الصفحة 110
وعبد الرحمن بن عوف اخوين، وكان في مرة ابو بكر وحارجة بن زيد اخوين، وعمر وعتبان بن مالك أخوين، أما علي فكان في كلتا المرتين أخا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

كما أن هذا الحديث رواه ما يقارب عشرة من الصحابة وهم ابن عباس، وابن عمر وزيد ابن ارقم، وزيد بن أبي أوفى، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، ومحذوج بن يزيد، وعمر بن الخطاب، والبراء بن عازب، وعلي بن ابي طالب(1).

ونظراً لكثرة الراوين أعرضنا عن ذكر كل المخرجين لحديثي المؤاخاة مما يعطي الدليل القاطع على صحته ووقوعه زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن مؤرخنا اعرض عن هذه الاحاديث لأنه لم يقصد التحقيق المعرفي الذي يتوخى من خلاله إرشاد الناس إلى طريق الصواب، ولو ثبت ذلك بالطريق العقلي الصحيح لآمن به كل الناس، لكنها محل إجماع كل العلماء إلاّ علماء السلفية ومنهم ابن كثير لأن في بقائها، وثبات صحتها مضرة لمدرسته التي بنيت على وهم قدسية عدالة الصحابة التي انفق المال الكثير من أجل تكريسها وليت ابن كثير يقف عند نفي المؤاخاة، بل تجاوزها الى ماهو أفظع من ذلك فتهجّم بكل ما عنده من قوة على آل البيت وعلى رأسهم امير المؤمنين علي بن ابي

____________

1- عن عبد الحسين شرف الدين، المراجعات: المراجعة 34.


الصفحة 111
طالب (عليه السلام).

علي وآل البيت (عليهم السلام)

لم يتجرأ أحد من العلماء منذ الجيل الأوّل إلى يومنا هذا ليخرج علي بن أبي طالب من آل البيت، لأن الوصول إلى هذه النتيجة هو من قبيل الحمق والجنون العلمي. فزعيم آل البيت لا يناقش أحد في كونه هو قائد الغر المحجلين. وهذا منزل وشرف خصه به الله سبحانه وتعالى وأبنائه وامهم فاطمة الزهراء (عليها السلام) دون غيرهم للحظوة والمكانة التي كانوا يمتلكونها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك لأحقيتهم بخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم تجرء العلماء بتخطئة الإمام علي في سياسته وتسيره لأُمور الدولة، لكن لم يسمح أحد لنفسه بأن يتجاوز الخط الأحمر ويعلن بصراحة أن أخا رسول الله ليس من آل البيت عليهم أجمعين السلام.

إلاّ مؤرخنا المحترم حيث يقول: قلت وأما الخلفاء الفاطميون الذين كانوا بالديار المصرية، فان أكثر العلماء قالوا على أنهم أدعياء، وعلي ابن أبي طالب ليس من أهل البيت، ومع هذا لو يتم له الأمر كما كان للخلفاء الثلاثة قبله(1).

وهذا من دلائل الخبل الذي أصاب صاحبنا علماً أنه يروي رواية

____________

1- ابن كثير البداية والنهاية: 5 / 237.


الصفحة 112
أهل الكساء في تفسيره(1). وما من أحد خالف كون المقصود في قوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} هم فاطمة وعلي والحسن والحسين، وذلك كما جاء في رواية أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت:

دعا رسول الله حسناً وحسيناً وفاطمة فأجلسهم بين يديه، ودعا علياً فأجلسه خلفه فتجلل هو وهم بالكساء، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا».

فتقول ام سلمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فأنا معهم يا نبي الله».

فيقول لها «أنت على مكانك، وأنت على خير»(2).

وهذا الحديث يكفي ليبين ويزيل الغموض لصاحبنا بأنّ الإمام علي هو أحد أعمدة آل البيت، كما أن هناك أحاديث أُخرى واردة في هذا السياق، فعن مالك بن أنس قال: (صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعة عشر شهر فإذا خرج من بيته أتى باب فاطمة (عليها السلام) فقال: {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} كل يوم خمس مرات)(3).

____________

1- ابن كثير في تفسيره: 3 / 485.

2- رواه الطبري وابن كثير في التفسير والمحب الطبري في ذخائر العقبى والسيوطي في الدر المنثور والحاكم في مستدرك الصحيحين.

3- رواه الترمذي في الصحيح، وأحمد في مسنده، والطيالسي في المسند، والحاكم في مستدرك الصحيحين، وابن الأثير في اسد الغابة وابن كثير والسيوطي في تفاسيرهما.


الصفحة 113
ونفس الرواية واردة عن ابي برزة(1)، وعبد الله ابن عباس(2).

وقال شرف الدين (رحمه الله):

وقد اجمعت كلمة أهل القبلة من أهل المذاهب كلها على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل الوصي بها ـ بآية التطهير ـ عليه ضم سبطيه وأباهما وأمهما إليه، ثم غشاهم ونفسه بذلك الكساء، تمييزاً لهم على سائر الأبناء والأنفس والنساء، فلما انفردوا تحته عن أسرته كافة، واحتجبوا به عن بقية أمته بلغهم الآية، وهم على تلك الحال، حرصاً على أن لا يطمع بمشاركتهم فيها أحد من الصحابة والآل، فقال مخاطبهم، وفي معزل عن الناس كافة: {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فأزاح (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجبهم في كسائه حينئذ حجب الريب، وهتك سدف الشبهات، فبرح الخفاء بحكمته البالغة، وسطعت أشعة الظهور ببلاغة المبين والحمد لله رب العالمين(3).

وهناك مرويات كثيرة تثبت هذه المكانة للإمام علي (عليه السلام) وآيات قرآنية تخصه وآل بيته. فبالإضافة إلى آية التطهير، هناك آية المودة، وكذلك المباهلة، والتي خصته (عليه السلام) بالمنزلة الراقية وبالدرجة الرفيعة حتى قال (عليه السلام):

____________

1- رواها في مجمع زوائد.

2- الدر المنثور للسيوطي.

3- الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء للامام شرف الدين عن آية التطهير الشيخ محمد مهدي الآصفي ص66.


الصفحة 114
(أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا الله، ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطي الهدي، ويستجلي العمي، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لاتصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم)(1).

إن هذه الآراء ليست إلاّ محاولات لإيجاد مخرج للمأزق التاريخي الذي وقعت فيه مدرسة الخلفاء للدفاع عن السراب المقدس، والذي لا يعبر إلاّ عن حالة التيهان التي يعيشها المؤرخ داخل التاريخ الإسلامي حينما يفتقد إلى منهجية واقعية تتخلى عن أدوات الماضي البئيس، وتنفتح على الحاضر والمستقبل، بآليات تقضي فيها على الترسبات الماضوية، وليدة المال والسلطان، والجهل، وكذلك على الطوباوية الفكرية والتي تحجب العقل عن ممارسة دوره الفعال في التنقيب وهدم صروح التخلّف كي يتسنى لهذه المادة الفعالة استجلاء الحقائق، والتحقق من مصداقيتها لتعرف بعد ذلك طريق حريتها وخلاصها من التاريخ الملغوم وعقلية السلطان المتجبر الذي جعل الأمة الإسلامية تعيش في كآبة فكرية وترزخ في بحر من التيهان لا تستجرأ على الخروج منه.

الإمام علي (عليه السلام) والبيعة

لقد كان مقتل عثمان بن عفان نتيجة السياسة التي انتهجها في

____________

1- ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 / 36.


الصفحة 115
حياته، وبالخصوص بتقريب أقربائه، وإنزال الكرامات عليهم كإعطاء الاموال، وتسليم مقاليد الامور في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، كالشام لمعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن أبي سرح على مصر، وأشياء كثيرة، مما جعل المسلمين يشمئزّون من هذا الوضع، ويقومون بالثورة عليه، وتزعم هذه الثورة كبار الصحابة، فقد سبقهم إلى ذلك ابو ذر الغفاري، حينما أعلن ثورته على المبذرين لمَّا كان في الشام، وقال قولته المشهورة: عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يشهر سيفه. فكانت الثورة هي ثورة ضد النفوذ الاموي على مقاليد الحكم في الدولة الإسلامية.

فاجتمعت كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنتج ثورة على الخليفة الثالث رغم المحاولات الجادة من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لمنع الثوار من قتل عثمان لكن لسوء الحظ وللخطأ الذي ارتكبه عثمان بإرسال رسول يطلب من عبد الله بن أبي سرح قتل الثوار العائدين إلى مصر. فما كان منهم إلاّ الرد على هذه الرسالة ومهاجمة الخليفة في منزله وقتله.

قتل عثمان بن عفان فأصبح كرسي الخلافة فارغاً، وكان انذاك الثوار موزعين على ثلاثة أقسام الكوفيين، والبصريين، والمصريين، وقد كان المصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم، وكان الكوفيون يطلبون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم وعلى

الصفحة 116
قول حد ابن كثير وتفترق ثلاث فرق وكل فرقة تريد صاحبها(1).

لكن إذا تسائلنا من المؤهل بين هؤلاء الثلاثة فإن الامام علي مما لاشك فيه ابداً هو المؤهل إلى قيادة هذه الأمّة.

لكن مع الأسف الشديد وأنت تطالع قول ابن كثير فإنك تلاحظ فيه شيئين رئيسين وهما:

نفي الإجماع عن بيعة علي (عليه السلام).

الزام البيعة لمجموعة من الناس وفرضها عليهم بالقوة(2).

لقد حاول المؤرخون ومنهم ابن كثير نفي صفة الإجماع على خلافة علي (عليه السلام)، لكن نجده حينما كان يتحدث مثلا عن خلافة أبي بكر فقد أعطاها الإجماع منذ اليوم الأوّل لتعيينه رغم ما شاب هذه البيعة من اعتراض وخصوصاً من البيت الهاشمي وعلى رأسهم علي (عليه السلام)، لكن كما أسلفنا سابقاً فإن ابن كثير ذكر بيعة للامام خلال اليوم الثاني وهذا مما خالف المأثور من التواريخ، لكن عند مؤرخنا ابن كثير المشبع بالمؤثرات التيمية أصبح عنده الامام علي من ا لشخصيات المهملة وكان هدفه هو إضعاف شخصيته عند المسلمين، وقد رأينا كيف نفى ابن كثير عن الامام قرابته وانتسابه إلى آل البيت.

ومعلوم أن هذه الحالات هي نوع من رد الفعل الصادر ضد الأفكار

____________

1- البداية والنهاية: 7 / 237.

2- قد استغنينا في هذه الفقرة عن الإحالة لكن للتأكيد من الحوادث يرجع إلى المصدر السابق.


الصفحة 117
الأخرى وخصوصاً الشيعية، وانعدام الإجماع الذي يهول منه ابن كثير لم يكن إلاّ مجموعة من الاشخاص وقد عدّهم هو نفسه فقال وقد تربصوا سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، سعد ابن أبي وقاص، وصهيب، وزيد ابن ثابت ومحمد بن أبي مسلمة، وسلمة بن سلامة بن رقش، واسامة بن زيد(1) ونفي الإجماع هو الإطاحة بشخصية مقابل الشخصيات الثلاث السابقة (ونعني الخلفاء السابقين) وقد تبين هذا من خلال قوله: «ومع ذلك لم يتم له الامر كما كان للخلفاء الثلاثة»(2).

لكن المتدبر في الأحاديث التاريخية يلاحظ أن الإقبال كان عليه منذ موت الرسول وهذا يجسده ما قاله الناس إلى فاطمة الزهراء (عليها السلام) بأنهم قد سبقت بيعتهم إلى أبي بكر وأما من انعدام الإجماع بقيام الحروب بين المسلمين في زمانه، فنلاحظ أن أغلبهم ممن كانت تحركه دوافع شخصية فالزبير وطلحة ممن كانا يطمعان في الحكم وأما معاوية فهو محب للحكم.

لكن الغريب هو أن ابن كثير جعل بيعة الإمام علي (عليه السلام) إكراهاً لبعض الأشخاص وبالخصوص طلحة والزبير.

واستغرب استغراباً عجيباً وهو يذكر رفض مبايعة مجموعة من الأشخاص ولم يلزمهم الامام علي (عليه السلام) الخضوع لبيعته، ولم يفرضها

____________

1- ابن كثير: 6 / 237.

2- المصدر السابق: 5 / 237.


الصفحة 118
عليهم، فلماذا يفرض بيعته على اثنين دون الآخرين، علماً أن هناك اسباب كافية تمنع الامام علي (عليه السلام) من فرضها ضماناً لوحدة الأمة الإسلامية.

وأما سبب نفي ابن كثير مسألة الإجماع على البيعة وذكره مسألة اكراه طلحة والزبير على البيعة هو نفي إمامة الحاكم ـ وفق مبادئ أهل السنة ـ لأن الإمامة والحكم عندهم لا تعقد إلاّ بالإجماع وأي خروج على هذا الحاكم ليس له أي تبعات دينية، ومنه يكون الخارجون على الإمام علي (عليه السلام) لا يستحقون أي عقوبة دينية، وأما طلحة والزبير فإثبات إكراههم على البيعة يجيز لهم الخروج على الإمام وفض البيعة السابقة، وقد سبق أن ذكرنا حديثاً رواه مسلم في صحيحه والنسائي(1)، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من بايع إماماً فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع.

إذن شروط الطاعة، بعد البيعة هو إعطاء ثمرة القلب، وصفقة اليمين عن طيب خاطر، وأي انتفاء لأحد هذه الشروط يجعل البيعة غير قائمة، والطاعة غير ملزمة، وهذا ما حاول ابن كثير الوصول إليه وذلك من أجل تبرير خروج الاثنين على الإمام علي (عليه السلام) في موقعة الجمل، علماً أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر الزبير أنه سيقاتل الامام علي وهو ظالم له.

لكن التبرير التاريخي وايجاد الطرق لتخليص رموز التاريخ

____________

1- صحيح مسلم: ح 4755، النسائي ح 4202.


الصفحة 119
الإسلامي من المزالق التي ارتكبوها وتصوير ذلك بالشكل الذي ينسجم مع الدولة الإسلامية والتاريخ الإسلامي الذي يراد إخراجه لجموع المسلمين. ودون الخوض في مداخل أخرى للتاريخ الإسلامي، وخصوصاً موقعيتي الجمل وصفين، نطرح فقط سؤالا واحداً ندعو العقول أن تفكر فيه بمنطق إذا كان خروجهم لطلب دم عثمان وخصوصاً معاوية فما علاقته باستلام الحكم واستبداده به فيما بعد؟

طلحة والزبير في مواجهة الإمام علي (عليه السلام)

لقد أفرط المؤرخون في الحديث عن نقض طلحة والزبير لبيعة الإمام علي، وذلك دون اللجوء إلى التعمق في أسباب هذا الخروج. لكن الامام علي (عليه السلام) نفسه قد عبر في مجموعة من خطبه عن موقفه من خروج الاثنين، والأسباب التي دفعتهم، وكذلك موقفهما الأول من البيعة فقال (عليه السلام): (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتوني عليها، فلما أفضت إليَّ نظرت إلى كتاب الله، وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استسن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقتديته، فلم أحتج إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فاستشيركما، وإخواني من المسلمين...)(1) وهنا يتجلى خلاف ما ذهب إليه ابن كثير في كون الزبير وطلحة كانا مكرهين على البيعة، وكذلك خلاف عدم الإجماع على بيعته فقد روى

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 7.


الصفحة 120
الطبري في التاريخ ورواه غيره أيضاً أن الناس غَشُوه، وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته(1). ومما يبين كذلك الإجماع على البيعة وأن الاثنين كانا موجودين هو قول الإمام (عليه السلام) قال: (إن كان لابد من ذلك ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين، وفي ملأ وجماعة فقام الناس حوله فدخل المسجد وانثال عليه المسلمون، وفيهم طلحة والزبير(2).

فمن خلال هذا القول يتضح أن الزبير وطلحة ممن بايعوا عن طيب خاطر، وكان الامام (عليه السلام) يظهر الأسباب المؤدية إلى خروجهما، وكان يعزي هدفهما من الخروج وسببه الرئيسي، وكان من جملة أقواله (عليه السلام) (والله ما أنكروا علي منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً، وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه ودماً هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه، فإن لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة إلاّ قبلهم، وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم، وإن معي لبصيرتي مالبست ولا لبس علي)(3).

ومما يدل على بيعتهما بطيب خاطر ما قاله الطبري حيث قال أنه قال كان لهما قبل بيعتهما له: إن أحببتما أن تبايعاني، وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: لا، بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك: إنما خشية على

____________

1- المصدر السابق: 11 / 8.

2- المصدر السابق: 11 / 9.

3- المصدر السابق: 9 / 25.


الصفحة 121
أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن يبايعنا(1).

وأما الأسباب الحقيقية لخروجهما فنقف مع ابن ابي الحديد وهو يحدد هذه الأسباب:

إن طلحة والزبير لما أيسا من جهة علي (عليه السلام)، ومن حصول الدنيا من قبله، قَلَبا له ظهر المجن، فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتاباً لاذعاً روى شيخنا أبو عثمان قال:

أرسل طلحة والزبير إلى علي (عليه السلام) قبل خروجهما إلى مكة مع محمد ابن طلحة، وقالا: لا تقل له: «يا أمير المؤمنين» ولكن قل له: «يا أبا الحسن» لقد قال فيك رأينا، وخاب ظننا، أصلحنا لك الامر، ووطدنا لك الأمره، وأجبلنا على عثمان حتى قتل، فلما طلبك الناس لأمرهم، أسرعنا إليك، وبايعناك، وقدنا إليك أعناق العرب، ووطيء المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك، استبددت برأيك عنا، ورفضتنا رفض التريكة وأذلتنا إذالة الإماء، وملكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونزاع الامصار، فكنا فيما رجوناه منك، وأملناه من ناحيتك، كما قال الأوّل.


فكنت كمهريق الذي في سقائهلرقراق آل فوق رابية صلد

فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما، فقل لهما: فما الذي يرضيكما؟ فذهب وجاءه، فقال إنهما يقولان: ول أحدنا

____________

1- المصدر السابق: 11 / 14.


الصفحة 122
البصرة والآخر الكوفة! فقال: لاها الله! إذن يحلم الأديم، ويستشري الفساد، وتنتقص على البلاد من أقطارها، والله إني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة، فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين [الكوفة والبصرة] اذهب إليهما فقل: أيها الشيخان احذرا من سطوة الله ونقمته، ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيدا، وقد سمعتما قول الله تعالى {تِلْكَ الدّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1).

فقام محمد بن طلحة فأتاهما ولم يعد إليه، وتأخر عنه أياماً، ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة، فأذن لهما بعد أن أحلفهما ألا ينقضا بيعته ولا يغدرا به ولا يشقا عصا المسلمين، ولا يوقعا الفرقة بينهم، وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا.

هكذا يتضح لنا ما كان من أمر الرجلين وكيف كان الامام (عليه السلام) يعي هذه المسائل، وإنما حملهم للانقلاب عليه هو رعايته لحقوق الله تعالى وعدم التفريط فيها، ورعايته للحقوق الإلاهية رعاية تامة لا يثنيه في ذلك صحبة، او قرابة، فما كان من الاثنين بعد أن نفذ صبرهما من طول الانتظار أن يعلنا الخروج على الامام علي (عليه السلام) ويؤلف في ذلك المؤرخون قصصاً خيالية تصف الامام علي بذلك المتجبر الذي يحاول

____________

1- القصص: 83.


الصفحة 123
فرض امره بقوة السيف، في حين كان الإمام (عليه السلام) لا يحب سفك الدماء وكان يحب معالجة الأشياء بالرحمة، والعقل، وعدم التسرع في استعمال السيف وقد قال (عليه السلام):

«يا أهل الكوفة، أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا بذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤونا بالظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلاّ آثرنا على مافيه الفساد إن شاء الله تعالى.

وهذا السلوك المثالي في الاصلاح الذي كان يتمثّل به الإمام علي (عليه السلام) تجسد أيام الملاقات في واقعة الجمل حيث روى أبو محنف، قال:

«لما تزاحف الناس يوم الجمل التقوا، قال علي (عليه السلام) لأصحابه لا يرمين رجل منكم بسهم، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح، حتى أحدث إليكم وحتى يبدؤوكم بالقتال وبالقتل، فرمى أصحاب الجمل عسكر علي (عليه السلام) بالنبل رميا شديداً متتابعاً فضج إليه أصحابه، وقالوا عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين وجيء برجل إليه، وإنه لفي فسطاط له صغير، فقيل له: هذا فلان قد قتل فقال: اللهم اشهد، ثم قال اعذروا إلى القوم، فأتي برجل آخر فقيل وهذا قد قتل: فقال: اللهم اشهد، اعذروا إلى القوم، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل، قد أصابه سهم فقتله فوضعه بين يدي علي (عليه السلام)، وقال يا أمير المؤمنين هذا أخي قد

الصفحة 124
قتل، فعند ذلك استرجع علي (عليه السلام) ودعا بدرع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات الفضول فلبسها...(1).

وهذا جزء قليل مما كان يتعامل به الامام علي (عليه السلام) الذي حاول ابن كثير وسلفه ابن تيمية أن يصوراه بذلك المتجبر الذي يلزم الناس بالبيعة ويكرههم عليها. ولتجلية بعض الحقائق من شخصية الامام علي (عليه السلام) نبيّن فيما يلي جملة من خصائصه (عليه السلام).

____________

1- المصدر السابق: 9 / 78.