الصفحة 375
الطير وأوتينا من كل شئ) (1)، وهارون عليه السلام في قوله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح) (2)، ورسول الله صلى الله عليه وآله في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (3)، فكان للناس، وعلم من دينه صلوات الله عليه وآله كونه خليفة على أهل الأرض ورئيسا لجميعهم.

أو ظاهر التصرف في البلاد وأهلها بالقهر والاضطرار.

فإن كان أراد الأول فلا مزية لبعض المستخلفين في الديار على بعض، وليس من الخلافة المطلوبة في شئ.

وإن أراد على الوجه الثاني فهو خطاب لغيرهم، لعدم النص أو ما يستند إليه من المعجز على استخلافهم، كاستخلاف من ذكرناه من الأنبياء عليهم السلام.

ولا يعترض هذا قولهم: أن ثبوت خلافتهم من اختيار مأذون لهم فيه يقتضي إضافتها إليه تعالى من وجوه:

أحدها: أنه مبني على أن الله تعالى قد نص على الاختيار، وقد بينا فساد ذلك.

ومنها: أن من أذن لغيره أن يختار وكيلا لنفسه أوصيا من بعده فاختار، فإن الوكيل وكيل له والوصي كذلك، دون من أذن له، ولا يقول أحد: هذا وصي فلان، وهذا وكيله، وإن كانت الوكالة والوصية بإذنه.

ومنها: أن ظاهر الآية يقيد وقوع الاستخلاف للمذكورين فيها به تعالى، كاستخلاف من قبلهم، وقد علمنا أن أم لله تعالى لم يستخلف أحدا منهم باختيار الأمة، وإنما دل على ذلك بمعجز أو نص يستند إلى معجز، فيجب كون المستخلفين بها كذلك.

وهذا يختص الآية بأئمتنا عليهم السلام، لثبوت النص من الكتاب والسنة والمعجز على خلافتهم.

____________

(1) النمل 27: 16.

(2) الأعراف 7: 142.

(3) الأنبياء 21: 107.

الصفحة 376
ولا يجوز أن يريد تعالى الاستخلاف على الوجه الأخير، لأنه سبحانه أضافه إليه، وذلك يقتضي حسنه وإباحة التصرف له، وتملك البلاد والعباد على جهة الغلبة قبيح لا يجوز إضافته إليه سبحانه، ولا يحسن معه التصرف على كل حال.

فإن جاز للمجبرة إضافة خلافتهم إلى الله تعالى - من حيث تم لهم تملك أمر الأمة وتصريفهم على إرادتهم - لم يجز ذلك لأهل العدل، ويلزمهم عليه إضافة خلافة كل متغلب إلى الله تعالى من بني أمية وبني عباس، بل عباد الأصنام، فإن التزموا ذلك ارتفعت المزية، ولم ينازعهم في استحقاق القوم سمة الخلافة على الوجه الذي يستحقه كل متغلب وظالم، إذ ذلك صريح مذهبنا المدلول عليه، وليس مما يريدونه في شئ، وإنما يمنعهم من إثبات خلافتهم على وجه يحسن معه إضافتها إلى الله تعالى حسب ما اقتضته الآية، فأما على وجه يقبح لا يجوز مع إضافتها إلى الله تعالى فغير منازعين فيه، والآية أجنبية منه.

ومنه: قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) (1).

وأولوا البأس هم أهل الردة والروم وفارس، والداعي إلى قتالهم أبو بكر وعمر وعثمان، وقد تضمنت الآية فرض طاعتهم، فاقتضى ذلك إيمانهم وإمامتهم.

والجواب: من وجوه:

منها: أن الآية نزلت في المتخلفين عن الحديبية بعد الأمر بمنعهم من الخروج إلى خيبر ذات المغانم، المنصوص على منع هؤلاء المخلفين منها، فاقتضت اختصاص الدعوة بالنبي صلى الله عليه وآله، وقد دعى بعد خيبر إلى حنين وفتح مكة وتبوك وغيرهن باتفاق، لأن الله تعالى حرم حضور خيبر ومغانمها على المخلفين عن الحديبية بإجماع ونص التنزيل في قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا

____________

(1) الفتح 48: 16.

الصفحة 377
نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله) (1)، يعني سبحانه: ما أمر به من تحريم الخروج إلى خيبر (2) على المخلفين عن الحديبية، فقال رادا عليهم: (قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) (3)، ثم قال سبحانه:

عقيب هذه الآية: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون) (4) الآية، يريد سبحانه:

هؤلاء المخلفين عن الحديبية، وذلك دال على أن الداعي لهم هو النبي صلى الله عليه وآله، لقوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) (5).

وتضمن هذه الآية للخبر عن نفي الخروج معه وقتال الأعداء أبدا باطل من وجهين:

أحدهما: أن الآية المتعلق بها في إمامة القوم نزلت في سنة ست بعد خيبر في المخلفين عن الحديبية باتفاق العلماء بالتفسير وما يقتضيه ظاهرها على ما بيناه، وهذه الآية نزلت في سنة تسع في المخلفين عن تبوك، وإذا كان المراد من المخلفين بآية الفتح غير المخلفين بآية براءة على تبوك سقط التعلق.

وأيضا مخلفي آية الفتح معرضون بالدعوة للثواب بقوله تعالى: (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا) (6)، ومخلفي آية براءة مقطوع على كفرهم وعذابهم وموتهم عليه ومصيرهم إليه في سياق الآية، برهان ذلك قوله سبحانه: (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها

____________

(1) الفتح 48: 15.

(2) في النسخة: " جبابر ".

(3) الفتح 48: 15.

(4) الفتح 48: 16.

(5) التوبة 9: 83.

(6) الفتح 48: 16.

الصفحة 378
في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون، (1)، فوجب أن يكون المذكورون في آية براءة غير أولئك، للقطع على عقاب هؤلاء وكفرهم وموتهم على ذلك، وتعريض أولئك بالطاعة والثواب.

ومنها: أن إضافتها إلى القوم فرع لصحة كونهم دعاة إلى الجهاد على وجه يحسن، وذلك فرع لثبوت إمامتهم، وقد بينا فسادها على أصولنا وأصولهم، فاقتضى ذلك قبح دعوتهم.

وإذا وجب ذلك، فلو كان الداعي غير النبي صلى الله عليه وآله لوجب أن يكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لأنه لم يدع أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله المخلفين دعوة صحيحة غيره بنص النبي صلى الله عليه وآله على قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وثبوت إمامته في حال دعوته بإجماع.

ولا يقدح في كونه داعيا قوله سبحانه في المدعو إليهم: (تقاتلونهم أو يسلمون) (2)، ومحاربوا علي عليه السلام مسلمون.

لأنهم عندنا وعند أكثر أهل العدل ليسوا مسلمين.

أما نحن، فلما قدمناه من الفتيا بكفر جاحد النص ومحارب المنصوص عليه، ولأنا نعلم من حال القوم استحلال دمه وذريته وشيعته، واستحلال دماء أهل الإيمان كفر، ولأنه وأصحابه كانوا مصرحين بكفرهم.

وقوله عليه السلام، والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) (3)، ومن طرق أخر: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم، إلى قوله (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) (4)، ولو كانوا مسلمين لكان واصفهم بالكفر ضالا، وهذا ما لا يطلقه مسلم.

ولاتفاق النقلة على قوله صلى الله عليه وآله: حربك يا علي حربي وسلمك

____________

(1) التوبة 9: 83 - 85.

(2) الفتح 48: 16.

(3) المائدة 5: 54.

(4) التوبة 9: 12.

الصفحة 379
سلمي، وأنه لم يرد نفس حربه، لتغايرهما، فلم يبق إلا أنه أراد أن حكم حربك ومحاربك حكم حربي ومحاربي، وحرب النبي صلى الله عليه وآله كفر، ومحاربه كافر، فيجب الحكم على حربه ومحاربه بذلك.

وأما من خالفنا من أهل العدل، في اعتقادهم أن الواقع منهم كبيرة يخرج عن سمة الإسلام إلى الفسق، وإذا لم يكونوا مسلمين صح تعلق الخطاب بهم.

على أن الإسلام في اللغة هو الاستسلام، ولم يكونوا كذلك، إذ يقول سبحانه:

(أو يسلمون) (1) يريد يستسلمون، على أصل الوضع، وبهذا الوجه يسقط خلاف المجبر، وإن كان ساقطا بما تقدم من الأصول الصحيحة المنافية لمذاهبهم الفاسدة.

على أنا لو سلمنا أن الداعي في الآية من ذكروه، لم يقتض ذلك إمامتهم، لأن الأمر بقتال الروم وفارس متقدم من رسول الله صلى الله عليه وآله، فالمجيب لهذه الدعوة طائع لله ورسوله صلى الله عليه وآله فلذلك استحق الثواب، والمتولي عاص لهما فلذلك استحق العقاب، وقتال المرتد عن الملة المجاهر بالحرب واجب على كل مسلم إماما كان الداعي لهم أم مأموما باتفاق، فصارت إجابة هذا الداعي واجبة لكونها إلى واجب، والتولي عنها قبيح لكونه إخلال بواجب، لأن طاعة الداعي مفترضة على كل حال، بل لكونها لحق لازم بغير دعوة من دعى إليه.

ومنه: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) (2) الآية.

قالوا: ولا أحد قابل المرتدين غير أبي بكر، فيجب توجه الخطاب إليه، وذلك ينافي ما تقوله الشيعة فيه.

والجواب: أن المأتي بهم لقتال المرتدين موصوفون في الآية بصفات تجب على من ادعي لشخص أو أشخاص أن تدل على تكاملها له أو لهم.

____________

(1) الفتح 48: 16. وفي النسخة: " أو يعلمون "، وهو سهو واضح.

(2) المائدة 5: 54.

الصفحة 380
وهي وصفهم: بأنهم يحبون الله ويحبهم - وهذا يقتضي القطع على إيمانهم وعلو منزلتهم عند الله تعالى - وكونهم ذوي ذلة ورفق بأهل الإيمان، وعزة وشديد وطي على الكفار، مجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، في شق مما وصفهم به سبحانه.

فليثبتوا تكامل هذه الصفات لأبي بكر ليسلم لهم كونه المقاتل للمرتدين (1)، وإن ثبت ذلك يغنهم عن الآية في المقصود، وهيهات، على أنا نتبرع ببيان خروج أبي بكر منها.

فنقول: معلوم انهزامه والثاني له بخيبر، وقول النبي صلى الله عليه وآله:

لأعطين الراية غدا رجلا كرارا غير فرار يحب الله ورسوله والله ورسوله يحبانه، فأعطاها عليا عليه السلام، فاقتضى ذلك ثبوت محبته لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ومحبتهما له، والحكم له بالكر، وانتفاء ذلك عنهما، فخرجا عن مقتضى الآية.

وبعد، فإنه وصاحبه لم يكونوا من أهل الذلة على المؤمنين، لغلظتهم على أهل بيت نبيهم عليهم السلام، وعلى سعد بن عبادة والزبير وسلمان وبلال.

وقد صرح أبو بكر بذلك فقال: وإذا عصيت فاجتنبوني (2) لا أمثل في أشعاركم وأبشاركم، مع ما صنعه ببني حنيفة من غير استحقاق، على ما بيناه.

ووصف الصحابة عمر بالغلظة، وثبوتها له بظاهر أفعاله.

وحال عثمان بذلك وإقدامه بالضرر القبيح والاستخفاف بأهل الإيمان ظاهرة.

ولا من أهل العزة على الكفار ولا المجاهدين باتفاق، على خلو ذكرهم بنكاية في كافر أو عناء في شئ من مواقف الجهاد، وثبوت ذلك أجمع لعلي عليه السلام وشيعته.

فيجب خروجهم من مقتضاها، وتوجهها إليه عليه السلام وإلى من اتبعه مخلصا في قتال المرتدين.

ومنه: قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم

____________

(1) في النسخة: " أن يقابل للمرتدين ".

(2) في النسخة: " فتجيبوني ".

الصفحة 381
ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) (1).

قالوا: أبو بكر وعمر وكثير ممن تابعهم ورضي بهم من جملة المبايعين باتفاق، فيجب توجه الرضوان إليهم، وذلك يمنع من كفرهم، ويقتضي ثبوت إيمانهم وإمامتهم.

والجواب: من وجوه:

منها: أنه لا حجة لهم فيها على أصولهم، لجواز الكفر بعد الإيمان والسخط بعد الرضوان عندهم، فعلى هذا لو سلم توجه الرضوان إلى المبايعين لم يمنع من السخط بما أحدثوه بعد البيعة من جحد النص وغيره مما بيناه، كما لم يمنع ذلك من فسق طلحة والزبير وغيرهما من جملة المبايعين على ما أوضحناه.

ومنها: أن الرضوان على البيعة مشترط بالوفاء بما هي بيعة عليه، بدليل قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (2)، فليدلوا على وفائهم بالبيعة، ولن يجدوا سبيلا إليه، بل المعلوم نكثهم بهزيمتهم عقيب هذه البيعة بخيبر، فخرجا من الظاهر.

ومنها: أن الوعد بالرضوان على البيعة مشترط بإيقاعها لوجهها قربة إلى الله تعالى، كسائر الطاعات، فليدلوا على وقوع بيعتهما ومن اتبعهما على هذا الوجه، وهيهات، بل الواقع من عمر في ذلك اليوم برهان واضح على ما شرحناه على تعري أفعالهما من الوجه الذي يستحق به الرضوان، فيختص بمن ثبت إيمانه من المبايعين، فليدلوا على ثبوت إيمانهم ليسلم لهم الظاهر، بل ليسعون بثبوته عنه، ولن يستطيعوه، وأنى لهم به، وقد قامت البراهين السالفة بضلالهم.

ومنها: أن الرضوان في الآية متوجه إلى المؤمنين عند الله تعالى، المبايعين لوجه الله، المعلوم ما في قلوبهم من الإيمان والوفاء بالبيعة في المستقبل، المنزول عليهم لذلك

____________

(1) الفتح 48: 18.

(2) الفتح 48: 10.

الصفحة 382
السكينة المقارنة للطمأنينة والنصر، المثاب عليهم بالفتح القريب الكائن بهم وعلى أيديهم، ولم يحصل القوم بحمد الله من هذه الصفات شئ غير ظاهر البيعة، لتعريهم من الإيمان وإيقاع البيعة لوجهها بحجة النص الكاشف عن كفرهم، وانتفاء السكينة عنهم، ونكث البيعة للهزيمة الواقعة منهم، وتعريهم بالفتح من الفرار.

وإذا ثبت هذا، فنحن وإن شككنا في خروج كثير من المبايعين عن هذا الرضوان أو دخولهم فيه، فلسنا نشك في خروج القوم الذين ادعي توجه الرضوان إليهم عنه بخروجهم عن صفات المرضي عنهم في الآية، ويخصص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام به ومن كان في حيزه من المؤمنين، لثبوت الصفات له بإجماع.

ومنه: قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (1).

قالوا: فأخبر سبحانه بالمغفرة للذين معه وهم أصحابه، وذلك ينافي قولكم بضلالهم والمبايع لهم.

والجواب من وجوه:

منها: أنه تعالى لم يرد بقوله: (والذين معه) في الزمان ولا المكان ولا على ظاهر الإسلام، لأنه لا مدحة في ذلك، والآية مختصة بمدح المذكور فيها والقطع على ثوابه، وذلك يدل على إرادته سبحانه بالذين معه المؤمنين حقا، فليدل الخصوم على ثبوت إيمان من جعلوا الآية مدخوله عند الله، ليسلم لهم الظاهر، بل ثبوته مغن في المقصود عنه بإجماع، ولن يجدوه، بل الثابت ضلالهم بالبرهان المانع من ثبوت البرهان واستحقاق الرضوان.

____________

(1) الفتح 48: 29.

الصفحة 383
ومنها: أن المذكورين فيها موصوفون بصفات معلوم خلو القوم منها، وتكاملها لأمير المؤمنين وحمزة عليهم السلام، وخاصة شيعتهم، كعمار وأبي ذر ومقداد وسلمان وأبي وابن مسعود وبريدة وجابر وخزيمة وسعد وولده قيس وسعد بن معاذ وفي أمثالهم، فيجب إخراجهم من حكها وتخصيصه بهؤلاء.

فمن ذلك: وصفهم بالشدة على الكفار، وكل متأمل يعلم خلوهم من ذلك.

ومنه: الرحمة بأهل الإيمان، وقد بينا كونهم بخلاف ذلك.

ومنه: ابتغاؤهم بالطاعات فضل الله ورضوانه، ولا يكون كذلك من تخلف عن أسامة، ولم يحضر جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله رغبة في الدنيا، وجعل أفعال الآخرة يوم السقيفة ذريعة إلى الخلافة، وصادر العمال، واقترض من بيت المال، وخص بمال الله بني أمية أعداء الدين في الجاهلية والاسلام، إلى غير ذلك مما سطرناه، وحال متبعهم في ذلك كحالهم.

ومنه: وصفهم بالنصر لله ولرسوله عليه السلام، وذلك مختص بالجهاد وبذل الأنفس والأموال فيه، وليسوا كذلك بغير إشكال.

وهذه الصفات متكاملة فيمن ذكرناه، فيجب توجه المدحة إليهم دون هؤلاء الضلال.

ومن ذلك: قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (1).

قالوا: والمتقدمون على أمير المؤمنين عليه السلام وأكثر من عقد لهم وبايعهم من جملة هؤلاء المذكورين، وقد أخبر سبحانه برضاه عنهم واستحقاقهم الثواب، وذلك منافي لما يقولونه فيهم.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن الوعد في الآية متوجه إلى من وقع سبقه واتباعه لوجهه المخصوص

____________

(1) التوبة 9: 100.

الصفحة 384
قربة لله تعالى، فليدلوا على كون القوم كذلك ليتوجه الرضوان إليهم، ولن يجدوه، بل الموجود ضلالهم وخروج أفعالهم من قبل الطاعات بما وضح برهانه سالفا.

وثانيها: أن الرضوان مشترط بالموافات، ولم يواف القوم بما سبقوا إليه، لردهم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيته، وما أتوه إلى أهله بما بيناه.

وثالثها: أن وقوع السبق موقع القربة لا يمنع من عصيان في المستقبل، إما فسق على مذاهب الكل أو كفر على مذاهب الخصوم، وإذا صح ذلك جاز تقدير وقوع سبقهم موقعه، وإن عصوا عصوا من بعده، كوقوع ذلك من طلحة والزبير وعمرو بن العاص وأمثالهم من السابقين والتابعين، وقطعنا عليهم به، لما أتوه إلى أهل بيت نبيهم عليهم السلام من بعده، فليستنفذ الخصم لمنعنا من ذلك جهده إن استطاعه، وإلا فالحجة لازمة له والآية خطاب لغيرهم، وهم الذين لم يتدينوا بجحد النص من السابقين والتابعين، وهم كثير معين وغير معين.

ومن ذلك: قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) (1).

قالوا: وهذه صفة المذمومين عندكم الممدوحين في الآية.

والجواب: أن الخطاب في الآية متوجه إلى من أنفق وقاتل قبل الفتح من المؤمنين عند الله تعالى متقربا بهما للوجه الذي شرعا، فليدلوا على تكامل هذه الصفات للقوم ليسلم لهم المقصود، فإن يتعرضوا لذلك يختص الكلام به وسقط تعلقهم بالآية، وإن لا يفعلوا فلا يقع لهم فيها.

وكذلك القول في جميع ما مضى من الآيات ويأتي، فليتأمل لتقع المضايقة فيه.

على أنا نتبرع ببيان تعري القوم من صفات المذكورين في الآية.

أما الإيمان - الذي لا تصح قربة من دونه - فقد دللنا على تعريهم منه بما لا يختل على متأمل، فمنع من توجه الخطاب إليهم.

____________

(1) الحديد 57: 10.

الصفحة 385
وأما الإنفاق، فيفتقر على أمور:

منها: ثبوت المال للمنفق، وتعيين الزمان الواقعي فيه، والجهة المتعرف فيها، وكونه قربة إلى الله تعالى، وكل مقصود.

أما المال، فالمعلوم من حال أبي قحافة كونه صياد القماري بمكة، فلما أضر صار مناديا لمائدة عبد الله بن جذعان، وأبو بكر في الجاهلية خياطا، وفي الإسلام يبيع الخلفان، وعمر في الجاهلية جزارا، وفي الإسلام كلا على غيره من المسلمين، وقد عد (1) الناس الأغنياء من قريش فلم يعدهما أحد، وعدوا عفان وابنه عثمان.

وأما الزمان، فلا يخلو أن يكون قبل الهجرة أو بعدها، وفي أي الحالين كان اقتضى حصول العلم بوجه الذي وقع فيه الإنفاق من حالتي مكة والمدينة.

وكذلك القول في الجهة مما يجب العلم بعينها، أفي مصالح حال النبي صلى الله عليه وآله والمتبعين له، أو مداراة الكفار، أو تجييش الجيوش؟

وكل ذلك لا سبيل إلى إثبات شئ منه بيقين، وإنما هو مختص بالإرجاف، لا يجد مدعيه سبيلا إلى إثبات شئ غير ابتياع بلال وعتقه، وهو من أوضح برهان على عدم الإنفاق، لاختصاص الدعوى به، مع بعده من صفة الإنفاق.

وأما الجهاد، فقد بينا خلو القوم منه، وثبوت ضده من الانهزام في موطن بعد موطن.

وإذا خلوا من دعوى القتال الثابت في الآية بغير شبهة، فلو ثبت الإنفاق لم ينفع، لأن الوعد في الآية يتوجه إلى من جمع بينهما، دون من انفرد بأحدهما، وبهذا يخرج عثمان من مقتضى الظاهر، لخروجه عن جملة المجاهدين وإن كان له إنفاق، وانتفاء الصفتين عنهم أو أحدهما كاف في خروجهم عن مقتضى الآية.

ولم سلم كونهم ذوي إنفاق وقتال - مع تعذر ذلك - لم يقتض توجه الخطاب إليهم، لأنه لا حكم ولا إنفاق ولا قتال من دون الإيمان الذين هم براء منه.

____________

(1) في النسخة: " عاد ".

الصفحة 386
ولافتقار صحتهما لو ثبت إيمان فاعلهما إلى إلقائهما للوجوه الشرعية على جهة الاخلاص، فليثبتوا ذلك.

ومما يوضح نفي القتال والإنفاق عنهم، أو وقوعهما - لو كانا ثابتين - لغير وجههما، أنهما لو كانا كذلك لوجب النص عليهما به وارتفاع اللبس فيه، كجهاد علي وحمزة وجعفر عليهم السلام وأمثالهم المعلوم ضرورة ثبوت النص بوقوعه موقع المستحق، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وآله لأجله، وشهادته لهم به، ونزول القرآن بإيثار علي عليه السلام على نفسه وأهله المسكين واليتيم والأسير، وتصدقه في حال الركوع وليلا ونهارا وسرا وعلانية، وتقديمه على المناجاة دون سائر الأمة، وحصول الإجماع بذلك والنص على وقوعه موقع القربة والقطع بثوابه.

ولما فقدنا ذلك، واختص الدعوى له بالإرجاف - مع وجوب عموم العلم به لو كان ثابتا، لعلو كلمة من يضاف إليه، وكثرة الأتباع، وقوة الدواعي للاحتجاج به، وانتفاء جميع الصوارف عن الناقل وعظيم النفع له بنقله - علمنا انتفاءه، أو وقوعه على وجه لا يستحق به ثوابا، وإلحاقه بإنفاق من نص الله تعالى على حال إنفاقه بقوله تعالى:

(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) (1)، وقوله سبحانه (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) (2)، فنص تعالى على قبح إنفاق هؤلاء المذكورين، مع مظاهرتهم بالاسلام، لوقوعه لغير الوجه المعتبر في القبول واستحقاق الثواب، وبهذا يسقط التعلق بإنفاق عثمان ومن يدعى له بإنفاق ممن لم يعلم وقوعهما على الوجه المخصوص.

وإذا لم يكن توجه الخطاب في الآية إلى من ذكروه قطعا، بل المقطوع به خروجهم منها بما أوضحناه، وجب توجهها إلى من ثبت إيمانه وجهاده وإنفاقه بما أوضحناه،

____________

(1) التوبة 9: 54.

(2) التوبة 9: 53.

الصفحة 387
ووجب توجهها إلى من ثبت إيمانه وجهاده وإنفاقه على جهة الاخلاص قبل الفتح وبعده، كعلي وحمزة وجعفر عليهم (1) السلام، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وسعد وعمار وسلمان وأبي ذر ومقداد، وأمثالهم ممن أجمع المسلمون على ثبوت جهادهم قبل الفتح وبعده، وإنفاق قوم منهم ووقوع ذلك موقع الرضوان، وإلى من كان كذلك عند الله تعالى ممن لم نعرفه على جهة التعين، ولا علمنا خروجه عن الإيمان، ووقوع الأفعال الشرعية منه موقعها، كالقوم المذكورين.

ومن ذلك في أبي بكر خاصة: قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، (2).

قالوا: فاختص عليه السلام بمصاحبته (3) في مثل تلك الحال التي لا يطلع عليها إلا المخلصين من الأولياء، ونطق به القرآن بأنه ثانيه وصاحبه في الطريق ومشارك له في الكون معه، وأنه عليه السلام شجعه ورق له، وأن السكينة نزلت عليه لخوفه. وحاجته إليها، وغنى النبي عليه السلام عنها.

والجواب: أنه لا فضيلة في القصة، بل هي دالة على النقص، وأنه لو سلم مرادهم منها لم يضر فيما قصدناه ولم ينفعهم.

فأما بيان عدم الفضيلة منها، فلسنا نعلم استصحاب النبي صلى الله عليه وآله له، لأنه روي: أنه فقد النبي صلى الله عليه وآله فتبعه، وقيل: إنه لحقه بعدالة (4) السفر، فسأله الصحبة، فلم يتمكن من كتمانه.

ولو كان بأمره لاحتمل أمورا:

منها: أنه كان معه في بيت عائشة بحيث لا يخفي عليه شئ من أمره، فلم يجد بدا

____________

(1) في النسخة: " عليهما ".

(2) التوبة 9: 40.

(3) في النسخة: " بما صاحبته ".

(4) كذا في النسخة، ويحتمل أن يكون الصحيح: " يعد آلة السفر ".

الصفحة 388
من استصحابه، خوفا من إذاعته، إما لضعف رأى أو دين.

ومنها: للأنس به.

ومنها: إسلامه ظاهره له وظنه به الخير.

وليس في شئ من ذلك ما يعصم مما تقوله الشيعة فيه.

وأما كونه ثانيا، فمخبر عن عد، ولا فضيلة فيه، والغرض به تنبيه المخاذلين في نصرته عليه السلام، على أنه تعالى متولي ذلك منه في هذه الحال وغيرها، كما تولى ذلك في حال كونه فريدا قرين واحد.

وأما كونه معه في الغار، فلا يدل على فضيلة، لاشتمال المكان على الفاضل والمفضول ومن لا فضل له، وإنما يعلم فضله بغير الكون.

وتسميته بالصحبة لا يفيد إلا مجرد المصاحبة في السفر وظاهر الانقياد، وكل منهما لا يدل على الفضل منفردا.

والتسكين والتشجيع يتوجه إلى الولي والعدو، ولا سيما في مثل تلك الحال.

وإخباره عليه السلام إن الله معهم بمعنى النصرة المقصود بها النبي صلى الله عليه وآله، ولو كان متوجها إليهما لم يقتض فضلا، لأن المقصود من نصرة النبي عليه السلام والمنع منه يقتضي منع الكائن معه في الغار وإن كان كافرا، لأنهم لو وصلوا إليه بسوء لوصلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله، لحصولهما في مكان واحد.

ونزول السكينة عليه لو سلم لم يدل على فضيلة، لاقتضائها الطمأنينية وزوال الخوف المخوف منه الضرر على النبي صلى الله عليه وآله، لأن ظهور الهلع ممن هو معه في تلك الحال ربما تعدى إلى معرفة الكفار بمكانهم، فلذلك (1) سكنه.

وأما دلالة الآية على نقيصة أبي بكر فن وجهين:

أحدهما: قوله تعالى (لا تخزن)، لا يخلو أن يكون ناهيا أو مشجعا، فإن كان ناهيا فالنهي يدل على كراهية المنهي، والنبي صلى الله عليه وإله لا يكره إلا قبيحا، وإن

____________

(1) في النسخة: " فكذلك ".

الصفحة 389
يك تشجيعا فلم يحصل إلا عن هلع من الرجل أو خوف أو خبة (1)، وذلك شك في خبره عليه السلام، لأنهم لا يختلفون في أنه صلى الله عليه وآله أطلعه على هجرته، وأنه سبب علو الكلمة، فلو وثق بهذا الوعد لم يخف من وصول الضرر إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا إلى من هو معه، وهذا أعظم من الأول.

الثاني: تخصص السكينة بالنبي عليه السلام مع حاجة أبي بكر إليها لخوفه، وأنها لم تنزل قط على رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه مؤمنون إلا عمتهم، كقوله تعالى:

(ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (2)، فلو كان من جملة المؤمنين لنزلت (3) عليه السكينة مع حاجته إليها في تلك الحال.

إن قيل: من أين قلتم إن السكينة مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله؟ (4).

فيجب رجوع الهاء في قوله: (عليه)، (عليه - عليه) السلام - وإن كان قد تقدم ذكر أبي بكر، من حيث كانت عادة المقدم في الضمير المتصل أن يرجع آخره إلى من تعلق به أوله، ما لم يمنع مانع، كقوله: (تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) (5)، إنما انقطع الضمير في (وتسبحوه) عن الأول، لأن التسبيح لا يليق بالرسول ويخصه تعالى، لولا ذلك لم ينفصل، ولأنه لا يوجد في كلام العرب ضمير يتعلق أوله بمذكور وأوسطه بمذكور آخر وآخره بالمذكور الأول.

فلا يجوز أن تكون الحاء في (عليه) مختصة بأبي بكر، مع علمنا بأنها في قوله:

(نصره) متعلقة بالنبي صلى الله عليه وآله بغير شبهة، وفي قوله: (وأيده بجنود لم

____________

(1) كذا.

(2) التوبة 9: 96.

(3) في النسخة: " أنزلت ".

(4) كذا في النسخة، والظاهر وجود سقط واضح، يمكن أن يكون: " ولم تختص بأبي بكر؟ قلنا: بقرينة الضمائر الراجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله في قوله: (ألا تنصروه) (نصره) (أخرجه) (يقول لصاحبه).

(5) الفتح 48: 9.

الصفحة 390
تروها)، ومعلوم أن المؤيد بالجنود هو النبي صلى الله عليه وآله، فيجب أن يكون هو المنزول عليه السكينة.

ومن ذلك فيه خاصة: قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (1).

قالوا: وقد نقل المفسرون اختصاصها بأبي بكر، وفيها الوعد بالمصدق للثواب.

والجواب من وجوه:

منها: أن الراوي لذلك من جهلة المفسرين، هم الذين أولوا القرآن بآرائهم، وأضافوا القبيح إلى الله تعالى، وشبهوه بخلقه، كمقاتل وقتادة وداود (و) الحواري والكلبي، ولا اعتداد بتأويل من هذه حاله.

وبعد، فهو معارض بما رواه ابن عباس ومجاهد وغيرهما من علماء التفسير.

فمنهم من روى (الذي جاء بالصدق) جبرئيل عليه السلام (وصدق) به النبي صلى الله عليه وآله.

ومنهم من روى (الذي جاء بالصدق) رسول الله صلى الله عليه وآله (وصدق) به أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أولاها، لأنه أول المصدقين به بلا خلاف.

ولا يقدح في ذلك بما لا تزال جهالهم يقولونه من صغر سنه، لأنه عليه السلام لم يكن صغيرا يبعد منه التصديق، لكونه ابن عشر سنين، وقد وجدنا في زماننا من هو في هذا السن يدرك فهم (2) كثير مما يبعد فهمه عن الكهول، ولأن النبي صلى الله عليه وآله دعاه إلى الإسلام بغير خلاف، ولا يجوز أن يدعو من ليس بكامل، لقبح (3) ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وآله مدحه بالسبق، وتمدح هو به على أعدائه، ولا وجه لذلك إلا

____________

(1) الزمر 39: 33.

(2) في النسخة: " فيهم ".

(3) في النسخة: " بقبح ".