وحسبك أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هو صاحب القول الذي طار صيته في الآفاق: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي أعلم بطرق السماء من طرق الأرضين(2). لان العالم بالأمور يعجبه ان يعلم الاخرين ويعرفهم بالحقائق بعكس الجاهل الذي يهاب مجالس أهل العلم ولا يرتضي السؤال وهذا بعض الفوارق بين ائمّة النهجين.
هـ ـ تقديم المفضول على الفاضل:
نظراً لضرورة تحكيم أُصول الحكم والزعامة فقد شُرّعت ولاية المفضول مع وجود الفاضل..
قال الباقلاّني في التمهيد ـ عند الجواب عن قول أبي بكر: "وليتكم ولست بخيركم" ـ: يمكن أن يكون قد اعتقد أنّ في الاُمّة أفضل منه، إلاّ أنّ الكلمة عليه أجمعُ، والاُمّة بنظره أصلح، لكي يدلّهم على جواز امامة المفضول عند عارض يمنع من نصب الفاضل!
ولهذا قال للأنصار وغيرهم: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أحدهما: عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجرّاح ; وهو يعلم أنّ أبا عبيدة دونه ودون عثمان وعليّ في
____________
1- المجتنبى ـ لابن دريد ـ: 45 ـ 46، وانظر: الغدير 7: 178 ـ 179.
2- نهج البلاغة 22: 152 الخطبة 184.
وقال القاضي في المواقف: جوّز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل، إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل، إذ المعتبر في ولاية كلّ أمر معرفة مصالحه ومفاسده، وقوّة القيام بلوازمه، وربّ مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف، وشرائطها أقوم ; وفصّل قوم، فقالوا: نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب، وإلاّ وجب.
وقال الشريف الجرجاني: كما إذا فرض أنّ العسكر والرعية لا ينقادون للفاضل بل للمفضول(2).
نعم، إنّ الحاجة والسياسة أوصلتهم للاعتقاد بفكرة تقديم المفضول على الفاضل، ثمّ انجرّت إلى القول بأنّ المقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضل!!
حتّى قال أحمد بن محمّد الوتري البغدادي في روضة الناظرين:
اعلم أنّ جماهير أهل السُنّة والجماعة يعتقدون أنّ أفضل الناس بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أبو بكر ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ، رضي الله تعالى عنهم، وأنّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في
____________
1- التمهيد ـ تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ـ: 494، وانظر: الغدير 7: 131.
2- شرح المواقف 3: 279، وانظر: 7: 149.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: فركت لي عينيك، ودلكت لي عقبيك، وجئتني تكفّني عن رأيي، وتصدّني عن ديني، أقول له إذا سألني: خلَّفت عليهم خير أهلك ; فدلّ على أنّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل(1).
فها هم ينتقلون من فكرة تقديم المفضول على الفاضل إلى فكرة أنّ المقدّم في الحكم والخلافة هو الأفضل، مستدلّين على ذلك بأدلّة واهية كما رأيت، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا منع تدوين الحديث لمن شاء المزيد.
8 ـ إبعاد المنافسين ضرورة سياسية:
أ ـ بنو هاشم.
ب ـ الأنصار.
____________
1- روضة الناظرين: 2، كما في الغدير 7: 152.
لا ينكر أحدٌ عداء قريش لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قتل صناديدهم وفرسانهم، وأنّ قريشاً ـ نظراً لمكانتها ومطامعها ومطامحها ـ سعت لتنحية الإمام عليّ (عليه السلام) عن الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكلّ ما لها من قوّة وعزم.
ولو تأمّلت سيرة الشيخين لرأيتهما يجدّان في تثبيت حكمهما وإبعاد منافسهما من المناصب والولايات، فقد جاء عن عمر قوله حينما نصّب أبو بكر خالد بن سعيد الاُموي أميراً على حملة الروم:
أتولّي خالداً وقد حبس عليك بيعته، وقال لبني هاشم ما قال؟!... ما أرى أن تولّيه ; وما آمن خلافه ; فانصرف عنه أبو بكر، وولّى أبا عبيدة بن الجرّاح، ويزيد بن أبي سفيان وشُرَحْبيل بن حسنة(1).
|
فالشيخان والقرشيّون معهم كانوا يخافون بني هاشم، فلم يولّوهم الولايات والأمصار، بل اتّخذوا سياسة تضعيفهم، وذلك بتقريب مناوئيهم من الاُمويّين كأبي سفيان، ومعاوية، ويزيد، وعتبة، ومروان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وغيرهم، عبر إعطائهم السلطة، أي أنهم قد فسحوا للطلقاء
____________
1- شرح نهج البلاغة 2: 58 ـ 59.
والأنكى من ذلك، نرى تسلّل اليهود والنصارى إلى مراقي الحكم واختصاصهم بأسرار الدولة، ككعب الأحبار ووهب بن منبّه وتميم الداري وغيرهم، في حين كانوا يبعدون كبار الصحابة من الولايات والمراكز المهمّة.
الأنصار:
الثابت عن الأنصار أنّهم كانوا أحد أركان النزاع يوم السقيفة ـ نظراً لمكانتهم وموقعهم في الإسلام ـ، إذ لا يمكن لأحد أن ينسى دورهم في المعارك الإسلاميّة في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله).
فقد قدّم الخزرج من الأنصار ثمانية شهداء من مجموع أربعة عشر شهيداً في بدر(1)، وقدّموا في معركة أُحد سبعين شهيداً وأربعين جريحاً، في حين استشهد أربعة من المهاجرين فقط(2).
وكان في غزوة بني المصطلق ثلاثون فارساً من المسلمين، عشرون منهم من الأنصار(3)، وحين انهزم المسلمون في بداية
____________
1- الأنصار والرسول ـ لبيضون ـ: 26، عن تاريخ خليفة بن خيّاط 1: 20.
2- الأنصار والرسول ـ لبيضون ـ: 32، عن المغازي ـ للواقدي ـ 1: 300، وابن سعد، غزوات: 43.
3- الأنصار والرسول ـ لبيضون ـ: 34، عن المغازي ـ للواقدي ـ 1: 405، وابن سعد، غزوات: 63.
وقد تجلّى ذلك واضحاً في وقعة الخندق (الأحزاب)، فقد دافعوا عن مدينتهم بحفر الخندق، وأكبروا موقف عليّ (عليه السلام) في قتله عمرو بن عبد ودّ ومن عبروا معه الخندق، كما تجلّى الصراع وبغض الحزب القرشي للأنصار في فتح مكّة، فقد عدّت قريش هزيمتها أمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنما كان نصراً للأنصار.
وقد ذكر الزبير بن بكّار مقولةً لعمرو بن العاص ـ لمّا رجع من سفر كان فيه بعد أحداث السقيفة ـ فيها تعريض بالأنصار.
ولمّا قدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن وسمع بمقالة عمرو بن العاص غضب للأنصار، وشتم عمرو بن العاص، وقال:
"يا معشر قريش! إنّ عَمْراً دخل في الإسلام حين لم يجد بُدّاً من الدخول فيه، فلمّا لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه، وإنّ من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار، والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا
____________
1- المغازي النبوية ـ للزهري ـ: 92، المغازي ـ للواقدي ـ 3: 899.
وجاء عن الفضل بن العباس أنّه اعترض على عمرو بن العاص في موقف آخر له ضدّ الأنصار، وقد كان الفضل أخبر عليّاً بذلك فغضب الإمام وشتم عمراً، وقال: "آذى الله ورسوله"، ثمّ اجتمع فى المسجد بنفر كثير من قريش وقال مغضباً:
"يا معشر قريش! إنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم، واذكروا أن الله رغب لنبيّكم عن مكّة فنقله إلى المدينة، وكره له قريشاً فنقله إلى الأنصار.."(2).
هذا، ولمّا تسلّم أبو بكر زمام الاُمور لم يفِ للأنصار بمقولته: "نحن الاُمراء وأنتم الوزراء"(3)..
فأبعدهم عن مراكز السلطة، حتّى صرّح شاعر الأنصار بذلك قائلاً(4).
يا للرجال لخلْفَةِ الأطْوارِ | ولِما أرادَ القومُ بالأنصارِ |
لم يُدخِلوا منّا رئيساً واحداً | يا صاحِ في نقض ولا إمْرارِ |
____________
1- الأخبار الموفّقيّات: 472 ـ 474 ح 384، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 2: 281.
2- الأخبار الموفّقيّات: 475 ح 386، شرح نهج البلاغة 2: 283.
3- الأخبار الموفّقيّات: 475 ح 386، شرح نهج البلاغة 2: 283.
4- تاريخ اليعقوبي 2: 129.
وجعل يزيد بن أبي سفيان أميراً على الشام، وأمّر الوليد بن عقبة على الاُردن..
ومن أراد المزيد فليراجع الكامل لابن الأثير، كي يرى التركيبة الإدارية والسياسية والعسكرية لأبي بكر، إذ ليس فيها أثر واضح للأنصار بل غالبيّتهم الساحقة من قريش ومن القبائل الاُخرى، بل الكثير منهم كانوا من أعداء الإمام عليّ (عليه السلام) والأنصار، أو قل من أصحاب الرأى والاجتهاد المناقضين لنهج التعبّد المحض العامل بالنصّ.
ولو تصفّحت كتب التاريخ والحديث والفقه لرأيت أحاديث لا حصر لها في مدح أبي بكر، وعمر، وعثمان، و...
____________
1- الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 2: 402.
2- الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 2: 346.
وأسألُ القارئ العزيز: هل فكر في سبب التعتيم على الأنصار، مع أنّ جيوش الإسلام كانت مؤلّفة ـ في عمدتها ـ منهم، ومع أنّهم السواد الأعظم في المدينة؟!
نعم، إنّ رجال الخطّ القرشي فتحوا الفجوة التي رأب النبيُّ (صلى الله عليه وآله) صدعها في صدر الإسلام بين المهاجرين والأنصار، حتّى صارت قضية المهاجرين والأنصار من القضايا المهمّة في السياسة الإسلاميّة لاحقاً ; فقد نقّص عمر بن الخطّاب عطاء الأنصار، وتهجّم عليهم معاوية، وأخيراً جاءت واقعة الحرّة في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان طامّة كبرى في الانتقام القرشي من الأنصار!
9 ـ المعايير الغيبية في الحياة الإسلاميّة وانعدامها في الجاهلية:
إنّ الحياة الجاهلية كانت مبتنية على عبادة الأصنام وتعدّد الآلهة، وكانت نظرتهم إلى الاُمور نظرة ماديّة، وحينما جاء الإسلام، جاء ليغيّر تلك الأفكار، ويدعوهم إلى الله الواحد القهّار، ببيانه أُموراً غيبية لا يدركون عمقها، وحقيقتها، كدعوته إيّاهم إلى الله الواحد، وإخبارهم بالبعث والنشور، وإحياء الموتى، وغيرها.
فكان المشركون يخالفون هذه الأفكار ويعترضون على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لعدم دركهم كنهها، بل إنّ مطالبهم كانت تتمثّل بأنّه: لِمَ لا يكون للنبيّ ملَكٌ عظيم، أو ذهب، وكيف يحيى الموتى؟!
وكيف يُبعثون بعد الموت؟! فكلّها تدور حول المطالبة بأشياء مادّية، محسوسة ملموسة، وعدم الإيمان بالأمور الغيبية.
وقد تناقلت المصادر عن أبي بكر أنّه تعامل مع بعض مفردات الغيب تعامل مادّة فقال في حنين: "لن نغلب من قلّة"، فلم يرض الله ورسوله بهذه الفكرة، لوجوب الإيمان بكنه المسائل ومدد الغيب، ولذلك نزل قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ }(1).
____________
1- سورة التوبة 9: 25.
فلو كانت هذه الطائفة قد عرفت مقامات أُولئك وما منحهم ربّ العالمين من مكانة، لَما شكّكوا ولَما قالوا جزافاً.
وعليه: فالوقوف على أسرار عالم الغيب يجعلنا نفهم وندرك الاُمور بعمق أكثر ممّا نحن فيه ; لكونه سبحانه {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }(1)، وهو القائل: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(2)، ولقوله تعالى: عن المؤمنين بأنّهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ }(3).
وعلى ضوء ما قلناه يجب فهم ومعرفة هذه المفاهيم الغيبية والحقائق الإلهية، وأن لا نتعامل مع الذوات العالية كذوات دانية.
ونحن ـ والحقّ يقال ـ لا ندرك كنه مقام النبيّ والإئمةّ; لأنّ عالمهم الغيبي أسمى من عالمنا بكثير..
وإنّ أبعاد ذلك العالم وصلاحياته مجهولة لكثير منّا، فلا
____________
1- سورة الأنعام 6: 19.
2- سورة التوبة 9: 94.
3- سورة البقرة 2: 3.
فنتساءل: هل هذه الآية مختصّة بعصر الصحابة، أم لها الشمولية للأزمان كلّها؟!
بل ما تعني قوله {وَلَوْ أَنـَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}(2) وهل هي مختصه بعصر الرسالة فقط أم تشمل سائر الازمان؟ وإذا اختصت الآية بعصر الرسالة، الم يكن هذا اجحاف للأجيال اللاحقة؟
وما معنى شهادة الرسول في الآية السابقة؟! وكيف يمكن تصوّر شهادته (صلى الله عليه وآله) على الناس طبق الضوابط الماديّة التي نعرفها؟! مع انه (صلى الله عليه وآله) ميت وأنّهم ميتون؟!
إنّ ذلك كلّه من الغيب الإلهي الذي لابُدّ من الالتزام به وإن لم نعرف حقيقته وكيفيّته، فهناك مفاهيم معنوية غيبية كثيرة في حياتنا الإسلاميّة يجب معرفتها والوقوف على كنهها.
وباعتقادي: إنّ تسليط الضوء على هذه الزاوية سيحلّ الكثير من المسائل العقائدية التي لا يدرك عمقها الآخرون!!
____________
1- سورة البقرة 2: 143.
2- النساء 4: 64.
وهكذا مفهوم الشهادة والشهود وغيرها من الجهات المعنوية الملحوظة في الفكر الإسلامي لا يمكن فهمها بهذه البساطة.
ومن هذا المنطلق يجب علينا العودة إلى الاُمّة في عهد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) لنفول ـ ووا أسفاً على ذلك ـ: إنّها كانت لا تدرك مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) السامي الربّاني، فتتعامل معه كأنّه بشر عادي يصيب ويخطئ، ويقول في الغضب ما لا يقوله في الرضا... وإلى غير ذلك.
فالموت بالمنظور الإلهي هو الحياة وليس الفناء، وهو وجود لا عدم وقد خلقهم الله معاً لقوله تعالى: {تَبَـرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَـوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }(1) فلو كان الموت هو الحياة، فما هي أوجه الشبه بينه وبين الحياة الدنيويّة؟!
وهل يعقل أن يحيا شخص دون أن يتكلّم أو يأكل أو يشرب و... ولو كان يحتاج إلى كلّ هذه في حياته، فكيف يتكلّم
____________
1- الملك 67: 1 - 2.
وعليه: فالتركيز على الجانب المعنوي وتبيّن المفاهيم الربّانية للحياة المعنوية يفتح لنا آفاقاً كثيرة، وعلى ضوئها يمكننا معرفة معنى الإسراء والمعراج.. تكلّم الله مع موسى (عليه السلام)..
إجابة الرسول (صلى الله عليه وآله) لمن يسلم عليه..
إجابة الأئمّة (عليهم السلام) لنا حين نخاطبهم..
كيفية وصول ثواب هدايانا إلى الموتى.. وما شابه ذلك.
بعد هذه المقدّمة نعرّج إلى بيان حقيقة معنوية كان أبو بكر ـ وغيره ـ لا يدرك عمقها، فقد جاء ضمن احتجاج الإمام عليّ (عليه السلام) على أبي بكر قوله:
يا أبا بكر! لِمَ منعتَ فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكَتْه في حياة رسول الله؟! فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول الله جعله لها، وإلاّ فلا حقّ لها فيه. قال أمير المؤمنين: يا أبا بكر! تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟! قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيءٌ يملكونه، ثمّ ادّعيتُ أنا فيه، مَن تسأل البيّنة؟! قال: إياك أسأل البيّنة.
|
قال: فما بال فاطمة سألتَها البيّنة على ما في يديها، وقد ملكَتْه في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده(1)، ولم تسأل المسلمين بيّنة على ما ادّعوهُ شهوداً، كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟! فسكت أبو بكر، فقال عمر: يا عليّ! دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهو فيء للمسلمين لا حقّ لك ولا لفاطمة فيه. فقال أمير المؤمنين: يا أبا بكر! تقرأ كتاب الله؟! قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }(2) في من نزلت؟! فينا أم في غيرنا؟! قال: بل فيكم. قال: فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول |
____________
1- انظر في ذلك: معجم البلدان 4: 238، لسان العرب 10: 23.
وفي كتاب المأمون إلى عامله على المدينة: وقد كان رسول الله أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله.
انظر، فتوح البلدان: 42 طبعة مكتبة الهلال.
2- الاحزاب 33: 33.
الله بفاحشة، ما كنت صانعاً بها؟! قال: كنت أُقيم عليها الحدّ، كما أقمته على نساء المسلمين. قال: إذاً كنت عند الله من الكافرين. قال: ولِمَ؟! قال: لأ نّك رددت شهادة الله لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها. كما رددت حكم الله وحكم رسوله، أن جعل لها فدكاً قد قَبَضَتْهُ في حياته، ثمّ قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وأخذت منها فدكاً، وزعمت أنّه فيء للمسلمين، وقد قال رسول الله: "البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه" فرددت قول رسول الله: "البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادُّعي عليه"(1).
|
ومن هذا وأمثاله تعرف سقم الخبر المفتعل على الزهراء (عليها السلام) من أنّها أخذت قلادة من بيت مال المسلمين لتلبسها، فلمّا سمع رسول الله بذلك قال: لو سرقت فاطمة لقطعت يدها!!!
ونحن لو تأمّلنا كلمات الإمام عليّ (عليه السلام) وما دار بين ابن عبّاس وبين عمر ـ التي ذكرناها سابقاً ـ لعرفنا أنّهم كانوا يؤكّدون
____________
1- الاحتجاج 1: 119، وعنه في بحار الأنوار 29: 127 ح 27، وكذا في علل الشرائع: 190 ـ 192 ح 1.
فنحن لو أردنا أن نجمل بعض خصائص هذه الذريّة الطاهرة لكانت:
1 ـ إنهم المطهّرون ; بنصّ الآية.
2 ـ وهم الّذين حرّمت عليهم الصدقة.
3 ـ واختصاصهم بأنّ حسبهم لا ينقطع ; لقوله (صلى الله عليه وآله): "كلّ حسب ونسب ينقطع إلاّ حسبي ونسبي".
4 ـ وهم ذوو القربى الّذين أكّد الباري على حقّهم ووجوب مودّتهم في كتابه.
5 ـ وهم الّذين تجب الصلاة عليهم في الصلاة.
6 ـ وهم أحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسّك بهم.
7 ـ وهم الصادقون، والمؤمنون، وأهل الذِكر، وأُولي الأمر ; بصريح القرآن.
8 ـ ومنهم خلفاء الرسول الاثنا عشر..
وإلى غير ذلك من المميّزات الربّانية التي خصّهم الباري بها.
لكنّ عمر بن الخطّاب صرّح بأنّ القرابة من رسول الله لا تفيد
ففي مجمع الزوائد للهيثمي: إنّ ابناً لصفيّة ـ عمّة رسول الله ـ مات، فبكت صفية، فقال لها رسول الله: يا عمّة! من توفّي له ولد في الإسلام فصبر، بنى الله له بيتاً في الجنّة ; فسكتت..
ثمّ خرجت من عند رسول الله فاستقبلها عمر بن الخطّاب، فقال: يا صفية! قد سمعت صراخك، إنّ قرابتك من رسول الله لا تغني عنك من الله شيئاً ; فبكت..
فسمعها النبيّ وكان يكرمها ويحبّها، فقال: يا عمّة! أتبكين وقد قلت لك ما قلت؟!
قالت: ليس ذلك أبكاني يا رسول الله، استقبلني عمر بن الخطّاب، وقال: إنّ قرابتك من رسول الله لن تغني عنك من الله شيئاً.
قال: فغضب النبيّ، وقال: يا بلال! هجّر بالصلاة ; فهجّر بالصلاة، فصعد المنبر النبيّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال قوم يزعموم أنّ قرابتي لا تنفع؟! كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبيّ، فإنّها موصولة في الدنيا والآخرة(1).
فإذا كانت مطلق قرابة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لها هذه السمة المعنوية والميزة الشرعية في الدنيا والآخرة، فكيف بابنته التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟!!
____________
1- مجمع الزوائد 8: 216.
10 ـ اختلال قوانين الإرث وتقعيد قواعد الجاهلية فيه:
قبل توضيح اختلال ميزان قوانين الإرث في هذا العهد، لابُدّ من إلقاء نظرة عابرة على مكانة المرأة في الجاهلية وصدر الإسلام ; إذ إنّ البنت كانت توأد في التراب في الجاهلية، وذلك ما أخبر به الله في قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنب قُتِلَتْ }(1).
وقد حكى عمر وغيره قصّة وأده بنته في الجاهلية(2).
ونقل لنا عمر حالة النساء في المدينة عمّا كنّ عليه مع القرشيّين، فقال:
كنّا معشر قريش قوماً نَغْلِبُ النساء، فلمّا قدمنا المدينة، وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم(3).
|
وقد خاطب عمر امرأة، فوصفها بقوله:
إنّما أنتِ لُعبة يُلعَبُ بك ثمّ تُتركين(4).
|
وقد هدّد الزهراء (عليها السلام) بحرق بيتها، وضرب رقيّة لبكائها على حمزة عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهجم على بيت عائشة بعد وفاة أبي بكر
____________
1- سورة التكوير 81: 8 و 9.
2- انظر: عبقرية عمر ـ للعقّاد ـ: 214.
3- السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7: 37.
4- تاريخ عمر ـ لابن الجوزي ـ: 114، شرح نهج البلاغة 3: 766.
بعد هذه المقدّمة المختصرة نأتي بمقطع من خطبة الزهراء (عليها السلام) كي نعلّق عليه، وهو:
"... وأنتم الآن تزعمون أن لا إرْثَ لنا {أَفَحُكْمَ الْجَـهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْم يُوقِنُونَ }(2) أفلا تعلمون؟! بلى، قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته.. أيُّها المسلمون! أأُغْلَبُ على إرثيه؟! يا بن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرثُ بي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً.. أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمَـنُ دَاوُودَ }(3)؟! وقال في ما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال:{فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ |
____________
1- تاريخ الطبري: حوادث سنة 13 هـ، الكامل في التاريخ 2: 204، كنز العمّال 8: 118 كتاب الموت.
2- سورة المائدة 5: 50.
3- سورة النمل 27: 16.