الصفحة 300

ءَالِ يَعْقُوبَ }(1).

وقال:{ وَأُوْلُواْ الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَـبِ اللَّهِ}(2).

وقال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَـدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ}(3).

وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }(4).

وزعمتم أن لا حظوة لي، ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا!! أفخصّكم الله بآية أخرج أبي (صلى الله عليه وآله) منها؟!

أم هل تقولون: أهل ملّتين لا يتوارثان؟!

أَوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟!

فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنِعم الحَكمُ الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة ما تخسرون ـ وفي نسخة: يخسر المبطلون ـ، ولا ينفعكم إذ تندمون {


____________

1- سورة مريم 19:5 - 6.

2- سورة الأنفال 8: 75.

3- سورة النساء 4: 11.

4- سورة البقرة 2: 180.


الصفحة 301

لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ }(1) و {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(2)..."(3).


وهذا المقطع يوقفنا على عدّة أُمور:

الأوّل: اتّهام الزهراء (عليها السلام) أبا بكر وأنصاره بنفيهم الإرث عنها.

الثاني: اتّهامها أبا بكر بالكذب.

الثالث: تقريرها تركهم كتاب الله.

الرابع: نفيها كونهم أعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

أمّا الأمر الأوّل منها:

فإنّ كلام الزهراء (عليها السلام) صريح في أنّ أبا بكر وأنصاره زعموا أن لا حظوة ولا إرث لها من أبيها، وهذا يخالف عمومات القرآن في الوصية والإرث، فكيف بأبي بكر يرث أباه والزهراء (عليها السلام) لا ترث أباها؟!

____________

1- سورة الأنعام 6: 67.

2- سورة هود 11: 39.

3- الاحتجاج 1: 267 ـ 268، وانظر: شرح نهج البلاغة 16: 209 ـ 253.


الصفحة 302
فأبو بكر خالف بفعله قولَه في عدم توريث الأنبياء ; لأنّ المطالبة بالميراث لا تحتاج إلى إشهاد وشهود، وأنّ طلب الشهود ينبئ عن كونها نِحلة وهدية ـ قدّمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة (عليها السلام).

وقد نصّت كتب الحديث والتاريخ على شهادة أُمّ أيمن وعليٍّ (عليه السلام) لها(1) ـ إلاّ أن يقولوا: إنّهم يشكّون في كونها ابنته ـ والعياذ بالله!!

فلو ثبت كونها نِحلة وهديّة، فتكون خارجة عن مدّعي أبي بكر ولا ينطبق عليها قوله (صلى الله عليه وآله): "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث" ; لأنّها خارجة عن مُلكه (صلى الله عليه وآله) وداخلة في ملك الزهراء (عليها السلام)!

ولو صحّ نقله ذلك، فلِمَ أبقى البيوت لنساء النبيّ يتصرّفن فيها كما يتصرّف المالك في ملكه؟! حتّى وصل الأمر به أن يستأذن عائشة في الدفن في حجرتها!! في حين نراه قد انتزع فدك من الزهراء (عليها السلام) بدعوى عدم ملكيّتها!!

ولا أدري كيف اختلف الحكم بين الحالتين؟!

فلو كان الأنبياء لا يورّثون، فكيف ورثت نساء النبيّ ولم تورّث ابنته؟!

وإن كانتا ـ دار الرسول وفدك ـ نِحلة وهدية، فكيف يُقبل

____________

1- انظر هامش بحار الانوار 29: 347.


الصفحة 303
من عائشة وأضرابها ادّعاؤها دون شاهد ولا يقبل من الزهراء (عليها السلام) ـ وهي المطهرّة بنص آية التطهير ـ مع إتيانها بالشهود؟!

وهل هنا فتنة أكبر من هذه؟!

وهل هناك تغيير لتعاليم السماء أجرأ من هذا؟!

فحقّ للزهراء (عليها السلام) أن تقول: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَـفِرِينَ }(1).

شبهة وردّ:

ويعجبني أن أُشير إلى دعوىً قد تثار، وهي: إنّ نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) كنّ أصحاب الحقّ الشرعي ; لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }(2) فنسبت البيوت إليهنّ، وقد ثبتت حيازتهنّ لهذه البيوت في زمن رسول الله، وهذه المسألة غير مسألة فدك!

فنجيبهم عن ذلك:

بأن الحيازة في الآية ليست حيازة استقلالية، بل هي من شؤون حيازة كلّ زوجة بالنسبة إلى زوجها، فلو لاحظت ما بعدها لعرفت أنّ البيت هو للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، لقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا

____________

1- سورة التوبة 9: 49.

2- سورة الأحزاب 33: 33.


الصفحة 304
الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ }(1)فنسب الله سبحانه البيت للنبيّ (صلى الله عليه وآله)..

ويؤيّد هذا ما ثبت عنه من مثل قوله: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة"(2) وغيرها من النصوص.

فالبيوت لم تكن للنساء حتّى يدّعى ملكيّتهنّ لها، بل كانت للنبيّ حتّى آخر حياته، لقوله: "ما بين بيتي ومنبري" حتّى إنّ عائشة كانت تنهى أُمّهات المؤمنين عن المطالبة بإرثهنّ معتمدة على حديث أبيها الذي مكّنها من بعد من بيت سكناها لتتصرّف فيه تصرّف المالك المطلق!!

فقد روى البخاري أنّ عائشة قالت: أرسل أزواجُ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثُمنهنّ ممّا أفاء الله على رسوله، فكنت أنا أردُّهنَّ، فقلت لهنّ: ألا تتّقين الله؟! ألم تعلمن أنّ النبيّ كان يقول: لا نورث ما تركناه صدقة(3).

وعن عروة، عن عائشة: ان أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) أردن لمّا توفي (صلى الله عليه وآله)، أن يبعثن عثمان الى أبي بكر يسألنه ميراثهن ـ أو قال: ثمنهن ـ قالت: فقلت لهن: أليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله): لا نورث ما

____________

1- سورة الأحزاب 33: 53.

2- انظر: مجمع الزوائد 4: 9.

3- صحيح البخاري 5: 115 كتاب المغازي ـ باب حديث بني النضير.


الصفحة 305
تركناه صدقة(1).

وقال ابن أبي الحديد: الذي تنطق به التواريخ أنّه (صلى الله عليه وآله) لمّا خرج من قباء ودخل المدينة، وسكن منزل أبي أيّوب، اختطّ المسجد، واختطّ حُجر نسائه وبناته، وهذا يدلّ على أنّه (صلى الله عليه وآله) كان المالك للمواضع، وأمّا خروجها عن ملكه إلى الأزواج والبنات فممّا لم أقف عليه(2).

فأبو بكر بادّعائه هذا على رسول الله فقد نسب إليه (صلى الله عليه وآله) إلغاءه قانون الإرث للأنبياء، وهذا يخالف الثابت عنه (صلى الله عليه وآله) من أنّه مكلّف كغيره من الناس بالفرائض والتكاليف، وأنّ تعاليم السماء تجري عليه كما تجري على غيره من بني الإنسان، ولم يثبت أنّ ذلك من مختصّاته (صلى الله عليه وآله)، ولأجل ذلك اتّهمت الزهراء (عليها السلام) أبا بكر بالكذب!

وأمّا الأمر الثاني:

وهو ظاهرة كذب الصحابة، فقد بيّناً سابقاً تخطئة الصحابة الواحد منهم للآخر، بل تكذيبهم بعضهم للبعض الآخر، وأنّ رسول الله كان قد أنبأ بجزاء من كذب عليه متعمّداً، وأنّه ستكثر عليه القالة من بعده!

____________

1- شرح نهج البلاغة 16: 220.

2- شرح نهج البلاغة 17: 216 ـ 217.


الصفحة 306
فالزهراء (عليها السلام) في هذا المقطع من خطبتها أشارت إلى أمرين بقولها لأبي بكر: "وأنتم تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون؟!".

وفي آخر: "زعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، لقد جئت شيئاً فريّاً!".

فهنا شقّان خطيران، هما:

الأول: زعمهم بأنّها لا حظوة لها، ولا ترث من أبيها، وذلك حسب أحكام الجاهلية.

الثاني: تكذيبها أبا بكر في ما نقله وذهب إليه.

أمّا الأوّل: فقد وضّحنا شيئاً منه قبل قليل..

وأمّا الثاني: فإنّ المواقف والنصوص توضّح كذب أبي بكر في ما رواه ; إذ كيف به يوصي بالدفن عند رسول الله مع اطمئنانه بصدور الخبر عنه (صلى الله عليه وآله)؟! لأنّ بيت الرسول إمّا خاصّة له أو من جملة تركته (صلى الله عليه وآله)، فإن كان له خاصّةً فهو صدقة وقد جعلها للمسلمين كما زعمه: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة"، فلا يجوز أن يختصّ بواحد دون آخر!

وإنّ كان من جملة تركته وميراثه، وأنّه (صلى الله عليه وآله) يورّث كغيره من المسلمين، فهما ـ أبو بكر وعمر ـ لم يكونا ممّن يرث رسول الله!

لا يقال: إنّ ذلك بحصّة عائشة وحفصة..

فإنّه يقال: إنّ نصيبهما لا يبلغ مفحص قطاة، لأنّه (صلى الله عليه وآله) مات

الصفحة 307
عن تسع نسوة وبنت لصلبه، فلكلّ واحدة من نسائه تسع الثمن، فما بال عائشة وحفصة ترثان ولا ترث فاطمة وهي بنته ومن صلبه؟!

ولو كان واثقاً من صحّة ما حدّث به وما ذهب إليه، فلماذا يسعى لاسترضاء الزهراء (صلى الله عليه وآله) ويتأسّف في أُخر يات حياته متمنّياً أنّه لم يكشف بيتها؟!

ولو صحّ كلام أبي بكر، فكيف صحّ له أن يدفع آلة رسول الله ودابّته وحذاءه إلى عليّ بن أبي طالب(1)، ويمكّن زوجاته (صلى الله عليه وآله) من التصرّف في حجراتهنّ؟!

وقد قلنا سابقاً بأنّ الانتقال إليهنّ إمّا على جهة الميراث أو النِحلة.

والأوّل مناقض لِما رواه أبو بكر عن رسول الله: "نحن معاشر الأنبياء...".

والثاني يحتاج إلى إثبات من قبل أزواجه (صلى الله عليه وآله)، فلِمَ لَمْ يطالبهنّ بالشهود كما طالب الزهراء (عليها السلام)؟!

وكيف ساغ لعمر أن يدفع إلى عليٍّ والعبّاس صدقة رسول الله لو صحّ حديث أبي بكر؟!

وهل أراد عمر بفِعله أن يتّهم أبا بكر بوضع الحديث، أم أنّه تأوّله وفهم منه معنىً لا ينفي التوريث؟!

____________

1- شرح نهج البلاغة 16: 213 ـ 214.


الصفحة 308
وهل يجوز لنبيّ أن يموت ولا يُعلِم ابنته وصهره بأنْ ليس لهما حقّ في إرثه (صلى الله عليه وآله)، وهو المبيّن لأحكام الله والرافع لكلّ لبس وإبهام؟!

وكيف به (صلى الله عليه وآله) يعلّم الآخرين ولا يعلّم صهره وابنته ـ أصحاب الحقّ ـ هذا الحكم الخاصّ بهم لو فرض وجوده؟!!

وهل يتوافق هذا مع ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) عن أهل البيت (عليهم السلام) في حديث الثقلين: "فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم"(1)؟!

وكيف بنساء النبيّ لا يعرفن حديث رسول الله وحكم ميراثه، فيرسلن إلى عثمان مطالبات بإرثهنّ ـ حينما منعهنّ عن بعضه ـ؟

وكيف تختلف مواقف الحكّام في ميراث رسول الله، فأحدهم يعطي، والآخر يمنع، لو صحّ وثبت عندهم حديث: "نحن معاشر الأنبياء..."؟!

ألا يعني موقفُ عمر بن عبدالعزيز، والمأمون، والمعتصم، والواثق، وغيرهم من الّذين ردُّوا فدكاً، أنّهم كانوا من الّذين لا يرون صحّة حديث أبي بكر؟!

ولو صحّ ما قاله أبو بكر عن الأنبياء، لاشتهر بين الاُمم الاُخرى

____________

1- المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 5: 167 ذ ح 4971.


الصفحة 309
والأديان السماوية، ولعرفه أتباع الأنبياء؟! مع العلم بأنّ فدكاً ممّا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً، فهي للنبي خاصّة خالصة باتّفاق علماء الفريقين ; لقوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلَـكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ }(1).

إنّ إعطاء ريع فدك أو غيره للمسلمين في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يعني أنّها كانت لهم ; لأنّه (صلى الله عليه وآله) كان قد أنفق ما يملكه في سبيل الدعوة الإسلاميّة، وهذا يجتمع مع قولنا: إنّه (صلى الله عليه وآله) ملّكها للزهراء (عليها السلام) في حياته، إذ يمكن اجتماع كِلا الأمرين معاً، فمن جهة تكون الأرض ملكاً للزهراء البتول (عليها السلام)، ومن جهة أُخرى يصحّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) التصرّف فيها وإنفاق ريعها في سبيل الدعوة للدين ; لأنّه الوالد، و "الولد وما يملك لأبيه" ناهيك عن ولايته كنبيّ على كلّ مسلم ومسلمة.

ثمّ إنّ أبا بكر أراد أن لا يكون وحيداً في نقله لهذا الحديث، فقال في جواب الزهراء (عليها السلام): "لم أتفرّد به وحدي"(2).

وقد روت عائشة وحفصة وأوس بن الحدثان أنّهم سمعوا

____________

1- سورة الحشر 59: 6.

2- الاحتجاج 1: 97 ـ 108 (وطبعة النجف 1: 131 ـ 145) وعنه في بحار الأنوار 29: 231.


الصفحة 310
ذلك(1).

وأضاف صاحب المغني اسم عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبدالرحمن بن عوف(2).

وجاء في الاختصاص أنّ أبا بكر قال: "فإنّ عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا رسول الله وهو يقول: إنّ النبيّ لا يورّث.

فقالت جفاطمةج: هذا أوّل شهادة زور شهدا بها في الإسلام ; ثمّ قالت: فإنّ فدك إنّما هي صدقة تصدّق بها علَيَّ رسول الله، ولي بذلك بيّنة.

فقال لها: هلمّي ببيّنتك.

قال: فجاءت بأُمّ أيمن وعليّ..."(3).

ونقل ابن أبي الحديد عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمّد البصري قوله: إن عليّاً وفاطمة والعبّاس ما زالوا على كلمة واحدة يكذّبون "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث"، ويقولون: إنّها مختلقة، قالوا: كيف كان النبيّ يعرّف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنّا؟!

ونحن الورثة، ونحن أوْلى الناس بأن يؤدّي هذا الحكم

____________

1- انظر: قرب الإسناد: 47 ـ 48 الطبعة القديمة، وتفسير علي بن إبراهيم 2: 155 ـ 159.

2- المغني ـ الجزء المتمّ العشرين ـ ق 1: 328، وانظر: بحار الأنوار 29: 358، وفي صفحة 366 وما بعدها جواب صاحب المغني.. فمن أراد فليراجع.

3- الاختصاص: 183 ـ 185.


الصفحة 311
إليه(1).

وأمّا الأمر الثالث:

هو تقريرها تركهم كتاب الله ; فهو ظاهر في كلام الزهراء (عليها السلام) ; لأنّ كلمة "ورث" التي وردت في عدّة آيات دالّة على المال لغة وعرفاً، إن لم تقيّد بقيد خارجي، لكنّهم صرفوا الإرث إلى وراثة الحكمة والنبوّة دون الأموال في مسألة إرث الرسول وقضية الزهراء، تقديماً للمجاز على الحقيقة بلا قرينة صارفة!

لأنّ جملة {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ }(2) يعني به وراثة المال لا العلم والحكمة، لكون الأخيرَين لا يأتيان بالوراثة، فهما عطاء من الله، يمنّ به أو يمنع، وإنّ زكريّا كان يخاف من الموالي ـ وهم بنو العمومة ومن يحذو حذوهم ـ فقوله: {وليّاً} يعني ولداً يكون أَوْلى بميراثي.

وعليه: فحمل الآية على العلم والنبوة خلاف الظاهر ; لأنّ النبوّة والعلم لا يورّثان، بل النبوّة تابعة للمصلحة العامّة ومقدّرة لأهلها من الأزل عند بارئها.. {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ

____________

1- شرح نهج البلاغة 16: 280.

2- سورة مريم 19: 5.


الصفحة 312
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(1)، فلا مدخل للنسب فيها، كما أنّه لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله أحداً من عباده نبيّاً.

على أن زكريّا إنّما سأل اللّه وليّاً من ولده يحجب مواليه ـ كما هو صريح الآية ـ من بني عمّه وعصبته من الميراث، وذلك لا يليق إلاّ بالمال، ولا معنىً لحَجب الموالي عن النبوّة والعلم.

ثمّ إنّ اشتراطه في ولّيه الوارث كونه رضيّاً بقوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }(2)، لا يليق بالنبوّة ; إذ العصمة والقداسة في النفسيات من الملكات، ولا تفارق الأنبياء، فلا محصّل عندئذ لمسألته ذلك، وحاش الأنبياء عن طلب ما لا محصّل فيه.

نعم، يتمّ هذا في المال ومَن يرثه، فإنّ وارثه قد يكون رضيّاً وقد يكون غيره، ولذلك قال الرازي في تفسيره: إنّ المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال، وهذا قول ابن عبّاس والحسن والضحّاك(3)..

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: ورث سليمان عن أبيه ألف فرس(4).

____________

1- سورة الأنعام 6: 124.

2- سورة مريم 19: 6.

3- التفسير الكبير 21: 184.

4- ربيع الأبرار 5: 392 الباب 92.


الصفحة 313
وقال البغوي في معالم التنزيل في تفسير الآية في سورة مريم: قال الحسن: معناه يرث مالي(1)..

وقال النيسابوري في تفسير الآية: عن الحسن: أنّه المال(2).

ونحن لو تأمّلنا في استدلال الإمام عليّ والزهراء (عليهما السلام) والعبّاس، لرأيناهم يستدلّون بالقرآن على خطئه وسقم دعواه ; وذلك لأنّهم أرادوا إلزامه بما ألزم به نفسه حينما نهى الناس عن التحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قائلاً: "بيننا وبينكم كتاب الله"، أي إنهم استدلّوا بعمومات القرآن في الإرث والوصية على خطئه، فرجع هو إلى ما نهاهم عنه من الحديث عن رسول الله!! أي إنّه استدلّ بما نهى عنه ضرورةً ومصلحة!!

وأمّا الأمر الرابع:

فلا يمكن لأحد أن ينكر مكانة عليّ والزهراء (عليهما السلام) العلمية، ولو تأمّلت في احتجاجاتهما لرأيت الحقّ معهما لا محالة، فمثلاً نراهما يستدلاّن على أبي بكر ـ مضافاً إلى ما سبق ـ بقاعدة اليد، وإنّ على المدّعي جوهو أبو بكرج البيّنة، وعلى المنكِر اليمين، وقد مرّ عليك حجّة الإمام عليّ (عليه السلام) بقوله: "أخبرني لو

____________

1- معالم التنزيل 3: 158.

2- تفسير النيشابوري ـ المطبوع مع تفسير الطبري ـ 19: 93.