وروي أن سعداً رُمى في حمّام، وقيل: كان جالساً يبول، فرمته الجنّ فقتلته، وقال قائلهم(1):
قد قتلنا سيد الخز | رج سعد بن عبادة |
ورميناهُ بسهميـ | ـن فلم نُخط فؤاده |
وقد مرّ عليك بأن بعض الأشخاص قال: قتلته الجنّ لأنّه بال قائماً في الصحراء ليلاً..
وقيل: بأنّ أمير الشام يومئذ كَمَنَ له من رماه ليلاً(2).
وفي ثالث: إنّ عمر نسّق أمر اغتيال سعد مع أبي بكر(3).
وقد قال مؤمن الطاق لسائل سأله: ما مَنَع عليّاً أن يخاصم أبا بكر في الخلافة؟!
فقال: يا بن أخي! خاف أن تقتله الجنّ(4)!
وحين عارض الحبّاب بن المنذر، الصحابي البدري، أُخذ ووطئ في بطنه، ودسّوا في فيه التراب(5).
ولمّا عارض خالد بن سعيد بن العاص خلافة أبي بكر، وتوقّف عن بيعته، قال عمر لأبي بكر: دعني إياه جيعني
____________
1- أنساب الأشراف 2: 272.
2- شرح نهج البلاغة 10: 111.
3- انظر: شرح نهج البلاغة 17: 223.
4- شرح نهج البلاغة 17: 223.
5- شرح نهج البلاغة 6: 40.
وولّى أبو بكر خالداً هذا، لكنه سرعان ما عاد فاستمع لقول عمر وعزله قبل أن يتسلّم مهامّ أُموره(2).
وهكذا نرى هذه المواقف تمتاز بالشدّة والإكراه المرفوضيّن في منطق الإسلام، لكنّها عادت بعد النبيّ لتأخذ مجراها في حياة المسلمين، ولتؤثّر على السُنّة النبوية المباركة بشكل سلبي جدّاً، وسنقف لاحقاً على معالجة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لهذا الداء، وكيف أنّه لم يرغم أحداً على مبايعته، ولم يتعرّض لأحد من الممتنعين، ولم يبدأ أحداً بقتال أبداً. ولم يقطع الماء عن جيش معاوية رغم أنّهم منعوه منها.
ج ـ الإحراق:
ذكرنا سابقاً خبر عائشة وأنّها قالت بأنّ أباها قال لها: "أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ; فجئته بها، فدعا بنار فحرقها"(3) وأوضحنا هناك أن أبا بكر وبفِعله "الإحراق" أراد نفي الوثائق الدالّة على خطئه، لوجود أحاديث في الصحيفة تخالف اجتهاداته، فأمر بإبادتها!!
____________
1- شرح نهج البلاغة 2: 58 و 6: 41.
2- راجع ما كتبناه في نسبة الخبر إلى عبدالله بن زيد بن عاصم في كتابنا: وضوء النبيّ، القسم الروائي.
3- تذكرة الحفاظ 1: 5، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 30.
فنحن نتساءل: كيف اتّفق الشيخان على سياسة محدّدة تجاه الأحاديث النبوية؟! وهي الحرق؟
ولِمَ الإحراق بالنار دون الإماثة بالماء أو الدفن في التراب؟!
وماذا يعني تهديد عمر لفاطمة الزهراء (عليها السلام) والمتخلّفين عن البيعة بالإحراق؟! وقد قالت فاطمة: يا بن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟!
قال: نعم، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الاُمّة(2).
وفي خبر آخر قيل له: إنّ في البيت فاطمة! قال: وإنْ(3)!!
ونُفْذ هذا التهديد أو جزء منه، حين أقبل عمر وبيده فتيل من نار، فما بايع عليٌّ حتّى رأى الدخان قد دخل بيته.
ولم يكن هؤلاء الممتنعون مخصوصين بهذا اللون من الاعتداء، بل تعدّاهم إلى غيرهم.
فعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان في بني سُليم ردّة،
____________
1- تقييد العلم: 53، حجّيّة السُنّة: 395.
2- العقد الفريد 4: 259، تاريخ أبي الفداء 1: 56 و 164.
3- الإمامة والسياسة 1: 12، أعلام النساء 4: 114.
فجاء عمر إلى أبي بكر فقال: انزع رجلاً عذّب بعذاب الله!!
فقال أبو بكر: لا والله لا أشِيمُ سيفاً سلّه الله على الكفّار حتّى يكون هو الذي يشيمه ; ثمّ أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة(1).
لا أدري لِمَ يعذّب خالد بعذاب لم يأمر الله به في جزاء المحاربين والساعين في الأرض فساداً؟!!
وكيف به مع قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَا ؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(2).
وأنت ترى عدم وجود الحرق بالنار في جزائهم في الذكر الحكيم، بل وجود نصوص في السُنّة النبوية تنهى عن العذاب بالنار، كقوله (صلى الله عليه وآله): لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار(3).
____________
1- الطبقات الكبرى 7: 278، سير أعلام النبلاء 1: 372.
2- سورة المائدة 5: 33.
3- فتح الباري 6: 185.
وقوله (صلى الله عليه وآله): لا يعذِّب بالنار إلاّ ربّها(2).
وقوله (صلى الله عليه وآله): لا يحلّ دم امرىّ مسلم يشهد أن "لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله" إلاّ بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم، ورجل يخرج محارباً لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض ; أو يقتل نفساً، فيُقتل بها(3).
وليس في هذه الفقرات ـ كذلك ـ الحرق بالنار، بل ترى الابتعاد عن الإحراق واضحاً وظاهراً فيها.
إنّ أبا بكر عذر خالداً بالتأويل! لاحتياجه إلى سيفه لإخماد ثورات المتمرّدين والمخالفين، وهو يعلم بأنّه ليس بأهل للصلاح والإصلاح، بل همّه نكاح النساء وسفك الدماء، إذ جاءت رسالة أبي بكر إليه: "لعمري يا بن أُمّ خالد! إنّك لفارغ، تنكح النساء، وبفناء بيتك دمُ ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد".
كتب ذلك إليه لمّا قال خالد لمجّاعة: زوّجني ابنتك! فقال له مجّاعة: مهلاً! إنّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك.
____________
1- مسند أحمد 2: 307، فتح الباري 6: 184 ح 3016.
2- مصنّف ابن أبي شيبة 7: 658 ح 3.
3- سنن أبي داود 4: 124 ح 4353. بلى قد شرع الحرق في موارد خاصة كحرق البهيمة الموطوء بها وهذا غير حرق الإنسان والكتب.
والغريب أن أبا بكر نفسه قد أمر طريفة بن حاجز أن يحرق الفجاءة بالنار، فخرج به طريفة إلى المصلّى فأوقد ناراً فقذفه فيها!!
وفي لفظ الطبري: فأوقد له ناراً في مصلّى المدينة على حطب كثير، ثمّ رُمي فيها مقموطاً(2).
وفي لفظ ابن كثير: فجُمعت يداه إلى قفاه وأُلقي في النار، فحرقه هو مقموط(3).
إنّ القوم ـ ومن أجل تصحيح هذه المواقف ـ راحوا يروون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه أمر بحرق من كذب عليه(4)، مع أنّ المحروقين ليسوا من الكذبة! فحرقهم حرام حتّى مع فرض صدور هذا الأمر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الكذبة!!!
مع أنّه لا مناص من الإشارة إلى أنّ الحرق أُسلوب انتقامي قاس كان يستعمله بعض زعماء الجاهلية للتنكيل بخصومهم، ولذلك أكّد الإسلام على منع هذا الاُسلوب إلاّ
____________
1- تاريخ الطبري 3: 254، تاريخ الخميس 3: 343، وانظر: الغدير 7: 168.
2- تاريخ الطبري 3: 234، الإصابة 2: 322.
3- تاريخ ابن كثير 6: 319، الكامل في التاريخ 2: 146.
4- انظر أضواء على السُنّة المحمّدية: 65.
بل كان إحراق أبي بكر للفجاءة، ووضع خالد رأس مالك أثفية للقدور(1)، نوعاً من التمثيل الذي ورثوه من الجاهلية.
فقد كان عمرو بن هند يلقّب بالمُحرِّق لأنه حرّق مائة من بني تميم: تسعة وتسعين من بني دارم، وواحداً من البَراجم، وشأنه مشهور(2).
ومُحَرِّق أيضاً لقب الحرث بن عمرو، ملك الشـام من آل جَفنة، وإنما سـمّي بذلك لأنّه أوّل من حرّق العرب في ديارهم، فهم يُدعـون آل محـرّق(3).
وأمّا قول أسود بن يعفُر:
ماذا أُؤمِّلُ بعدَ آلِ مُحرِّقِ | تركوا منازِلَهم، وبعد إياد؟! |
فإنّما عنى به امرأَ القيس بن عمرو بن عديّ اللخمي ; لأنّه أيضاً يُدعى محرّقاً(4).
____________
1- تاريخ الطبري 6: 241 حوادث سنة 11 هجرية.
2- لسان العرب 10: 42 ـ 43 مادة "حرق"، وانظر كتب الأمثال في قولهم: "إنّ الشقي وافد البراجم".
3- لسان العرب 10: 42 ـ 43 مادة "حرق"، وانظر كتب الأمثال في قولهم: "إنّ الشقي وافد البراجم".
4- لسان العرب 10: 42 ـ 43 مادة "حرق"، وانظر كتب الأمثال في قولهم: "إنّ الشقي وافد البراجم".
فوضعُ الأحاديث في جواز الإحراق جاء لتبرير فعل أبي بكر وخالد فيه.
وان تقنين سياسة الحرق جاءت للإبادة والإفناء، وعلى ضوء ما رأَوْه من مصلحة!
وبنا على ذلك، فهذه المصالح أصبحت أُصولاً في سياسة الخلفاء لاحقاً.
د ـ سياسة التطميع والرشوة:
إنّ رجال النهج الحاكم ـ وكما قلنا ـ تعاملوا مع الخلافة على أنّها مصدر حكم ومُلك مادّي حسب النظرة الجاهلية، فكانوا لا يستقبحون اتّباع سياسة التطميع في بعض الأحيان للوصول إلى الهدف..
ومن ذلك ما فعلوه مع العبّاس بن عبدالمطّلب، إذ إنّهم أرادوا ـ باقتراح من المغيرة بن شعبة ـ أن يحدثوا شقّاً في الصفّ الهاشمي، كالذي سعى إليه أبو سفيان من قبل في إحداث الشقاق في الصفّ الإسلامي ـ لمّا حاول مخادعة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فزجره الإمام (عليه السلام) ـ.. وذلك بإشراك العبّاس في
____________
1- البروج 85: 4 ـ 6.
ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك... فقال له العباس: إن الله بعث محمّداً كما وصفت نبياً، وللمؤمنين ولياً، فمنّ الله به على أُمّته حتّى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلّى على المسلمين أُمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحقّ، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله أخذتَ فحقّنا أخذت، وان كنت بالمؤمنين أخذت فنحن منهم... وان كان هذا الأمر إنّما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنّا كارهين... وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله، من قولك: "خلّى على الناس أُمورهم ليختاروا" فاختاروك!! فأمّا ما قلتَ إنّك تجعله لي، فإن كان حقّاً للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإنّ رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها(1).
|
____________
1- السقيفة وفدك ـ للجوهري ـ: 47، تاريخ اليعقوبي 2: 1225 طبعة لندن.
والطريف هو أنّهم اقترحوا على العبّاس ذلك، في حين أن عمر كان قد اقترح على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما أُسر العبّاس في معركة بدر أن يقتله مع باقي الأسرى، فأعرض الرسول (صلى الله عليه وآله) عن رأيه، وكان قد تقدّم إليهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بعدم قتل الأسرى، ومنهم العبّاس الذي كان قد أُخرج إلى معركة بدر مكرهاً، كغيره من بني هاشم كطالب وعقيل وبني عبدالمطلب(1).
إنّ الحاكمين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانوا يريدون ـ إنْ أمكنهم ذلك ـ استمالة الهاشميّين والأنصار خلافاً لسياستهم العامة معهم، ومن ذلك ما جاء في شرح نهج البلاغة:
أنّ أبا بكر كان قد قسّم قَسْماً بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث إلى امرأة من بني عديّ بن النجّار قَسْمَها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟! قال: قَسْمٌ قَسَمَه أبو بكر للنساء. وقالت: أتراشونني عن ديني؟! والله لا أقبل منه |
____________
1- انظر: شرح نهج البلاغة 12: 60 و ج 14: 173 ـ 174 و 182 ـ 184.
شيئاً ; فردّته عليه(1).
|
وإذا كان العبّاس بن عبدالمطلب والمرأة الأنصارية لم يقبلا رُشا أبي بكر، فإنّ هناك من كان يقبل الرُشا المالية والسلطوية.
فقد جاء أبو سفيان ـ وفي يده بعض أموال السعاية ـ إلى المدينة، وسمع نبأ تولّي أبي بكر للخلافة، فرفع عقيرته قائلاً: إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم ; فكلّم عُمَرُ أبا بكر، فقال: إنّ أبا سفيان قد قدم وإنّا لا نأمن شرّه، فدفع له ما في يده، فتركه ورضي(2).
ولم يقف الأمر على الرشوة المالية حتّى تعدّاه إلى الرشوة السلطوية، إذ يظهر أنّ أبا سفيان لم يقنعه المال وحده، بل طمح إلى أبعد من ذلك، فقال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل؟! إنما هي بنو عبدمناف!! فقيل له: إنّه قد ولّي ابنك، قال:وصَلَتهُ رحمٌ(3).
هكذا ظهرت الرشا صريحة ماثلة للعيان ـ دون رادع ولا وازع ـ وقرّرت من قِبل أبي بكر!! مع أنّه في المقابل كان قد منع سهم المؤلّفة قلوبهم ـ الذي نصّ عليه الكتاب وعمل به
____________
1- شرح نهج البلاغة 2: 53.
2- السقيفة وفدك: 37، شرح نهج البلاغة 2: 44.
3- تاريخ الطبري 3: 202.
قال الشعبي: ليست اليوم مؤلّفة قلوبهم، إنّما كان رجال يتألّفهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الإسلام، فلمّا أن كان أبو بكر قطع الرشا في الإسلام(1)، وكان ذلك بموافقة عمر ومشورته، معلّلاً المنع بما يشبه تعليل أبي بكر(2).
وهذا الموقف من الشيخين يبيّن مدى التناقض والتباين بين ما قرّروه في منع سهم المؤلّفة قلوبهم وبين إعطائهم الرشوة لأبي سفيان مقابل السكوت على خلافتهم، وذلك هو الذي أثّر على السُنّة النبويّة من بعد، فادّعى بعضهم أنّ سهم المؤلّفة قد انتهى بانتهاء عمر الرسول (صلى الله عليه وآله) (3)، وصحَّح ولاية يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية عند كثير من المسلمين(4) رغم بُعد ولايتهما عن الشرعية بُعد السماء عن الأرض.
____________
1- الدرّ المنثور 3: 252.
2- الدرّ المنثور 3: 252.
3- انظر: تفسير الطبري 6: 399 ـ 400 / ح 16868 ـ 16872، تفسير الحسن البصري 1: 418، تفسير الدرّ المنثور 4: 223 ـ 224، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 3: 182.
4- انظر: سير أعلام النبلاء 3: 132 و 159.
7 ـ الضرورات تبيح المحظورات:
كانت هذه الفذلكة المزدوجة بين السُنّة والحكم من جملة سياسات الخلافة الجديدة، والتي يمكن بلورتها عبر نقاط:
أ ـ توقيف أحكام الله مصلحة:
المتتبّع لسيرة أبي بكر أيّام خلافته يقف على حقائق كثيرة ومواقف وأُصول كانت لها أدوار في تثبيت خلافته:
منها: عدم إجراء الحدّ على خالد بن الوليد برغم إجماع المسلمين على لزوم قتله ;إذ رجع عبدالله بن عمرو وأبو قتادة الأنصاري من السريّة التي كان فيها خالد كي يكلّما أبا بكر بما فعله خالد مع المسلمين من بني يربوع، وتزوّجه بزوجة مالك وهي في العدّة.
فالاعتراض على فعلة خالد لم يأت من هذين الصحابيّين فقط، بل السريّة كلّها كانت مخالفة لفعله، وحتّى عمر بن الخطّاب كان موقفه من خالد نفس موقف أُولئك، فإنّه ـ لمّا دخل خالد المسجد بعد رجوعه من الواقعة ـ قام إليه فانتزع الأسهم من عمامته فحطّمها، ثمّ قال: أرئاءً؟! قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته، والله لأرجمنّك بأحجارك!
وخالد لا يكلّمه، ولا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي
فقال: يا عمر! تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد، فإني لا شيم سيفاً سلّه الله على الكافر ين(1)، ولمّا أصرّ أبو قتادة على موقفه دعاه أبو بكر ونهاه عن ذلك(2).
بهذا المنطق (التأويل) وكون أعدائه (المسلمين) من الكافرين! عذر أبو بكر خالداً ; لاحتياجه إليه في مواقفه الاُخرى في تثبيت الحكم، وبنفس المنطق سوّغ لنفسه نهي أبي قتادة عن التعرّض لخالد، مع أنّ اعتراض أبي قتادة كان في محلّه، ويكتسب الشرعية من القرآن والسُنّة النبويّة.
ب ـ استغلال الرئاسة القبلية:
لم يختصّ عمل أبي بكر بعدم تطبيقه لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبتعطيله لأحكام الله بعدم إجرائه الحدّ على خالد بن الوليد، أو بتجاوزه الحدود واختراع حدود مرتجلة، مثل حرقه الفجاءة بالنار!! بل تعدّى إلى مفردات كثيرة أُخرى.
منها: عفوه عن الأشعث بن قيس حين ارتدّ، لكونه زعيم كندة وممّن يحتاج إليه في مواقف ومشاهد أُخرى، وقد تأسّف أبو بكر ـ عند موته ـ من فعلته بقوله "ثلاث.. وثلاث.. وثلاث"
____________
1- تاريخ الطبري 3: 241، البداية والنهاية 6: 241، أُسد الغابة 1: 588، وغيرها.
2- الكامل في التاريخ 2: 358.
" وأمّا اللاتي تركتهن: فوددت أنّي يوم أُتيتُ بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنّه يُخيّلُ إليَّ أنّه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه..."(1).
|
نعم، زوّج أبو بكر الأشعث أُخته وأشركه في المهامّ، وراح يقرّب بني أُميّة الطلقاء، ويولّي أولاد أبي سفيان الطليق الولايات، وقد أبقى الأموال بيد أبي سفيان يصرفها كيفما يريد، كلّ ذلك حفاظاً على النظام القبلي والزعامات القرشية وغيرها التي تخدم الحكومة في تثبيت قواعدها.
إنّ سياسة الشيخين كانت تبتني على عدم الاستفادة من المال لأنفسهما ولأولادهما، وقد صرّح الإمام عليّ (عليه السلام) ـ وهو يبيّن الفرق بين عثمان والشيخين ـ حين قال لعثمان:
"أمّا التسوية بينك وبينهما، فلستّ كأحدهما، إنهما وليا هذا الأمر فظلفا(2) أنفسهما وأهلهما عنه، وعُمّتَ فيه وقومُك عَوْم السابح في اللُجّة..."(3).
|
____________
1- تاريخ الطبري 4: 52.
2- أي: كفّا.
3- شرح نهج البلاغة 9: 15.
لكن ما اشترك فيه الجميع هو تقريب الذوات وأصحاب الرئاسات، بل استغلال. حتّى بعض أُمّهات المؤمنين وذوي النفوذ من الصحابة في هذا الشأن، كلّ ذلك من أجل الوصول إلى الهدف، معرضين عن وجود عيون الصحابة وكبار الأتقياء الصالحين للقيادات، ليس ذلك إلاّ لعدم تمتّعهم بالقوّة القبلية والمركز العشائري، والحشم والأتباع.
تعطيل أحكام الله اجتهاداً:
تناقلت كتب التاريخ خبر المؤلّفة قلوبهم الّذين جاؤوا أبا بكر ـ بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ يطلبون حقوقهم، فكتب إلى عمر كتاباً بذلك، فلمّا أتوه مزّق الكتاب، وقال:
"إنّا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولا حاجة لنا بكم".
فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا: هل أنت الخليفة أم عمر؟!
قال: هو إنّ شاء الله".
فعطّل أبو بكر فرض الصدقة المصرّح به في القرآن اجتهاداً منه! وبذلك شرّع الاجتهاد قبال النصّ.
____________
1- أنساب الأشراف 6: 137، وانظر مؤدّى ذلك في: الطبقات الكبرى 3: 47، تاريخ الطبري 2: 650، شرح نهج البلاغة 2: 138، تاريخ ابن خلدون 2: 567.
وهل يُعدّ تضييع قتل الأشعث ـ بعد أن أطلقه وزوّجه وقرّبه ـ إلاّ تعطيلاً لحكم من أحكام الله في قتل المرتدّ، وعدم جواز محاباته وتقر يبه على أقلّ التقادير؟!
والأوضح من كلّ ذلك هو منعه أهل البيت (عليهم السلام) حقّهم في الخمس الذي جعله الله لهم في كتاب الله، حتّى قالت الزهراء (عليها السلام) له:
"لقد علمتَ الّذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات وما أفاء اللّه علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذي القربى..."(1).
|
فهذا تعطيل صريح لأحكام الله بحجّة أنّه لم يسمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول أنّ كلّ ذلك لهم، أو لاحتياج جيوش المسلمين إلى ذلك المال، أو لغيرها من المعاذير، فيها وفي غيرها من الاجتهادات، ولنا وقفة مع أبي بكر تحت عنوان "اختلال قوانين الإرث" فانتظر.
د ـ منع السؤال:
كان من المفروض على أبي بكر ـ ونظراً لموقعه ـ أن يجيب
____________
1- شرح نهج البلاغة 4: 86.
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول: "أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" ويحثّ على المساءلة والتعلّم، وكان (صلى الله عليه وآله) يجيب السائلين عن كلّ مسائلهم الدينية والدنيوية، وذلك ما صرّح به الكتاب العزيز بقوله: {ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ }(2).
والمفروض ـ في ضوء ذلك ـ أن الخليفة هو القائم مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مثل هذه الجهات، فكان لابُدّ له من أن يُحِطْ علماً بالفقه والشرع المقدّس وعلم التفسير والتأويل، ليكون مفزع المسلمين في تبيين الأحكام عند الحاجة لذلك..
ولمّا لم يكن لأبى بكر الإلمام الكامل بجميع أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولم تكن عنده صحف مكتوبة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تراه يواجه مشكلة كبرى، فتراه ينهى عن السؤال ويسعى إلى ضرب السائل، مع أنّنا نجد أنّ هناك رجالاً كالإمام عليّ (عليه السلام) وابن عبّاس يسعون للإجابة عن أسئلة السائلين، موضّحين آفاق الفكر الإسلامي لهم غير مهابين سؤال السائلين، وإليك مفردتين في ذلك:
____________
1- الانبياء 21: 7.
2- البقرة 2: 129.
قال: نعم.
قال: فإنّ الله قدره علَيَّ ثمّ يعذّبني؟!
قال: نعم، يا بن اللخناء! أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك(1).
الثانية: عن أنس بن مالك، قال: أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله، فأشار القوم إلى أبي بكر، فوقف عليه، فقال: أُريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيُّ نبيّ.
فقال أبو بكر: سل عمّا بدا لك.
فقال اليهودي: أخبرني عمّا ليس لله، وعمّا ليس عند الله، وعمّا لا يعلمه الله.
فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي! وهَمّ أبو بكر والمسلمون باليهودي.
فقال ابن عبّاس رضي الله عنه: ما أنصفتم الرجل.
فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلّم به؟!
فقال ابن عبّاس: إنْ كان عندكم جوابه وإلاّ فاذهبوا به إلى عليّ رضي الله عنه يجيبه، فإني سمعت رسول الله يقول لعليّ بن أبي طالب: اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه ; قال: فقام أبو
____________
1- انظر: الغدير 7: 153 عن اللالكاني في "السُنّة".