الصفحة 52


المرحلة الثانية
العرب وحديث محمّد (صلى الله عليه وآله) بعد البعثة





الصفحة 53

الصفحة 54
لقد سبق أن قلنا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء عن الله بشهادتي لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقلنا: إنّهما كانتا لب اللباب المنجي للعرب من حالتهما للامتوازنة آنذاك، وقد كانت كلتا الشهادتين ثقيلتين على قلوب قريش وطراز الفكر الجاهلي المشبع بحبّ القيادة والرئاسة.

لكنّ الواقع هو أن الشهادة الثانية كانت أشدّ وقعاً وثقلاً على أنفسهم من الشهادة الاُولى ; إذ كيف يقرّون للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بالنبوة والقيادة الواحدة وهم الزعماء المدبّرون، أصحاب الأمر والنهي؟!

وهل محمّد (صلى الله عليه وآله) ـ من وجهة نظرهم ـ إلاّ زعيماً قاتل فانتصر؟!

ولذلك نرى نظرتهم إلى النبيّ بعد البعثة ظلت مشوبة بهذا المنطق المزعوم، وظلّوا على أساسه يفسرون كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأنّه كلام بشر عاديّ له مؤهّلات قيادية وحكمة في النظر والتفكير فقط.

وقد انكشفت هذه الظاهرة بعد استتباب الأمر للنبيّ في الموقف الحاسم بين النبيّ والطلقاء في فتح مكّة، حيث روى لنا

الصفحة 55
العباس كيفية إسلام أبي سفيان، فقال:


غدوت به على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلّما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله؟!

قال: بلى، بأبي أنت وأمي، لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئاً.

فقال (صلى الله عليه وآله): ويحك! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!

فقال: بأبي أنت وأمّي، أمّا هذه ففي النفس منها شيء.

قال العباس: فقلت له: ويحك! تشهّد شهادة الحقّ قبل أن تضرب عنقك.

قال: فتشهّد(1).


فهنا يبدو واضحاً أنّ أبا سفيان كان أكثر بُطئاً في قبول الشهادة الثانية من الأولى، لأن الثانية فيه تحطيم غروره وجبروته وموقعه السياسي والاجتماعي، وذلك ما لا تعنيه كثيراً الشهادة الأولى بالنسبة له.

وكان أبو سفيان لمّا رأى نيران المسلمين وكثرة عددهم، قد قال للعباس:

____________

1- الكامل في التاريخ 2: 245.


الصفحة 56
لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.

فقال له العباس: ويحك! إنها النبوة.

فقال: نعم إذن.

وظل منظر الفكر القرشي على هذه الوتيرة حتّى بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وخلافة الشيخين، فقد ركل قبر حمزة برجله قائلاً:


قم يا أبا عمارة! إن هذا الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أصبح بيد غلماننا.


وصرح أُخرى عند جمع من بني أُميّة قائلاً:


تلقّفوها يا بني أُميّة تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار وإنما هو الملك.


وحمل ابنه معاوية نفس النزعة الفكرية ـ كما سيأتي توضيحه ـ فصرح حين سمع الشهادة الثانية بما تكنّ نفسه قائلاً:


لقد كنت عالي الهمّة يا بن عبدالله، ما رضيت إلاّ أن تقرن باسم رب العالمين.


وعلى كل حال، فإن هذا التفكير القرشي كان ينظر إلى أقوال النبيّ وأفعاله وتقريراته بأنّها اُمور شخصية، قابلة للخطأ والصواب، وقد جاء الإسلام ليحطم تلك النظرة الزائفة، وقد نجح في إنهائها إلى حدّ كبير، لكن بقيت لها مخلّفات وآثار سلبية على الحديث الشريف والسُنة النبوية، فقد اتفق المسلمون على حجية أقواله (صلى الله عليه وآله)، لكن الموروث سبّب النزاع

الصفحة 57
في ما هو الحجّة؟

وما هو إطاره؟

فإنه لا ينكر أحد بأن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث كثيرة من بدء البعثة إلى وفاته (صلى الله عليه وآله)، وأنّ تلك الأحاديث كانت محطّ أنظار المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما كانت في نفس الأمر والواقع الإلهي كلّها حجّة بالغة، وتبياناً لِما ورد في كتاب الله، وتعليماً للمسلمين، وبالتالي فلم يقع النزاع في حجيّة أقواله (صلى الله عليه وآله) إجمالاً بين المسلمين، لكن النزاع كان في ما هو الحجة من كلامه؟

فقد كان رهط من المسلمين ينظرون إلى أنّ جميع أحاديث النبيّ ـ في الأحكام والموضوعات والاُمور الخارجيّة ـ حجّة لا مناص عنها، لأنّه سبحانه قال: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى }(1).

وهذا النصّ عامّ شامل لجميع أقواله في شتّى الاُمور، فكان هؤلاء يستجيبون لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) بلا نقاش ولا مراء ويمتثلون أوامره ونواهيه.

وكانت هناك فرق أُخرى تنظر إلى أقواله وأفعاله نظرة ناقصة مبتورة، يجمعها جميعاً أنّها تفترض إمكان الخطأ في كلامه (صلى الله عليه وآله) وأفعاله وتقريراته.

وهذا النمط من الصحابة كان يعترض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في أفعاله

____________

1- سورة النجم 53: 3 و 4.


الصفحة 58
وحروبه ومصالحاته، بل كان منهم من يصرّح بأنه لو وجد أتباعاً لَما دخل في صلح الحديبية!

وقد تطوّر هذا التيّار المنفلت التفكير، المهاض الجناح، فيما بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وظهر بأشكال وطروحات شتى، حتّى روى بعضهم أُسطورة الغرانيق(1)، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) اشتبه عليه الوحي بالشيطان(2) ـ والعياذ بالله ـ!

ورووا أنّه (صلى الله عليه وآله) تزوّج السيّدة خديجة بنت خويلد بعد أن سقت أباها خمراً، فأجاب إلى نكاحه (صلى الله عليه وآله) وهو سكران(3) بعد أن كان لا يزوّجه وهو في صحوته! متشبّثين بأنّ ذلك كان قبل بعثته.

ووصل هذا التفكير إلى كثير من مشهوري الصحابة، حتّى إنّ السيّدة عائشة قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات مرة: "تكلمْ، ولا تقل إلاّ حقّاً"(4)!

فافترضت فيه الكذب وإمكان قوله بالباطل والعياذ بالله.

وجابهته مرّة أُخرى قائلة: "أنت الذي تزعم أنّك نبيّ الله"(5) و...

____________

1- تفسير الطبري 17: 131، الدرّ المنثور 3: 368، الطبقات الكبرى 1: 154 و 130.

2- انظر تفسير الطبري 9: 175 ـ 178 ح 25327 ـ 25341.

3- الطبقات الكبرى 1: 132.

4- انظر: دلائل الصدق 3: 645، إحياء علوم الدين 5: 35.

5- انظر: إحياء علوم الدين 5: 35، مكاشفة القلوب: 238.


الصفحة 59
وامتدّ هذا المسار واستفحل بمرور الزمان حتّى قال الخليفة عمر قبيل وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) عنه (صلى الله عليه وآله): "إن الرجل ليهجر"(1) ومعناه: إمكان احتمال الجزاف وغير الصواب في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وتطوّر الأَمر بأخَرَة حتّى صرّح بعضهم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مجتهد كسائر المجتهدين، يخطئ ويصيب(2)، وقد تخلف عن أوامر الله وضوابط الإنسانيّة(3)، وربّما لعن احداً بدون استحقاق(4)!!

وقد سبّب أنصار هذه المدرسة وقوع الاختلاف في التدوين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووقع التساءول هل أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أجاز كتابة حديثه (صلى الله عليه وآله) أو نهى عنه؟

فذهب قوم إلى الجواز، وآخرون إلى الحظر، واستدل كل منهما بأدلة، ونحن وإن كنا قد فصلنا هذا الامر في كتابنا (منع تدوين الحديث) لكن هنا سنبينه من وجهة نظر اُخرى لم تغاير ما قلناه سابقاً، بل تدعمه وتؤيده فإليك الكلام فيه على نحو الاختصار:

____________

1- صحيح البخاري 1: 66 ذ ح 55، شرح النووي على مسلم 11: 101، مسند أحمد 1: 355، تاريخ الطبري 2: 193.

2- صحيح البخاري 1: 66 ذ ح 55، شرح النووي على مسلم 11: 101، مسند أحمد 1: 355، تاريخ الطبري 2: 193.

3- انظر: اجتهاد الرسول، لنادية العمري.

4- كروايتهم أنّه (صلى الله عليه وآله) عبس بوجه عبدالله بن مكتوم الآعمى، و...


الصفحة 60

أمّا أدلّة الناهين عن التدوين


فهي:

أ ـ ما رواه أبو سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله):

1 ـ ما رواه همّام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمن كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه(1).

2 ـ وعن سفيان بن عيينة، عن ابن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أنّه قال: استأذنت النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي(2).

وفي روايات أُخرى عنه جاءت بصيغة الجمع: " استأذنّا...، فأبى أن يأذن لنا "(3).

ب ـ ما رواه زيد بن ثابت عنه (صلى الله عليه وآله):

1 ـ عن كثير بن زيد، عن المطّلب بن عبدالله بن

____________

1- تقييد العلم: 29 ـ 30.

2- تقييد العلم: 32 و 36، الكامل في الضعفاء 4: 1584.

3- تقيد العلم: 32، سنن الدارمي 1: 98 ح 457، سنن الترمذي 5: 38 ح 2665.


الصفحة 61
حنطب، قال:... فقال له زيد: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه، فمحاه(1).

وفي آخر: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نهى أن يكتب حديثه(2).

ج ـ ما رواه أبو هريرة الدوسيّ عنه (صلى الله عليه وآله):

1 ـ عن عبدالرحمن بن زيد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فخرج علينا، فقال: ما هذا؟! تكتبون؟!

قلنا: ما نسمع.

قال: اكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله، أكتاب مع كتاب الله؟! امحضوا كتاب الله ـ أو: خلّصوه.

قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثمّ أحرقناه بالنار.

قلنا: أي رسول الله (صلى الله عليه وآله)! أنتحدّث عنك؟

قال: نعم، تحدّثوا عنّي ولا حرج، ومن كذب عَلَيَّ متعمّداً فليتبوّاً مقعده من النار.

قال: فقلنا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)! أنتحدّث عن بني إسرائيل؟

____________

1- تقييد العلم: 35، جامع بيان العلم 1: 63.

2- انظر مثلاً: تقييد العلم: 35.


الصفحة 62
قال: نعم، تحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنّكم لا تحدّثون عنهم بشيء إلاّ وقد كان فيهم أعجب منه(1).

2 ـ وفي آخر: عن أبي هريرة، قال: بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ ناساً قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ما هذه الكتب التي بلغني أنّكم كتبتم؟! إنّما أنا بشر، من كان عنده منها شيء فليأت به ; فجمعناها، فأُخرجت.

فقلنا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)! نتحدّث عنك؟

قال: تحدّثوا عنّى ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّاً مقعده من النار.

بعض الصحابة وكراهتهم للتدوين:

  وقد جاءت نصوص عن الصحابة تدلّ على كراهتهم للتدوين، كقول أبي بردة:

كان لأبي موسى جالأشعريج تابع، فقذفه في الإسلام، فقال لي: يوشك أبو موسى أن يذهب، ولا يحفظ حديثه فأكتب حديثه.

قال: قلت: نِعْمَ ما رأيت؟

قال: فجعلت أكتب حديثه.

قال: فحدّث حديثاً، فذهبت أكتبه كما كنت أكتب،

____________

1- مسند أحمد 2: 12 ـ 13، تقييد العلم: 33.


الصفحة 63
فارتاب بي وقال: لعلّك تكتب حديثي؟

قال: قلت: نعم.

قال: فأتِني بكلّ شيء كتبته.

قال: أتيته به، فمحاه، ثمّ قال: احفظ كما حفظت(1).

  وفي آخر:

كنت كتبت كتاباً فدعا بمَرْكَنِ ماء فغسله فيه(2).

  وفي ثالث:

كان أبو موسى يحدّثنا بأحاديث، فنقوم ـ أنا ومولىّ لي ـ فنكتبها.

فقال: أتكتبان ما سمعتما منّي؟!

قالا: نعم.

قال: فجيئاني به ; فدعا بماء فغسله(3).

  وقال أبو نضرة:

قلنا لأبي سعيد: اكتتبنا حديثاً من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله).

____________

1- الطبقات الكبرى 4: 112.

2- تقييد العلم: 41.

3- تقييد العلم: 40.


الصفحة 64
قال: امحه(1).

  وجاء عن ابن مسعود أنّه مسح صحيفة فيها أحاديث حسان، كانت في أهل البيت، أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) (2).

  وعن عبدالرحمن بن أبي مسعود:

كنّا نسمع الشيء، فنكتبه، ففطن لنا عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ فدعا أُمّ ولده ودعا بالكتاب وباجّانة من ماء فغسله(3).

وغيرها من النصوص العديدة(4).

فهذه نصوص عن أبي سعيد الخدري، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ونقولات عن الصحابة الكارهين للتدوين، أتوا بها كي يدلّلوا على نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تدوين حديثه، بل سماحه (صلى الله عليه وآله) بالتحديث فقط.

وقد يمكن ارجاع هذا إلى موروث جاهلي ; لأن العرب كانت تحبذ الحفظ دون الكتابة وقد عير الإمام الصادق (عليه السلام) من قبل البعض بأنّه صحفي فقال: نعم أنا صحفي انقل عن صحف أبائي إبراهيم وموسى.

____________

1- تقييد العلم: 35، جامع بيان العلم 1: 63.

2- تقييد العلم: 54 و 57 وما بعدها، انظر: منع تدوين الحديث، لنا.

3- سنن الدارمي 1: 102، تقييد العلم: 39.

4- راجع: تقييد العلم: 36 ـ 44.


الصفحة 65
بلى قد استمر هذا الفهم حتّى يومنا هذا عند بعض المسلمين فيعتزون بالحفظ مع وجود المدونات والكتب وبهذا فنحن لا نريد الدخول في مناقشة تلك الاخبار سنداً، لأنّ دراستها سنداً يلزمنا دراسة ما يقابلها من الأحاديث التي رواها كبار الصحابة، والتي مفادها أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بالتدوين كما في أمره بذلك عليّ بن أبي طالب وعبدالله بن عمرو بن العاص، وغيرهما.

بل نجد جُلْ ـ إنْ لم نقُل كلّ ـ من نُسب إليهم رواية المنع، ثبت عنهم رواية أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالتدوين كذلك!

هذا، ناهيك عن لزوم دراسة التزام بعض الصحابة بالمنع وبعضهم الآخر بالتدوين، ومدى حجّيّة هذا الالتزام المانع أو المدوّن.

لقد تركنا البحث في هذه الاُمور، لأنّ الإطالة في مناقشة هذه الأسانيد يبعدنا عن الهدف، فرأينا أن نكتفي بالتعليق على ما ذكرنا منها متناً، وتركها سنداً، لاعتقادنا بكفايته للبصير المتدبّر.

مناقشة روايات أبي سعيد الخدري:


1 ـ أما ما رواه همّام بن يحيى، بسنده عن أبي سعيد من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "لا تكتبوا عني شيئاً إلاّ القرآن، فمن كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه".


فيُردّ عليه بسؤال نطرحه، وهو:


الصفحة 66
هل إنّ جملة "لا تكتبوا" و "من كتب عنّي" هي حكم قطعيّ، وقد رُفع في الزمن الأخير من عهد الرسول كما يذهب إليه بعضهم(1)؟.

أم إنه عامّ وشامل لكلّ العصور؟

فإن قيل بالقول الأوّل، فإنّنا نتساءل: لماذا نهى الخليفة الثاني عن الكتابة لاحقاً؟!(2)

وما هو سرّ كراهة بعض الصحابة والتابعين للتدوين لو كان استقرّ الحال على التدوين في أخريات عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!(3).

وإن قيل بالقول الثاني ـ وهو الظاهر من العبارة ـ فلِمَ دوّن الخليفة الأوّل وغيره من الصحابة الأحاديث؟!(4).

بل لم يستشير الخليفةُ الثاني الصحابة في تدوين حديث

____________

1- مثل الدكتور صبحي الصالح في "علوم الحديث" والخطّابي البستي في معالم السنن 4: 184، والسمعاني في أدب الملاء والاستملاء: 146، وابن الصلاح في علوم الحديث: 182، والبيهقي، وابن كثير في اختصار علوم الحديث: 87.

2- بل نهى عن التحديث كذلك، فمَنَع أبا هريرة ـ انظر: المحدّث الفاصل: 554، البداية والنهاية 8: 106 ـ، وابن ـ انظر: الكامل لابن عديّ 1: 18 ـ، وأبا موسى الأشعري ـ انظر: البداية والنهاية 8: 107، مستدرك الحاكم 1: 125 ـ والكوفة ـ كما في حديث قرظة بن كعب ـ.

3- تقييد العلم: 36 ـ 60، السُنّة قبل التدوين: 309.

4- تذكرة الحفّاظ 1: 5، حجژيّة السُنّة: 394، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 30.


الصفحة 67
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ المنهيّ عنه افتراضاً ـ؟!(1).

وكيف بهم يشيرون عليه بذلك لو كانوا قد سمعوا حديث النهي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!(2).

وما الذي يعنيه قول الخليفة عمر للصحابة: "من كان عنده شيء فليمحه"(3).

أو: " لا يبقينّ أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به "(4).

ألا يدلّ ذلك على وجود مدوّنات عند الصحابة قبل عهده؟!(5)

وكيف يأمر عمر بن عبدالعزيز بتدوين الأحاديث في الزمن المتأخّر(6)، خلافاً لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) المفترض؟!

وألا يخالف النصّ السابق ما رواه أبو سعيد الخدري نفسه في قوله: "كنّا لا نكتب إلاّ التشهّد"؟!(7).

ومثله ما جاء عن ابن مسعود مع وجود إضافة:

____________

1- تقييد العلم: 49، حجيّة السُنّة: 395.

2- تقييد العلم: 49، حجّيّة السُنّة: 395.

3- تقييد العلم: 53، حجّيّة السُنّة: 395.

4- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 140.

5- الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 1: 140.

6- تقييد العلم: 105 و 106، سنن الدارمي 1: 126، صحيح البخاري 1: 36، التاريخ الصغير: 105، الجرح والتعديل 1: 21 تاريخ دمشق 3: 175.

7- تقييد العلم: 93.


الصفحة 68
"والاستخارة"؟!(1).

وهذان النصّان دالاّن على وجود كتابة سوى القرآن، وجواز تلك الكتابة للمسلمين.

فممّا يحتمل هنا ـ قويّاً ـ هو: أنّ النصّ الأوّل عن أبي سعيد مكذوبّ عليه، للأدلّة التي نقلناها.

بل نحن لو قارنّا جملة الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب للصحابة "من كان عنده شيء فليمحه" المنسوب إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) "فليمحه" لعرفنا أنّ أنصار الخليفة كانوا وراء هكذا نصوص، خصوصاً وأنّ عمر لم يمحُ الأحاديث، بل أحرقها!!


2 ـ وأمّا ما قاله أبو سعيد الخدري عن نفسه "استأذنت النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن".


فهو بعد فرض ثبوته تنزّلاً يقال فيه: إنّ النهي فيه نهي شخصيّ لأبي سعيد الخدري فقط ـ بقرينة سماحه (صلى الله عليه وآله) بالكتابة للآخرين كأبي شاة اليمني(2) والأنصاريّ الذي شكا سوء الحفظ(3)، ودعوته (صلى الله عليه وآله) عليّاً وغيره للكتابة(4).

____________

1- السُنّة قبل التدوين: 297 عن المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 1: 115.

2- تقييد العلم: 86، صحيح البخاري / اللقطة، صحيح مسلم / الحجّ، مسند أحمد 2: 238، سنن أبي داود 5: 45، جامع بيان فضل العلم 1: 70.

3- تقييد العلم: 65، مجمع الزوائد 1: 152.

4- أدب الإملاء والاستملاء ـ للسمعاني ـ: 12 ـ 13، الإمامة والتبصرة من الحيرة ـ لابن بابويه ـ: 174 بصائر الدرجات: 163 وص 168 بنحو آخر.


الصفحة 69
على أنّ الظاهر من نسبة أبي سعيد النهي إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أنّه كان بفهم منه لا بتصريح من رسول الله (صلى الله عليه وآله)!

لأنّنا بملاحظتنا لأحاديث أبي سعيد الخدري ـ التي نسب فيها النهي إلى نفسه لا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وجدناها جميعاً تذكر تعليل أبي سعيد المنع بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يأمرهم بالحفظ، وأنّهم كانوا يسمعون ويأخذون مشافهة فقط، ففهم أبو سعيد خطاً أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان ينهى عن التدوين، مع أنّ من الواضح أن الأمر بالحفظ وتدقيق السمع والأخذ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يدلّ بحال من الأحوال على نهيه (صلى الله عليه وآله) عن التدوين.

هذا، مع أنّ أمره (صلى الله عليه وآله) الصحابة بالحفظ والسماع وتلقّي الأحاديث يكون عاماً شاملاً لحفظ حديثه كتابةً أيضاً ; لأنّ حفظ كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يختص بحفظه في الذهن عبر القوّة الحافظة، بل يشمل حفظه بشتّى الطرق، والتي تكون أبلغها الكتابة.. والتدوين، وهذا هو معنى (صلى الله عليه وآله): "من حفظ على أُمّتي أربعين حديثاً..."(1).

فالمحافظة على الحديث النبويّ لا يختصّ بحفظه عن ظهر قلب، بل يمكن تحقّقه بتدوينه كتابة، بل يمكن القول بأنّ

____________

1- انظر مثلاً: مشكاة المصابيح 1: 117 ح 258، كنز العمّال 10: 224 ـ 226 ح 29182 ـ 29192، إتحاف السادة المتّقين 1: 75 و 77.


الصفحة 70
المحافظة عليه بالكتابة هي الأجدر والأنفع، ولهذا نرى العلماء يؤلّفون "الأربعينات الحديثيّة".

وعليه: فإنّ الدعوة إلى الحفظ الذهنيّ، وتخصيص حفظ الحديث بالحفظ عن ظهر قلب، فيه من المسامحة ما لا خفاء فيه، إذ جاء عن الصادق: "القلب يتّكل على الكتابة"(1).

وأصرح منه قوله: "اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا"(2).

ولو سلّمنا عدم إرادة ذلك كلّه، فإنّ لنا أن نقول: إن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر الصحابة بعدم تدوين كلامه وحديثه ضمن القرآن المجيد، بل كان يأمر بتدوين القرآن مستقلاًّ، والحديث مستقلاًّ لئلاّ يختلطا.

وهذا الذي قلناه يدلّ عليه ما روي عن أبي هريرة من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر الصحابة بجمع الكتب فقال: "من كان عنده منها شيء فليأت به فجمعناها فأُخرجت..."(3).

إذ لا معنى للإخراج إلاّ ما ذكرنا من أنّه (صلى الله عليه وآله) أمر بإخراج أقواله المدونة من قِبَل بعض الصحابة مع القرآن، وهذا أدلّ على إقرار النبيّ (صلى الله عليه وآله) للتدوين منه على النهي!

____________

1- أُصول الكافى 1: 72 ح 146.

2- أُصول الكافي 1پ: 72 ح 147.

3- تقييد العلم: 35.


الصفحة 71
هذا كلّه على فرض تسليم ورود النهي عنه (صلى الله عليه وآله) بطريق أبي سعيد ; مع أنّه لم يثبت ذلك عنه (صلى الله عليه وآله) كما بُحث في محلّه، بل الثابت عنه (صلى الله عليه وآله) هو عكس ذلك.

وبهذا فقد فَنّدنا ما زُعمت روايته عن أبي سعيد الخدري.

والآن مع حديث زيد بن ثابت.

مناقشة رواية زيد بن ثابت:

وأمّا ما جاء عن زيد بن ثابت من أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرهم أن لا يكتبوا حديثه (صلى الله عليه وآله) ; فيخالفه ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عمومات الإذن بالتدوين(1) وكتابة الصحابة لحديثه (صلى الله عليه وآله) (2)، حتّى جاء عن ز يد بن ثابت نفسه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره بتعلّم اللغة السر يانيّة نطقاً وكتاية، فتعلّمها في حدود ستّة عشر يوماً(3).

فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجيز كتابة كتب اليهود خوفاً من مكرهم فبطريق أوّلى كان يسمح لاُمّته بكتابة حديثه خوفاً من الضياع.

على أنّ في صدر الرواية عن زيد قول الراوي:


دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، فأمر إنساناً يكتبه.

فقال له زيد: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرنا أن لا نكتب شيئاً


____________

1- تقييد العلم: 68.

2- تقييد العلم: 72 ـ 98.

3- الطبقات الكبرى 2: 358، سنن أبي داود 3: 318 ح 3645، مسند أحمد 5: 186، تهذيب الكمال 10: 28 ـ 29.