الصفحة 80


مراحل التاريخ الشيعي


1 ـ مرحلة عصر الأئمة (ع)

    الدور الأول: بناء قاعدة التشيّع

    الدور الثاني: بناء الاطار التفصيلي

    الدور الثالث: دور تحصين القواعد الشيعية

2 ـ مرحلة عصر ما بعد الأئمة (ع)





الصفحة 81

الصفحة 82

مراحل التاريخ الشيعي


يمكن أن نقسم التاريخ الشيعي إلى مرحلتين:

1 ـ مرحلة عصر الائمة (ع).

2 ـ مرحلة عصر ما بعد الائمة (ع).

تبدأ المرحلة الأولى من وفاة الرسول (ص) وانتقال القيادة الشرعية إلى الإمام علي (ع) ومروراً بالأئمة من بعده، وانتهاءاً بالغيبة الكبرى للامام الثاني عشر (ع).

ومعنى ذلك ان هذه المرحلة تستغرق 320 عاماً، من 10 للهجرة حيث وفاة الرسول (ص) وحتّى سنة 329 هـ حيث الغيبة الكبرى للامام المهدي.

واعتبار هذه الفترة مرحلة مستقلة تاريخياً يعتمد على أساس طبيعة الخطر الذي كان يواجه الخط الشيعي، وطبيعة المهمة التي انساق الائمة إلى تحقيقها.

لقد كانت هذه المرحلة هي مرحلة تحصين الخط الشيعي، والانتصار على مؤامرات التصفية باختلاف اشكالها.

سواء المؤامرات بصيغة القمع والارهاب، كما في فترة حكم معاوية

الصفحة 83
والحجاج أو المؤامرات بصيغة فتح المدارس المذهبيّة الأُخرى، ورسم الخطوط المناوئة كما في العهد العباسي، أو المؤامرات الداخلية بغاية تحريف مفاهيم الخط وجرّه عن طريقه الأساسي، كما في حركة الغلاة والباطنية.

أو الانشقاقات داخل المذهب التي كانت تهدد وجود المذهب كلّه كما في انشقاق الاسماعيلية.

المعركة التي كان يخوضها المذهب في هذه المرحلة هي معركة الوجود والعدم، الموت والحياة، وكانت مهمة زعامة المذهب، المتمثلة في الائمة من أهل البيت (ع) هي تحصين الخط، واحباط كل المؤامرات التي تستهدف وجوده.

وبانتهاء هذه المرحلة كان الخط الشيعي قد حصل على وثيقة البقاء والاستمرار، وسقطت كل توقعات واحتمالات الموت، وكانت كل المخاطر والمشاكل التي تواجه الخط بعد هذه المرحلة، وفي عصر ما بعد الائمة، غير قادرة على قلع الخط من اساسه وتهميشه، مهما بلغت خطورتها وضراوتها.

انّ (320) عاماً، كانت كافية لتثبيت أُصول المذهب، وامتداد جذوره في أرض الأمة إلى مستوى لا يمكن اقتلاعها.

وفي خلال (320) عاماً، أمكن الصمود أمام كل الهجمات، والثبات أمام كل المؤامرات، والخروج بسلامة ونقاء من معارك التصفية، أو التحريف.

كما فشلت بالتبع مختلف صيغ التآمر على الوجود الشيعي، وانتقلت الحركة المضادّة والمعادية إلى صيغ تستهدف تقليص هذا الوجود، والاستلاب منه، والنيل من كرامته، ولكنها على أي حال اصبحت غير قادرة على إعدام هذا الوجود وتصفيته.

هذا التصور نأخذه هنا مفروغاً عنه والأبحاث الآتية هي الكفيلة باعطاء الصورة التفصيلية له، وعلى ذلك أمكن اعتبار عصر الائمة مرحلة تاريخية لها

الصفحة 84
استقلالها وتميّزها.

وقيادة المذهب خلال هذه المرحلة كانت بيد الائمة (ع)، وكانت تنتقل من أحدهم للآخر على اساس الوصية من الامام السابق.

وقد سبق أن شرحنا(1) في المقدمة فلسفة هذه الوصية، ولماذا كانت تختص بواحد من أبناء الامام السابق.

أمّا هنا فنواجه هذا السؤال:

لماذا كان الائمة إثني عشر؟ ولماذا استمرّ الائمة على منهج الوصية وتعيين الامام اللاحق إلى اثني عشر إماماً، ولم تنقطع هذه الطريقة من قبل، ولم تستمر لما بعد؟

وكانت الامامة خلال هذه المرحلة لرجال من أهل البيت (ع) لا تتجاوزهم، أمّا في عصر ما بعد الائمة فلم تتبع طريقة التعيين، ولم تنحصر في ذرية أهل البيت. فلماذا؟

الجواب(2) عن هذا السؤال نستلّه من طبيعة المرحلة، وطبيعة المشاكل التي كانت تواجه المذهب خلالها.

ولقد قلنا ان مشاكل ومؤامرات عصر الائمة كانت تهدد وجود المذهب، وكانت بمستوى ـ بالقياس إلى وضع التشيع يومذاك ـ قادرة على أن تعصف بالخط وتقتلعه.

ومن هنا كانت الحاجة إلى قيادة واعية غاية ما يكون الوعي، بصيرة غاية ما

____________

1- اعتمدنا في هذا الشرح منهج التحليل التاريخي بهدف تدعيم معتقداتنا القائمة بالأصل ـ في موضوع الإمامة ـ على أساس التعبّد ومنهج اعتماد النص، ويجدر الإشارة إلى أن منهج التحليل التاريخي قد لا يؤدّي إلى نتائج يقينية، وربّما أمكن تقديم شروح أُخرى.

2- نعتمد في هذا الجواب على المنهج السابق، وبتأكيد نفس الملاحظة التي سجّلناها عليه.


الصفحة 85
يكون التبصر، مملوءة من كلّ الجوانب، سليمة من كل الأخطاء سواءاً في النظر أو في الممارسة والتخطيط. لأن أي خطأ في هذه المرحلة ربّما أتى على وجود المذهب كلّه و نسفه وأية زلّة في هذه المرحلة ربما جرّت بالمذهب إلى منتهى الواهية، وهشّمته.

في بعض قطعات هذه المرحلة كان المذهب بحاجة إلى وضع إطاره التفصيلي، ورسم محتواه الداخلي كلاًّ، وهذه مهمّة لا يقدر عليها غير الائمة من أهل البيت الذين استوعبوا المذهب كلّه كما شرحنا في المقدمة.

وفي بعض قطعات هذه المرحلة كان المذهب يعيش انشقاقات داخلية عريضة وعميقة، يتزعمها رجال لهم تاريخ شيعي طويل، ولم يكن التغلب على هذه المشكلة ممكناً الاّ عن طريق وصية الامام السابق للإمام اللاحق.

وفي بعض فصول المرحلة ظهرت حركات مزيّفة داخلية، والوسط الشيعي لم يكن من النضج بمستوى يقدر على فضحها، وتعريتها، كان لابدّ من وصية تحدّد الامام اللاحق ويكون بيده مجرى التشيّع، وقمع حركات التحريف والتزييف ومن هنا وجدنا انّ الحركات المنشقة في داخل الصف الشيعي، والتي إبتعدت عن قيادة أهل البيت، فشلت وانهارت.

كثير من تلك الحركات ماتت إلى الأبد، ولم يصلنا الاّ إسمها.

وكثير من تلك الحركات فقدت المحتوى الحقيقي للتشيع، والهدف الحقيقي للتشيع فعادت حركات مفرّغة، وذات صيغ وقوالب رخيصة، ولا قادرة على الاستمرار بجدارة، أو تقديم الصورة الحقيقية للاسلام.

نذكر منها الاسماعيلية، والزيدية.

فرغم انهما ما زالتا في الوجود، لكن كل أحد يعرف مقدار ما أصابهما من التفريغ والتحريف.

فالمذهب الزيدي اليوم لا يختلف عن مذاهب أهل السنة، ومصادره العلمية

الصفحة 86
التشريعية هي مصادر السنّة في المعظم.

والمذهب الاسماعيلي تحوّل إلى اتّجاه باطني غامض ومعزول.

والعالم الإسلامي اليوم وغير الإسلامي يعرف ويقول انّ المعبّر الوحيد عن التشيع هم الشيعة الاثنا عشرية، وبجهود ومفاهيم هؤلاء أصبح واضحاً أن التشيّع هو الخط الآخر في الإسلام، والمقابل للخطّ السنّي.

الانشقاقات التي إبتعدت عن بعض الأئمة من أهل البيت ماتت أو تفرَّغت، ومن ذلك نعرف المضمون الحقيقي للحديث الشريف: " من لم يؤمن بأحدنا كان كمن لم يؤمن بجميعنا ".

وعلى أيّ فقد كانت المرحلة تفرض النص على امام معصوم من أهل البيت (ع)، فهؤلاء الائمة سيثبّتون اصول المذهب، ويتغلبون على كلّ المشاكل والمؤامرات والخذلان: " لا يضرهم من خذلهم " كما جاء في الحديث الشريف وهؤلاء إثنا عشر فقط، لأن المرحلة لا تطلب اكثر من ذلك وهكذا كان..

فقد تسلسلت الوصية من امام إلى امام، حتّى انتهت مرحلة الخطر على الوجود، وأمكن ان تعطى القيادة بيد فقهاء الشيعة، والطليعة منهم، من حيث ان الخطأ هنا ممكن التدارك، ولا يخاف منه على وجود المذهب كلّه.

حينذاك انتهى عهد التعيين والوصية، وكان قد اشترك اثنا عشر اماماً في قيادة المذهب خلال تلك المرحلة. ولعله إلى ذلك يشير الحديث النبوي الشريف: " يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة قيماً لا يضرّهم من خذلهم كلّهم من قريش ".

ولو قدّر ان المذهب كان ما يزال في مرحلة الخطر على الوجود، وفي معركة الموت والحياة، إذن لكانت الوصية تستمر إلى إمام ثالث عشر ورابع عشر وهكذا.

ومن هنا وجدنا ان الامام الثاني عشر وهو في غيبته الصغرى كان يعيّن نائبه

الصفحة 87
بأسمه، وهكذا إلى أربعة نوّاب. وعندئذ ترك الأمر إلى الشيعة أنفسهم وانتهى عهد التعيين والوصية. وانتقلت الزعامة الحقيقية إلى علماء الشيعة، ومن هنا نجد انّه خلال الغيبة الصغرى والتي استمرّت (70) عاماً، كانت القيادة الحقيقية للامام الثاني عشر المختفي، وكان النوّاب هم الواجهة وليسوا هم القادة حقيقة.

لماذا؟

سيأتي تحليل ذلك بالتفصيل، أمّا هنا فنذكر الجواب مختصراً وفقاً لمنهج التحليل التاريخي المشار إليه.

الجواب ان المذهب ما زال يعيش مرحلة الخطر على الوجود، وما زال الوسط الشيعي غير قادر على التماسك وحده أمام المشاكل المرهقة، والامام أيضاً غير قادر على الظهور، فكان الحلّ أن تبقى القيادة الحقيقية بيده ويكون النوّاب هم الواجهة إلى حين تنتهي مرحلة الخطر على الوجود، وريثما يستعد الشيعة لاستلام زمام القيادة بأنفسهم.

ولذا اعتبرنا هذه الفترة ـ فترة الغيبة الصغرى ـ داخلة في مرحلة عصر الائمة، لأن القيادة الحقيقية كانت للامام، من حيث كان الخط يحتاج إلى امام. ولو قدّر مثلا ان التشيع وهو في عهد الامام الثاني عشر قد حصَّن وجوده، وتجاوز احتمالات الضياع والفناء، إذن لم تكن حاجة إلى امام معصوم بعده، بل كانت الطليعة الشيعية هي التي ستتولى الزعامة.


الصفحة 88

المرحلة الأولى
مرحلة عصر الأئمة (ع)


يمكن أن نصنِّف نشاطات الشيعة في هذا العصر إلى نشاطات على الصعيد الإسلامي العام، ونشاطات على الصعيد الشيعي خاصة، وهي النشاطات المرتبطة بشؤون ومسؤوليات الخط نفسه.

ورغم ان دراساتنا تتناول التشيع عموماً في نشاط قادته وأتباعه وخصومه، الاّ انّ الائمة من أهل البيت (ع) من حيث كانوا هم محور النشاط والحركة، وكانوا هم أصحاب الكلمة في توجيه وتسيير الخط كلّه، من هنا ستشغل مواقف الائمة (ع) الجزء الأكبر من موضوع دراساتنا.

والواقع انّ مواقف الائمة (ع) في هذا العصر كانت مختلفة من حيث مركز الاهتمام، ومن حيث كيفية التصرف، تبعاً لاختلاف ظروف هذا العصر، واختلافات حاجات المذهب من مرحلة إلى مرحلة أخرى.

أدوار ثلاثة:

غير انّا لو لاحظنا نشاطاتهم على الصعيد الشيعي خاصّة أمكن أن نكتشف ثلاثة أدوار تستغرق هذا العصر كلّه.

الدور الأول: بناء القاعدة:

ويشترك في هذا الدور كل من الامام علي،

الصفحة 89
والحسن، والحسين (ع)، حيث كان الهدف منصباً بالأساس على اثبات وتركيز الخط الشيعي مفهوماً وممارسة، واعتباره الممثل الحقيقي والمستوعب للاسلام، واعتبار قيادته هي القيادة الإسلامية الشرعية. ويستغرق هذا الدور 05 سنة، بدءاً من وفاة الرسول (ص) وحتّى سنة 16 هـ حيث مقتل الإمام الحسين (ع).

الدور الثاني: بناء الإطار التفصيلي:

وبعد اثبات أصل الخط، واطلاع الأمة على وجوده وعلى موقعه من الرسالة، يأتي الدور الثاني حيث يكون الهدف منصباً منه على بناء المحتوى التفصيلي للخط، والتعبير عن الإسلام واحكام الإسلام بالمنظار الشيعي. بعد أن برزت في الساحة مدارس فقهية وعقيدية أخرى، شرحت الإسلام بطريقتها. ويشترك في هذا الدور كل من الإمام السجاد، والباقر، والصادق، والكاظم. ومعنى ذلك انّ هذا الدور يستغرق 122 عاماً. مبتدأ من حين شهادة الإمام الحسين 16 هـ ومنتهياً بوفاة الإمام الكاظم 183 هـ.

الدور الثالث: دور تحصين وتوسيع القواعد الشيعية الشعبية:

ويشترك في هذا الدور كل من الإمام الرضا، والجواد، والهادي، والعسكري، والامام الثاني عشر في غيبته الصغرى المنتهية سنة 329، ومعنى ذلك انّ هذا الدور يستغرق 461 عاماً.

وفي هذا الدور أصبح الخط الشيعي مستكملا جوانبه النظرية وبناءه المدرسي، ويكون قد احتل موقعه بوصفه الخط البديل للخطوط الحاكمة أو التي تتعامل وتتعاون مع الحكم.

فلم يبق أمام الخط الاّ أن يحصِّن قواعده الشعبية، وينقذها من خطر الانشقاقات والتحريفات الداخلية، ومن خطر العزلة والتقوقع، ويرفعها إلى مستوى تصبح قادرة على الاستمرار والديمومة وملأ الفراغ القيادي بعد الائمة المعصومين (ع).

وهذه ثلاثة أدوار يمكن أن نوزّع عليها مرحلة عصر الأئمة. وبودّي أن أبيّن هنا

الصفحة 90
بعض نقاط:

أولا: انّ هذا التوزيع ليس حديّاً تماماً، بمعنى انّ الانتقال من دور إلى دور ليس بنحو من الطفرة المفاجئة، وإنّما يأتي تدريجياً أيضاً وخلال أعوام، وعلى ذلك فحينما نعتبر الإمام السجاد ابتداء الدور الثاني، ينبغي أن نفهم مقدماً انه كما يمثل الدور الثاني هو يمثل مرحلة الانتقال أيضاً، ويعيش فترة ما بين الدورين، وهكذا حينما نعتبر الإمام الرضا بداية الدور الثالث. هو أيضاً عاش نهايات الدور الثاني، ومرحلة الانتقال منه إلى الدور الثالث.

والواقع ان هذه الظاهرة أمر طبيعي في كل تقسيم تاريخي، من حيث ان الحد الفاصل بين مرحلتين أو دورين لا يمكن أن يكون أمراً آنياً وغير متدرج، وعلى ذلك فإنّ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة يحدث عبر فترة زمنية تعيش الصراع قد تطول وقد تقصر.

ثانياً: إنّنا في هذا التوزيع لاحظنا طبيعة النشاطات المرتبطة بالخط الشيعي خصوصاً. وهذا لا يعني انعدام النشاطات الإسلامية العامة.

فقد قلنا مسبقاً انّ نشاطات الشيعة بقيادة أهل البيت (ع) كانت في مجالين. المجال الشيعي الخاص، والمجال الإسلامي العام. ونحن في التوزيع إلى الأدوار الثلاثة لاحظنا طبيعة النشاطات في المجال الأول. وسنذكر ضمناً ما يتعلق من النشاط بالمجال الثاني.

ثالثاً: لم نلحظ في هذا التوزيع طبيعة الموقف السياسي، وطريقة التعامل مع الحكم القائم في كل دور، وسنذكر تحليل ذلك لدى دراستنا الأدوار الثلاثة تفصيلا.


الصفحة 91

الدور الأول: بناء قاعدة التشيّع 10 ـ 61 هـ


إذا كان هذا الدور هو دور بناء قاعدة التشيع، ووضع الحجر الأساس، فذاك يعني بالوجه الآخر له رفض الخلافة الحاكمة واعتبارها خلافة غير شرعية، كما انّ الطليعة التي رعاها الرسول (ص) وبناها بغاية استلام زعامة التجربة بعده والتي أقصيت عن الحكم ظلت تحتفظ بخطها ووجودها ولم تتنازل عن اعتبار نفسها الممثل الحقيقي للإسلام، وظلت على الدوام تحمل مسؤولية التجربة كلها، ومن هذا المنطلق عُرفت بمعارضتها للخلافة القائمة، لكنّها المعارضة الإيجابية التي تحمل معنى التصحيح والتعديل والتوجيه.

وهذه الظاهرة ملحوظة ومسجّلة حتّى في أيام الخلافة الراشدة، التي قد يبدو أنّها أقرب إلى واقع الإسلام من الحكومات التي جاءت بعدها.

فقد كان واضحاً انّ الطليعة التي تدور حول علي (ع) باتت ساخطة وغير قانعة بالخلافة التي تمخَّضَ عنها مؤتمر السقيفة، وقد عبَّرت عن سخطها في أكثر من مجال، وظلت تعطي لنفسها فقط حقّ قيادة التجربة الإسلامية.

هذا هو ما يدعونا للتساؤل عن مبررات المعارضة.


الصفحة 92
والإجابة عن هذا السؤال تكفينا لمعرفة السبب في اصرار الطليعة الشيعيّة على عدم التنازل عن حقّها ورأيها في الخلافة، واصرارها على تدعيم خطها بوصفه الخط الحقيقي للإسلام.

مبررات المعارضة:

وحينما نتحدث عن مبررات المعارضة، فإننا نتحدث عن خلافة السقيفة وتقييم المعارضين لها، نقاط القوة فيها ونقاط الضعف، ايجابياتها وسلبياتها، قدرتها على مواجهة الصعاب التي تحيط بالأمة وبالرسالة أو عدم قدرتها، وهكذا لياقتها في تسيير التجربة الإسلامية، ومواصلتها أو عدم لياقتها.

ذلك أن المعارضة هي تعبير عملي عن وجهة نظر الطليعة الشيعيّة في خلافة السقيفة وطريقة فهمها لها. إذن فالحديث عن مبررات المعارضة حديث بالأصل عن تقييم الطليعة الشيعية لخلافة السقيفة.

كما انّ هذا الحديث هو في الحدّ الآخر له حديث عن الطليعة، وعن عليّ قمة الطليعة ومحورها وإمامها. حديث عن لياقتها في تزعم التجربة الإسلامية، وقدرتها على تكسير كل الأطواق المحيطة بالرسالة، والتغلب على كل الصعاب التي تنتظر المسيرة.

إذن فهذا البحث بحسب الحقيقة موازنة بين الطليعة المعدّة أساساً لاستلام الزعامة، وبين الخلافة التي إنبثقت عن السقيفة، والتي قدّر لها أن تغلب وتتزعم على أن نقاط القوة في خلافة السقيفة غير قابلة للشك، ولا بحاجة إلى إيضاح.

فهم صحابة عاصروا الرسول (ص) سنيناً طويلة، لازموه فيها واستفادوا منه. كما أنهم ذوو مقدرة إدارية جيدة، وفقّتهم للتغلب على صعاب كثيرة. وهم بعد ذلك وقبله أصحاب مقام اجتماعي يوفّر لهم فرصة اكتساب الأصوات، وتوحيد

الصفحة 93
الكلمات، لكن مهمة تقييم خلافة السقيفة، والتعرّف على وجهة النظر الشيعية لها، والتي دفعتهم إلى الرفض والمعارضة، تدعونا إلى النظر في الصفحة الأخرى لخلافة السقيفة، أي في سلبياتها، ونقاط ضعفها إن وجدت، والنظر فيما إذا كانت هذه السلبيّات موجودة في خلافة النص ـ أقصد علياً ـ أم لا.

ومن هنا سنهتم بدراسة هذا الجانب.

وإذا كانت هذه الصراحة في البحث ثقيلة على بعض القلوب، وبعض العقول، فان ذلك يدعوني لأن أصدِّر هذا البحث بأروع وأصدق كلمة قالتها خلافة السقيفة نفسها.

فقد قال أبوبكر (رض) يوم تولى الخلافة:

" انّي قد وليت عليكم ولست بخيِّركم، وإن لي شيطاناً يعتريني فإن أصبت فأطيعوني، وإن أخطأت فقوّموني ".

والذي أتمناه لكل الباحثين والقارئين أن نترفع عن المغالاة في الأشخاص، وعن الوقوع تحت تأثير العصبيات المذهبية، وأن ندخل إلى البحث بروح أكثر موضوعية وحيادية ونزاهة.

طبيعة المرحلة:

ويكون من الضروري من أجل الخروج بتقييم معمّق لخلافة السقيفة أن نفهم طبيعة المرحلة، وما هي حاجات ومتطلبات الرسالة فيها. وهل كانت خلافة السقيفة بمستوى مرحلتها أم لا؟

وهنا يصح القول:

إنّ الرسالة كانت ما تزال في مرحلة البناء.

وأقصد من هذا انّ الأمة لم تبلغ مرحلة التشبع التام بمفاهيم وقيم الرسالة، وفترة عشرة سنوات متعبة ومجهدة بالحروب والغزوات لم تكن تتسع لترسيخ

الصفحة 94
وتعميق الرسالة الضخمة في نفوس معتنقيها.

ولقد قلت سابقاً ان عملية التغيير الجذري لانسان الجاهلية، وقلبه إلى انسان عالمي منفتح، هذه العملية التي كانت هي مهمة الإسلام تحتاج إلى عمر أطول وجهد أكبر، ورغم انّ الجيل الذي صنعه الرسول (ص) ضرب أروع الأمثال في التضحية والفداء، الاّ انّه يبقى مجال للقول بأن فقاعات المنطق والتفكير والخلق الجاهلي ما تزال كامنة في أعمال الأعماق. وانّها لتطفو على السطح في كثير من الأحيان.

انّه إلى الأخير كانت اعتراضات بعض الصحابة على الرسول (ص) مصابة بطريقة التفكير الجاهلي القبلي الضيق، وإلى الأخير كنّا نشاهد ـ ولو نادراً ـ الراسب الجاهلي يعبَّر عن وجوده في بعض مواقف وآراء للصحابة. ومهما بالغنا في تمجيد وتعظيم الصحابة فإنه لا يجوز أن نبلغ بذلك درجة الغلو.

وإذا كنت بحاجة إلى استشهاد على ما قلت فإنّه ليس أوضح شهادة من الانحراف العريض العميق الذي جرف عدداً كبيراً من الصحابة فيما بعد فإذا الصراعات على المناصب، وإذا الركض وراء الكنوز، وإذا الاغراق في متع الحياة، كل ذلك يظهر في الصحابة أنفسهم، وبعد لم يمض على وفاة الرسول (ص) ربع قرن.

حتّى كان أبوبكر نفسه يقول للمهاجرين:

" رأيتم الدنيا قد أقبلت، ولمّا تُقبل وهي مقبلة حتّى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتّى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الاذربي كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان... ".

وكان علي (ع) يقول:

" واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة احزاباً، ما تتعلقون من الإسلام الاّ بإسمه، ولا تعرفون من الإيمان الاّ رسمه، تقولون العار ولا النار كأنكم

الصفحة 95
تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه... ".

وربما يكون عرض هذه الكلمات بلا لزوم، بعد أن كان الرسول (ص) ينوّه بهذه الحقيقة، ويعلن عن توقعه للانحراف والانحدار في حديث ذود بعض أصحابه عن الحوض الذي عرضناه سابقاً وحديث نزو القردة على منبره، وحديث اختلاف الأُمة بعده.

بماذا نفسّر هذه الحقيقة؟

انّه لا يوجد تفسير معقول الاّ انّ التحوّل الذي عاشه أكثر الصحابة، في السلوك، والقيم، والمفاهيم، لمن يكن جذرياً، وكان خط التربية الإسلامية ما يزال بحاجة إلى مواصلة ومراس ليصفي آخر راسب من رواسب الجاهلية، ويطعن آخر رئة للنفس القبلي الأناني الضيق.

على انّ القضية ليست قضية الصحابة وحدهم، انّ الآلاف ومئات الآلاف التي دخلت الإسلام جديداً وقبيل وفاة الرسول (ص)، والتي دخلت الإسلام بعد وفاة الرسول (ص)، لا تعرف عن الرسالة الجديدة الاّ الشيء القليل القليل، وهي تنتظر من مركز الدولة أن يمدّنها بالمربّين والرساليين، وهي تنظر إلى جيل الصحابة أنفسهم، وتفهم الرسالة عن طريقهم.

بل انّ الأجيال التي ستعقب هذا الجيل، والتي ستدخل الإسلام بعد سنين، لمن تنظر؟ انّها لا تفهم الإسلام عن طريق نصوص القرآن بمقدار ما تتأثر عملياً بسلوك جيل الصحابة الذي هو بمثابة التجسيد لمفاهيم الرسالة.

خطورة موقع القيادة:

ومن هنا يكون للقيادة أخطر موقع.

انّها تمسك الخط من رأس، وانها هي المسؤولة عن الاستمرار في عملية التغيير والتصفية، وعن الإسراع في سدّ الأبواب والنوافذ أمام الرئة الجاهلية ليتم

الصفحة 96
القضاء عليها تماماً، انّه يجب على القيادة أن تواصل المسير.

وانّه لا يجوز التوقف كما لا يجوز الإنسحاب.

انّ التوقف في عملية التغيير سيتيح الفرصة الكافية لأن تستعيد فلول النفسية الجاهلية قواها، وأن تلتهم وتختزن بعض الأنفاس.

كما إنّ الإنسحاب، أو حرف الخط نفسه، يعني بالنتيجة فقدان كل البناء الذي تمّ تعميره لحد الآن، ويعني تقدم الجاهلية على حساب الإسلام.

ومن هنا يجب أن تكون القيادة بمستوى موقعها.

لا توقف، ولا انسحاب، ولا انحراف في خط التربية.

وإذن... يجب أن تكون مستوعبة تماماً لرسالتها، كما يجب أن تكون قد هضمت وجسّدت والتحمت مع رسالتها، من أجل أن تضمن عدم التوقف وعدم الانسحاب وعدم الانحراف.

انّه يختلف كثيراً موقع القيادة عن موقع الرعية.

القيادة مسؤولة عن الخطّ كله، والانحراف فيها يعني انحراف الخط كله، والانزلاق به إلى الهاوية، وتدمير البناء كاملا.

أمّا الرعية فانحراف بعض أفرادها يعني انحراف نفسه، وربما لا يجر إلى آخرين، ولا يحرّف مسيرة التجربة كلّها. من هنا يكون موقع القيادة خطراً وحساساً أكثر من موقع الرعيّة.

وحينما تكون الرسالة في مرحلة بناء، فان موقع القيادة سيكون أخطر مما لو كانت الرسالة قد استكملت بناءها.

في مرحلة البناء يكون انحراف القيادة تشويهاً للرسالة عملياً ونظرياً، إذ المفروض انّ القيادة قد تشبَّعت بمفاهيم وقيم الرسالة جميعاً وها هي تجسّدها، إذن فأي زلة فيها تعتبر زلّة في الرسالة نفسها.

والذين يعتنقون الرسالة يفهمونها من سلوك القادة، ويحكمون عليها في ضوء

الصفحة 97
تصرفات ومواقف القادة.

الآن، وفي القرن الخامس عشر من عمر الإسلام، حينما نريد أن نشرحه للناس فإننا نضطر إلى التذكير بمواقف رجالات الإسلام الأولين، وبالمجتمع الإسلامي الرفيع، ونعرض الإسلام للناس من خلال سلوك ذلك النموذج. أليس صحيحاً؟


*  *  *

والقيادة يجب أن تكون مستوعبة للرسالة لا فقط من أجل مواصلة المسيرة، بل أيضاً من أجل حلّ المشاكل المستجدّة حلا صحيحاً، وفي صالح الرسالة نفسها.

ورسالة الإسلام بعد رسول الله (ص) كانت تواجه تراكماً في المشاكل، اثقلت ظهر الخلافة الحاكمة.

مشاكل في تنظيم المجتمع، وتنظيم الاقتصاد، وتنظيم الجيش والفتوحات، وما ينبثق عن ذلك من مسائل فقهية لا عهد للمسلمين بها أيام الرسول (ص).

ولا يكفي أن تحلّ هذه المشاكل حلاًّ سطحياً مؤقتاً، ربما يكون ذلك على حساب الرسالة في القريب أو في البعيد. انّه يجب أن يكون الحلّ جذرياً، ومشتقاً من أصول الرسالة نفسها.

خصوصاً حينما تكون الحلول مطروحة في مرحلة البناء. انّها ستعطي صورة عن واقع الرسالة، وسترسم للناس صفتها، ولا مجال ابداً للاقتناع بأن هذه مجرد وسائل مؤقتة وحلول آنيّة لا غايات ومناهج دائميّة.


*  *  *

على أن هناك ناحية اخرى تتدخل في تقييمنا لخلافة السقيفة.

وهي الأساس القانوني الذي اعتمدت عليه هذه الخلافة، وبه تذرَّعت للوصول إلى الحكم.


الصفحة 98
فمن ناحية يجب أن يدرس ما إذا كانت خلافة السقيفة ملتزمة عملياً بهذا الأساس وخاضعة له؟ ومن ناحية أخرى يُدرس ما إذا كان هذا الأساس يتناسب مع المرحلة أم أنّه سابق لأوانه؟

وفي دراستنا هذه لا نريد أن نتعرض لمدى شرعية هذا الأساس، واقرار الشارع له، إنّما ندرس مدى توافق هذا الأساس مع مصلحة الإسلام عموماً.

خلافة السقيفة.. تقييم سريع:

والآن وعلى ضوء مجموع هذه الخصائص والجهات نستطيع أن ندرس خلافة السقيفة ضمن النقطتين التاليتين:

1 ـ درجة استيعاب الرسالة.

2 ـ درجة الاندماج مع الرسالة.


*  *  *

1 ـ درجة استيعاب الرسالة:

أساساً لا يعيب أحداً من الصحابة أن لا يكون قد استوعب الرسالة كلها، أو أن يكون على حظ قليل من العلم نسبياً. فالرسالة واسعة الأصول والفروع، عريضة عرض المشاكل والمسائل والأحداث كلّها.

وكثير من الصحابة شلغتهم مشاغلهم ديناً ودنياً عن العكوف على ملازمة الرسول (ص) والانقطاع إليه، وقد كان حظهم من العلم مختلفاً قد يزيد وقد ينقص، على قدر حظهم من ملازمة الرسول (ص) وحرصهم على الاستفادة منه.

والخلفاء رجال من هؤلاء الصحابة، لا يأتيهم العلم غيباً، إنّما بمقدار جهدهم في التعلّم من الرسول (ص)، وإنّما بمقدار التصاقهم العلمي به.

ونحن هنا لا نتكلّم مع الذين ذهبوا في الخلفاء مذاهب الغلو، ونسوا أن مئات

الصفحة 99
الأحاديث في مناقبهم وضعت كذباً، من عهد معاوية وما بعده، بغاية تحطيم كيان علي (ع).

إنّ طريقة البحث الموضوعي تفترض علينا محاسبة أية رواية من روايات الفضائل والمناقب من خلال مراجعة رواتها ومقدار وثاقتهم. ومن خلال دراسة مضمونها عقلياً وإسلامياً.

ومن خلال مقارنتها مع مجموع القرائن التاريخية الثابتة.

وإذا التزمنا هذا المنهج فإنّا سنعرف أن أكثر بل المعظم الساحق من روايات مناقب الصحابة عموماً هي من تبرعات أقلام الوضاعين أو نسج أيديهم. وتلك نتيجة انتهى إليها المحققون قديماً وحديثاً.

وفي هذا الضوء فإنّه لا مجال للتصديق بأكثر ما ورد في تمجيد خلافة السقيفة.

انظروا ماذا كتب الوضّاعون، فقد حدّثوا عن رسول الله (ص) أنّه قال:

" إنّ الله يتجلّى للناس عامة ولأبي بكر خاصّة ".

" إنّ الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر ".

" عرج بي إلى السماء فما مررت بسماء الاّ وجدت فيها مكتوباً: محمد رسول الله أبو بكر الصديق من خلفي ".

" رأيت كأني أعطيت عساً مملوّاً لبناً فشربت منه حتّى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبابكر، قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله حتّى إذا امتلأت ففضلت فضلة فأعطيتها أبابكر، قال (ص) قد أصبتم ".

ورووا في عمر مثل ذلك، فنسبوا إلى رسول الله (ص) انّه قال:

" لو لم أبعث فيكم لبعث عمر ".

" ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر ".


الصفحة 100
" انّ الشيطان ليفرق منك يا عمر ".

" مكتوب على ساق العرش: لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، محمد رسول الله، ووزيراه أبوبكر الصديق وعمر الفاروق ".

وفي عثمان لم يكن الوضع أقل من ذلك، فقد نسبوا إلى رسول الله (ص) انّه قال:

" ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ".

وحدّثوا عن عائشة انها قالت:

" ما رأيت رسول الله (ص) رافعاً يديه حتّى يبدو ضبعاه الاّ لعثمان بن عفان إذا دعا له ".

إلى عشرات من أمثال هذه الموضوعات، التي نحيل القارئ في استيعابها، والتعرف على وجه تفنيدها جميعاً، على كتاب (الغدير) للعلاّمة الأميني. فقد استوفى البحث فيها مفصّلا، وأظهر أن جميع أسانيدها مطعونة، ومرفوضة عند علماء الرجال والحديث من أهل السنة أنفسهم.

على انّ المحققين منهم قد اعلنوا عن هذه الحقيقة.

فالعجلوني في كتابة كشف الخفا ذكر مائة باب ممّا لم يصح فيه حديث، وذكر منها فضائل أبي بكر قائلا:

" فضائل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أشهر المشهورات من الموضوعات ".

وذكر السيوطي في اللئالي المصنوعة ثلاثين حديثاً من أشهر فضائل أبي بكر " مما اتّخذه المؤلفون في القرون الأخيرة من المتسالم عليه، وأرسلوه ارسال المسلّم، بلا أي سند أو أي مبالات " ثم زيَّفها وحكم عليها بالوضع(1).

____________

1- الغدير، ح 7، ص 88.