الصفحة 89


الفصل الثالث
ابن كثير... الوهم والحقيقة





الصفحة 90

الصفحة 91
لعمري ما أغرب أن تجد إنساناً يؤرخ لفترة زمنية وبقناعات ذاتية مرتبطة بتوجهه الايديلوجي يخبط خبط عشواء في سرد الأحداث والوقائع، حتى أنه لا يستطيع هو نفسه استيعاب ما يريد إبلاغه للآخرين لذا تجده يورد أحداثاً في قضية معينة وكل حدث يناقض بعضه. مما يعطي رؤية على أن هذا الشخص غير مقتنع تمام الاقتناع بالقضايا التي يطرحها إذ أنه أصبح أسير الموروثات القديمة التي كونت لديه نفسية تاريخية تحدها أبعاد مذهبية. والعدد الهائل من الروايات التي يتعامل معها بعضها يعكس الحقيقة وقد تكون مخالفة لاعتقاداته واخرى هي من إنتاج التاريخ مما يحدث تصادماً بين هذه المعطيات الشيء الذي يدفع بالمؤرخ المتعامل مع هذه النصوص بإدراجها بأجمعها وإدخال قلمه على حسب قدرته لتبرير فعل أو الدفاع عنه أو أقرب طريقة لذلك وهو تضعيفه سند الرواية والانتصار للمرويات المفضلة عنده. أو بطريقة أخرى أسهل وهو إهمال الرواية وعدم إدراجها نظراً لما تحمله من دلالات ومعاني وبالتالي تخليص النفس من الدفاع والبحث عن الانتصار.

وقد كان ابن كثير أحد هؤلاء المؤرخين حيث أذهلتني موسوعته

الصفحة 92
بذلك الكم الهائل من الروايات والتي غلب عليها التكرار وكذلك الحشو المتزايد بحيث لا تلمس نفسك تدرس موسوعة تاريخية على مثيل الامامة والسياسة ; بل هي عبارة عن كتاب جمع في داخلها المتناقضات المتفحص بحيث يقف مذهولا ويصاب عقله بالارتجاج وهو لا يستطيع الوصول إلى نتيجة، لكن يطرح هذا الأمر أمامه باب الشك حول هذه الأحداث المتراكمة مما يجعله يستشف أن هناك أشياء وقعت ويحاول المؤرخ تجاوزها أو إغفال العين عنها.

لحظة الوفاة

طالعت ذات يوم بشوق متزايد أحداث سنة 11 للهجرة ولكن مع الأسف وجدت أن يد ابن كثير تعاملت مع هذه الفترة بكثير من الوضاعة والاحتيال ; بحيث أن هناك أحداثاً تاريخية مهمة قد غض الطرف عنها بالإطلاق والتي كان لها تأثير كبير في تشخيص وضع المجتمع الإسلامي قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهم هذه الأحداث هي سرية أسامة بحيث لم يُذكر لها أثر والأحداث التي وقعت أثناء إنفاذ هذه السرية، من تأييد الرسول لها وعقد لوائها بيده الشريفة ودعوته بالإسراع لتنفيذها ولعنة المتخلفين عنها. ولكل هذه الأعمال دلالات(1) ولكن رغم ذلك فإن إبن كثير لم يفرد لها شيئاً وهذه من إحدى الأبواب

____________

1- راجع أحمد شلبي والتاريخ في الملاحق القادمة.


الصفحة 93
التي سلكها لإخراج هذا التاريخ كما يوافق رؤاه والتي ترى خير القرون قرني هذا والذي يليه ومع تحقق اللعنة المرتبطة بالتخلف عن جيش أسامة وكان فيها كبار الصحابة فإن هذه الأحاديث تصبح لا داعي لذكرها ; لأنها تسقط اصنامهم المقدسة، وهو الشيء الذي لا يريده مؤرخنا.

ولكن الأمرُّ من هذا هو الرواية الغريبة التي أوردها حول الرزية ـ رزية الخميس ـ بحيث لا علاقة لها بالحدث التاريخي الذي حصل أنذاك فأخرج في موسوعته عن علي بن أبي طالب قال أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن آتيه بطبق يكتب فيه مالا تضل أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: قلت: إني احفظ وأعي(1).

إن هذه الرواية متشابهة مع رزية الخميس، ولكن هنا الإمام علي هو الذي امتنع عن إعطاءه الطبق باعتباره يحفظ ويعي ولا أظنها إلاّ رداً على الرواية التي اتفق عليها أصحاب الصحاح، والتي رفض فيها جمع من الصحابة إعطاء النبي ما طلبه ليكتب لهم الوصية وفيهم عمر. فخالفوا بذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولايخفى على أحد موقف الإسلام من مخالفة أمره (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويتضح من إيراد ابن كثير النص الصحيح وتعليقه عليه بأنّ الحديث عند الشيعة مع ربطه بأحاديث أخرى يفيد الوصية للإمام علي (عليه السلام) من

____________

1- ابن كثير، البداية والنهاية: 5 / 209.


الصفحة 94
بعد رسول الله، مما جعل إبن كثير يراها إحدى مفتريات الشيعة إذ يقول: وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء، من أنه أوصى إلى علي بالخلافة فكذب وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير(1) لكن في نفس الوقت يرجع للدفاع عن توصية الرسول لأبي بكر(2) رغم مافي هذا القول من علة(3).

ابن كثير يتناقض مع نفسه

حينما تكثر الأحداث التاريخية، فإن نباهة المؤرخ ومدى تتبعه لمصداقية الحدث التاريخي تظهر بوجود تناسق بين المرويات وسرد الأحداث، لكن مع الأسف هذا مالم نره عند ابن كثير إذ أن تضارب الأحداث فات حده في كتابه بحيث يجعلك لا تستقر على أمر معين وهذا ما يجعل الباحث يستشف البعد التحريفي لأحداث التاريخ وما حدث فيه على طول استيلاء السلطات الظالمة على رقاب المسلمين ومدى مساعدة علماء الجور لهم والدفاع عنهم وإيجاد الطرق الكفيلة لتخريج هذا التاريخ للناس بشكل ينسجم وعقلية الناس التي أعتادت الاستسلام للظلم وتبرير ظلمهم بل وحتى في عصرنا الحالي نجد قلة

____________

1- ابن كثير، البداية والنهاية: 5 / 236.

2- المصدر السابق.

3- للإطلاع على علل هذا الحديث راجع كتاب تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي لصائب عبد الحميد.


الصفحة 95
من يتعاطف مع شهداء حادثه كربلاء لأنّ الأغلبية العظمى تعطيها تأويلات صاغتها أيدي وعاظ السلاطين لتصل جاهزة الى عقول الآخرين وكثير من الناس لازالت تجهل مكانة آل البيت النبوي في الإسلام وعلى رأسهم أمير المؤمنين، حتى وصل الأمر ببعضهم لاتهامه بالطامع في الخلافة(1) علماً أن الإمام علي (عليه السلام) كان الوجه الأول للمواجهة ضد اعداء الإسلام والحامل للواء العلم والمعرفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وكل هذا لأنه رأى أنه هو المؤهل شرعاً وعقلاً لتسيير أمور المسلمين، وهذا الأمر هو الذي حيّر المؤرخين في كيفية صياغة أحداث التاريخ بحيث تنسجم وطبيعة تصورهم، لكن كما أسلفنا سابقاً لم يحالفهم الحظ في ذلك فكانت كل استدلالتهم ناقصة، ومثال إبن كثير واضح في هذا المجال والأمثلة على ذلك كثيرة.

ابن كثير وأحداث السقيفة

لا أحد يشك في أن أول اجتماع حدث بعيد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في سقيفة بني ساعدة، وكان المجتمعون هم جماعة من الأنصار وثلاثة من المهاجرين وهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إذ بلغ مسمعهم أن الانصار مجتمعين في السقيفة بزعامة سعد بن عبادة فلما وصل الخبر إلى أبي بكر فزع فزعاً شديداً، وقام معه عمر فخرجا

____________

1- راجع فصل أحمد شلبي.


الصفحة 96
مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة فلقيا أبا عبيدة بن الجراح فانطلقوا جميعاً، حتى دخلوا السقيفة وفيها رجال من الأشراف معهم سعد بن عبادة(1).

إن دراستنا لهذا الحدث التاريخي تبين عدم عقد إجماع البيعة لأبي بكر وما إسراعه للسقيفة إلاّ محاولة لحصر هذا الموضوع وعدم انتشاره بين الناس كي لا ينفروا من بيعته وتكون بذلك أول بيعة لأبي بكر استعين بها بالعصبية القبلية ـ وخصوصاً بين الاوس والخزرج ـ قد وقعت في السقيفة مما لا يعطيها الشرعية الدينية بحيث يغيب عنها كبار الصحابة وبخاصة أهل البيت الهاشمي ولكن ابن كثير من أجل أن يخرج من هذا المأزق أخرج لنفسه رواية تجعل من البيعة بيعة عامة في المسجد قبل أن يتجه إلى السقيفة إذ بايعه في المسجد جماعة من الصحابة ووقعت حسب زعمه شبهة لبعض الأنصار(2).

وقد يظن البعض بأنّ هذه الرواية بسيطة لكنها في الحقيقة شرعنة للنظام الخلفائي الذي يفتقد المصداقية الدينية فمحاولة البعض لتصوير وقوع البيعة في المسجد هي وسيلة لشرعنة هذا العمل وإعطائه صبغة جماعية، ومما يزيد من تأكيد هذا القول أي أنّ البيعة الأولى كانت في المسجد هو ما أورده بعد ذلك حيث يقول:

____________

1- انظر: ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص9 ـ شركة مكتبة ومطبعة ومصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر محمد محمود الحلبي وشركاه ـ حلفاء.

2- ابن كثير، البداية والنهاية: 5 / 214.


الصفحة 97
وخرج إلى المسجد (أي أبو بكر) وعمر يخطب في الناس ويتكلم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين، فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ...} الآية حتى فرغ من الآية فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، فقال عمر: إنها في كتاب الله وما شعرت أنها في كتاب الله(1) ثم قال عمر: يا أيها الناس هذا أبو بكر فبايعوه فبايعوه(2) ومنه تكون البيعة قبل توجه المهاجرين الثلاثة إلى السقيفة.

قد يقول قائل إن البيعة أولها كانت في المسجد وبعدها ذهبوا لإقناع الانصار في السقيفة لكن يخرج علينا إبن كثير برواية تجيب عن هذا السؤال وتبين أن البيعة الأولى كانت في السقيفة حيث يقول ابن كثير على لسان أبي بكر وهو في السقيفة: وقد رضيت لكم هذين الرجلين أيهما شئتم وأخذ بيدي ـ أي يد عمر ـ ويد أبي عبيدة ابن الجراح.

إذن العقل ماذا يقول؟ إذا كانت البيعة قد تمت قبل الحضور في السقيفة وتم تنصيب أبي بكر ولياً للمسلمين فلماذا يختار لهم أحد الرجلين عمر وأبي عبيدة بن الجراح. ومنه يكون القول بالبيعة الأولى

____________

1- خلال إنكار عمر لموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أبو بكر آنذاك في السنح خارج المدينة؟!

2- ابن كثير، البداية والنهاية ص21.


الصفحة 98
في المسجد قولاً لا مجال له من الصحة وإنما يأتي من بعد الخلاف والزام المخالفين بالبيعة بإحضارهم إلى المسجد أو الهجوم عليهم بمنزل الزهراء (عليها السلام)، والمراد من هذا القول كما قلنا هو إصباغ البيعة بشرعية وبإجماع الأمة ولم يكن إدراجها من قبيل حكي المرويات ولكن لغرض في نفس ابن كثير يبغي من خلالها عملية التمويه التاريخي ولم يكتفي عند هذا الحد من أجل إعطاء الشرعية ونفي ما قيل عن حال الخلاف الواقع بل صوّر الأمر بأنّ كل المخالفين والتي أثبت كتب التاريخ إصرارهم على عدم الاعتراف بالبيعة اذعنوا بعد ذلك للامر وبايعوا بطيب خاطر.

سعد ابن عبادة وابن كثير

يعتبر سعد ابن عبادة من المعارضين لخلافة أبي بكر بحيث وقف ضد أبي بكر في السقيفة ولم ينحني أبداً أمام التهديدات وبقي على ما ذهب اليه حتى قتل في عهد عمر وهو لم يبايع عمر كذلك. وكان سعد ابن عبادة سيد قومه وله منزلة قبل إسلامه وبعد إسلامه مما يجعل عدم قبوله للبيعة لها أولاً دلالة حول مصداقيتها وثانياً أنّها تفنّد القول بالاجماع والذي حكى عنه المؤرخون.

فأما مصداقيتها فهي نفي الشرعية عن الولي بحيث يكون هو المسؤول عن كل الأمور الدينية وإمام الأمة في الصلاة وترك الصلاة وراءه هو من باب عدم الاعتراف بإمامته بحيث أن سعداً لم يكن يصلي

الصفحة 99
بصلاتهم لم يجتمع معهم(1) بل وصل به الأمر أنه دعى إلى محاربتهم وكان هو على يقين من خروجهم عن جادة الشرع بحيث قال: أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض، لسمعتم مني في أقطارها زئيراً يخرجك أنت وأصحابك، ولألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع خاملا غير عزيز(2) وهكذا فإن المصداقية الشرعية تُفقد، وما الدعوة إلى محاربتهم إلاّ دليل على ذلك، ولا أظن أن سعد بن عبادة غافل عن تحريم القتال بين المسلمين.

وأما الاجماع فخروج نفر واحد له مكانته في قومه وبين المسلمين لخير دليل على سقوط القول بالإجماع ولا أظن أحداً من المؤرخين قال أن سعداً تنازل عن موقفه هذا إلاّ مؤرخنا الكبير ابن كثير بحيث خالف الإجماع التاريخي وذكر بأنّ ابن سعد تنازل واعترف بإمارة القرشيين إذ يقول أن أبي بكر قال له: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وأنت قاعد، قريش ولاة الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء(3).

وهذا جزء من التبريرات والشرعنة الواهية التي يتبعها ابن كثير

____________

1- الامامة والسياسة، ابن قتيبة ص10.

2- المصدر السابق.

3- البداية والنهاية: 5 / 218.


الصفحة 100
للانتصار لهذا التاريخ والتي تجعله يسقط في مطبات كثيرة بحيث أنّه في نفس هذه الحادثة المرتبطة بسعد بن عبادة يذكر كذلك رفض سعد لهذه البيعة حتى انزوى المبايعون في السقيفة على سعد، فقال قائل منهم: قتلتم سعداً، فقال عمر: قتل الله سعداً(1)، مما يبين الحقيقة الصحيحة لموقف ابن عبادة والذين أجمع كل من كتبوا في التاريخ على هذه الحقيقة.

ولم يقف ابن كثير فقط عند سعد ابن عبادة بل تعداه إلى الامام علي (عليه السلام) وجعله من المبايعين الأولين وهو الذي دافع عن حق هو له أهل ونسي أنه ما بايع أبي بكر إلاّ خشية أن يعود الناس عن دين محمد وذلك بعد مرور ستة أشهر وهو يبايع يذكر بأحقيته في الحكم وقبلها كذلك بحيث يقول (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسوله، أنا أحق بهذا الأمر منكم(2) وفي مجلس البيعة خاطب أبا بكر مؤكداً على أحقيته فذكر استبداد أبي بكر بهذا الأمر دونه فقال (عليه السلام): فانه لم يمنعنا أن نبايعكم إنكاراً لفضيلتك، ولا نفاسة عليك ولكن كنا نرى أنّ لنا هذا الامر حقا، فاستبددت علينا(3). وكذلك البيت الهاشمي وعلى رأسهم العباس بن عبد المطلب إلى غاية ذلك الوقت وهو غير مبايع وكان يرى الأمر أمر

____________

1- المصدر السابق: 5 / 216.

2- الإمامة والسياسة ص11.

3- الإمامة والسياسة ص11.


الصفحة 101
أهل البيت دون سواهم وفي رده على أبي بكر وعمر حينما جاءا يسترضيانه بمنصب في التركة المسلوبة أبى ورد حجتهم التي احتجوا بها على الانصار من كون الرسول من قريش وهو دليل الأحقية فرد العباس (رضي الله عنه): أما قولك إن رسول الله منا ومنكم، فإنه كان من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها(1).

إذن كل هذه الحوادث لم تحرك في ابن كثير حساً فأورد بأن علياً بايع مع الاوائل وذكر أن أبا بكر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعى بعلي بن أبي طالب فجاءه فقال، قلت ابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وختنه على إبنته أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبايعه(2).

لكن الأحداث أصعب من أن تصدق بهذه السهولة، وهناك روايات تتحدث عن رفضه (عليه السلام) البيعة لمدة ستة أشهر حتى توفيت فاطمة (عليها السلام) وبالتالي يلزمه تخريجة تساير الأحداث التاريخية فيقول في هذا التأخير: واحتاج على أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى علي (عليه السلام) أن يجدد البيعة مع أبي بكر(3). فمتى كانت رعاية الزوجة تبطل البيعة؟ إذا كانت وجدت أصلا.

____________

1- الامامة والسياسة ص16.

2- البداية والنهاية: 5 / 218.

3- انظر: المصدر السابق ص219.


الصفحة 102
ولكنها هي نوع من البهلوانية في الدفاع عن هذا التاريخ المزيف الذي يصعب على الإنسان التخلص منه مما يجعله يبحث عن كلّ المنافذ لإخراج نفسه من الورطات والمآزق التاريخية حتى وإن كانت بطريقة ساذجة كما هو الحال مع مؤرخنا ابن كثير.


الصفحة 103

ابن كثير والإمام علي (عليه السلام)


إن الامام علي (عليه السلام) يمتلك شخصية متكاملة من جميع الجوانب بحيث لو وقفنا عند كل شخصية من الشخصيات البارزة في التاريخ نجد انها لن تأخذ نفس الحجم والمكانة التي كانت تمتلكها شخصية الامام علي (عليه السلام) فحتى عمر بن الخطاب الذي بالغ التاريخ في وصفه لم يجد له التاريخ الا صفة الشدّة والصرامة، كما أن شخصيته لم تستطع أن تؤثر في التفكير الإسلامي بل أن صيته العلمي والمعرفي لم يبلغ الحد الذي يخلق ثورة فكرية في المعرفة الإسلامية ; بل لطالما اعتبر نفسه أجهل الناس وحتى ربات الحجال أعرف منه، ولطالما عبر كذلك عن احتياجه لابي الحسن (عليه السلام) بحيث كان يقول ويل لعمر من امر ليس له ابو الحسن.

اما الحركة العمرية في التاريخ فقد استغرقت مدة وجيزة لم تستطع بعدها الاستمرار في مجارات أحداثه وذلك ناتج أولاً عن غياب قاعدة فكرية وثانيا أنّها لم تخلق الا منافسة للخط العلوي الذي له مناعة وقاعدة فكرية تتمثل في التراث الإسلامي الأصيل والمرتبط أساساً بمدرسة آل البيت، والتي كان علي (عليه السلام) رائدها مما جعلها المدرسة التي

الصفحة 104
استطاعت أن تخلّد نفسها في التاريخ وتتأقلم مع طبيعة الأحداث والوقائع التي تعيشها رغم حالات القهر والقمع السلطاني الذي عاشته، والذي سخر علماءه للوقوف في وجه هذا المد المحمدي الأصيل وذلك بالتشكيك في رموز هذه المدرسة وتراثها المعرفي.

ولا غرابة أن نجد في التاريخ علماء أخرجوا هذه الطائفة من حظيرة الإسلام، ونعتوهم بمجوس الأمة رغم القرائن والدلائل الشرعية التي تعبر عن صحة آراء هذه المدرسة، وهذا كله لماذا؟ إنه الشخصية المميزة لهذا التاريخ ألا وهو علي (عليه السلام)، والذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (هلك فيك اثنين كاره مبغض ومحب مغال)، الشيء الذي يجعل منه مفتاح الأمة الإسلامية وذلك كمحرار لقياس درجة الجسم ; مع العلم أن درجة الجسم 37 ْC فأي نزول أو زيادة عن هذه الدرجة فإنه حتماً تدل على حالة مرضية. لذا يكون الحفاظ على هذه الدرجة الثابتة هو عين الصحة. فكذلك حب الإمام علي (عليه السلام) فهو ثابت في درجة معينة فأي تقصير في حق هذه الدرجة هو خروج عن حالة الاعتدال وفيه هلاك الشخص، ولا يكون ذلك إلاّ بإنكار حقوقه وحقوق آله والتي هي حقوق شرعية إلهية بحيث كل مخالفة لهم هي مخالفة لما أوجبه الله والذي يقول: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}(1)

____________

1- الشورى: 23 ويرجع في تفسير هذه الآية إلى ابن كثير: 4 / 141، الكشاف للزمخشري: 4 / 219، الشوكاني، تفسير القدير: 4 / 543، الطبري: 11 / 144.


الصفحة 105
وكذلك الجهة الثانية وهي المحبة المغالية والتي تفوق الحدود العقلية فتجعل آل البيت وعلى رأسهم الإمام في منزلة الألوهية وهذا من المحال أن يصدقه العاقل الذي يعطي لكل ذي حقّ حقّه، هذا الحقّ الذي خصه به الشارع الأكبر ألا وهو الله، فتعالى أن يكون له شريك أو مثيل وهو القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلهذا تكون جميع المحاولات للخروج عن حدود المحبة الطبيعية سواء بالكره، أو المغالات هي من قبيل الشطح الذي يجب أن ويُرد إلى طريق الصواب.

بهذا كانت شخصية الإمام هي المؤثرة في تاريخ الفكر الإسلامي بحيث ما افترقت الفرق إلاّ على هذه الشخصية سواءاً بمخالفته (عليه السلام)، او بمناصرته، فكان الامام (عليه السلام) مستهدفاً من الفرق المعادية، حتى أن معاوية أجزل العطايا لكل من يروي في ذم الإمام (عليه السلام)، وما سمرة بن جندب وأبو هريرة إلاّ خير دليل على ذلك. كما أنه امر بلعنه على المنابر حتى تتزعزع مكانته في نفوس المسلمين، وليس استشهاد حجر بن عدي (رضي الله عنه) إلاّ دليلاً على تمسك المخلصين بحب هذه النفس الطاهرة صلوات الله عليه وعلى أبنائه الى يوم الدين.

وكما أن السلطان سخر القوة لمحاربتهم سخر كذلك باع وعاظ السلاطين أو أخذتهم النعرة المذهبية العقيمة للنيل من شخصيته (عليه السلام)، وما شخصية ابن كثير إلاّ إحدى هذه الشخصيات التاريخية التي تعاملت مع شخصية الإمام علي الإجحاف وبادرت إلى سلبه حقه الإلهي، ولسنا هنا نعني الإمامة بل نقصد الحقوق الإلهية التي عبر عنها

الصفحة 106
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال حياته، والتي تمنح الامام المكانة المميزة التي تميّزه عن باقي الصحابة حتى أوصلته إلى أن يقول له كل المسلمون يوم الغدير (بخ بخ لك أصبحت وأمسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة).

لكن مؤرخنا الجليل لم يحرك منه كل ذلك ساكناً. فبادر بشتى الطرق إلى تضعيف هذه الروايات بدون مبرر عقلي ومنطقي، حتى يتخلص من مثل هذه الشخصية العظيمة.

وكما أسلفنا سابقاً فما ابن كثير إلاّ الوجه الثاني لعملة وجهها الأوّل ابن تيمية الذي قال عنه ابن حجر العسقلاني أنه خلال رده على ابن المطهر الحلي تجاوز حده حتى أصبح يعرض لشخصية الامام علي.

واليك بعض الامثلة على انكار ابن كثير لفضائل الامام علي (عليه السلام):

الإمام علي (عليه السلام) والمؤاخاة

لا أحد ينازع في كون حادث المؤاخاة هي إحدى المميزات والمفاخر التي تتوج بها الامام علي (عليه السلام) خلال حياة النبي والتي تبين مكانته في هذا الدين باعتباره صنو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفسه. ولهذا دلالات عظيمة تحتم على كل الخاضعين لحضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخضع لهذه الشخصية. ولم تكن هذه الحادثة مفردة في التاريخ الإسلامي بل نفسها أعيدت مرة اخرى، وما سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معه (عليه السلام) إلاّ تأكيداً لهذه الأخوة وهذه الرتبة، وذلك ابتداءاً من حادثة الدار والذي أعطاه (صلى الله عليه وآله وسلم) الأفضلية بين بني هاشم، إلى حادثة الغدير والذي أعطا (صلى الله عليه وآله وسلم) الأفضلية

الصفحة 107
على عامة المسلمين.

ولم يصل الامام علي (عليه السلام) إلى هذه المنزلة الا في ظل الرعاية الإلهية، والتربية المحمدية والفطرة الأصيلة التي منحها الباري إياه، حتى أصبح فريد زمانه في الجهاد فكان قاتل الكفار والمنافقين، والثابت يوم حنين حين فرَّكل المسلمين، وفاتح خيبر الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فشل أبي بكر وعمر في فتح حصن خيبر (غداً أعطي الراية رجلاً يحبه الله ورسوله ويفتح الله على يده) فحقق الله ذلك وانتصر فرفعت راية الإسلام بفضله.

وأما في الجانب العلمي فهناك قرائن كثيرة تبين أفضليته العلمية حتى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ويقول هو عن نفسه: (كان لي عند رسول الله دخلتان)، وكذلك (اسألوني قبل أن تفقدوني)، ولم يسبق أحد أن قالها غيره وهذا لثقته بنفسه ومكانته في هذا الدين.

وأفضل شاهد على عظمة مكانة الامام علي (عليه السلام)، هو سد الأبواب إلاّ بابه (عليه السلام)، ففي حديث جابر بن عبد الله الانصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا علي إنه يحل لك في المسجد ما يحل لي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي)(1).

وكذلك عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قام (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم سد الأبواب

____________

1- المراجعات نقلاً عن ينابيع المودة الباب 17.


الصفحة 108
خطيباً، فقال: (إن رجالا يجدون في أنفسهم شيئاً أن أسكنت علياً في المسجد واخرجتهم والله ما أخرجتهم وأسكنته بل الله أخرجهم وأسكنه ان الله عز وجل اوحى إلى موسى وأخيه أن تبوءا لِقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيمو الصلاة الى أن قال وإن علي مني بمنزلة هارون من موسى وهو أخي ولا يحل لأحد أن ينكح فيه النساء)(1). وهذا مما يبرز المكانة العظمى لشخصية الإمام علي (عليه السلام)، والتي لها دلالات وإيحاءات لا تستطيع أقلام المخالفين أن تنفيها(2). لكن صاحبنا ابن كثير فإنه ينفي بكل جرأة حديث المؤاخاة ويقول أنها لم تكن من خصوصياته (عليه السلام)، ويرى أنّه (عليه السلام) تآخى مع شخص غير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: «وآخى النبي بينه وبين سهل بن حنيف، وقد ذكر ابن اسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آخى

____________

1- المصدر السابق، ومن حديث سدّ الأبواب إلاّ باب علي (عليه السلام) راجع: مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 255 ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي 1 / 266، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 88.

2- يوم فتح خيبر.

راجع: المناقب للخوارزمي الحنفي ص76 و 96، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 45، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص264 ط الحيدرية، مجمع الزوائد: 9 / 131، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 2 / 449 ط أفست، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص130، ط 1، اسلامبول، وص154، ط الحيدرية.


الصفحة 109
بينه وبين نفسه وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح منها شيء لضعف أسانيدها وركة بعض متونها فإن في بعضها «أنت أخي ووارثي وخليفتي وخير من أمر بعدي» وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما والله أعلم(1).

إذن هذه وجهة نظر ابن كثير فلننظر إلى الحديث المخصوص بالأخوة مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال ابن عبد البر في ترجمة علي من الاستيعاب: آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وقال في كل واحدة منهما لعلي: أنت أخي في الدنيا والآخرة، وقال آخى بينه وبين نفسه.

وقال السيد عبد الحسين شرف الدين في مراجعته ـ مراجعة 34 ـ: ولهذه الغاية نفسها قد اتخذ علياً أخاه، وآثره بذلك على من سواه تحقيقاً لعموم الشبه بين منازل الهارونيين من أخويهما، وحرصا على أن لا يكون ثمة من فارق بينهما، وقد آخى بين أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين كما سمعت، فكان أبو بكر وعمر في المرة الاولى اخوين(2) وعثمان

____________

1- ابن كثير، البداية والنهاية: 5 / 234.

2- في المؤاخاة كان أبو بكر وعمر وعلي (عليه السلام) مع رسول الله.

راجع: مستدرك للحاكم: 3 / 14، الفصول المهمة لابن الصباغ الملكي ص21، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص194، ط الحيدرية، وص83، ط الغري، اسد الغابة لابن الاثير: 2 / 221 ترجمة الامام علي ابن ابي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي: 1 / 105، كنز العمال: 15 / 105، ح299 ط2.