الصفحة 28
ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف...".

إلى أن يقول وهو يصف دور الرسول في تغيير هذه الاُمّة الجاهليّة:


"وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم..."(1).


هذه هي حالة شبه الجزيرة، والقاطنين فيها، ومن أراد المزيد فليراجع كلمات الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة، وخطبة السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ونصوص كثيرة في تاريخ الإسلام.

من كلّ هذا نعرف أنّ عرب الجزيرة لم تكن الظروف مؤاتيةً لهم، ولا عندهم دين واحد وقيادة موحّدة تؤهّلهم لقيادة العالم، بل كان غالب همّهم البحث عن موارد العيش وسدّ الجوع.

وقد كانت الزعامات متعدّدة بين القبائل، إذ كلّ قبيلة كانت ترئِّس عليها رئيساً يعتبرونه حاكماً مطلقاً لا سلطان لغيره عليهم، فلذلك كثرت النزاعات والحروب وتولد ما يسمى بـ (أيام العرب) في الجاهلية.

____________

1- الكامل في التاريخ 2: 80.


الصفحة 29
وهذه الحالة المتفكّكة في المجتمع امتزجت بين الزعامة والديانة فولّدت حالت تعدّد الأصنام المعبودة.

فكانت كلب تتّخذ "وَدّاً".

وكان "سواع" لهذيل.

و "يغوث" لمذحج وقبائل من اليمن.

و "يعوق" لهمدان.

و "نسر" لذي الكلاع بأرض حمير.

وكان "اللات" لثقيف.

و "العزّى" لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم.

و "مناة" للأوس والخزرج وغسّان.

و "هبل" أعظم الأصنام عندهم، وكان على ظهر الكعبة.

و "إساف" و "نائلة" على الصفا والمروة.

وكان لبني ملكان من كنانة صنم يقال له: "سعد" و...

وقد صرّح القرآن بهذه الحالة منتقداً لها بمثل قوله: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }(1).

نعم، إنّ هذه الحالة هي التي سمحت للقبائل بالاجتهاد في انتخاب الإله وجعل الصنم من خشب أو رخام أو تمر أو طين أو...

____________

1- سورة نوح 71: 23.


الصفحة 30
ويتجلّى موقف قريش ـ زعيمة العرب ـ من خلال المحاورة التي دارت ـ بطلب من قريش ـ بين النبيّ وعمّه أبي طالب ; إذ قال له:


هؤلاء سروات قومك يسألونك أن تكفّ عن شتم آلهتهم و يدعُوك و إلهك.

فقال رسول الله: أي عم، أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟! كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب و يملكون رقاب العجم؟!

فقال أبو جهل: ماهي؟ وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها.

قال (صلى الله عليه وآله): تقولون: "لا إله إلاّ الله"... فنفروا وتفرّقوا وقالوا: سل غيرها(1).


أضف إلى ذلك أنّ خلوّ الجزيرة من حكومة مركزية مستقلّة جعلتهم يعيشون حياة الفوضى وتحيكم القوانين القبليّة ومنطق القوّة وما تواضعوا عليه من أعراف وتشريعات بدائيّة، غير منكرين وجود حالات أخلاقيّة ومواضعات عرفيّة سليمة كإكرام الضيف، والنجدة، والإقدام، والدفاع عن المظلوم المتجلّي في حلف الفضول بأوضح صورة، لكنّ مجمل وضع الجزيرة كان هو عدم المركزية، وتحكيم

____________

1- الكامل في التاريخ 2: 65.


الصفحة 31
المفاهيم والقوانين الجاهليّة.

فالأعراف القبليّة كانت الحاكمة في حياتهم لا التعاليم الدينيّة الصحيحة، ولو لحظنا المجتمع آنذاك واعتقاداته لرأيناها متقسّمة بين اليهودية والنصرانيّة المحرّفتين، وبين عبادة الأصنام، وسائر ضروب الاعتقادات المغلوطة، اللّهم إلاّ القلّة القليلة التي وصلتها بقايا دين الحنفية.

فنتج من هذا الخليط الفكريّ والثقافيّ أن نرى الغالبية الساحقة من سكّان الجزيرة أُميّين لا يقرؤون ولا يكتبون ; إذ لم يدعوا أبناءهم لتعلّم والكتابة، وإن كانوا يعلمون بشرفهما، حتّى أنّهم اعتبروا الرجل الكامل في الجاهليّة من يعرف الكتابة ويحسن العوم والرمي(1)، وجاء وصفهم في الكتاب العزيز بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُْمِّيّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ }(2).

وقوله تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّا أُمّة أُمّيّة لا نكتب ولا نحسب الشهر

____________

1- مصادر الشعر الجاهلي: 52، القصد والاُمّم: 22 كما في الدراسات ـ للاعظمي ـ: 44.

2- سورة الجمعة 62: 2.

3- سورة العنكبوت 29: 48.


الصفحة 32
هكذا..."(1).

وقال ابن قتيبة: كان الصحابة أُميّين لا يكتب منهم إلاّ الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجّي(2).

وجاء في المعجم الصغير للطبراني ومجمع الزوائد للهيثمي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسل رسالة إلى قبيلة بكر بن وائل، فلم يجدوا قارئاً لها في القبيلة كلّها، فأرسلوها إلى رجل من بني ضبيعة ليقرأها، فهم يسمّون بني الكاتب(3)، لوجود من قرأ الكتاب فيها.

وعن عيسى بن عمر: قال لي ذو الرمّة: ارفع هذا الحرف، فقلت له: أتكتب؟! فقال بيده على فيه: اكتم عليّ فإنّه عندنا عيب(4).

وقال ابن خلدون: إنّ الخطّ والكتابة من عداد الصنائع الإنسانيّة، و إنّ العرب كانوا بعيدين عنها، لأ نّهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير محبّذين لها شأن الصنائع(5).

وقال الشيخ محمّد أبو زهو: وأمّا بادية العرب فلم تكن تخطّ، بل كانت ترى الخطّ وصمة عار، وسمة عيب، كما هو

____________

1- صحيح البخاري 3: 35، فتح الباري 4: 101، صحيح مسلم 2: 761 ح 15.

2- تأويل مختلف الحديث: 366، توجيه النظر ـ للجزائري ـ: 10، كما في تدوين السُنّة الشريفة: 390.

3- المعجم الصغير 1: 111، مجمع الزوائد 5: 305.

4- الأغاني: ترجمة (ذو الرمّة).

5- مقدّمة ابن خلدون: 494.


الصفحة 33
شأنها في سائر الصناعات المدنيّة(1).

وقال بطرس البستاني في أُدباء العرب:

غلبت الاُمّيّة على العرب في جاهليّتهم، ولا سيّما عرب البادية، لأنّ حياتهم الفطرية في حدودها السياسيّة والاجتماعيّة لم تتّسع لصناعة الكتابة التي إنّما تنشأ بنشوء الجماعة المنظّمة، وتنمو بنمو القوى المفكّرة، وتعظم بعظم الحاجة إليها.

بيد أنّ سكّان الحواضر من أهل اليمن اصطنعوا الكتابة لِما هم عليه من تقدّم العمران، ويُعرف خطّهم بالمُسند الحميري، حروفه منفصلة، وفيه شبه بالكتابة الحبشيّة، ومنه تفرّع الخطّ الكوفيّ.

وترك اليمانيون من آثارهم نقوشاً حجريّة، يرجع أبعدها عهداً إلى المائة الثامنة قبل المسيح(2)، كشف عنها المنقّبون الأوروبيّون من إنكليز وألمان وفرنسيّين في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وجُعلت أساساً للبحث التاريخي في مدينتي سبأ وحِمير.

ولم يحرم عرب الشمال فنّ الكتابة ـ على شيوع الاُمّية فيهم ـ فإن النصارى في العراق والجزيرة علّموا جيرانهم الخطّ

____________

1- الحديث والمحدّثون ـ لأبي زهو ـ: 119.

2- تاريخ الأدب العربي ـ لنيكلسون ـ: 1881. (الترجمة العربيّة لحسن حبشي في مجلّة الرسالة سنة 1936).


الصفحة 34
المعروف بالجَزْم(1)، وله صلة بالآرامي النبطي، فكانت الكتابة العربيّة في الأنبار والحيرة وما جاورهما.

وكذلك النصارى الأنباط في فلسطين الثالثة علّموا من جاورهم من عرب الشام الخطّ النسخي الجليل المتفرّع من الجزم.

وتعلّم بعض القرشيّين خطّ الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق، فحملوه إلى مكّة، فظهرت فيهم الكتابة قبل الإسلام، وظهرت أيضاً في يثرب، ولليهود يد في ذلك.

ولبثت الكتابة قاصرة في الجاهليّة لا يتعلّمها من العرب إلاّ أفراد من أهل الحواضر، وإذا تعلّموها لا يبلغون فيها حدّ الإحكام والإتقان، ولا يستعملونها إلاّ في شؤونهم الاقتصاديّة، ولم يخلّف الشماليّون نقوشاً حجريّة بلغتهم العدنانيّة الخالصة، كما خلّف الجنوبيون بلغتهم القحطانيّة، إلاّ ما كان من الآثار الّتي وجدت في حوران، مكتوبة بلغة نبطيّة تغاير أحكام اللسان العربي في كثير من ألفاظها وتراكيبها.

وبقي العرب لأوّل الإسلام لا يجيدون الكتابة، ولا يسلمون

____________

1- سمّى العرب بالجزم لأنّه جزم من الأرامي، أي: اقتطع، لا كما توّهم مؤرّخو العرب أنّه جزم من المسند.


الصفحة 35
من الغلط في الإملاء كما تدلّ المصاحف التي رسمها الصحابة بخطوطهم حتّى نزلوا الكوفة والبصرة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، فعنوا بإتقانها، وكتبوا بالخطّين النسخي والكوفي، ثمّ ترقّت الخطوط بعد الفتوح الكثيرة، وتشعّبت فروعها في بغداد وإفريقيّة والأندلس إلى أن بلغت حالتها الحاضرة(1).

نعم، إنّ الكتابة لم تكن بالصورة المطلوبة عند عرب شبه الجزيرة، بل كانت عند عرب أطراف الجزيرة والّذين يُساكنون الحضارات المجاورة.

قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب:


... وأكثر الآثار التي تحمل كتابات العرب كانت في الأطراف الشماليّة للجزيرة العربيّة حيث كان الاتّصال وثيقاً بالحضارة الفارسيّة والروميّة، وممّا يذكر أنّ عديّ بن زيد العبادي (35 ق.هـ) حين نما وأينع طرحه أبوه في الكتّاب حتّى حذق العربيّة، ثمّ دخل ديوان كسرى وهو أول من كتب بالعربيّة في ديوان كسرى(2).


وممّا يجب التنبيه عليه هو عدم وجود تناف بين عدم الكتابة والفصاحة، فقد يكون الشخص فصيحاً بليغاً لكنه ليس بكاتب، وكذا العكس، فالفصاحة والبلاغة شيء والكتابة شيء آخر.

____________

1- أُدباء العرب 1: 34 ـ 36.

2- الاغاني 2: 100.


الصفحة 36
هذا، ونرى إلى جانب ذاك التفكّك الديني والثقافي والقيادي عند العرب، وحدة الدين والقيادة عند الاُمم المجاورة، والمتحضّرة آنذاك، ففي فارس تحكم الديانة المجوسيّة عقائدياً وكسرى قائداً، وفي الروم الديانة المسيحيّة وقيصر قائداً، وفي الحبشة الديانة المسيحيّة أيضاً والنجاشي ـ بناءً على أنّه اسم للحاكم المطلق لا لشخص معيّن ـ قائداً، وهكذا الأقباط في مصر كانوا مسيحيين ولهم قائد واحد.

ولمّا جاء الإسلام، جاء بقول: (لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله)، هاتان الشهادتان اللتان كانتا لبّ اللباب المنجي للعرب من حالتهم اللامتوازنة آنذاك، إذ أنّ الشهادة الاُولى كانت تعني جمع العرب أوّلاً ـ ومن ثمّ العالم ـ على اعتقاد واحد بوحدانية المعبود، والشهادة الثانية تعني إنهاء حالة التعدّدية القيادية والمناحرات القبلية..

فالشهادتان تمثّلان العمودين الأساسيين لتكوين مجتمع راق يخضع لقوانين الله سبحانه وتعالى ; لتوحيدهم فكرياً على الله جل جلاله، وسياسياً واجتماعياً على محمد بن عبدالله.

هذا، ونحن بإيضاحنا هذه الحالة المعيشيّة والاجتماعيّة والثقافية في الجزيرة العربيّة، نتوخى إيقاف القارئ على عظمة الإسلام الذي جعل منهم خلال ربع قرن أُمّة تقود العالم وتحطّم أكبر دولتين آنذاك، كما رجونا أن يتبيّن لنا خلال الدراسة أثر

الصفحة 37
هذه الرواسب على التاريخ والتشريع الإسلامي، وخصوصاً على تاريخ الحديث وسُنّة رسول الله من بعده (صلى الله عليه وآله).

تأثير اليهود على عرب الجزيرة:

عرفنا ـ على ضوء الصفحات السابقة ـ أنّ عرب شبه الجزيرة لم تكن لهم مدنيّة راقية ولا ثقافة عالية، وأنّهم قد تأثّروا كثيراً بالوافدين كيهود فلسطين و...، وكانوا يرجعون إليهم في كثير من الاُمور لكونهم قادمين من حضارات عريقة يحملون معهم أخبار الديانات والمغيّبات، وأنّهم أصحاب كتب ومدوّنات، فكانوا ينظرون إليهم نظر التلميذ إلى معلّمه، ويعدّوهم مصدر الثقافة الدينيّة والعمليّة، فما عُرضَ الإسلام على قبيلة أو عشيرة منهم إلاّ وهرعوا إلى مناطق اليهود يستفتونهم في قبول هذا الأمر أو ردّه.


1 ـ وممّا جاء في هذا الأمر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا قبيلة كندة إلى الإسلام، فأبوا قبوله، فأخبرهم شخص أنّه سمع من اليهود أنّهم قالوا: إنه سوف يظهر نبي من الحرم قد أظلّ زمانه(1). وهذا الخبر دعاهم للتثبيت أكثر في الأمر، ثمّ قبوله.

2 ـ نجد قبيلة بكاملها تذهب إلى يهود فدك لتسألها


____________

1- دلالئل النبوة ـ لأبي نعيم ـ: 113.


الصفحة 38

عن قبول الإسلام أو ردّه(1).

3 ـ جاء في الإصابة: أنّ وفد الحيرة وكعب بن عدي أسلما على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولمّا توفّي الرسول (صلى الله عليه وآله) ارتابوا إلاّ كعباً فإنّه استدلّ على إسلامه بقوله: إني خرجت أُريد المدينة فمررت براهب كنّا لا نقطع أمراً دونَه(2).

4 ـ نقل ابن عباس عن حيّ من الأنصار كانوا أهل وثن، أنّهم كانوا يرون لليهود المجاورين لهم فضلاً عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم(3).


إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على اعتقاد عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام باليهود. وأنّهم أهل الفضل والعلم وممَّن يرجع إليهم في أمر الحياة والدين(4).

الرسول وتخوَفه من اليهود:

حذّر الله ورسوله المؤمنين من اليهود في عدة آيات من الذكر

____________

1- البداية والنهاية 3: 145، دلائل النبوّة ـ لأبي ـ: 102.

2- الإصابة 3: 298.

3- الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير: 109.

4- وللمزيد انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 1: 20.


الصفحة 39
الحكيم، وعدّهم القرآن أشدّ الناس عداوة للّذين آمنوا.

فقال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَا وَةً لِّـلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ... }(1)، لأنّه سبحانه كان مطّلعاً على نواياهم وسرائرهم وأنّهم هم الّذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا يستقبحون الكذب والافتراء على الله ورسوله، في حين أنّهم { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }(2).

وجاء عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه أمر زيد بن ثابت بتعلّم السريانيّة خوفاً من اليهود، فقال (صلى الله عليه وآله) لزيد: إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا فتعلّم السريانية(3).

فالرسول الأكرم جدّ في تعليم المسلمين، وسعى لمحو الاُمّيّة، لأنّ في توعية المؤمنين غاية الرقي والتعلّم، وقد نزل في ذلك قوله:

{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(4).

قوله: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ

____________

1- سورة المائدة 5: 82.

2- سورة البقرة 2: 146.

3- تاريخ دمشق 6: 280، الطبقات الكبرى 2: 115.

4- سورة التوبة 9: 122.


الصفحة 40
دَرَجَـت }(1).

وقوله: { فَسْـَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ }(2)، وغيرها من الآيات المباركة.

كما دلّت على ذلك سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإرساله المبلّغين والمنذرين إلى القبائل، فقد كانت كلّها بوادر في هذا السياق.

وكذا النصوص الصادرة عنه (صلى الله عليه وآله) في محبوبية العلم وذمّ الجهل وما لطالب العلم من الأجر والثواب، وتشجيعه (صلى الله عليه وآله) لمن يسأل عن العلم ودعوته للتفقّه في الدين، بمثل قوله (صلى الله عليه وآله): "من يردالله به خيراً يفقَهه في الدين"(3).

وقوله: "الناس معادن، فخيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"(4).

وقوله: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"(5).

وقوله: "إذا جاء الموت طالب العلم وهو على حاله مات شهيداً"(6).

____________

1- سورة المجادلة 58: 11.

2- سورة النحل 16: 43.

3- مجمع الزوائد 1: 121 عن أبي هريرة.

4- مجمع الزوائد 1: 121، جامع بيان العلم 1: 18، ومسند أحمد 2: 513 ح 7490 عن جابر بن عبدالله.

5- سنن ابن ماجة 1: 81 ح 224.

6- جامع بيان العلم 1: 31.


الصفحة 41
وقوله: "من طلب علماً فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كفلاً من الأجر"(1)، وغيرها من الأحاديث الشريفة.

وجاء في الجامع لأخلاق الرواي والسامع:

أنّ وفد عبدقيس أتوا النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقال (صلى الله عليه وآله): من الوفد؟ ـ أو: مَن القوم؟ ـ. قالوا: من ربيعة.

قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى.

قالوا: إنّا نأتيك من شقّة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحيّ من كفّار مُضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلاّ في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر من وراءنا ندخل الجنّة، فقال...(2)

وفى صحيح البخاري وسنن الدارمي أنّ جماعة من المؤمنين جاؤوا النبيّ (صلى الله عليه وآله) كي يتعلّموا الفرائض والسُنن، وبعد فترة قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): ارجعوا إلى أهليكم فعلّموهم وصلّوا كما رأيتموني أُصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدكم، ثمّ ليوَمّكم أكبركم(3).

فترى روح التعلّم والتعليم تأخذ مأخذها البالغ من المسلمين، حتّى أنّهم أخذوا يضربون آباط الإبل للتعلّم من رسول الله9 وتعليم

____________

1- مجمع الزوائد 1: 123، جامع بيان العلم 1: 33.

2- صحيح البخاري، كتاب العلم 1: 32، الجامع لأخلاق الراوي والسامع: 71.

3- انظر: صحيح البخاري 1: 162.


الصفحة 42
قومهم أُمور الدين والدنيا.

وعن أبي هارون العبدي، قال: كنّا إذا أتينا أبا سعيد الخدري قال: مرحباً بوصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قلنا: وما وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله) لنا: إنه سيأتي بعدي قوم يسألونكم الحديث عنّي، فإذا جاؤوكم فالطفوا بهم وحدّثوهم(1).

وفي آخر: أوصانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن توسّع لكم في المجلس وأن نفقّهكم، فإنّكم خلوفنا وأصل الحديث بعدنا(2).

وعن عطاء بن أبي رباح أنّه سمع ابن عبّاس يخبر أنّ رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ أصابه احتلام، فسأل الصحابة فأمر بالاغتسال، فبلغ ذلك النبيّ، فقال: قتلوه قتلهم الله ألم يكن شفاء العيّ السؤال(3).

فبهذا عرفنا أنّ حضارة الإسلام هو حضارة النص والبلاغة والقيم والاخلاق وقد دعا إلى السؤال وتعلم العلم ولكن بقيت بقيّة منهم لا يسألونه، بل كان يعجبهم أن يأتي القادم يستفهمه ليفهموا منه، وقد أحصى بعض الكتّاب الآيات التي فيها كلمة {يسألونك} فرآها لا تتجاوز ثلاثة عشر آية، لكنّ الّذي

____________

1- شرف أصحاب الحديث: 72 و.

2- شرف أصحاب الحديث: 72، السُنّة قبل التدوين: 44.

3- مسند أحمد 1: 330.


الصفحة 43
وجدناه في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم خمسة عشر آية(1) فيها لفظ {يسألونك}.

هذا، وممّا كان يتخوّفه الرسول على أُمّته هو التغنّي بأمجاد الجاهليّة وذكر أيام العرب والعناية المتزايدة بالأنساب وترجيح العربي على غيره لقوميته وعرقه، فقال (صلى الله عليه وآله): "لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى"(2)، دفعاً للروح الجاهليّة، وترسيخاً لمفاهيم الإسلام، ومعايير الدين الحنيف، وتثقيفاً للمجتمع بالثقافة العالية.

____________

1- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ـ لمحمّد فواد عبدالباقي ـ: 327.

2- مسند أحمد 5: 411.


الصفحة 44

الباب الأول
عصر التأصيل



ويقع البحث فيه في خمسة مراحل:





الصفحة 45

الصفحة 46


المرحلة الأوّلى
العرب وحديث محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة





الصفحة 47

الصفحة 48
كانت العرب قبل الإسلام تذكر محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) بالفضل والنبل والعزة والكمال، وتلقبه بالصادق الأمين، لما عرفوا في حديثه من الصدق، وما عاينوا عنده من الامانة حتّى نقل ابن برهان الحلبي: أنّ العرب كانت تتحاكم إليه في الجاهليّة لأنّه كان لا يداري ولا يماري(1)، وكانوا لا يستغنون عنه في أحلافهم، ويحكّمونه في نزاعاتهم لما أدركوه فيه من مؤهّلات.

فمما جاء عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه اشترك في حلف الفضول وعمره لا يتجاوز العشرين عاماً، مناصرة للمظلوم أمام الظالم كائناً من كان.

وقد وصف (صلى الله عليه وآله) حضوره في ذلك الحلف بقوله: لقد حضرتُ في دار عبدالله بن جذعان حلفاً ما سرّني به حمر النعم، ولو دُعيت إلى مثله لأجبت(2).

____________

1- السيرة الحلبيّة 1: 145.

2- شرح نهج البلاغة 14: 129، البداية والنهاية 2: 293، الأغاني 16: 65 ـ 70.


الصفحة 49
وحُكّم (صلى الله عليه وآله) بين القبائل في وضع الحجر الأسود، وذلك بعد أن أتمّت القبائل تجديد البيت الحرام، فتنازعوا بينهم في الذي يضع الحجر مكانه، فاقترح أبو أُميّة بن المغيرة والد أم سلمة ـ أن يحكّموا أوّل داخل عليهم من باب السلام، فإذا بمحمّد بن عبدالله دخل، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا.

فأُخبر (صلى الله عليه وآله) الخبر، فبسط إزاره ـ وفي نصّ طلب ثوباً ـ ثمّ أخذ الحجر فوضعه فيه بيده.

ثمّ قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثمّ رفعوه جميعاً، فلما حاذى الموضع أخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده الشريفة فوضعه في مكانه(1).

نعم، كانت العرب تعز الرسول وتبجله، وتقر له بالفضل والكمال، والنبل والأمانة، والصدق في الحديث وحسن الإدارة والسياسة، وأنه لو دعاهم إلى أمر استجابوا إليه.

فجاء عنه (صلى الله عليه وآله) أنّه في بداية دعوته المباركة صعد الصفاء ـ وهو موضع بمكّة ـ وجعل ينادي:


يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني عبدالمطّلب.


وذكر الأقرب فالأقرب حتّى اجتمعوا، ومن لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر له ما يريد.

____________

1- انظر: السيرة النبويّة ـ لابن هشام 1: 209، البداية والنهاية 2: 303، وشرح نهج البلاغة 14: 129.


الصفحة 50

فقال (صلى الله عليه وآله): أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً في سفح هذا الجبل قد طلعت عليكم أكنتم مصدقيّ؟

فقالوا بلسان واحد: نعم، أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذباً قطُّ.

قال (صلى الله عليه وآله): إني نذير لكم من عذاب شديد، يا بني عبد المطّلب، ويا بني عبد مناف، ويا بني زهرة، ويا بني تيم، ويا بني مخزوم وأسد، ومضى يعدد جميع قبائل مكّة وفروعها..

ثمّ قال: إن الله أمرني أن أنذركم من عقابه، وإنّي لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا في الآخرة نصيباً إلاّ أن تقولوا: لا إله إلاّ الله.


فنهض أبو لهب ـ وكان رجلاً بديناً سريع الغضب ـ وصاح به:

تباً لك سائر اليوم الهذا جمعت الناس؟! وتفرّقوا عنه يتشاورون في أمره.

نعم، إن القبائل عارضته وكذبته لا لنفسه، بل لما جاءهم به من أفكار وآراء عن الكون والحياة، والتي لم يكن لهم بها عهد من قبل، فصار شأنه شأن باقي المرسلين المكذَّبين من قبل اقوامهم، فكان مثل قومه كمثل قوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وأصحاب الرسّ، إذ قال تعالى:

{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُـوح وَعَادٌ وَثَمُودُ *

الصفحة 51
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوط }(1).

ولهذا لم نَرَ ضمن ما رماه به (صلى الله عليه وآله) قومه من تُهم، كلمة (كذّاب) أو (خائن) (ظالم) أو... بخلاف رميهم إياه بـ: (ساحر) ـ لعدم دركهم كنه الإعجاز ـ و (مجنون) لما كانوا يرون عليه من ثقل الوحي، وفي هذا غاية الوضوح في أنّ العرب كانت تعرف صدق وأمانة ووفاء وحكمة محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) قبل الإسلام.

ولا يخفى عليك أنّ المراد من حديث محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة هو المعنى اللغوي للحديث، لا المعنى الاصطلاحيّ، إذ أن العرب كانت تعلم قيمة كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) واتصافه بالحكمة والسداد قبل أن يبعث نبياً، ولم تكن تعرف المعنى الاصطلاحيّ الذي حدث من بعد عند المسلمين، والذي يحمل في كنفه الحجّية الشرعية والدليل القطعي.

____________

1- سورة الحجّ 22: 42 و 43.