مقدمة المؤلف
الكتاب الماثل بين يديك هو مجموعة محاضرات كنت قد القيتها على طلاب الدورة التربوية الأولى لمحقّقي البحوث القرآنية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي/ مشهد(1)، حول تاريخ الحديث والملابسات التي واكبت السنة النبوية بعد رسول الله مع بياننا لمؤثرات الهوى والموروث الجاهليّ عليه، وقد رجونا في محاضراتنا تلك توضيح آفاق انقسام المسلمين إلى نهجين فكريين:
____________
1- والتي نشرت في مجلّة تراثنا الفصلية الصادرة عن مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، الأعداد (53 ـ 60) تحت عنوان (السنة بعد الرسول).
والآخر: يرسم أصوله من خلال المواقف المتغيرة.
بمعنى: أنّ هناك من كانوا يعدّون كلام الله ورسوله أصلين اساسيين في التشريع، فهؤلاء كانوا يأخذون أحكامهم منهما، ولا يتحركون إلاّ في الاطار الذي رسماه للمسلمين.
وكان هناك في مقابل النهج الأول من يرسم الاُصول من خلال مواقف الاشخاص والظروف المُستجدة عندهم، مُضيفين إلى كتاب اللّه العزيز وسيرة النبيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله): سيرة الشيخين والصحابة عامة، واتخاذها أصلاً ثابتاً يحتذى به ـ الى جانب الكتاب والسنّة ـ ويسار على طبقه، مع أن بعض مواقف اولئك كانت متأثرة فكرياً وعملياً بالموروث والموقف المرتجل، وكنا قد سمينا في كتابنا (منع تدوين الحديث) الأول منهما بالمتعبدين، والثاني بالمجتهدين.
والهدف من هذه البحوث هو التركيز على مؤثرات العصور السابقة وما اُسِّس فيها من مبان واُصول فكرية انعكست على الحديث النبويّ والتاريخ الإسلاميّ، ومن ثمّ ظهرت كنصوص حديثية واصول فقهية وعقائد اسلامية بامتداد الزمان، انجرت من العصر الجاهليّ إلى ما بعده ممتزجة مع الحالة الإسلاميّة الجديدة التي خلفها الرسول الاكرم حتّى اصبحت شريحة من المجتمع تعيش حالة ارتباك وتارجح
وقد قدّمنا لدرستنا هذه بعض الشيء عن شبه الجزيرة العربية وحالة العرب قبل الإسلام، وذلك بالمقايسة مع الحضارات المجاورة لها، موضحين خلال البحث كيفية تعامل العرب مع رسول الله والمفاهيم المطروحة من قِبَلِه (صلى الله عليه وآله) في صدر الإسلام. مُركّزين فيه على بيان خلفيات النهج الثاني على وجه الخصوص ـ أي الاصول من المواقف ـ وبهذا فقد جاءت درستنا هذه في بابين:
الباب الأوّل: عصر التأصيل
ونعني به عصر بناء الأُسسُ والمفاهيم عموماً، وفي المرحلة الانتقالية من الجاهليّة إلى آخر عهد الخلافة الراشدة، أو قل إلى إبتداء عصر تدوين الحديث الرسمي، كي نقف على ما اتت به بعض المدونات الإسلاميّة من أحاديث طبقاً للمصالح والاجتهادات.
مشيرين الى وجود مجموعة ممن شهدوا الشهادتين لساناً كانوا لا يؤمنون بما اتى به النبيّ على وجهه الصحيح، وبمكانته الحقة التي منحه الله إياها وأنه لا ينطق عن الهوى، بتخيّلهم انه بشر عادي يقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا.
وقد تأثرت هذه الشريحة بأصول عرفوها في الجاهليّة
الباب الثاني: عصر التدوين
ونعني به تدوين حديث رسول الله على عهد عمر بن عبدالعزيز ممزوجاً باثار الصحابة وآرائهم ومواقفهم في المصنفات والأسفار، بحيث سنركز على نصوصهم لنؤَكّد على أنّهم هل حملوا حديث رسول الله على وجهه الصحيح، أم جاء وفق الحدس والتخمين؟
وهل أنهم قبلوا الإسلام روحاً ونصاً ام ان مسايرتهم له جاءت لفظاً ومماشاة؟ أو هم مسلمون لفظاً وقبليون سيرةً وعقلا ومواقفاً وكما قال الإمام الحسين عن هذا الصنف في مسيره إلى كربلاء:
إن الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قل الديانون.
|
هذا، وقد اقتصرنا في هذه البحوث على تقديم بعض
آملين أن نلتقي مع القراء الكرام في بحث شامل وموسّع في هذا المجال ان شاء الله تعالى.
تمهـيد
فعلم الحديث من العلوم الأساسيّة والمهمّة في فهم الشريعة الإسلاميةّ واستنباط أحكامها.
وقد يتصوّر بعضهم خطأً حينما يسمع بمصطلح "علم الحديث" أو "حديث رسول الله" أنّه يدور حول بيان الفرائض والسنن التي أتى بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقط، لكنّ الحقّ أنّ أمر الحديث هو أسمى بكثير ممّا نتصوّره، ففيه تفسير الكتاب العزيز، وتوضيح لغريب لغة العرب، وفيه الاخبار بالمغيّبات والماورائيّات وما يتعلّق بالكون والحياة، بالاضافة لما فيه من العبر والقصص والأخلاق، والأحكام
فمصطلح "علم الحديث" إذاً عامٌّ وشامل لمجالات شتّى، والبحث عنه يستدعي دراسة عدّة جوانب أساسيّة، هي:
1 ـ تاريخ الحديث.
2 ـ رواة الحديث.
3 ـ دراية الحديث.
4 ـ فقه الحديث.
ونعني بتاريخ الحديث: بيان ما مرّ على حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أدوار، من قبل البعثة إلى تدوينه في العهد المرواني، مع الإشارة إلى جذور منع التدوين، والأفكار السائدة عند العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام.
وبرواة الحديث: البحث عن رواة الحديث ورجاله جرحاً وتعديلاً، وهو ما يسمّى اليوم بـ: "علم رجال الحديث".
وبدراية الحديث: البحث عن الحديث ـ كوحدة متكاملة ـ سنداً ومتناً، لمعرفة مكانة الحديث صحّة وسقماً، مع معرفة كيفيّة تحمّل الرواية وآداب نقل الحديث ; أي أنّ البحث عنه يكون كبروياً، لا صغروياً كما في كتب رجال الحديث، ويسمّى هذا عند
وبفقه الحديث: البحث عن وجوه التورية والتأويل في كلام الرسول وأئمّة المسلمين، لقول الصادق (عليه السلام): "لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا"(1).
ونحن تركنا دراسة الجانبين الثاني والثالث لكثرة ما قيل وكتب فيهما، وبقي علينا أن ندرس الجانبين الأوّل والأخير، فعنايتنا بهما نظراً للحاجة الماسـّة إليهما، وقد قدّمنا البحث عن تاريخ الحديث لأنّه يوضّح لنا الملابسـات التي واكبت السُنّة النبويّة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ; وذلك نظراً للحاجة لها وجعلناه في بابين:
الباب الاول: عصر التأصيل.
الباب الثاني: عصر التدوين.
ونعني بعصر التأصيل: هو عصر بناء الاُسس والمفاهيم بعد رسول اللّه ; لمعرفتنا بأنّ بعض العرب كان لا يؤمن بما أتى به النبيّ ولا يعتقد بمكانته (صلى الله عليه وآله) وأنّه أرسل من قبل ربّ العالمين، أو
____________
1- معاني الأخبار 2: 3.
وفي المقابل نرى ايمانهم بأُصول عرفوها في الجاهلية، وراحوا يسعون لتحكيمها من خلال بعض المواقف والمفاهيم الحديثيّة، كالقوميّة العربية والعناية المتزايدة بالأنساب وغيرها من أفكار العصر الجاهلي.
والبحث في هذا الباب يستدعي النظر في خمس مراحل، هي:
1 ـ العرب وحديث محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة.
2 ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد البعثة إلى الوفاة (سنة 11 هـ).
3 ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فترة الخلافة الراشدة.
أ ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهد أبي بكر 11 ـ 13 هـ.
ب ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهد عمر بن الخطّاب 13 ـ 23 هـ.
ج ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهد عثمان بن عفّان 23 ـ 35 هـ.
د ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عهد عليّ بن أبي طالب 35 ـ 40 هـ.
4 ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العهد الاُموي 40 ـ 63 هـ.
5 ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العهد المرواني 64 ـ 132 هـ.
ونحن إن شاء الله من بعد بياننا لهذه المراحل الخمسة سنربط بحثنا بعصر
ولكنّنا قبل التفصيل في الأمر لابدّ من إلقاء الضوء على حالة شبه الجزيرة العربيّة والعرب قبل الإسلام، وكيفيّة تأصيل المفاهيم عندهم.
كما لابدّ لنا من بيان حدود شبه الجزيرة العربيّة جغرافياً، مع نبذة من تاريخ عرب الجزيرة قبل الاسلام ; إذ أنّ في معرفة الحالة الاجتماعيّة والوقوف على العقائد الموروثة، وما حملته العرب معها إلى العصور اللاحقة من تاريخ المسلمين توضيح الكثير من الحقائق الكامنة، لأنّ كلّ فكر جديد، يدخل على أُمّة من الاُمم أو شعب من الشعوب لا ينفكّ في نهاية المطاف بحال من الأحوال عن التاثّر ـ على صعيد التطبيق الخارجي ـ بما يحمله ذلك الشعب من خلفيّات ثقافيّة وموروث فكري.
فإنّ شرح وتفسير مثل ذلك الموروث يساعدنا على تفهّم جذور حقائق كثيرة في تاريخ الإسلام على نحو العموم، والتشريع الإسلامي على وجه الخصوص.
ومثله الحال بالنسبة إلى المذاهب والعقائد والآراء والاتّجاهات في الأزمان اللاحقة ; فقد أثّرت هي الاُخرى على الحديث.
فالبحث عن هذه الاُمور يساعدنا في فهم العصور اللاحقة ; فقد أثّرت هي الاُخرى على الحديث.
شبه الجزيرة العربيّة جغرافياً:
سُمّيت شبه الجزيرة العربيّة بهذا الاسم، لإحاطة الماء بها من ثلاث جهات، من الشرق بمياه الخليج، ومن الغرب بالبحر الأحمر، ومن الجنوب بالمحيط الهندي وخليج عدن.
قال محمد حسين هيكل في (حياة محمّد): فشبه جزيرة العرب مستطيل غير متوازي الأضلاع، شماله فلسطين وبادية الشام، وغربه الحيرة ودجلة والفُرات وخليج فارس، وجنوبه المحيط الهندي وخليج عدَنَ، وشرقه بحر القلْزُم (البحر الأحمر).
فهو إذاً حصين بالبحر من غربه وجنوبه، حصين بالصحراء من شماله، وبالصحراء وخليج فارس من غربه، وليست هذه المناعة هي وحدها التي أعفته من الغزو الاستعماري أو الغزو
وأعفاه أكثر من هذا جدَْبه جدباً صرف عين كل مستعمر عنه. فليس في هذه الناحية الفسيحة من الأرض نهر واحد، وليست لأمطارها فصول معروفة يمكن الاعتماد عليها وتنظيم الصناعة إياها. وفيما خلا اليمن الواقعة جنوب شبه الجزيرة والممتازة بخصب أرضها وكثرة نزول المطر فيها، فسائر بلاد العرب جبال ونجود وأودية غير ذات زرع وطبيعة جرداء لا تيسّر الاستقرار ولا تجلب الحضارة ولا تشجّع على حياة غير الحياة البادية(1).
شبه الجزيرة العربيّة والحضارات المجاورة:
كان السومريّون والأكديّون والبابليّون والآشوريّون من الحضارات القديمة الّتي استقرّت في شمال شبه الجزيرة العربيّة (العراق) ومنذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.
قال جرجي زيدان عن ثقافة البابليّين:
عثر المنقّبون على قرميدة بابليّة عليها كتابة مسماريّة، فيها قائمة بأسماء ملوك منذ أكثر من ستّين قرناً...
|
إلى أن يقول:
____________
1- حياة محمّد لمحمّد حسين هيكل: 32.
ومن جملة أُولئك الملوك ملك اسمه (شرجينيا) كان محبّاً للعلم، راغباً في العمارة، أنشأ مكتبة في "وركاء"... مملوءة بالكتب اللغويّة والفلكيّة والشرعيّة والأدبيّة وغيرها، ثمّ نسخت بعد إنشائها بخمسة عشر قرناً بأمر من أمير آشوري، وحفظت في دار خاصّة بها كما تحفظ المكاتب اليوم، وعثر المنقّبون بالأمس على بقايا هذه المكتبة بين النهرين، ونقلوها إلى المتحف البريطاني في لندن(1)، فهي هناك إلى هذه اللحظة..
|
وأمّا حضارة بلاد الشام، فكانت هي الاُخرى عريقة ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، فممّا أسّسته الدولة الفينيقيّة في القرن الخامس والعشرين ق. م مدينة جبيل، كما بنت مدينة بيروت (بيريت) في القرن الثاني والعشرين ق. م.
قال الدكتور محمّد أسعد طلس، في معرض حديثه عن الدولة الفينيقيّة:
وكانت بلادهم ممتدّة ومملكتهم على جانب عظيم من المعرفة والتفوّق في العلوم والآداب والصناعة، أمّا العلوم والآداب فقد ضربوا فيها |
____________
1- انظر: تاريخ آداب اللغة العربيّة ـ لجرجي زدان ـ 1/17 ـ 18.
بسهم عظيم ووضعوا الحروف الهجائيّة واختصروها إلى اثنين وعشرين حرفاً بعد أن كانت عند البابليّين والمصريّين تُعدّ بالمئات...
|
إلى أن يقول:
وقد عرف هؤلاء بفنون التجارة البحرية والحدادة والتجارة وبخاصّة نجارة السفن والآساطيل، وإنّهم كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم والكواكب لبراعتهم في علمي الفلك والنجوم(1).
|
وأمّا حضارة جنوب شبه الجزيرة، فتتمثّل بحضارة الدولة المُعينيّة في اليمن، التي ذهب البروفسور أدوارد كلاسر Glasser إلى أنّها كانت في الألف الثالث قبل الميلاد.
وذهب جوزيف هاليفي Haievy ومولر Muller وشبرنجر Sprenger إلى أنّها كانت في أواخر الآلف الثاني وأوائل الألف الأوّل قبل الميلاد(2)، وقد كانت لهذه الدولة كتابة ذات ألفباء عرفت بألفباء المسند(3).
ومن الدول التي حكمت جنوب شبه الجزيرة الدولة
____________
1- تاريخ العرب ـ للدكتور محمّد طلس ـ: 31.
2- تاريخ العرب: 56، عن مصادر المستشرقين.
3- تاريخ العرب: 56.
فكانت هذه الدول على جانب عظيم من الرقيّ الصناعيّ والزراعيّ والعمراني والثقافي، وقد كانت كتاباتهم على الطريقة الحلزونيّة Boustro Phedon أي أنّها تبدأ من اليمين إلى الشمال، فإذا انتهى الكاتب من السطر الأوّل وأراد كتابة السطر الثاني كتب من الشمال إلى اليمين، وهكذا دواليك، وقد عثر على طائفة من الكتابات الحلزونيّة المنقوشة على الحجارة والطين أو الجصّ، وهي ما تزال موضع دارسة العلماء الأخصّائيّين، وأشهر مآثرهم (سد مأرب) الدالّ على براعتهم بعلم الهندسة وتنظيم الريّ وحسن الاستفادة من مياه الأمطار(1).
قال محمد حسين هيكل في حياة محمد:
لم يَنِدّ من بلاد العرب عن جهالة العالم به سوى اليمن وما جاورها من البلاد المتاخمة للخليج الفارسي. وليس يرجع ذلك إلى متاخمتها الخليج الفارسي أو المحيط الهندي أو البحر الأحمر وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر منه إلى أنّها لم تكن كسائر شبه الجزيرة صحراوية جرداء لا تلفت العالم ولا تجعل لدولة من صداقتها فائدة ولا لمستعمر فيها مطمعاً، بل كانت على العكس من ذلك |
____________
1- تاريخ العرب: 60.
موطن خِصْب في الأرض ومطر منتظم الفصول في تهتانه، ومن ثمّ موطن حضارة مستقرة ذات مدائن عامرة ومعابد قوية على نضال الزمان. وكان سكانها من بني حِمْيَر ذوي فطنة وذكاء وعلم هداهم إلى حسن الاستفادة من الأمطار حتّى لا تتسرب إلى البحر فوق الأرض المنحدرة إلى ناحيته ; ولذلك أقاموا سدّ مأرِب، فحوّروا اتجاهها الطبيعى تحويراً تقتضيه حياة الحضارة والاستقرار. وكانت الأمطار إلى أن أقيم هذا السدّ تنزل بجبال اليمن المرتفعة ثمّ تنحدر في وديان واقعة إلى شرق مدينة مأرب.
|
إلى أن يقول:
وكان سدّ مأرب قد شُيدِّ بالحجر عند مضيق الوادي، وجعلت له فتحات يمكن تصريف المياه منها وتوزيعها إلى حيث يشاء الناس لتروي الأرض وتزيدها خصبْاً وإثماراً. وإن ما كشف وما لا يزال يكشف عنه حتّى اليوم من آثار هذه الحضارة الحميرية في اليمن ليدل على أنّها بلغت في بعض العصور مكاناً محموداً، وأنها صَمَدت لقسوة الزمان في عصور قسا |
باليمن فيها الزمان(1).
|
وأمّا حضارة وادي النيل، فهي الاُخرى من أقدم وأعرق الحضارات المجاورة لشبه الجزيرة العربيّة، وقد استقرّت هذه الحضارة في وادي النيل من أواسط الالف الخامس قبل الميلاد، وكانت على جانب عظيم من الرّقي والتحضّر في العلم والعمران والزراعة، وقد بقي من مآثرهم العمرانيّة الأهرامات وأبو الهول وغيره، وهي حضارة غنيّة عن التعريف.
وبهذا فقد اتضح لك بأن لكل حضارة معلم تعرف به، فالحضارة البابلية عرفت بجنائنها المعلقة، والحضارة المصرية بتحنيطها للأموات أو قل حضارة تخليد الاموات، والحضارة اليونانيّة بحضارة العقل والفلسفة، والحضارة الفارسيّة بحضارة طاق كسرى و (تخت جمشيد)، أما الحضارة الإسلاميّة فهي حضارة النص وقد تحدى القرآن بقوله { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا }(2).
كان هذا استعراضاً إجماليّاً للحضارات القديمة الّتي أحاطت شبه الجزيرة العربية، جئنا به للتمييز بين الوضع داخل الجزيرة
____________
1- حياة محمد لمحمّد حسين هيكل: 34 ـ 35.
2- الاسراء 17:88.
وهي كما قال الله تعالى حكاية عن لسان سيّدنا إبراهيم (عليه السلام): {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَاد غَيْرِ ذِى زَرْع عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }(1) ولم يكن فيها حتّى نهر واحد(2)، بل كان غالب اعتماد الساكنين فيها على الامطار والآبار التي تمتلئ شتاءً وتجفّ صيفاً.
وهذا الجفاف واليبس خلق عند سكان الجزيرة حالة التنقل بحثاً عن الكلإ والماء، فهم يجوبون الأرض بحثاً عنهما، فهي ظروف لم تجعل العربي يستقرّ كي يبدع في مجالات الزراعة والصناعات اليدوية إلاّ نادراً فاعتمدوا على التجارة بشكل أساسي خصوصاً قريش الّتي هي رأس القبائل العربيّة في الجزيرة، وقد وصف الله تعالى اشتغالهم التجاري ذلك بقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْش * إِيلـفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }(3).
وتظهر شدّة الجفاف من خلال التنازع على شرف سقاية الحاج، قال سبحانه:
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ
____________
1- سورة إبراهيم 14: 37.
2- انظر: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ـ لجواد عليّ ـ 1/157 وما بعدها.
3- سورة قريش 106: 2.
قال محمد حسين هيكل:
طبيعي في بلاد هذه حالها أن تكون كصحراء إفريقية الكبرى لا يقيم بها مقيم ولا تعرف الحياة الإنسانية إليها سبيلا. وطبيعي ألاّ يكون لمن يحلّ بهذه الصحراء غرض أكثر من ارتيادها والنجاة بنفسه منها، إلاّ في هذه النواحي القليلة التي تنبت الكلأ والمرعى. وطبيعي أن تظل هذه النواحي مجهولة من الناس، لقلة من يغامر بحياته لارتيادها. وقد كانت بلاد العرب فيما سوى اليمن مجهولة بالفعل من أهل تلك العصور القديمة(2).
|
وهذه البيئة الجغرافيّة والظروف الاجتماعيّة، هي الّتي جعلت الجزيرة العربيّة بمأمن من مطامع الدولتين العظيمتين آنذاك (الروم والفرس)، كما جعلت هذه الأرض أرضاً آمنة يلجأ إليها أعداء الروم والفرس.
فقد هاجر إليها أوّلاً يهود فلسطين، فسكنوا يثرب، وهاجرت بعدهم قبائل الأوس والخزرج من اليمن فسكنوا فدك وتيماء، فبدأ الوافدون من الحضارات المجاورة في تطوير الزراعة
____________
1- سورة التوبة 9: 19.
2- حياة محمد لمحمّد حسين هيكل: 32.
وعلى كل حال فإنّ حالة الجفاف، والطبيعة الصحراوية، كانت من جملة الأسباب التي جعلت سكان الجزيرة في تقاتل وتنازع مستمرّ، فكانوا يسفكون الدماء (من غارات مشنونة وأرحام مقطوعة) من أجل توفير العيش الرغيد، وإذا لم يجدوا النهب المراد عند الأعداء أغاروا على الأصدقاء وحتّى على الاُخوة، وقد وصفهم القطاميّ بشعره، فقال:
وكُن إذا أغرنَ على قبيل | وأعوزَهُنَّ نهبّ حيث كانا |
أغرنَ من الضباب على حُلال | وضبةَ إنّه من حان حانا |
وأحياناً على بكر أخينا | إذا ما لم نجدّ إلاّ أخانا |
ووصفهم الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة بقوله:
"وأطباق جهل من بنات مووُّدة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة..."(1).
|
وقوله:
____________
1- نهج البلاغة 2: 178 خطبة 187.
"... وأنتم معشر العرب على شرِّ دينِ، وفي شرَّ دار، منيخون بين حجارة خشن، وحيّات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة..."(1).
|
وقالت الزهراء عنهم في خطبة طويلة، منها:
"تشربون الطرق(2) وتقتاتون الورق(3)، أذلّة خاسئين (تخافون أن يتخطّفكم الناس)(4) من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد بعد اللّتيّا والتي، وبعد أن مُني بِبُهْم الرجال وذؤبان العرب ومَرَدةِ أهل الكتاب..."(5).
|
وجاء في كلام جعفر بن أبي طالب وهو يصف العرب قبل الإسلام لملك الحبشة قوله:
"... كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، |
____________
1- نهج البلاغة 1: 62 خطبة رقم 25.
2- الطرق، بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر.
3- تقتاتون الورق: أي تأكلون ورق الشجر، وفي آخر: ما يعني الجلد غير المدبوغ.
4- إشارة إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاَْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فــَاوَلـكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ى وَرَزَقَكُم..... } سورة الأنفال 8: 26.
5- كشف الغمة 1: 485.