الصفحة 24
قال: " سلمان منّا أهل البيت " وسلمان هذا هوالذي تتحدث عنه عائشة بقولها: " كان لسلمان مجلس عند رسول الله (ص) ينفرد به بالليل ".

وعمّار! من هو عمار؟

هو الرجل الذي ملئ ايماناً إلى حشاشه، وتقتله الفئة الباغية، كما شهد بذلك الرسول (ص).

وأبوذر! من هو أبوذر؟

صوت الحق المدوي، الذي لا يخاف في الله لومة لائم.

" ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر "(1)هكذا حدّث عنه الرسول (ص).

وحذيفة بن اليمان... صاحب سرّ رسول الله (ص) العارف بالمنافقين حتّى كان الخليفة الثاني يسأله عنهم، ويسأله عمّا إذا كان يعرف في نفسه ـ عمر ـ شيئاً من النفاق.

والمقداد...

أحد الأربعة الذين أمر الله بحبّهم، وأخبر ان الجنّة تشتاق لهم.

" انّ الله أمرني بحب أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبُهم... علي والمقداد وسلمان وابوذر " ولا أحدثك عن الباقين.

لا أُحدثك عن علي بعدما شهد فيه الرسول (ص) انه مع الحق والحق معه.

ولا اُحدثك عن الزهراء التي دعت لعلي وعارضت بيعة السقيفة. لا أُحدثك عنها بعدما قال فيها الرسول (ص): " فاطمة بضعة منّي، يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ".

____________

1- مرآة الاسلام، طه حسين: 114.


الصفحة 25
والأعراب الذين اتهمهم المؤرخون بالردة والارتداد....

انها لم تكن ردّة في قسم كبير منها، إنّما كانت دعوة لعلي، ورفضاً لحكومة الخلافة!، كما كشف النقاب عن ذلك المحقّقون.

هؤلاء وغير هؤلاء هم الذين عارضوا أبابكر ودعوا لعلي.

وربما يكون جانب العدد غير مهمّ إذا لاحظنا مستوى رجال الحركة، إخلاصهم، عمق وجودهم الرسالي، صلتهم بالرسول (ص) وإشادته بهم.

اما طبيعة الحركة، وحجم المعارضة، ومستوى الاستعدادات، فرغم أن التأريخ كان شحيحاً في هذا المجال وكانت صدور المؤرخين لا تتسع لهذا الجانب، فإنّا نستطيع أن نوضح البعد الحقيقي للحركة.

فالمؤرخون يجمعون على انه تخلف عن بيعة أبي بكر جماعة من المهاجرين وجماعة من الأنصار ومنهم علي والزبير، تحصنوا في دار فاطمة ومعهما السلاح.

و " ان عمر جاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها. قيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة! قال: وإن "(1).

وفي رواية الطبري:

" أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه...(2).

وتدل الروايات التأريخية على ان علياً كان مستعداً للقتال لو توفّر له العدد

____________

1- الامامة والسياسة، 1: 12.

2- الطبري، 2: 443، 444، 446.


الصفحة 26
اللازم كان يقول: " لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم ".

وكان يقول: " وطفقت أرتئى بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء... "(1)، وكان يطوف على بيوت الأنصار ليلا ومعه فاطمة، يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل....

والسؤال الآن هو:

بماذا نفسّر هذا الموقف من علي وشيعة علي؟

وما الذي سوَّغ لهم التأهب للقتال؟

وحينما كان علي يدعو لنفسه على أي اساس كان يعتمد ليستبيح قتال الآخرين. هل هو النص؟

أو هو الأفضلية؟ أو هو الالتزام بقانون الوراثة في الحكم؟

انّ فرضاً واحداً هو الذي يستطيع أن يصحّح لنا معارضة علي (ع) ويضعها في إطارها الصحيح، وهذا الفرض هو الذي اضطرّ إلى قبوله المستشرقون ايضاً حينما قالوا:

" تدلنا أقدم الروايات على أن ادعاء علي بالخلافة لم يكن بنظر أصحابه وشيعته مجرد طموح سياسي، بل حق إلهي له "(2).

ومن هذا الاعتقاد كان علي يتحرك، ومستعداً للمناهضة.

أما القول بأن الدعوة لعلي كان رأياً شخصياً على أساس ميّزات الامام، وصفاته الشخصية، فأن هذا القول يضع الامام وشيعته موضع الاتهام والأدانة لأن

____________

1- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.

2- عقيدة الشيعة: 85 دونالدسن.


الصفحة 27
أفضلية علي لا تبيح لهم على الاطلاق الدخول مع سائر المسلمين في حرب وفرض رأيهم بالقوة والسيف.

وإذا كان هناك مجال للمعارضة والتأخر عن البيعة لأن مجيء أبي بكر إلى الحكم لم يكن عن طريق الشورى العامة. فأن ذلك لا يمكن أن يكون مبرراً شرعياً لامتشاق السيوف، واعلان الحرب والانتصار لعلي بهذا الاسلوب مادام أمر الخلافة شورى بين المسلمين، لهم أن يختاروا من شاؤا.

أما علي وشيعة علي فكانوا يتحدثون بغير هذا المنطق.

كانوا يرون ان الحكم للامام وحده، وبلا منازع، وأي محاولة لصرف الحكم عنه تعتبر غير شرعيّة، يجب مناهضتها، ان اختصاص الخلافة بالامام أمرٌ مفروغ عنه، بلا حاجة حتّى إلى شورى. ولا مجال للاختيار، ويجب أن يصل الامام إلى حقّه المفروض له وإن نازع المنازعون، وعلى اساس هذا الفهم كانوا لا يتحرجون من القتال لو وجدوا أملا بالنصر.

وهذا ما لا يمكن تفسيره بفرض آخر غير ايمانهم بالنص على الامام من قبل الرسول (ص).

ومن غير الصحيح ولا الممكن القول بأنهم دعوا لعلي بتصور أن الحكم وراثي فيجب ان لا يخرج من عشيرة الرسول (ص).

لأن هذا الفرض لا يفسّر لنا لماذا كانت الدعوة لعلي دون العباس وهو عمّ النبي، وأقرب إليه؟ ولماذا كان العباس نفسه يدعو لابن عمه ولا يدعو لنفسه؟

على ان هذا التصور لطبيعة الحكم في الإسلام واعتباره وراثياً لا يملك أي مستند شرعي، فكيف يصح افتراض ان علياً وسائر رجال الحركة التزموا به وهم الذين استوعبوا الإسلام، وتجردوا عن نزعات وتقاليد الجاهلية.

ولو كان رجال الحركة ممن يعيش رواسب الماضي، وطريقة التفكير القبلي، وتكمن في أعماقهم نزعات الجاهلية، لأمكن قبول هذا الفرض، أمّا وهم الطليعة

الصفحة 28
الواعية من أصحاب الرسول، والخيرة التي هضمت الإسلام. وجسَّدت قيمه ومفاهيمه، وانقلبت على العقلية القبلية البدائية الجاهلية، وعرفت لهذه الرسالة ربانيتها وتفوقها على سطحية الانسان في تفكيره فان من غير الممكن أن نقبل في حقّهم هذا الافتراض. على أنه فرض لا يدعمه أي دليل.

إنّما التفسير الوحيد الذي يمكن أن نفهم طبيعة الحركة على ضوءه هو الايمان بالنص المسبق والاختيار الالهي لحكومة الامام.


*  *  *

خلاصة الرأي:

ونخلص من البحث المتقدم. وفي ضوء دراسة منطق الحركة، وطبيعة الحركة بالنتيجة التالية:

انّ التشيع على مستوى النظرية كان الرسول (ص) هو واضع حجره الاساس، ويعتبر عصر الرسول (ص) هو عصر تأسيس النظرية الشيعية. أمّا التشيع بوصفه اتجاهاً وحركة فيصح القول انه ولد عقب وفاة الرسول مباشرة حيث ظهر اتجاهان، الاتجاه الموالي لأهل البيت والمؤمن بقيمومتهم على الرسالة، وإمامتهم في الأمة، والاتجاه الثاني لا يعترف بهذه الامامة والقيمومة وكانت بدايات كلتا الاتجاهين موجودة في زمن الرسول (ص).

وإذا انتهينا إلى هذا الرأي في نشأة التشيع فأننا سنواجه عدة أسئلة:

لماذا لم يحتج علي بالنصوص:

أولا: ما هو تفسير انحراف معظم الصحابة عن التشيع؟

ثانياً: لماذا لم ينهض علي ولم يقاتل إذا كانت الخلافة حقه الشرعي؟

ثالثاً: لماذا لم يحتج علي ولا شيعة علي بالنصوص النبوية التي تفيد إمامته؟

وسنرجي الاجابة على السؤال الأول والثاني إلى حين دراستنا للمرحلة الأولى من مراحل التشيع.

أما هنا فنجيب على السؤال الثالث، واضعين الاجابة في النقاط التالية:


الصفحة 29
أولا: ان كتب التأريخ والحديث الشيعية تذكر احتجاج الامام بالنصوص، كما وتروي احتجاج عدة من شيعته بها في الجامع النبوي.

ورغم ان ورود هذه الروايات في الكتب الشيعية لا يدعو إلى الثقة المطلقة بها من وجهة نظر الخصوم، ولا يكفي في الاعتماد عليها، الاّ أنه يدعو ـ لا أقل ـ إلى احتمال أن تكون المحاججات بالنصوص موجودة تأريخياً ثم أهملت عن عمد في كتب التأريخ التي دوّنتها أقلام غير شيعيّة كما نعتقده.

ثانياً: وفي الوقت الذي لم تذكر كتب التأريخ السنيّة الاحتجاج بالنص، نجدها لم تتعرض لذكر أي مناقشة ومكالمة جرت بين الامام والخلافة الحاكمة.

وهذا أمر يدعو إلى الشك في أمانة هذه الكتب في هذا المجال، لأن من غير المحتمل ولا المعقول أن يمتنع الامام وشيعته عن البيعة، ويتحصنون بدار فاطمة، وتهددهم القوى الحاكمة بأحراق الدار، ثم يخرجون منها قهراً، ويؤتى بعلي إلى الجامع، ويرغم علي على البيعة، ثم لا يبايع إلى ستة أشهر، رغم الضغط والاصرار والارهاب، وفي كل ذلك يبقى علي صامتاً لا يتكلم بشيء ولا يدلّل على وجهة نظره، ولا يدعم رأيه بحجة، بينما تدعوه كل الأمور لأن يتكلم وأن يناقش وأن يؤيد رأيه، ويدعم قوله.

ان أحداً لا يستطيع التصديق بأن علياً ظلَّ صامتاً ستة أشهر، إذن فيمَ المعارضة والامتناع عن البيعة؟ ولماذا؟ وكيف يطلب من الناس تأييده وتصديقه وهو لا يدفع الحجة بالحجة، ولا يقمع البرهان بالبرهان؟ وحينما أُوتي به إلى الجامع، وأُرغم على البيعة، ماذا قيل له؟ وماذا قال؟

انّ كتب التأريخ السنيّة هنا أيضاً ساكتة!

مع أن من البديهي بحسب منطق الأحوال والمناسبات ان كلاماً طويلا وحاداً جرى بين الامام وقوى الحكم، لكن كتب التأريخ أهملت ذلك.

لقد كان من الممكن والمعقول الثقة بكتب التأريخ السنيّة والاعتقاد

الصفحة 30
بموضوعيتها لو أنها لم تذكر فقط الاحتجاج بالنصوص، فقد نقول انه لا وجود لهذا الاحتجاج، أما وهي تهمل ذكر أي مكالمة ومناقشة جرت بين الامام وقوى الحكم مع أن ذلك أمرٌ غير محتمل في نفسه فانه لا يبقى حينئذ مجال للثقة باستيعاب هذه الكتب للحقائق التاريخية وموضوعيتها في النقل.

ثالثاً: على ان هناك حقيقة ثابتة باعتراف علماء ومؤرخي أهل السنّة أنفسهم وهي حقيقة اجتناب كتب التاريخ السنّي عن ذكر ما جرى بين الصحابة من المشاحنات والمنازعات ومحاولة مسحه من صفحة التأريخ، حتّى قال (ابن حجر):

" صرّح أئمتنا وغيرهم في الأصول بأنه يجب الامساك عمّا شجر بين الصحابة رضي الله عنهم... "(1).

كما قال الامام الغزالي:

" ويحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكاياته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فأنه يهيج على بغض الصحابة والطعن فيهم... "(2).

وعلى هذا الأساس جرت طريقتهم في كتابة التأريخ.

فنجد الطبري مثلا حين يتعرض لذكر حوادث سنة 30 للهجرة يقول:

" وفي هذه السنة أعني سنة 30 كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية ايّاه منها إليها، أمور كثيرة كرهت ذكرها ".

ويقول: " رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة، كرهت

____________

1- هذا النص والنصوص الآتية بعده نقلها العلامة الاميني عن مصادرها في كتابه الغدير.

2- احياء علوم الدين، الغزالي.


الصفحة 31
ذكرها... "(1).

وقد جرى على طريقته سائر المؤرخين حتّى صرّح ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) بأنه لا يزيد على ما ذكره الطبري فيما متعلق بأحوال الصحابة.

قال: " فلمّا فرغت منه ـ تاريخ الطبري ـ أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعته وأظفته إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه ووضعت كل شيء منها موضعه الاّ ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله (ص) فانّي لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً الاّ ما فيه زيادة بيان أواسم انسان أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله ".

وفي هذا المعنى أيضاً قال ابن خلدون في مقدمته:

هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة أو ردتها ملخصةً عيونها ومجامعها من كتب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فانه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمة من خيارهم وعدولهم من الصحابة والتابعين ".

وتمشياً مع هذه الطريقة حمل الكثير على ابن قتيبة، وطعنوا فيه أشدَّ الطعن لأنه ذكر قليلا مما جرى بين الصحابة.

فقد قال فيه ابن العربي في العواصم:

" ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال، فأما الجاهل فهو إبن قتيبة فلم يبق ولم يذر للصحابة رسماً في كتاب الامامة والسياسة إن صح عنه جميع ما فيه ".

كما قال فيه ابن حجر في الصواعق:

____________

1- انظر تاريخ الطبري، حوادث سنة 30 للهجرة.


الصفحة 32
" كان ينبغي له ان لا يذكر تلك الظواهر، فإن أبى الاّ ذكرها فليبيّن جريانها على قواعد أهل السنّة حتّى لا يتمسك مبتدع أو جاهل بها ".

إذن فهناك ظاهرة تعم معظم كتب التأريخ والحديث لأهل السنّة وهي عدم التصدّي بالذكر لكل ما من شأنه الكشف عن مخالفات الصحابة واعتراضاتهم ومنازعاتهم، والاهمال عن عمد لكل ما يصطدم مع المعتقد السنّي في الامامة والصحابة.

وجرياً على هذه الطريقة لا يكون من المستبعد ـ من وجهة النظر الموضوعية في دراسة التاريخ ـ أن الامام علي (ع) وشيعته قد جهروا بالنص، وحاججوا به وابرزوه في الصراع الدائر حول الامامة الاّ ان أقلام المؤرخين ـ أو بالاحرى كثير من المؤرخين ـ هي التي أعرضت عنه عمداً. وعلى هذا الأساس أيضاً لا يكون عدم تعرض المؤرخين لاحتجاج الامام وشيعته بالنصوص داعياً للشك في وجودها واحتجاج الامام بها، بعدما أوردتها كتب الشيعة ودلَّت عليها قرائن الأحداث السياسية.

رابعاً: وزيادة على الملاحظات السابقة، فان احتجاج الامام (ع) بالنص قد سجّل في عدد من كتب التاريخ والحديث لأهل السنّة، وليس من الصحيح القول بأن كتب التأريخ والحديث السنّي فارغة تماماً من ذلك أيضاً(1).

آراء أُخرى في نشأة التشيع:

وهناك عدد من الباحثين ينكر أن يكون التشيع قد نشأ على عهد الرسول (ص)، وظهر عملياً وبشكل حركي بعد وفاته.

وهؤلاء بالطبع مسؤولون عن أمرين:

____________

1- راجع في ذلك مجموعة المصادر السنّية التي نقل عنها السيد شرف الدين في مراجعاته.


الصفحة 33
أولا: الاجابة على البراهين التأريخية الدالة على وجود فكرة التشيع في عصر الرسول (ص)، وتبنّي مجموعة من الصحابة لها فيما بعد وفاته، كما أسلفنا الحديث عنه مفصلا.

فكيف يفسرون التفاف جملة من الصحابة بالامام، واستعدادهم للفداء والتضحية واحداث أخطر معركة في الإسلام؟

وكيف يفسّرون الايمان بالنص الذي عبّرت عنه جملة كثيرة من كلماتهم إن لم يكن هذا هوالتشيع؟ انه ما لم تناقش تلك القرائن والبراهين التاريخية، يكون بلا مبرر وبعيداً عن الصواب تماماً إفتراض بداية اُخرى للتشيع، ومحاولة إقامة القرائن عليها.

والذي بدا لي من خلال تتبع كتابات هؤلاء الباحثين، أنهم إنصرفوا لاكتشاف بداية تاريخية متأخرة كان المفروض عليهم قبل ذلك نقد الأدلة التي يستند إليها رأي الشيعة، ثم البحث في اكتشاف بداية أخرى.

ثانياً: ويكون من مسؤولية هؤلاء الباحثين ثانياً اكتشاف البداية التاريخية للتشيع، بعد رفض أن يكون التشيع قد وجد نظرياً على عهد الرسول وعملياً بعده مباشرة.

وفي هذا الصدد وجدت عدة آراء لتحديد البداية التاريخية، نستعرض هنا أهمها.

الرأي الأول: أيام خلافة عثمان بن عفان:

في ضوء هذا الرأي تعتبر الاضطرابات أيام عثمان هي الأرض التي غرست فيها بذرة التشيع، على يد عبد الله بن سبأ.

فالتشيع بمعنى الايمان بالنص على علي، واستخلافه بوصية من الرسول لم يظهر في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر إنّما كانت الدعوة إليه من قبل أصحابه

الصفحة 34
تعبيراً عن رأي سياسي شخصي قائم على أساس الايمان بأفضليته، وكانت فترة حكم عثمان، وحدوث الاضطرابات، هي الفترة التي ظهرت فيها فكرة النص والوصاية لعلي، على يد رجل اسمه عبد الله بن سبأ.

أمّا من هو عبد الله بن سبأ؟ الذي يفترض في هذا الرأي أنه واضع التشيع ومؤسسه.

اصحاب هذا الرأي يذكرون انه شخص يهودي، أظهر الإسلام أيام عثمان، واندسَّ بين المسلمين متنقلا هنا وهناك، في الشام ومصر والكوفة والبصرة، زاعماً أن علياً وصي محمد (ص) وان لكل نبي وصي، وتذكر بعض المصادر ان هذا الرجل كان عصب الحركة ضد عثمان، والعمود الفقري لها فقد أظهر الطعن فيه، وأثار الناس عليه، وأغرى بذلك جملة من الصحابة فيهم أبي ذر الغفاري (رض).

ومما يذكر هؤلاء عن هذه الشخصية أنها هي التي أوقعت بين علي وطلحة والزبير، فقد كان عبد الله بن سبأ وجماعته يرقبون الأحداث.

وحين رأوا ان الفريقين إقتربا من الصلح أسرعوا لاعلان الحرب واستغفال الامام من جهة وطلحة والزبير من جهة اخرى عن حقيقة الأمر، ولولا ذاك لعاد الفريقان غير مختصمين.

وإلى هنا تقريباً تنتهي رواية المؤرخين عن هذه الشخصية....

أمّا الكتّاب المحدَثون والمستشرقون أيضاً فقد عبروا عن شكهم البالغ في هذه الشخصية، وما إذا كان حقيقة، أم اسطورة تاريخية مكذوبة، وقد اقتربوا نحو اتهام المؤرخين في اختلاق هذه الشخصية ونسج خيوطها.

ولئن كانت لهذه الشخصية حقيقة ووجود، فهي دون ما يصوّره هؤلاء المؤرخين، وأقل من أن يكون لها هذا الدور التاريخي الخطر والتلاعب بعقول المسلمين وفيهم كبار الصحابة ومعظمهم.

فقد اعتبر الدكتور طه حسين هذه القضية متكلّفة ومنحولة، أراد خصوم

الصفحة 35
الشيعة بها أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً، إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم.

كما ان الأستاذ الصالح إعتبر التفكير في هذه القضية ـ قضية عبد الله بن سبأ ـ ساذجاً وسخيفاً(1).

وهكذا فان المؤرخين هم المسؤولون عن اختلاق هذه الشخصية، أو التصعيد من دورها وأثرها على التاريخ الإسلامي كلا.

هناك عدة ملاحظات هي التي دعت الباحثين المحدثين إلى الشك في هذه الشخصية:

أولا: لوحظ ان رواية المؤرخين مضطربة في شرح عقيدة هذا الرجل ومقالته. فبعضها تنسب إليه تأليه علي، بينما في الوقت ذاته تنسب إليه القلوب بان علياً وصي الرسول (ص) كما انها مضطربة في نسج أدوار هذه الشخصية، فبينما هو رأس الفتنة في مقتل عثمان، وفي حرب الجمل، إذا به ينعدم تماماً في حرب صفين ويهمل المؤرخون ذكره....

وبينما يذكر المؤرخون ان علياً احرق السبئيين الذين ألّهوه إذا به يعفي ابن سبأ من هذه العقوبة ويطلق سراحه... وبينما يذكرون انّ هذا الشخص هو رأس الدعوة لعلي، إذا بمعاوية ـ في روايتهم ـ يفكّه من العقال، ويعفيه من أي عقوبة....

كما لوحظ ان المصادر التاريخية المهمّة لم تذكر هذه الشخصية في الخلاف على عثمان " فلم يذكره ابن سعد حين قصّ ما كان في خلافة عثمان وانتقاض الناس ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف " وإنّما ذكره الطبري ونقل عنه الآخرون.

____________

1- اليمين واليسار في الإسلام: عباس الصالح.


الصفحة 36
ثانياً: ولوحظ ان رواية المؤرخين تنسب لهذه الشخصية ادواراً لا يمكن التصديق بها. فهي لا تتناسب ولا تنسجم مع الوضع الشخصي لهذا الرجل ومع الوضع العام لمجموع المسلمين والصحابة فاذا كان هذا الرجل جديد العهد بالاسلام فكيف استطاع ان يتغلغل في أوساط المسلمين أو يشيع فيهم الفتنة؟

وكيف استطاع أن يخدع ويؤثر على كبار الصحابة أمثال أبي ذر الغفاري وكيف استطاع أن يورّط المسلمين في حرب ضارية هي حرب الجمل. ويستغفل حتّى علي بن أبي طالب؟

وفي هذا يقول طه حسين:

" ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا، أنه هو الذي لقّن أباذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال الله....

وما أعرف اسرافاً يشبه هذا الاسراف فما كان أبوذر في حاجة إلى طارئ محدَث في الإسلام ليعلّمه ان للفقراء على الأغنياء حقوقاً ".

ثالثاً: ومما يلاحظ أيضاً ان رواية المؤرخين في قصة عبد الله بن سبأ في سلسلة رواتها إلى (سيف بن عمرو) وهو شخص شهد عليه علماء الرجال بالكذب والافتراء. فهو "ضعيف الحديث" و "متروك الحديث" و "ليس بشيء" وبعض أحاديثه مشهودة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها. و " كان يضع الحديث " و " متروك أتهم بالزندقة "...(1).

وعلى ذلك لا يبقى أي مجال للوثوق بروايته.

ومن مجموع هذه الملاحظات أيضاً لا يصح الاعتماد على رواية المؤرخين في قصة ابن سبأ، وبذلك ينتفي الأساس الذي يستند إليه هذا الرأي في نشأة التشيع.

____________

1- اُنظر "عبد الله بن سبأ" للعلامة السيد مرتضى العسكري.


الصفحة 37
أما عن سبب اختلاق المؤرخين لهذه الأسطورة فقد حاول بعض الكتاب الاعتذار لهم بالقول: " ان ما حدث من الفتن بين الصحابة تصدم وجدان المسلم، فكان لابد أن تلقى مسؤولية هذه الأحداث الجسام على كاهل أحد، ولم يكن من المعقول أن يتحمل وزر ذلك كله صحابة أجلاء أبلوا مع رسول الله (ص) بلاء حسناً، فكان لابد أن يقع عبء ذلك كله على ابن سبأ... "(1).

ومهما يكن القول في صحة هذا الاعتذار، فأنه في الحقيقة لا يخدم قضية الصحابة اكثر مما يسيء لهم، فأنه يجعل منهم ألعوبة رخيصة بيد متطفل على الإسلام، يصرّف أمورهم كيف يشاء!!

الرأي الثاني:

ويرى فريق آخر من الكتاب ان التشيع ظهر كرد فعل لحركة الخوارج بما عبّرت عنه من مفاهيم وتصورات. فرغم انها حركة سياسية في الحقيقة الاّ انها اتخذت بعض الشعارات والاُطُر الفكرية العقيدية مما اضطر شيعة علي والموالين له إلى اصطناع أفكار وتصورات مقابلة تدعم ولائهم لعلي. أما قبل هذا التاريخ فلم يكن للتشيع معنى يزيد على الولاء والنصرة لعلي.

" وهكذا أنكر الخوارج الامامة فأوجبها الشيعة، واستبعد الخوارج تحكيم الرجال فأقرّ الشيعة ولاية الامام. كفَّر الخوارج علياً فقدَّسه الشيعة... ".

وواضح ان هذا الرأي لا يعتمد على سند تاريخي، بمقدار ما يستشهد بالتقابل بين تصورات الشيعة والخوارج، ورغم انا نعترف بهذا التقابل الاّ ان ذلك لا يكون شاهداً على تأخر ميلاد التشيّع عن حركة الخوارج، ولماذا لا يكون العكس هو الصحيح في ضوء مقياس التقابل؟ الحقيقة ان التشيع في جوهره، ومحتواه العام،

____________

1- نظرية الامامة: احمد محمود صبحي.


الصفحة 38
الذي هو الايمان بالنص على الامام، وُجد قبل هذا التاريخ وكان الرسول (ص) هوواضع بذرته كما أسلفنا القول فيه مفصلا.

نعم لم يتم وضع التشيع في قوالب فكريّة، وصياغات عقلية محدّدة الاّ في القرن الثاني الهجري حيث ظهرت حركة المتكلمين العقلية، وحاولت إعادة بناء المعتقد الديني من جديد على أسس وبراهين نظرية عقلية وكان للتشيع بالطبع نصيب في هذه المحاولة الاّ أن ذلك ليس معبّراً أبداً عن البداية التاريخية للمذهب، ما دامت أصول الجوهرية موجودة قبل هذا التاريخ.


الصفحة 39

(3)
عصر الرسول (ص) دور وضع النظرية


خطوط عريضة:

هناك حقيقة مطلقة يعرفها الرساليون، كما يعرفها غير الرساليين.

حقيقة مطلقة وقديمة بقدم تاريخ الحركات الانسانية الهادفة.

انّ كل الرسالات، الأحزاب، الحركات، الجبهات، تحتاج إلى قيادة، وطليعة، وجماهير. قيادة مؤسّسة، وطليعة واعية، ووسط شعبي جماهيري مؤيد ومساند.

وغير الرساليين كالرساليين يدركون ضرورة اهتمام القيادة ـ أي قيادة كانت ـ بخلق الفئة الطليعة. ضرورة التركيز على أصحاب اللياقات والكفاءات واحتضانهم بغية جعلهم الطليعة الواعية التي تستوعب أهداف ومفاهيم الرسالة جيداً. وتساهم في التخطيط لها.

وبقدر ما يكون مهماً توسيع نطاق الوسط الشعبي المؤيد والمؤمن بالرسالة، يكون مهماً انتقاء الطليعة من ذلك الوسط وتصعيد مستوى استيعابها للرسالة، وتنمية استعدادها للعمل والتضحية من أجل الرسالة. هذه حقيقة مطلقة واحدة

الصفحة 40
وهناك حقيقة ثانية:

انّ اهتمامات الرسالة ـ أي رسالة كانت ـ تتحجم وتتحدد ـ تبعاً لحجم أهدافها ومداها الزماني والمكاني. فالرسالات الاقليمية والمحليّة لا تتجاوز في اهتماماتها وطموحاتها دائرة الاقليم والمحلّة، كما أن الرسالات المرحلية والمؤقَّتة هي الأخرى تطوي نفسها على مرحلتها، وتفكر في حدود ما تتسع له أبعاد تلك المرحلة. وكلَّما تجاوزت الرسالة الحدود الزمانية والمكانية وامتدت في طموحاتها لخارج دائرة الاقليم أو المرحلة كانت اهتماماتها ومحطّات أنظارها وحدود مسؤوليتها أكبر بالطبع ومتجاوزة لدائرة الاقليم والمرحلة أيضاً.

فهي تنظر لحاضرها كما تنظر لمستقبلها، وهي تنظر لمنطقتها كما تنظر للمناطق الأخرى وبالأحرى تكون مرحلتها هي الحاضر والمستقبل، ومنطقتها هي كل المناطق التي يمتد إليها طموح الرسالة وان تجاوزت المحلّة والاقليم.

وأيضاً غير الرساليين كالرسالييين يدركون هذه الحقيقة، مع الاختلاف في العمق. والإسلام رسالة من تلك الرسالات ـ يفكر بعقليتها ـ ويخضع لقوانينها، يفكر بعقلية رسالية مبدئية ويخضع لقوانين ومسؤوليات الحركة الرسالية المبدئية والإسلام رسالة إنسانية مطلقة، لا إقليمية ولا مرحليّة.

رسالة للانسان حيث وُجد الانسان، في إمتداد الزمان، وفي إمتداد المكان.

رسالة يتّحد حاضرها بمستقبلها فيكون زمانها الزمان كلّه ويكون جيلها الأجيال كلها، رسالة يتحد أُفقها ليدخل فيه ابن العرب وابن العجم، ابن الريف والمدينة، ابن آدم هو الحد المكاني والزماني لهذه الرسالة.

هذا على مستوى الطموحات، فما هو حجم الاهتمامات؟

رسول الله (ص) خاتم الأنبياء هو قائد تلك الرسالة، فأين الطليعة؟ وأين

الصفحة 41
الشعب؟

الرسول (ص) إذن لابدّ أن يفكر في حاضر تلك الرسالة ومستقبلها، في اُولى مراحلها وفي ثاني مراحلها، فالزمان كله لها، والأرض كلها ساحتها. والقائد إذن لابدّ أن يفكر في الخط الثاني الذي يقف بعد خط القيادة وهو الطليعة التي تحمي حاضر الرسالة، وتضمن مستقبلها.

فهو... مهما امتد به العمر واتسعت له القدرة، لا يعيش عمر الرسالة كله، ولا يغمر أرض الرسالة كلها.

إنّما الطليعة هي المذخورة للامتداد بالرسالة إلى الجيل اللاحق ثمّ الأجيال التالية. والأمة كلّها وبمجموعها لا يمكن أن تكون هي الطليعة وهي الخط الثاني بعد القيادة أو هي القيادة الثانية، الأمة ـ وان اشتركت في الإسلام ـ لكنها تجمع أنماطاً مختلفة في النفسيات والطموحات والارتباطات والعقليات;

والقائد يجب أن يوفّر للأمّة الحدّ الأدنى من الوعي الرسالي، لكنه غير قادر على أن يجعلها كلها بمستوى الطليعة، لماذا غير قادر...؟

لأن الفواصل بين إنسان الجاهلية وإنسان الإسلام كبيرة جداً، واجتياز هذه المسافة لا يمكن أن يحدث بطفرة وإنّما يحتاج إلى زمن أطول وممارسة أكثر.

الفواصل بين الجاهلية والإسلام هي الفواصل بين منتهى الضحالة ومنتهى السمو، بين أعمق الانخفاضات وأعلى القمم. بين الانسان الانساني وبين الانسان المادي، الاقليمي، المصلحي، المراوغ الأناني.

وهؤلاء المسلمون الذين أسلموا قبل الفتح أو بعده والذين دخلوا الإسلام عن رغبة أو عن إكراه وبدوافع شخصية، وأهداف ضيقة أو دوافع رسالية وأهداف رحبة.

هؤلاء.. معظمهم قضوا أنصاف أعمارهم في الجاهلية، حيث الضحالة

الصفحة 42
والعفونة والأوئبة في الأفكار والأهداف والنفسيات، وحيث النظرة الضيقة المنحدرة والهدف الرخيص المريض.

أنصاف الأعمار أو أكثر من أنصاف الأعمار ـ وأحياناً أقل ـ قضيت في هذه المستنقعات وسبحت فيها وجاء الإسلام ثورة في كلّ الأصعدة والآفاق، ثورة في الفكر والنفس والخلق، ثورة في النظرة والطريقة، النظرة إلى الكون والحياة والانسان، وطريقة السلوك والتعامل في الحياة.

وانتقل هؤلاء ـ بعد تشبّع وامتلاء إلى الأعناق بالتفكير والسلوك الجاهلي ـ إلى الإسلام حيث النقاء والنزاهة والرحابة ـ وحيث الاُفق الانساني المنفتح والهدف العالي العظيم لقد نطقوا بالشهادة واعترفوا بالشعار (أشهد أن لا اله الاّ الله وأن محمداً رسول الله) وكان مفروضاً أن تجري معهم عملية مسح وغرس، مسح لكل القيم والترسبات والتعقيدات الجاهلية، ردم الانخفاضات والثغرات والانحدارات، ثم عملية غرس مقارنة أو متأخرة عن ذاك المسح، غرس للقيم، والخُلق، والمُثل، والتصورات الانسانية الإسلامية.

وما تحتاجه عملية الغرس ليس بأقل مما تحتاجه عملية المسح من جهود وزمن.

انّ الارتواء التام بالسائل الجاهلي يحتاج إلى تجفيف تام، وهو لا يكون الاّ في مدّة بطول مدّة الارتواء وأكثر منها. وبعد التجفيف لابدّ من إرواء جديد بالسائل الإسلامي النقي.

ماذا يقدر رسول الله (ص)؟ وهو لا يملك بعد تكوين الأمة والمجتمع الاّ عشر سنوات، عشر سنوات فقط. تعامل فيها مع المسلمين كأمة ومجتمع، منذ انتصارات الهجرة إلى الوفاة، منذ وضع الحجر الأساسي في المدينة وإلى الارتحال عن الدنيا.

وهي عشر سنوات مملوؤة بالمعارك، وهموم المعارك، ومشاكل ما قبل وما