومين، ولأن فتياهم هذه لو كانت خطأ لكانوا ضلالا، وهذا ما لا يطلقه فيهم مسلم.
إن قيل: أفتقطعون على كفر من تابعهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى الآن؟
قيل: قد مضى في كلامنا ما يغني عن هذا بقولنا: إن الفتيا مختصة بتكفير الأعيان على
____________
(1) من البحار.
إن قيل: كيف يمكنكم ذلك مع ظاهر إيمانهم، وتدينهم بالاسلام، واجتهادهم فيه، وتقريب النبي صلى الله عليه وآله لهم، وتعظيمه إياهم، ومنعكم من وقوع الكفر بعد الإيمان على مذاهبكم في الموافاة.
قيل: المظاهرة بالإيمان والاجتهاد في أفعاله وبذل الأنفس والأموال في نصرته لا يدل على مطابقة الباطن له ولا على كونه صادرا عن علم قصد به وجهه، إذ كانت هذه الأمور لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإنما يعلم منها ما نص عليه سبحانه.
فإذا فقدنا النص فيهم بذلك ووضح البرهان بكفرهم وموتهم عليه، علمنا أن الاعتقاد الماضي منهم كان جهلا، وإن أظهروا إيمانا أو تقليدا أو علما لغير وجهه لا يستحق بهما المعتقد ثوابا، لوقوف استحقاقه على العلم المقصود به ووجهه الذي له وجب، ووجوب القطع على كفر من كان كذلك حسب ما اقتضاه البرهان.
فأما تعظيم النبي صلى الله عليه وآله، فغير مسلم، لفقد دليله وتعذر إثباته، إذ كان التقريب والإيناس والمظاهرة لا يدل على تعظيم لصاحبه (2)، لحصول ذلك أجمع مع من تجب البراءة منه لكفره.
على أن المتقرر من شرعه عليه السلام تعظيم مظهر الإسلام والمطيع فيه، مشترطا بكون ما أوجبه واقعا لوجهه باتفاق العلماء. فلو (3) سلم تعظيمه عليه السلام للقوم لكان جاريا فيه على الوجه الذي شرعه من الاشتراط.
فإذا وضح برهان كفرهم في حياته عليه السلام بما بيناه، لم ينفعهم تعظيمه عليه
____________
(1) في النسخة: " وبمن ".
(2) في النسخة: " لصحة ".
(3) في النسخة: " فلم ".
(ما استدل به على إيمان القوم من الكتاب والسنة وردّه)
(ما استدل به من الكتاب)
فمن ذلك: قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) (1).
قالوا: وهذه صفات القوم: آمنوا، وعلموا الصالحات، وخافوا في بدء الإسلام، واستخلفوا في الأرض، وآمنوا بعد الخوف، فمنع ذلك من فرقهم بالضلال ودل على صحة إيمانهم وإمامتهم.
الجواب: أن الوعد بالاستخلاف في الآية متوجه إلى ذوي الإيمان ما في الباطن والظاهر، وعمل الصالحات لوجوهها المخصوصة، والاخلاص في العبادة لله تعالى من الاشراك والرياء وغيرهما مما يشوب الاخلاص، والأمن بعد الخوف لله تعالى، غير معينين (2) بأسمائهم.
وقد دللنا على ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام على أصولنا وأصولهم والدائنين بولايتهم، فاقتضى خروجهم من حكم الآية، وتوجهها إلى من تكاملت فيه صفاتها من غيرهم.
____________
(1) النور 24: 55.
(2) في النسخة: " معنين ".
منها: افتقارهم في تخصيصهم بها إلى إقامة برهان على ثبوت صفات المذكورين فيها لهم، وثبوته يغني عن الآية في المقصود باتفاق، وإذا تعذر ذلك عليهم خرج الظاهر من أيديهم بغير إشكال.
ومنها: أنه لا يخلو أن يكون المراد بالاستخلاف المذكور في الآية توريث ديار الكفار، كقوله تعالى: (وأورثنا بني إسرائيل) (2)، (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها) (3)، (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (4)، (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (5)، (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) (6).
أو الخلافة على العباد وتدبير البلاد، كآدم عليه السلام في قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة) (7)، وطالوت في قوله تعالى: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) (8)، وداود في قوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (9)، وسليمان في قوله سبحانه: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره) (10)، وقوله تعالى: (يا أيها الناس علمنا منطق
____________
(1) في النسخة: " أفرضنا ".
(2) الشعراء 26: 59.
(3) الأحزاب 33: 27.
(4) الأعراف 7: 129.
(5) الأنعام 6: 165.
(6) الأنعام 6: 133.
(7) البقرة 2: 30.
(8) البقرة 2: 247.
(9) سورة ص 38: 26.