كان أبو بكر نسّابة، وكان سعيد بن المسيّب نسّابة، وقال له رجل: أُريد أن تعلّمني النسب ; قال: إنّما تر يد أن تُسابَّ الناس(1).
|
ولذلك كانت قريش حين تسمع أهاجي حسّان بن ثابت وما فيها من مثالب تظنّ تارة أنّ أبا بكر هو منشئ تلك الأشعار، ولمّا عرفتْ أنّ حسّاناً هو شاعرها عرفتْ أنّ ذلك جاء بمعونة حافظة أبي بكر للأنساب وإحاطته بالأيّام.
قال أبو الفرج:
لمّا أُنشدت قريش شعر حسّان قالت: إنّ هذا الشتم ما غاب عنه ابن أبي قحافة(2). وأخرج ابن عساكر، عن المقدام، قال: وكان أبو بكر سبّاباً(3). وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق: كان أبو بكر سبّاباً أو نسّاباً(4).
|
ولعل من أسباب نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن التعمّق في تعلم الأنساب هو العراك والتهاتر الذي ينشأ عنها، وهو يخالف الخلق الإسلامي الإنساني.
____________
1- لعقد الفريد 3: 280.
2- الأغاني 4: 139.
3- عمدة التحقيق: 35 ـ طبعة دار الندوة الإسلاميّة.
4- الصواعق المحرقة: 43، تاريخ الخلفاء: 37.
فقد مرّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوم مجتمعين على رجل، وهم يقولون: إنه لعالم! فقال (صلى الله عليه وآله): وما علمه؟! قالوا: إنه عالم بأنساب العرب. فقال (صلى الله عليه وآله): هذا علمٌ لا يضرّ مَن جهله(1).
|
والذي نريد قوله هنا: إنّ أبا بكر قد تأثّر بالموروث حتّى بعد مجيء الإسلام.
فقد روى ابن عبدربّه الأندلسي، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، عن علي، قال: لما أُمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعرض نفسه على القبائل، خرج مرّة وأنا معه وأبو بكر، حتّى رُفِعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدّم أبو بكر فسلّم... فقال: ممّن القوم؟
قالوا: من ربيعة.
قال: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامَتها أم من لهازمها؟
قالوا: من هامتها العظمى.
قال: وأي هامتها العظمى أنتم؟
قالوا: ذُهل الأكبر.
قال أبو بكر: فمنكم عوف بن محلّم الذي يقال فيه: "لا حُرَّ
____________
1- جامع بيان العلم وفضله 2: 29، إحياء علوم الدين 1: 43، الأنساب ـ للسمعاني ـ 1: 22 ح 12 و 13، إتحاف السادة المتّقين 1: 224، كنز العمّال 10: 280 ح 29443.
قالوا: لا.
قال: فمنكم جَسّاس بن مرّة، الحامي الذمار، والمانعُ الجار؟!
قالوا: لا.
قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟!
قالوا: لا.
قال: فمنكم أصهار الملوك من لَخْم؟!
قالوا: لا.
قال أبو بكر: فلستم ذُهلاً الأكبر، أنتم ذُهل الأصغر!
فقام إليه غلام من شيبان حين بَقَلَ وجهُهُ يقال له: دغفل، فقال:...
يا هذا! إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟
قال أبو بكر: من قريش.
قال: بخ بخ، أهل الشرف والرئاسة ; فمن أي قريش أنت؟
قال: من وُلد تيم بن مرّة.
قال: أمكَنْتَ والله الراميَ من سواء الثغرة ; أفمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل فسُمّي مُجمّعاً؟!
قال: لا.
قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكّة
قال: لا.
قال: فمنكم شيبة الحمد عبدالمطّلب، مطعم طير السماء، الذي وجهه كالقمر في الليلة الظلماء؟!
قال: لا.
قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟!
قال: لا.
قال: فمن أهل السقاية أنت؟!
قال: لا.
فاجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)...(1)
فانظر إلى أبي بكر كيف يتعامل مع القبائل وهو في موطن الدعوة إلى الإسلام!
ألم يكن المفروض به أن يعرض عليهم الشهادتين وأخلاق الإسلام ومفاهيمه برفق ولين، لا أن يغالبهم في النسب ويقلّل من شأنهم بما يجعل نفوسهم بعيدة عن قبول الدين الجديد؟!
ولهذا التأثير العنيف، كان من الطبيعي أن تظهر هذه النبرة القديمة في سقيفة بني ساعدة، فقد طرحت فيها الموازين الموروثة لا الموازين الربانية التي جاء بها الاسلام على لسان نبي الرحمة محمّد (صلى الله عليه وآله)!
____________
1- العقد الفريد 3: 280 ـ 281، الأنساب ـ للسمعاني ـ 1: 37 ـ 38.
أيّها الناس! نحن المهاجرون أول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسّهم برسول الله رحماً...(1)
|
فكرم الأحساب، ووسطيّة الدار، وحسن الوجوه، وكثرة العدد، كانت من المفردات التي احتجّ بها للخلافة، وهذه كلّها لا تمتّ إلى الخلافة والأحقّية بها ـ في نظر البارى ـ بصلة!
ولا يخفى عليك بأن الإمام عليّ لما ذكّر النهج الحاكم بهذه الأمور ـ واستدل بها على احقيته بها منهم ـ اراد الزاماً لهم بما ألزموا به انفسهم.
نعم استمرّت هذه الخصلة عند أبي بكر حتّى في أيّام خلافته، فجعل يسأل الصبيان الّذين أتى بهم خالد بن الوليد من عين التمر عن أنسابهم، فيخبره كلّ واحد بمبلغ معرفته(2).
نحن لسنا بصدد بيان هذه الأُمور بقدر ما يعنينا بيان امتداد هذا النهج بعد الخليفة عند المسلمين، وخصوصاً في العهد الأُموي، ثم التركيز على عناية الخلفاء بالشعر والأنساب في الوقت الذي كانوا يخالفون تدوين الحديث والمغازي!!
____________
1- العقد الفريد 5: 12.
2- الأغاني 4: 5.
وقد أثّر هذا المنع تأثيراً خطيراً على السُنّة النبويّة، التي ظلّت غير مدوّنة مدّة مديدة من الزمن، فتمهّدت الأرضية الخصبة لوضع أحاديث مكذوبة على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; فيها: نهيه (صلى الله عليه وآله) عن التدوين لحديثه الشريف!
كلّ ذلك تصحيحاً لِما وقع فيه أبو بكر من خطأ في المنع، وما حمله هو وآخرون معه من أفكار عن الحفظ وكراهة التدوين، فجاء عن بعض الصحابة قولهم لبعض التابعين: احفظوا كما كنّا نحفظ(1).
إنّ هذه المفردة التي جاهر بها أبو بكر، كانت من أكبر المؤثّرات على السُنّة النبويّة المباركة، واختلاف النقل فيها، وضياع كثير من معالمها علينا.
____________
1- قوت القلوب 1: 159.
2 ـ نظرتهم إلى الخلافة والإمامة:
اختلفت النظرة إلى الخلافة والإمامة في صدر الإسلام، فالتزموها تارة بالبيعة، وأُخرى بالشورى، وثالثة بالإجماع، لاغين الوصاية النبويّة أو احتمالها من قاموس السقيفة، مؤكّدين على أنّ الكثرة واتّفاق أهل الحلّ والعقد هما من طرق إثبات شرعية الخلافة..
وتطوّر الأمر ونضح الإناء بأخرة فصرّح بعضهم بانعقاد الخلافة بمبايعة شخصين، أو شخص واحد، مستدلّين ببيعة عمر لأبي بكر، واستفحلت الفكرة حتّى صرّح بعضهم بانعقاد الخلافة لكلّ من غلب وتسلّط بالسيف والقوّة..
إلى غير ذلك من الرؤى التي استُلّت من بيعة أبي بكر، وكتابة عثمان خلافة عمر وإقرار أبي بكر لذلك، واختراع عمر لمبدأ الشورى الضاغطة..
فكان لابُدّ من إيجاد المخرج لتصحيح تلك البيعات، ومن هنا ظهرت الآراء المتضاربة والمتهافتة، وأثرت حتّى اليوم على شرعية وشكلية الحكومة الإسلامية.
لكن الاستدلال بالكثرة غير صحيح عقلاً ونقلاً ; إذ لو صحّت الكثرة دليلاً لكان الكفّار على حقٍّ; لكونهم أكثر عدداً من المؤمنين في صدر الإسلام، بل في أغلب الأزمان، حتّى صرّح القرآن الحكيم بعدم نفع الكثرة قبال القلّة المؤمنة، بقوله:
وقوله: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }(2).
وقوله: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ }(3).
وقوله: { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }(4).
وعليه فمعيار الكثرة والقلّة لا يمكن جعله دليلاً على المطلوب.
وهكذا الحال بالنسبة إلى اتّفاق أهل الحلّ والعقد، فهو مردود شرعاً وعقلاً، ونحن نترك الجواب عن أمثال هذه رعاية للاختصار.
وعليه: فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إمّا أن يكون ترك أمر البيعة للناس، أو أن يكون عيّن مَن يخلفه؟!
فإن كان (صلى الله عليه وآله) قد تركهم، فلماذا يعيّن أبو بكر عمر خلفاً له خلافاً لسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وإن كان (صلى الله عليه وآله) قد عيّن وصيّه، فكيف يصحّ أن يقال إنه ترك
____________
1- سورة البقرة 2: 249.
2- سورة الأنعام 6: 116.
3- سورة سبأ 34: 13.
4- سورة الأعراف 7: 187، سورة يوسف 12: 21، سورة الروم 30: 6، سورة سبأ 34: 28، سورة غافر 40: 57.
وهكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب ; إذ لو كان يؤمن بمبدأ الشورى فلِمَ لا يستجيب لقول الصحابة حينما أشاروا عليه تدوين الحديث(1)؟!
وكيف بعمر يقول: "لو أدركت أبا عبيدة بن الجرّاح باقياً استخلفته وولّيته... ولو أدركت معاذ بين جبل استخلفته... ولو أدركت خالد بن الوليد لولّيته"(2).
ويقول: "لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته"(3).
بل كيف لنا أن نفهم أبعاد هذا التخليط عند الخلفاء في صدر الإسلام؟!
فقول عمر: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة" لا يتّفق مع سياسته نحو الموالي! كما لا يتّفق مع احتجاجهم بأن الأئمّة من قريش، وأنّ قريشاً أَولى من سائر العرب بقربها من النبيّ دون سائرهم!!
وهكذا الحال بالنسبة إلى قوله: "لو أدركت معاذ بن جبل" فهو يخالف فكرته وسياسته نحو الأنصار!
____________
1- تقييد العلم: 49، حجّية السُنّة: 395.
2- الإمامة والسياسة 1: 42.
3- تاريخ الطبري 2: 580 حوادث سنة 23هـ ـ قصّة الشورى.
إنّ المتأمل في كلام الإمام عليّ وخطبة الزهراء (عليها السلام) ـ وهما من أعلام المتعبدين، المعارضين للاجتهاد والمصلحة ـ يعلم بأن الظروف هي التي دعت إلى اختلاف المواقف واختلاق الأُصول والمباني عند الصحابة لمصلحة توهّموها أو قصر مداها على المصلحة الآتية.
إنّ الزهراء بخطبتها أرادت التأكيد على إمامة أهل البيت وأحقّية عليٍّ بن أبي طالب بالخلافة من غيره، وذلك من خلال طرح المفاهيم والمقاييس الإسلامية الحقة في الخلافة والإمامة.
إذ إنّها بعد حمد الله والثناء عليه، وذِكر أبيها محمّد بالمجد والجلالة جاءت لتمدح عليّاً، وتذكّر الناس بمواقفه في الإسلام، مؤكّدة على أن أهل البيت هم الوسيلة في خلقه، وخاصته، ومحلّ قدسه، وحجّته في غيبه، وورثة أنبيائه.
مذكّرة إيّاهم بحظهم العاثر، وانقلابهم على أعقابهم، وإسنادهم الخلافة إلى غير أهلها، والفتنة التي سقطوا فيها، والدواعي التي دعتهم إلى ترك الكتاب والسُنة وتخطّي المبادئ الإسلامية في الاستخلاف.
فجاء في جملة كلامها: "وأنتم في رفاهية من العيش
ومعنى كلامها أنها أرادت أن تذكّر أبا بكر ـ وغيره ـ بالتجائه مرّة إلى العريش، وفراره مرّة أُخرى يوم أحد(1)، وثالثة بهزيمته ـ كغيره من المسلمين ـ في غزوتَي حُنين وخيبر(2)، وتخلّفه عن جيش أُسامة.. ومثل هذا كان فعل عمر يوم أُحد(3)...
وأمّا قولها: "تتربّصون بنا الدوائر تتوكّفون الأخبار..." فهو ابلاغ صريح لهم بالتآمر على البيت الهاشمي وجعل نصوص الخلافة وراء ظهورهم، غير معيرين أي أهمّية إلاّ لأفكار هم في إطاعة أُولي الأمر منهم لا الذين فرضهم الله ورسوله.
وكذا قولها (عليها السلام):
"فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شريككم ; هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لمّا يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وإنّ جهنم لمحيطة |
____________
1- انظر: المستدرك على الصحيحين 3: 27، تفسير ابن كثير 1: 654، شرح نهج البلاغة 13: 293.
2- انظر: تاريخ اليعقوبي 2: 47، تاريخ الطبري 3:93 ـ 94، الكامل ـ لابن الأثير ـ 2: 219.
3- المغازي ـ للواقدي ـ 1: 237، السير والمغازي ـ لابن إسحاق ـ: 330 و 332، تاريخ الطبري 2: 66.
بالكافرين...".
|
ففيه تأكيد على وقوعهم في الفتنة، وانقلابهم على الأعقاب، وأخذهم بالجاهلية الأُولى، وهو تفسير آخر لقوله تعالى:
{ أَفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ }(1).
وقد كانت الزهراء (عليها السلام) قد قالت في خطاب آخر لها وجّهته في بيتها إلى نساء المهاجرين والأنصا قائلة:
"أمّا لعَمر الله، لقد لقحت، فنظرة ريثما تحلب، ثمّ احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غِبَّ ما أسّس الأوّلون، ثمّ طِيبوا عن أنفسكم، وأبشروا بسيف صارم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيْئَكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة عليكم...".
|
ولعلّ قولها (عليها السلام): "يعرف التالون غبَّ ما أسّس الأوّلون" يكاد يكون أصرح من الصريح في ما نحن بصدده من تأصّل الأُصول من خلال المواقف، وطرح الأُصول الاسلامية جانباً لنفس السبب، وذلك مايجرّ الويلات ويؤثّر على الاصعدة كافّة، ومنها حديث الرسول وسُنّته، فقد نالهما قسطُ وافرٌ من الضياع والتغيير، الذي تأزّم فظهر غبُّهُ شيئاً
____________
1- سورة آل عمران 3: 144.
وهو معنىً آخر لكلام الإمام عليّ في خطبته الشقشقية:
" فمُني الناس لعَمر الله بخبط وشماس، وتلوّن واعتراض... "(1).
|
فها هم اليوم قد انقلبوا على أعقابهم، واستولى عليهم منطق الجاهلية، إذ قال أحدهم: نحن أهل العزّة والمنعة.
وأجابه الآخر: من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته؟!
وكانوا قد أسقطوا الكتاب والسُنّة من مقاييسهم في يوم السقيفة واخذوا بالرأي.
نعم، إنّ الحزب القرشي قد استفاد من الذهنية الجاهلية لتطبيق الخلافة والحكم، ولهذا رأينا النزاع يدور حول أولوية الأنصار بالخلافة من المهاجرين أو العكس، ولم يلحظ في نزاعهم تحكيم معايير الإسلام، كالعلم والتقوى والجهاد وغيرها من أُصول التفاضل القرآني.
إذاً فمسألة فدك ـ في أحد أبعادها ـ ليست مسألة ميراث ونحلة فقط، بقدر ما هي مسألة شرعية خلافة أو التشكيك فيها ; لأنّ قريشاً كانت تحلم بهذه الخلافة، وكان رؤساؤها يعترضون بين الفينة والأُخرى على تنصيب الرسول لهذا أو
____________
1- لو أردت المزيد فيمكنك مراجعة كتابنا منع تدوين الحديث: 242 وما بعدها.
"قد بلغني أنّ قوماً يقولون في إمارة أُسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقاً للإمارة، وإنّه لخليق، فأنفذوا بعث أُسامة"(1).
|
وقد اعترف عمر بن الخطّاب بأنّ رسول الله أراد أن يصرّح ـ متجاهلاً أنّه صرّح مراراً ـ باسم من يخلفه "فمنعته من ذلك"(2).
فالمسألة بنظر الزهراء (عليها السلام) مسألة إسلام وجاهلية، ونصّ وشورى، وإيمان ونفاق، وأخذ بأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) وطرح لها، وإن أخذت في ساذج ظاهرها صورة ماليّة ومذهباً اقتصادياً.
____________
1- تاريخ الطبري 2: 431، الطبقات الكبرى 2: 349.
2- شرح نهج البلاغة 12: 20 ـ 21.
3 ـ القوّة هي المعيار في التولية لا الأهلية والتقوى:
ليس ثمّة شكُّ في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يولّي الولاة ـ الإداريّين والعسكريّين ـ وفق كفاءاتهم في المجال المبعوثين فيه، مفترضاً فيهم النزاهة الدينية والتقوى.
فما أن يظهر من أحد منهم ما يخالف مبادئ الإسلام إلاّ ويعزله (صلى الله عليه وآله) ويتدارك ما فرّط فيه من أعمال سلبية، وهو (صلى الله عليه وآله) بذلك قَمَع الروح العدوانية الجاهلية.
إلاّ أن ما حصل بعد غياب الرسول (صلى الله عليه وآله) كان ينبئ عن حقيقة مأساوية، مختصرها أنّ "الغاية تبرّر الوسيلة"، وأنّ الأُوْلى بالولاية أقدرهم على قمع الخصوم، ومن ثمّ تتويجه بألقاب تضفي عليه طابع التقوى والشرعية!!
لأنّ المهمّ هو تثبيت قواعد الخلافة، والأجدر هو الأقدر على ذلك.
فقد لّقب أبو بكر خالداً بـ "سيف الله المسلول" وأحاطه بهالة من القدسية، حين منحه منحة الاجتهاد قائلاً "اجتهد فأخطأ"، رغم تعدّيه على زوجة مالك بن نويرة وهي في العدّة، ومعرفته بموقفه مع بني جذيمة وبراءة رسول الله من فعله لقول (صلى الله عليه وآله): "اللّهم إنّي أبرأُ إليك ممّا فعله خالد".
وفي الوقت الذي تتوافر الكفاءة في خالد بن سعيد بن العاص، لا يطيق
ونظراً لموقف المغيرة بن شعبة يوم السقيفة ودفاعه عن عمر أيام خلافته وتلقيبه له بالفاروق فقد ولاّه عمر البصرة، ولما زنى المغيرة بأُم جميل ـ ذات البعل الثقفي ـ وتوقّف الرجم على تمامية الشهادة بزياد بن أبي سفيان.
ولمّا أقبل زياد للشهادة لقّنه عمر، وأسمع الحاضرين بقوله: "إنّي لأرى رجلاً لن يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين"، أو: "أرى رجلاً أرجو أن لا يفضح الله به رجلاً من أصحاب رسول الله"(2) فوسمه بوسام "المهاجر" "الصحابي"، وليس ذلك إلاّ لمواقفه المفيدة للخلافة الجديدة، دون مراعاة للتعبد باوامر الله ونواهيه والتقوى والإيمان والثقة بالله..
يدلّك على ذلك أنّ عمر لمّا أراد أن يولّيه الكوفة ـ بعد حادثة البصرة ـ قال له: إن ولّيتك الكوفة أتعود إلى شيء ممّا قرفت به؟
قال: لا.
وقد أفصح المغيرة نفسه عن هذه الموازنة التي قلناها حين قَدِم رجال على عمر يشكون سعد بن أبي وقّاص، فقال: من
____________
1- الكامل في التاريخ 2: 402.
2- فتوح البلدان ـ للبلاذري ـ: 339 ـ 340، الأغاني 16: 107.
فقال المغيرة: إنّ الضعيف له تقواه وعليك ضعفه، والقوي الفاجر لك قوّته وعليه فجوره.
قال عمر، صدقت، فأنت القوي الفاجر، فأخرج إليهم ; فلم يزل عليهم أ يّام عمر(1).
ومن هذا المنطلق نفسه رأينا عمر يروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله:
"أما والله ليُعْوِرَنّ بنو أُمية الإسلامَ... ثمّ ليُعمينَّه"(2)، ثمّ يولّي معاوية الشام ويمنحه لقب "كسرى العرب". تساءل يبحث عن اجابة؟
وهذا الكلام نفسه يقال في اعتماد أبي بكر على المثنّى بن حارثة الشيباني في حروبه، مع أن المثنّى لا يساوي ولا أقل واحد من أكفاء أصحاب رسول الله، إيماناً وتقوىً وسياسة وشجاعة، فلماذا التركيز على المثنّى دون المقداد والزبير وغيرهما؟!
واضح أن هذا النمط من المنصوبين يخدم أهداف الخلفاء وبالشكل الذي يريدونه، بعكس أولئك الذين لا يرتضون ما يخالف سيرة النبيّ وسلوكه في كلّ الأُمور!
____________
1- انظر: تاريخ الطبري 2: 545، شرح نهج البلاغة 12: 22.
2- الموفّقيات: 494، شرح نهج البلاغة 12: 82.
إنّ الحسن بن عليّ كتب إلى معاوية يعلمه أنّ الناس قد بايعوه بعد أبيه، ويدعوه إلى طاعته، فكتب إليه معاوية في جواب ذلك يعلمه أنّه لو كان يعلم إنه أقوم بالأمر، وأحفظ للناس، وأكيد للعدو، وأحوط على المسلمين، وأعلم بالسياسة، وأقوى على جمع المال منه، لأجابة إلى ما سأل ; لأنّه يراه لكلّ خير أهلاً... وقال له في كتابه: إنَّ أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
|
____________
1- أنساب الأشراف 3: 208.
4 ـ مكانة الشيخوخة:
إنّ العرب قد اعتادوا إعطاء الإمارة والزعامة لمن هو أسنّ القوم، ومن له المكانة والمنعة في القبيلة ; لكونه أحنك القوم والمجرّب فيهم.
وعلى ضوء هذه النظرية تعاملوا مع مسألة الخلافة بعد الرسول تعاملَ سلطة وحكم، حتّى إنّه لمّا نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ }(1) دعا النبيّ بني عبدالمطّلب، وكانوا يومئذ أربعين رجلاً، إلى الإسلام، ثمّ قال:
من يؤاخيني ويؤازرني يكون وليّي ووصيّي وخليفتي من بعدي؟ فقام إليه عليٍّ بعد سكوت القوم، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): أنت إذن. حينذاك قام القوم وهم يهزؤون ويضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام(2).
|
وظلّت مخلّفات هذا المفهوم حتّى جاء عن أبي بكر قوله يوم السقيفة: نحن الاُمراء وأنتم الوزراء(3).
____________
1- سورة الشعراء 26: 214.
2- انظر: فرائد السمطين 1: 85، تاريخ الطبري 2: 217، شواهد التنزيل 1: 542، الطبقات الكبرى 1: 187، مسند أحمد 1: 111، الدرّ المنثور 5: 97.
3- صحيح البخاري 5: 70 ح 167 مناقب أبي بكر، البيان والتبيين ـ للجاحظ ـ 3: 297، عيون الأخبار ـ لابن قتيبة ـ 2: 254، السيرة الحلبية 3: 357، وغيرها.