الصفحة 43
بعد المعارك، عند الانتصار وعند الهزيمة، عند الاعداد للحرب وعند الرجوع من الحرب.

أكثر من ثمانين غزوة ومعركة خاضها المسلمون خلال هذه الفترة، وبالتقسيط، فأن ثمان معارك تحدث في كلّ سنة ثمان معارك بكل ما فيها وما لها وما عليها، إعداد وتعبئة واستشارة وتوجيه، وإقدام وإحجام، وإنتصار وهزيمة، وموت وحياة، وأفراح وحسرات، ودموع وضحكات كلها في سنة واحدة.

لقد كان ذلك من رسول الله (ص) بمثابة المعجزة، كيف حقق ذلك؟ وأي جهد بذله في ذلك؟ وما هو حجم المعاناة؟

بالزخم الروحي والرسالي استطاع ذلك، وبالتعبئة والشحن المستمر صنع ذلك، لكن الزمن نفسه لا يستوعب جهداً يستغرق زمناً أطول، وإن عشر سنوات لا يمكن أن تكون مئة سنة، ولا رسول الله (ص) قادر على تمديد الزمن، والرسالة التي بيده ضخمة ضخمة، وعشر سنوات كالتي شرحنا لا تتسع الاّ لنسج خيوطها الاولى، والاّ لرسم صورة تخطيطية عنها، ولا أكثر من ذلك، فلا الرسول قادر ولا أتباعه، ولا الزمن يقبل. كان على النبي (ص) أن يعبئ الأمة بالوعي الرسالي، والحماسي الرسالي، أمّا أن يجعلها الطليعة فلم يكن في مقدوره ولا كان.

من حقي أن استشهد على ما أقول، فأذكر يوم اختلف المهاجرون والأنصار على تقسيم الغنائم، واتهموا النبي (ص) بأنه قد مال إلى قومه حين وزَّع الغنائم على المهاجرين فثارت ثائرة الأنصار. كما أذكر انهزام المسلمين في معركة اُحُد وزعزعة ثقتهم بالرسالة حينما نادى المنادي (قتل محمد!).

ذاك على مستوى المفاهيم، والتصورات، وأصل العقيدة حيث سرى إليها الشك.

وعلى مستوى التشريع كان النقص في الفهم والاستيعاب مماثلا.

اختلفوا في كيفية التشهد في الصلاة إلى ثمانية أقوال.


الصفحة 44
واختلفوا في كيفية الوضوء.

واختلفوا في عدد التكبيرات في صلاة الميت.

واختلفوا هنا وهناك، في أحكام الميراث، والقصاص، والحدود، والعقود، والزكاة، والصيام والأموال والأراضي وغيرها.

أليس عجيباً، هذه الصلاة التي مارسوها كل يوم، وخمسة مرات في اليوم، والوضوء الذي مارسوه كذلك، وإذا هم فيه وفيها مختلفون، فكيف في الباقي.

انّ ذلك ينبؤنا عن حقيقة ويؤكد لنا حقيقة.

ينبؤنا عن مستوى إتكال المسلمين على الرسول (ص) في قضايا الشريعة، وعدم الرغبة في استيعابها احتياطاً وتحفظاً للمستقبل.

ويؤكد لنا أن الرسول (ص) لم يجد قدرة على تلقين الأمة، والوسط العام بفاصيل وبنود وأحكام الشريعة; حيث لم تكن الأمة جادّة في معرفة ذلك. فيما كان قادراً على بناء الطليعة التي تستوعب الرسالة، وتقف بعده في الخط لتشرح للأمة تفاصيل رسالتها.

إذن كان على الرسول بناء الطليعة، وربط الأمة بها، والتهيئة لزعامتها بعده، وهذه مهام ثلاثة نحاول أن نقف عندها.

المهمة الأولى: بناء الطليعة:

الشي الذي يجب توفيره وتحقيقه في الطليعة هو: استيعاب الرسالة نظرياً وتجسيدها سلوكياً، وأن تبلغ في الوعي والاخلاص بمستوى يؤهلها لمحمل أعباء الرسالة، وتزعّم تجربتها بعد الرسول.

إنّ المهمة التي تقع على عاتق الطليعة هي أن تخطو بالرسالة الخطوة الثانية والثالثة والرابعة، وهكذا الخطوة الأولى كانت للرسول (ص)، وهي بناء المجتمع الإسلامي، ورسم الأسس الأولى له. وعلى الطليعة تقع مسؤولية تعميق الرسالة في

الصفحة 45
داخل هذا المجتمع والعمل على توسيعه وكسر الأسوار المحيطة به.

وباختيار الفئة الطليعة، وتأهيلها لقيادة التجربة، وتحقيق الخطوة الثانية يكون الرسول (ص) قد أدى كل مهمته، ويكون قد بلّغ رسالته أكمل التبليغ، ومن هذه الزاوية بذل الرسول (ص) جهداً كبيراً في إعداد الطليعة بمستوى مهماتها المستقبلية. والحقيقة انه بمقدار ما كانت المهمات صعبة وخطرة، كان إعداد الطليعة بحاجة إلى جهد أكبر، ومعاناة أكثر من قبل.

النضج الذاتي:

وكانت ظاهرة (النضج الذاتي) هي الخاصية التي إشتهر بها الطليعة، ويبدو أن تلك الظاهرة كانت شرطاً من شروط الوصول إلى المستوى الطلائعي.

لماذا النضج الذاتي؟

النضج الذاتي يعني التفوق الذاتي والقبلي على خُلُق الجاهلية، وعدم الاستنقاع فيه. كما ويعني الشعور بانخفاض وانحراف الفهم الجاهلي كله وضرورة التحول عنه وانقاذ الانسانية من مآسيه.

رسول الله (ص) نفسه كان يحمل قمة هذا النضح، قبل أن يُبعث وقَبل أن يكون رسولا.

وهو بهذا النضج القبلي والنقاء المسبق، استطاع أن يلتحم مع رسالته فيما بعد ويصوغ وجدانه وأخلاقه وفهمه وسلوكه فيها.

انه بمقدار الابتعاد قبلا عن الخُلُق والفهم الجاهلي يكون الاقتراب من مفاهيم الإسلام وقيمه ميسوراً.

وبالعكس كلما كان التشبّع بالقيم الجاهلية اكبر، كان الالتحام مع مفاهيم الإسلام وتمثلها أصعب. ومن هنا كان النضج الذاتي شرطاً في اختيار الطليعة. انهم بذلك يكونوا أقرب إلى مفاهيم الرسالة وتجسيد قيمها، وانضج في استيعابها ووعيها، والمهمة التي يُعدَّ لها الطليعة تتطلب كل ذلك، تتطلب إنصهاراً تاماً بالقيم ووعياً كاملا للطموحات وشعوراً متفاقماً بالمسؤولية يمكّنهم من مواصلة خط

الصفحة 46
التجربة الإسلامية. وفي كل أفراد الطليعة كان النضج الذاتي المسبق موجوداً كما كان موجوداً عند الرسول (ص) نفسه، على اختلاف في درجة العمق والوضوح.

من هم الطليعة؟

لسنا نحن الذين نعيّن الطليعة، إنّما الرسول هو الذي عيَّنهم واختارهم، ودورنا أن نكتشف هؤلاء الشخصيات. إن دراسة علاقة الرسول بأصحابه هي التي تهدينا لمعرفة الطليعة منهم.

وفي هذا الضوء يمكن اعتبار (علي وسلمان وأبي ذر وعمار) هم الطليعة المختارة والمعدّة لمواصلة خط التجربة الإسلامية، وربما أمكن أن نلحق بهم حذيفة بن اليمان والمقداد.

ان خاصية النضج الذاتي واضحة في هؤلاء، الأمر الذي يفسر لنا سرّ اختيارهم من قبل الرسول وإعدادهم شخصياً. كما يفسّر لنا عمق وجودهم في الإسلام والتحامهم مع الرسالة، فهماً وسلوكاً وخلقاً.

طبيعي انني لا اُريد هنا الترجمة لهؤلاء، ودراسة أطوار حياتهم ـ قبل الإسلام وفي الإسلام مع رسول الله (ص) وبعده ـ إنّما اُلفتُ النظر إلى خاصية النضج الذاتي فيهم.

أمّا علي (ع) فاعتقد انّ الحديث عنه تكرار في القول وزيادة فيما لا مزيد عليه، فهو وحده بين المسلمين جميعاً الذي لم يتلطخ بأدران الجاهلية، ولم يتدنس بقيمها ومفاهيمها.

ولذا فاني أتحدث عن الآخرين.

أتحدث عن سلمان الفارسي، وعمار، وأبي ذر.

المؤرخون يذكرون أن سلمان الفارسي عَبَد الله وأخلص له قبل الإسلام، وأنه قضى عمراً طويلا باحثاً عن النبي الجديد، الذي اُنبئ بقرب ظهوره، وهو بهذه الغاية تحمَّل كل المعاناة، ولم يمنعه حتّى الأسر من أن يواصل بحثه الجاد عن النبي

الصفحة 47
الجديد.

انّ الشعور من الأعماق، بفساد واقع ما قبل الرسالة، وضرورة التحوّل عنه، إلى قيم جديدة ومفاهيم جديدة، وطريقة ا جتماع جديدة، هذا الشعور هو الذي لا يترك لسلمان قراراً، ويدعوه لأن يغامر ويجازف بحياته وحريته. فهو رسالي قبل الرسالة، وهو عميق، وداعي، ومتبصر، قبل أن يسمع دعوة النبي (ص)، وحتّى قبل أن يبعث رسول الله (ص).

حقاً كثيرهم الذين قاسوا مرارات الوضع اللاانساني وعانوا مآسي القيم والمفاهيم المنخفضة المريضة لكن من كان منهم يملك الارادة، والتصميم؟

من كان منهم يتسع في تصوراته وطموحاته ويتجاوز الطوق الجاهلي؟

اكثر الذين شعروا بالآلام، والمآسي، كانوا كالنعامة، تدفن رأسها في التراب حين تشعر بالخطر، وهؤلاء كانوا يشعرون بالنقمة لأنهم مظلومون، ومضطهدون، ومسحوقون شخصياً، ولا يتسع اُفق تفكيرهم لأكثر من هذا، لتفنيد الأسس المفهوميّة للوضع القائم، ولا ينهض لهم طموح في الخروج عليه.

أما الأبطال التاريخيون فهم الذين يشعرون بالألم، ويطمحون لتغيير أساسي، هم يشعرون بالألم وربما ليسوا مألومين شخصياً، وإنّما يحملون ألم الطبقات المضطهدة والمنكوبة، وهم يشعرون بالألم ويتحملون المآسي، لكن بلا انهيار، وبلا تنازل، وإنّما تصميم على الانقضاض والتغيير والنسف للمبادئ المنحرفة كلها.

وهكذا فان سلمان ـ على ما يحدّثنا عنه المؤرخون ـ لم يكن بوضع تعيس عائلياً بل كان يعيش في عائلة مرفّهة، لكنه كان بطلا تأريخياً، كان يحمل في صدره هموم المظلومين المحرومين، هموم الواقع الأسود الأسود، انظروا لقد تنقل بين فارس ودمشق والموصل ونصيين وعمورية، ثم مكّة حيث التقى برسول الله (ص) وأسلم على يده. أليس هو رسالي قبل الرسالة؟


الصفحة 48
أمّا أبوذر فهو من نفس الطراز الرائع، طراز الرجل الرسالي الانساني الطموح.

أيضاً أجمع المؤرخون على أنه عَبَد الله مخلصاً قبل الإسلام، وهو كما كان سلمان، لم يعبد الله كما يعبده اليهود، وكما يعبده النصارى يومذاك، لقد عبد الله مخلصاً مخلصاً. بعيداً عن كل التعقيدات والتحريفات والضلالات. هو يحدّث: " صلّيت ـ يا ابن أخي ـ قبل أن القى رسول الله (ص) ثلاث سنين وحين سأله: أين تتوجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله ".

وكما كان سلمان كان أبوذر شغوفاً في معرفة أمر الرسول الجديد. لأنه يحمل الأهداف الرسالية، ويعي ضرورة الثورة والتغيير.

اُنظروا: " بايع النبي (ص) على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى الحق وان كان مرّاً "(1).

أليس هذا دليل النضج الذاتي؟ وميزة البطل الرسالي؟

ولقد كان عمّار بنفس هذه المزايا والطموحات تألم، ووعي، وتصميم. وهذا هو النضج الذاتي قبل الرسالة.

لقد كان يترصَّد هو وأبوه أمر النبي الجديد الذي شاع أنه سيظهر لكنه لم يكن يترصَّد كما يترصَّد الأحبار والرهبان. كان يترصد لأجل الإنتماء، لأجل الإنضمام إلى الحركة الاصلاحية، إلى الرسالة الجديدة وكان يحدِّث أباه ويحدّثه أبوه بأخطاء الكيان الجاهلي التعيس، وكان يحدّث أباه كما يحدّث نفسه بالانتفاضة، بالنهضة، بالحركة الهادفة الاصلاحية، ومع أُناس من هذا القبيل تكون دعوة الرسالة مسموعة، ومقبولة بأسرع ما يكون القبول.

فهؤلاء أصحاب النضج الذاتي كلهم سابقون إلى الإسلام.

____________

1- اُسد الغابة في معرفة الصحابة.


الصفحة 49
كان عمّار من الثمانية الذين أسلموا أوّلا بأول ـ وكان أبوذر رابع أربعة أو خامسة خمسة في الإسلام، وكان سلمان من السابقين ـ كما يذكر المؤرخون ـ أما علي فهو أول المسلمين بالطبع.

والذي يُلفت نظرك في هؤلاء الطليعة أنهم سابقون للإسلام رغم انهم بعيدون عن مكة، وإنما قصدوها للإسلام. أية عظمة لمثل هذا الدخول في الإسلام والاعتناق لمبادئه!!

ربما يكون غير هؤلاء من السابقين أيضاً، لكنهم كانوا يعيشون مع النبي، وأسلموا بدعوة من النبي، أمّا هؤلاء فهم دعوا أنفسهم للإسلام، أليس عظيماً؟!

الإعداد الرسالي:

يظهر من مجموع الروايات ان الرسول (ص) اختص هؤلاء بعناية فائقة، ميّزهم بها عن سواهم، وهذا هو الذي دعانا إلى اعتبارهم الطليعة التي أعدّها الرسول الأكرم (ص) لتحمّل مسؤولية الرسالة بعده، كما دعانا إلى هذا الاعتبار أن الرسول (ص) ربط الأمة بهم، وأمر بلزوم طريقتهم كما سيأتي. وعلى أي حال فالدلائل كلها تشهد أن الرسول (ص) كان حريصاً على أن يضع كل الرسالة بيد هؤلاء، وعلى أن يتابع تربيتهم وإعدادهم خطوة فخطوة، ولعلنا نعرف بالضبط ما الذي دعا الرسول إلى ايثار هؤلاء، فان النضج والاخلاص والاندماج بالرسالة الذي يتمتع به هؤلاء كاف لتفسير هذا الإيثار.

وصور العناية بهؤلاء وتعبئتهم علمياً وروحياً وخلقياً مبثوثة في أكثر من مكان، ومظاهر الصلة والصداقة الحميمية بينه وبينهم تجدها حيث نظرت في صفحات تأريخهم.

لقد قال في عمّار: " انه لا يخيّر بين أمرين الاّ اختار أشدهما ".

وقال: " إن عماراً ملئ إيماناً إلى حشاشة ".


الصفحة 50
أما أبوذر: " فقد كان لرسول الله ملازماً وجليساً وعلى مسألته والاقتباس منه حريصاً والقيام على ما استفاد منه أنيساً وسأله عن الأصول وسأله عن الايمان والاحسان ".

وفي حديث ابي الدرداء:

كان رسول الله يبتدئ أباذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب وقد قال فيه: " ما اظلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر، فقال عمر: يا رسول الله: أفنعرف ذلك له؟ فقال: نعم فاعرفوه ".

وعن سلمان تحدثنا عائشة انه: " كان له مجلس عند رسول الله (ص) ينفرد به بالليل " وقد قال فيه (ص): " لقد أُشبعَ سلمان علماً ".

وحذيفة بن اليمان كان (صاحب سرّ رسول الله) باتفاق المؤرخين وأهل التراجم. وقد صار ذلك لقباً له وقد ورد في صحيح مسلم: " انّ رسول الله أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة ".

وقال فيه رسول الله (ص): " حذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن وأبصركم بالحلال والحرام ".

وقد ذكر المؤرخون أن رسول الله أعلمه بكثير من الغيبيات، وكان من علمه أنه يعرف المنافقين بأعيانهم، حتّى كان المسلمون يسألونه في ذلك.

وكان المقداد (صاحب رسول الله).

أما علي فالحديث عن صلته بالرسول، وملازمته له حديث عن الواضحات، ولقد كان واضحاً مثل وضوح الشمس ان علياً (ع) هو الوارث العلمي للرسول (ص) ولقد سئل ابن عباس: كيف ورث علي رسول الله؟

فقال: " لأنه كان أوَّلنا به لحوقاً وأشدّنا به لزوماً ".

وعن ابن عباس أيضاً: " كنا نتحدث أن النبي (ص) عهد إلى علي سبعين

الصفحة 51
عهداًلم يعهده إلى غيره ".

وعلي نفسه كان يقول: " كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحد من الخلائق، كنت أدخل على نبي الله كل ليلة، فان كان يصلي سبَّح فدخلت وان لم يكن يصلي أذِنَ لي فدخلت ".

وعنه أيضاً: " كان لي مع النبي مدخلان، مدخل بالليل، ومدخل بالنهار " لماذا اختصّ النبي علياً بذلك، وهل كان من باب الصدفة؟

النظرة التحليلية الشاملة تقنعنا في أن النبي كان يهدف إلى إعداده كاملا ووضع الرسالة كلها بين يديه وأمام عينيه، وكان يقصد ذلك قصداً، ويتعمده عمداً، فاذا سكت علي ابتدأ النبي، وإذا نفدت أسئلته تبرّع النبي بالعطاء.

وحين كان يقول: " أنت تبيّن لأمتي من بعدي " كان يعني حقيقة ما يقول. فالأمة لا تملك تفاصيل الرسالة ولا استعدّت لذلك، إنما علي والصفوة المؤمنة هم القواعد بعد الرسول (ص)، وهم روافد الأمة.

ليس علي وحده هو الذي يحظى بالعناية الاستثنائية، إنما سلمان وأبوذر وعمار كان لهم حصَّة، كان لهم مدخل على الرسول (ص) كما كان لعلي مدخل، وكان لهم بعد ذلك من العلم حظ وافر لا يدنو منه أحد من رجال هذه الأمة.

أليس ملفتاً للنظر أن هؤاء الصفوة مثلوا خطاً واحداً بعد الرسول (ص)، ومثّلوا خطاً واحداً أيام الرسول (ص). ما الذي جمعهم؟ ومن ربطهم؟ وكيف اتَّحدت كلمتهم؟

نعم، كان نصيب علي من تلك العناية أكبر، لأن علياً نفسه كان أكبر وأنضج.

كان علي نفس الرسول لحمه من لحمه، ودمه من دمه، وكان علي أخا الرسول، وكان علي من النبي (ص) بمنزلة هارون من موسى. هكذا كان يقول رسول

الصفحة 52
الله (ص)، علي لم تلوّث قلبه نقطة من نقاط الجاهلية السوداء، علي لم يشترك في تربيته أحد سوى رسول الله (ص) قبل النبوة وبعد النبوّة، النبي محمد (ص)... حيث الطهارة، والصفاء، والنضج والخُلُق وسمو النفس. حتّى المجتمع الجاهلي لم يتصل به علي، وليم يتدنَّس بشائبة من شوائبه، هو في بيت النبي (ص) قبل الإسلام وفي بيت النبي (ص) بعد الإسلام، وإلى بيت من بيوت النبي بعد الاصهار بفاطمة.

وبعد فعلي من بيت كله شرف، ورفعه وبُعد عن سخافات قريش، وتعالي عن دناءاة قريش، حتّى الوراثة تعمل فيه عملها.

هل كان أبو طالب كما كانت قريش وشيوخ قريش حيث الانتهاز، والأنانيّة، والوصوليّة، والعفونة في التفكير وفي الخلق؟

تاريخه يقول لنا: انه فوق ذلك كله، والبيت الهاشمي معروف من قبل ومن بعد بالتفوّق على الانحطاطات.

هذا هو علي ربيب النبي ثم أخوه ثم نفسه.

ولقد كان علي قمة الطليعة كما أراد الرسول (ص) وكان المحور والمركز والمَثَل للطليعة أنفسهم، لقد كان باب مدينة علم الرسول وكفى. ومن هنا كانت الطليعة كلها شيعة لعلي، وعرفت بذلك على عهد رسول الله (ص).

يحدّثنا الرواة: " انّ أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله (ص) هو الشيعة وكان هو لقب أربعة من الصحابة وهم أبوذر وسلمان والمقداد وعمار ".

ولم يكن الإعداد علمياً فقط، لقد كان النبي يعدّهم نفسياً ومعنوياً أيضاً.

كان يحدّثهم بمسؤوليّتهم فيما بعد، وكان يحدّثهم عن دورهم، وإذ كان يعلم أن قريشاً ستنحرف عنهم، فقد كان يوصيهم بالتماسك وعدم الانهيار والتمتع بالنَفَس الطويل.

لقد كان يحدّث علي بتفاصيل ما يجري عليه، وكان يحدِّث الطليعة بمثل ذلك.


الصفحة 53

الاندماج مع الرسالة:

وهؤلاء الطليعة الذين ملكوا النضج الذاتي، وحباهم رسول الله بالإعداد الرسالي كم كان أنصهارهم بمفاهيم وقيم الرسالة الالهيّة؟

وما هي درجة تفاعلهم ودرجة تضحيتهم ودرجة شعورهم بالمسؤولية.

هنا أيضاً نلاحظ التفوق منذ البداية حتّى النهاية.

إذا أردتم أن تنظروا إلى علي، فلا تنظروا إليه وإنما قارنوا بين مواقفه ومواقف سائر المسلمين، على اختلاف درجاتهم.

قارنوا بين مواقفه في معركة الأحزاب وموقفهم، حيث الرسول (ص) ينادي قائلا من يبرز له ـ عمرو بن ود ـ وأنا أضمن له على الله الجنة فلا يقوم أحد الاّ علي ثلاث مرّات.

لقد كان الايمان كله يبرز إلى الشرك كله على حدّ تعبير الرسول (ص).

هنا المسلمون فقدوا إرادتهم ونسوا مسؤوليتهم، ومن هنا كان علي وحده الإيمان كله!!

وقارنوا بين موقفه يوم خيبر وموقفهم ـ أرأيت كيف انهزموا قبل أن يضربوا بسهم أو يطعنوا برمح ـ لمجرد الرؤية إنهزموا أمّا علي فأنت تعرف ما صنع.

قارنوا بين موقفه يوم حنين وموقفهم، لقد تركوا الرسول (ص) وتركوا الرسالة، ونفضوا أيديهم من المسؤولية أرأيتم كيف ولّوا مدبرين؟!

أما علي فإلى اللحظة الأخيرة كان يمزّق الكتائب، ويبعثر الصفوف، ويرد عن رسول الله (ص)، ربما لا عن قصد جاء حديثي عن الشجاعة لكن الامام علي (ع) لا يملك الشجاعة وحدها، وإنما يملك الكفاءة الكاملة في أداء الرسالة، لقد قال له الرسول (ص) يوم استخلفه على المدينة: " إنه لا يصلح لها الاّ أنا وأنت " ولقد قال له

الصفحة 54
يوم بعثه بسورة براءة وردّ أبابكر: " إنّه لا يؤدي عني إلا أنت " أليس هو إذن صنو النبي (ص)، خذوا من شئتم سلمان، عمار، أباذر، أو مقداد أو حذيفة، لمن قال النبي (ص) كما قال لعمار؟

" أبو اليقضان على الفطرة، أبو اليقظان على الفطرة، لن يدعها حتّى يموت " ولمن قال كما قال لـ (أبي اليقظان):

" من يعادي عمّاراً يعاديه الله، ومن يبغض عماراً يبغضه الله ".

اسمعوا أم المؤمنين عائشة تقول: " ما من أحد من أصحاب رسول الله أشاء أن أقول فيه الاّ قلت، الاّ عماراً فانّي سمعت رسول الله (ص) يقول فيه: انه ملئ إيماناً إلى أخمص قدميه ".

ولمن قال مثل ما قال عن (ابن سميّة):

" ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني، إن عماراً جلدةُ أنفي " وهذا هو عمار البطل، والرسالي العظيم في كل عمره، هو عمار في الحرب ضد الشرك، وفي الحرب ضد التحريف أيام عثمان، وفي الحرب ضد القاسطين والمارقين والناكثين.

اُنظروا أباذر، ورمز البطولة، والمثل الرسالي العنيد.

اُنظروا عشقه للإسلام، وتلهّفه للرسالة الجديدة. فيوم أسلَم وقد كانت الدعوة سريّة، قال: " والذي نفسي بيده لأصوتنّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتّى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا اله الاّ الله وأشهد انّ محمداً رسول الله ".

هو يعرف ماذا يعني هذا الكلام، وماذا ينتظر من هذا الكلام. لقد ثار القوم إليه وضربوه حتّى أضجعوه.

أرأيتم أباذر هذا " العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الإسلام، ورافض

الصفحة 55
الأزلام قبل نزول الشرع والأحكام، تعبَّد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأول من حيّا الرسول بتحية الإسلام، لم تكن تأخذه في الحق لومة اللوام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكام، أول من تكلم في علم البقاء والفناء، وثبت على الشقة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا... " هكذا قال عنه أبو نعيم في حلية الأولياء.

" رحم الله أباذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده " كم هو عظيم أبوذر في عين الرسول (ص) إذ يحدّث عنه بهذه الكلمات.

وحين أسلم أبوذر كان يعرف حقيقة إسلامه، ولقد كان يعرف كيف سيصنع تأريخه الرسالي.

إذا كان قد أسلم فأنما " بايع النبي (ص) على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق وإن كان مرّاً " هكذا حدّثونا.

وخذوا سلمان وما أدراكم ما سلمان!!

" لقد أُشبع سلمان علماً " هكذا قال الرسول الأكرم (ص). وكان خيّراً فاضلا حبراً عالماً زاهداً، كما قال ابن حجر.

أليس هو سلمان الذي كان له مجلس عند رسول الله ينفرد به بالليل، أليس هو سلمان الذي من محمد (ص) ومن أهل البيت.

أي فارسي هذا الذي يتنازعه المسلمون، فيريده المهاجرون ويريده الأنصار، ولكن يريده رسول الله (ص) أيضاً فيكون سلمان المحمدي. وهنا أود أن أُلفت إلى حقيقة:

حينما حكمت أُميّة الصريحة العداء للإسلام، أرادت التشويه على هذه الطليعة وتحريف ماضيها والتشكيك في تأريخها ورسالتها.

لقد كانت أُميّة تعرف أن هذه الطليعة هي لبّ الإسلام الحقيقي، وعرقه

الصفحة 56
النابض، ان أميّة تريد أن تحكم بإسم الإسلام وباسم الرسالة، ومن هنا عمدت إلى التضليل والتعتيم وجرّ الأسدال على طليعة هؤلاء الرجال.

المهمة الثانية: ربط الأُمَّة بالطليعة:

كان بناء الفئة الطليعة، المخلصة والمستوعبة، هو الخطوة الاولى على الطريق، طريق بناء مستقبل الرسالة، طريق الاحتياط لضمان نجاح التجربة الإسلاميّة بعد الرسول (ص).

لكن بناء الطليعة ليس هو كل المهمة، إنه لابدّ من خطوة ثانية على الطريق، لابدّ من ربط الأمة بالطليعة وتوطيد ثقتها بها، وتمكين الطليعة من إمساك زمام القيادة فيما بعد، لتكون المسيرة واعية، ومتبصرة وقادرة على مواجهة الصعوبات.

ليس كل المطلوب أن توجد فئة واعية ومملوءة، إن ذلك لن يحقق شيئاً كثيراً إذا كانت هذه الفئة غير قادرة على التحرك، وغير قادرة على توجيه المسيرة، ولا متمكنة من تحقيق أهدافها، إنه لابدّ من تسليم المفاتيح بيد الطليعة لتمكينها من التوجيه والتحريك المناسب.

ومن ذلك كانت الخطوة الثانية على الطريق، أن يوفّر الرسول (ص) للطليعة فرصة قيادة الأمّة، وزعامة التجربة.

ولقد سعى الرسول (ص) في ذلك حثيثاً، وكان سعيه على ثلاث مراحل.

أولا: التعريف بالطليعة:

لقد سعى أولا لابراز الطليعة في المجتمع الرسالي، بغاية تركيز وجودهم، وتعزيز ثقة الأمة بهم، وتحصيل الولاء العام لهم.

وفي هذا يأتي سيل من الثناء والأطراء والأشادة، والتكريم والتمجيد

الصفحة 57
والحفاوة.

عشرات الأحاديث جاءت وفي عشرات المواقع كان الرسول يبيّن ضرورة حبّهم وودّهم ويحذّر من بغضهم ومعاداتهم، لقد كان ذلك أمراً مدروساً ومقصوداً جداً.

كان يقول باجماع المؤرخين والمحدثين:

" انّ الله أمرني بحبّ أربعة، وأخبرني أنه يحبّهم.

قيل: يا رسول سمّهم لنا.

قال: علي منهم ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ وأبوذر والمقداد وسلمان، أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبّهم ".

وكان له في كل واحد منهم قولا كثيراً، قرأنا شطراً منه، كان يجمعهم مرّة ويفردهم أخرى، يأمر بحبّهم ويحذّر معاداتهم ويخبر عن الله بحبهم، وعن نفسه أنه يودّهم. حتّى الآيات نزلت فيهم، تمجّد، تعظّم، وتثني.

وهو (ص) شخصياً كان يقرّبهم إليه، ويفردهم بمجلسه ويعطيهم من نفسه ووقته أكثر مما يعطي للآخرين وإذا كان علي (ع) هو القمة في هؤلاء، وكانوا له شيعة ومحبين، فقد دعا ملياً إلى الدخول في صف الشيعة، وهو يقصد الطليعة التي عرفت مكان علي ومقامه في الإسلام.

كان (ص) يحدّث عن مقامه، فيقول: " علي مع الحق والحق مع علي "، " علي سيد العرب "، " علي سيد الأصحاب "، " علي سيد المسلمين وأمير المؤمنين وامام المتقين وقائد الغرِّ المحجَّلين "، " علي مع القرآن والقرآن مع علي "، " أنا مدينة العلم وعلي بابها ".

ويقول علناً وبجمع من الناس: " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى " وكان يحدّث عن حبّه فيقول: " من أحبّ علياً فقد أحبّ الله ومن أبغض علياً فقد أبغض

الصفحة 58
الله "، " حبّ علي ايمان وبغضه نفاق "، " عادى الله من عادى علياً "، " من آذى علياً فقد آذاني ".

وعشرات ومئات من أمثال ذلك، حتّى لقد جعل منه ميزاناً يفرّق بين الايمان والنفاق، فاذا المسلمون على عهد رسول الله (ص) يعرفون المنافقين ببغض علي، على ما تواتر بنقله المؤرخون.

وكان يحدّث عن شيعته، فيقول: " يا علي أنت وأصحابك في الجنة "، " ان هذا ـ علي ـ وشيعته لهم الفائزون "، " انك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم أعداؤك غضاباً مقمحين ".

وهكذا يصعد بعلي ويصعد عالياً عالياً، حتّى كان أصحاب رسول الله (ص) إذا أقبل علي يقولون: " جاء خير البريّة " وكم مرّة انفجر رسول الله (ص) في وجه الساخطين الحاسدين المنافقين لأنهم نالوا من علي وطعنوا فيه!! كم مرّة قال لهم: " ما لكم وما لي؟ من آذى علياً فقد آذاني ".

" من تنقَّص علياً فقد تنقَّصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، وإن علياً مني وأنا منه ".

ويُعرف الغضب في وجهه مرّة وهو يقول: " ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ان علياً مني وأنا منه ".

من يسأل نفسه: هل كان النبي (ص) غارقاً في هوى ابن عمه؟ وسواء أحبوه أو أبغضوه فهل ذلك يعني النفاق، ولماذا الاغراق في الثناء عليه؟ فليكن مؤمناً رسالياً، فهل يدعو ذلك لأن تكون معاداته معاداة الله؟ كثيرون هم المؤمنون، أو هم الأبطال، فَلِمَ لا يكونوا كذلك؟

لا، لم يكن النبي مبالغاً ولا متعصباً، لقد كان يعرف ويعني ما يقول جيداً.

كان علي (ع) القاعدة الحصينة المنيعة في هذه الرسالة، ولقد كان ـ ويكون ـ

الصفحة 59
الصخرة التي تتهشم عليها قبضات المشركين والمنافقين والوصوليين، ولقد كانوا يعرفون ذلك.

ولولا أنه بهذه المثابة إذن لم يكونوا يبغضوه، ولا كان بغضه علامة النفاق.

إنه بمقدار مقام علي من الرسالة ومن الرسول كانت قريش ـ المشركة بالأمس والطامعة بالسلطان اليوم ـ تبغضه وتضمر له العداوة، لقد كانت صدورها تغلي بهذا الغضب وأفئدتها تحترق بهذه الضغينة، وها هو علي يصعد ويرتفع ويعلو.

والمنافقون ـ الذين لا تعلمهم الله يعلمهم ـ يكيدون للرسالة ويكيدون للرسول، لكن علياً هنا، ولن يتخلى عن رسالته ولا رسوله، فكيف المصير؟

لقد كان عداءاً أي عداء.

ثأرٌ للماضي، وحسدٌ للحاضر، ومنافسة على المستقبل، كلها تجمَّعت واتَّضحت في وجه قريش، حتّى تكاد تهتك نفسها، وتعلن خبث سريرتها، والرسول يتمزق لهذه المأساة.

" ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، انّ علياً مني وأنا منه ".

وعلى أي، فقد كان السعي حثيثاً لتركيز وجوه الطليعة، وكسر الجدر النفسية بينهم وبين الأمة.

ثانياً: الدعوة لإلتزامهم:

ولقد سعى الرسول الأكرم (ص) ثانياً في تحفيز الأمة نحو التزام خط الطليعة الذي يمثّله الامام علي (ع) عند إفتراق الخطوط.

فالولاء الذي أكّد الرسول (ص) ضرورته لعلي، لا يجوز أن يبقى ولاء

الصفحة 60
العواطف فقط، إنّما لابدّ أن ينعكس على الموقف والاتجاه.

وإذا كانت الاتجاهات غير بارزة على السطح أيام الرسول (ص) فهو على أي حال قد تنبأ بها ولمس خيوطها كان يقرأ تلك الاتجاهات في وجوه قريش وفي وجوه عدد من الصحابة، وكان يعرف حجم الفتن التي ستجابه الأمة.

ومن هنا كان يؤكد دوماً ان اتجاه علي هو الحق عند افتراق الاتجاهات، وان جبهة علي هي الحق عند تعدد الجبهات، لقد كان يقول ويكرر القول:

" ستكون بعدي فتنة، فاذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فانه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة ".

علي هو الطليعة مجتمعة في واحد، وعلي هو قمة الطليعة متفرقة في أفراد، ولذا فهو أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة. ولزوم علي بن أبي طالب هنا لا يعني مفهوماً مرناً يقبل النقائض، إنما هو التزام إتجاهه وخطه في كل مجالات الاختلاف ومجالات الفتن. أما التودّد وإضمار المحبة له دونما اتّباع، فليس هو المطلوب بالأساس وهكذا كان يقول (ص): " تكون بين الناس فرقة واختلاف فيكون هذا وأصحابه على الحق، وإذا كان علي يمثِّل الطليعة، فخطه هو خط الطليعة كلها، هو خط سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد، وحذيفة خط واحد هو الحق لا سواه.

ولذا فأن " عمّار مع الحق والحق مع عمّار " كما قال (ص) ولذا أيضاً: " إذا اختلف الناس فابن سميّة مع الحق " كما قال (ص) لأن ابن سمية من الطليعة، ومن شيعة علي، فهو في نفس الخط وهو (ص) نفسه يقول لعمار:

" يا عمار بن ياسر: ان رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي فانه لن يدليك في سدىً ولن يخرجك من هدىً ".

وتعبيراً عن هذه الوحدة أيضاً، الوحدة في الخط، قيل: يا رسول الله عمّن نكتب العلم؟ فقال: عن علي وسلمان.


الصفحة 61
وعلى أي حال، فالرسول هنا يدعم الخط ويدفع المسلمين نحوه، لأن الخطوط الأخرى كلها منحرفة، مفرّغة، مزيّفة، لأنها ناشئة من عدم إستيعاب الرسالة، وعدم الإندماج مع أهدافها.

الرسول هنا يقيّم خط الطليعة، ويُعلن عن موقفها من الرسالة وأهداف الرسالة، بغاية ربط الأمة بها، بطليعتها الواعية المخلصة المؤمنة حقيقة الايمان.

في جانب آخر كان الرسول (ص) يوطّد المودّة والصلة بين الأمة والطليعة، وهو في هذا الجانب يحدّد الخطّ الصحيح، ويقول الكلمة الثانية في الطليعة، فليسوا فقط أصحاب وعي واخلاص يدفع نحو مودّتهم، إنّما هم يعيشون الرسالة كلها، ويدركون الرسالة كلها، منصهرين مع الرسالة تماماً. إذن فخطهم وحدهم على الحق والخطوط الأخرى مزيّفة خطرة.

ثالثاً: التأكيد على قيادتهم:

ولقد سعى ثالثاً في تأكيد الكلمة الثالثة والأخيرة.

وكانت الكلمة الأخيرة انّ خط الطليعة هو الخط القائد والموجّه والزعيم، وأن هؤلاء الطليعيون هم قادة التجربة بعده، ولهم وحدهم حق زعامتها، لأنهم وحدهم على الحق، أما الخطوط الأخرى فغير جديرة ولا مؤهلة للقيادة، ولا مأمونة الانحراف. هؤلاء الطليعة هم الذين كرسَّهم الرسول (ص) لهذه المهمة، ولذا فهم اكثر إستيعاباً وإخلاصاً. وهم يعرفون جيداً وبلا دهشة ولا إنهيار ولا خلل أين هو موضع الخطوة الثانية والثالثة والرابعة للرسالة.

لقد اُشبعوا علماً، ولقد كانوا على الحق، ولقد ملؤا ايماناً، فبهذا حدَّث عنهم الرسول (ص).

القطاعات التي لم تستوعب الرسالة، ولم تلتحم معها تماماً، لا يمكن أن تعطى القيادة لأنها سوف تعثر وتنحرف، ثم تضيع التجربة كلها بتضخم واتساع

الصفحة 62
الانحراف بالتدريج.

والتجربة ما زالت طريّة وفنية، ولا تستطيع أن تحصِّن نفسها ما لم تكن تحت إشراف وقيادة الطليعة المستوعبة المملوءة علماً وحقانيةً.

ولذا جاءت الكلمة الثالثة، جاءت شديدة، وجديّة، وقاطعة، ومؤكدة. جاءت يوم اجتمع المهاجرون والأنصار وألوف الأعراب، في أخطر وأهمّ وأكبر حشد اسلامي في تاريخ الرسالة كلّه.

اجتماع رهيب ومفاجئ، فيه الرسول (ص) وفيه المهاجرون، وفيه الأنصار، وفيه المسلمون جميعاً، وفيه الوحي يهبط بالكلمة على قلب الرسول.

{يَا اَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَاِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} مصير الرسالة كلّه يتوقف على هذه الكلمة، ولذا قال تعالى: {اِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} لقد صنعت الطليعة، هذه خطوة اُولى على الطريق.

والآن بلّغ ما أنزل اليك، إنَّ هذه الطليعة هي القائدة والموجّهة.

ونهض الرسول، كما نهض لإعلان البيان الأوّل في الإسلام، يوم هبط عليه الوحي {وَاَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ}، هنا نهضة مشابهة في خطورتها، وموقعها من الرسالة.

انظروا كيف نهض؟

نهض وهو واثق بأن الذين عارضوه أمس سيعارضوه اليوم، والذين سخروا منه أولا سيسخرون أخيراً، لكنه على أي حال نهض لأن الله يعصمه من الناس وانظروا كيف قال...؟

إنّه وضع الرسالة أمامهم، وكأنه يقول: انّ كلمتي هذه هي الخطوة الثانية في الرسالة، وهي تحديد مصير الرسالة كلّه: " أليس تشهدون أن لا اله الاّ الله وأن محمداً