الصفحة 101
على أنّه لو كان لأبي بكر واحدة من تلك المناقب لكان ينبغي أن ينتصر بها عمر يوم كان يدعو لأبي بكر، وينتصر لخلافته، بينما لم نجده ذكر الاّ انّه ثاني اثنين إذ هُما في الغار.

والقدماء قالوا في أبي بكر، وعمر، وعثمان شيئاً كثيراً، لا شاهد له من التاريخ والحديث.

وكما قال طه حسين:

" فالقدماء قد أكبروا هذين الشيخين الجليلين ـ أبي بكر وعمر ـ إكباراً يوشك أن يكون تقديساً لهما، ثم أرسلوا أنفسهم على سجيتها في مدحهما والثناء عليهما.

وإذا كان من الحق إنّ النبي (ص) نفسه قد كذب الناس عليه، وكان كثير من هذا الكذب مصدره الإكبار والتقديس، فلا غرابة في أن يكون اكبار صاحبيه العظيمين وتقديسهما مصدراً من مصادر الكذب عليهما ايضاً "(1).

وليس الاكبار وحده هو الذي دعا إلى الوضع والافتراء، إنّما الحرب الطائفية والعصبيات المذهبية، ومصالح الحكم والسياسة، كانت اكثر دعوة إلى الوضع والاصطناع.

لقد قال القدماء:

" إنّ أبابكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الاطلاق ".

" لم يكن أبوبكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصّان علياً بالسؤال، والمعروف انّ علياً أخذ العلم عن أبي بكر "(2).

____________

1- الشيخان، طه حسين، 706.

2- الغدير: 181، ح 7.


الصفحة 102
وقالوا:

" لو وضع علم احياء العرب في كفّة ميزان ووضع علم عمر في كفّة ميزان لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون أنّه ذهب بتسعة أعشار العلم ".

" لو وضع علم عمر في كفّة وعلم أهل الأرض في كفّة لرجح علم عمر "(1)واعتقد انّ كل أحد يعرف مدى المبالغة والاسراف في هذه الأقوال.

فتاريخ الخلفاء يشهد على أنّهم كانوا يقفون في عشرات وعشرات المرّات في مسائل فقهية قد تكون بسيطة احياناً، ومذكور حكمها في القرآن احياناً أخرى، كما كانوا يقفون أيضاً في تفسير آيات كثيرة من القرآن الكريم. على أن ما يؤثر عنهم من الرواية قليل جداً، سواء في تفسير آيات القرآن، أو في السنّة.

حتّى انّ الحافظ جلال الدين السيوطي قال:

" الرواية من الثلاثة ـ في التفسير ـ نزره جداً... ولا احفظ عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في التفسير إلاّ آثاراً قليلا جدّاً لا تكاد تجاوز العشرة "(2).

وفي السنّة نجد انّ الإمام أحمد لم يذكر لأبي بكر إلاّ ثمانين حديثاً يزيد المتكرر منها على عشرين. أمّا ابن كثير فقد أوصلها إلى اثنين وسبعين، وأنهاها السيوطي إلى مئة وأربعة. وهذا هو أقصى ما يسند له من الرواية.

أمّا عمر ـ رضي الله عنه ـ فالرواية عنه بنفس الندرة، وقد كان يعترف صريحاً بعدم تضلعه بأحكام الشريعة، حينما كان يقول:

" كل الناس أفقه من عمر ".

____________

1- الغدير: 61، ح 8.

2- الغدير: 107، ح 7.


الصفحة 103
والحقيقة انّه لا يوجد أي شاهد تاريخي على انّه كان لأبي بكر وعمر ـ فضلا عن عثمان ـ ملازمة علمية لرسول الله (ص)، ولا نملك رواية واحدة صحيحة حتّى على مقاييس أهل السنّة أنفسهم في إثبات الترابط العلمي بينهم وبين الرسول (ص). بينما صحّ من طرق أهل السنّة ثبوت ذلك لعلي وسلمان وأبي ذر مثلا. وكما قلت حرفياً: لا يعيب احداً من الصحابة أن لا يكون قد استوعب الرسالة كلها، أو أن يكون على حظّ قليل من العلم نسبياً.

فلا ينقص الشيخين (رض) انّهم يجهلون كثيراً من السنّة والقرآن، فربما شغلتهم مشاغلهم عن ذلك. إنّما الشيء الذي يلاحظ هو ما إذا كانت هذه الدرجة من الاستيعاب كافية لتسلُّم منصب القيادة أم لا؟

وهنا يعلم كل أحد أن خطورة موقع القيادة في نفسه، وخطورته بلحاظ طبيعة المرحلة التي تمرّ بها الرسالة، تتطلّب أكبر قدر ممكن من احتواء الرسالة وفهمها، وهذا الاقتناع هو الذي دعا كثيراً من أهل السنة إلى القول جدلا بأن أبي بكر كان أعلم الصحابة.

انّ مصير الأمة والرسالة لا يجوز في عرف الرساليين وفي عرف كل الناس أن يربط بقيادة لا تستوعب تفاصيل الرسالة، ولا تحيط بها علماً.

انّ مشاكل كثيرة تنجم عن هذا التصوّر العلمي.

فمن ناحية دعا هذا القصور إلى فتح باب الرأي والاستحسان، الذي إتّسع بالتدريج، فشمل طرح احكام الشريعة وتجاوزها باسم الصالح العام، ثمّ اتّسع ليشمل طرح احكام الشريعة لمجرد الاستذواق والاستحسان.

ودائماً تكون البداية صغيرة، لكنّها تتضخم وتنمو على التدريج وهكذا حدث. فحينما التزمت خلافة السقيفة بفتح باب الرأي، أو الخروج على الشريعة من أجل الصالح العام والاجتهاد في مقابل النص، ربّما لم تكن تدرك ما ستجرّ إليه هذه البداية.


الصفحة 104
انّ القصور العلمي في خلافة السقيفة جعل الشريعة كلّها في موقع الخطر، خطر التحريف، والتمييع.

انّه منذ الآن أصبح بوسع الخليفة الحاكم أن يقول كلّ شيء، وأن يصنع كل شيء، ولا مجال للاعتراض.

لقد اعفى أبوبكر خالداً من الحدّ حينما قتل مالك بن نويرة، وكان أبوبكر يعلل ذلك قائلا "اجتهد فأخطأ" و " ما كنت لأُشيم سيفاً سلّه الله " أمّا عثمان فقد أسقط الحدود عمّن يشاء وكيف شاء. اسقط الحدود عن طلقاء بني امية، وآل أبي معيط، وهو في كل ذلك لا يرى انّه قد جاوز فعل أبي بكر.

وجاء عمر فحرم متعة النساء، ومتعة الحج، ومنع عن زيادة المهور، ونسخ سهم المؤلفة قلوبهم وغير ذلك. أمّا عثمان فقد جاوز ذلك كلّه، فاذا هو يصلّي قصراً أو تماماً كيف شاء. وإذا هو يتلاعب بأموال المسلمين لا لصالح الإسلام، إنما لصالح العشيرة الأموية، وانّه ليقول بكل جرأة: " إنّما أنت خازن لنا " مخاطباً ابن مسعود خازن بيت مال المسلمين.

المؤرخون يذكرون انّ الحكم الإسلامي انتقل من الخلافة إلى الملك، بعد ثلاثين عاماً من وفاة الرسول (ص). وهم يقصدون انّ الحاكم أصبح يسوس الناس ويحكمهم لا على أساس من الدين، انّما حسب مصالحه الشخصية.

لكنهم لا يسألون أنفسهم عن سبب هذا الانتقال السريع، فكأنهم يرونه حتماً من الحتم وقدراً من القدر.

أمّا الحقيقة فهي انّ خلافة السقيفة هي التي مهدت ـ ربّما لا عن قصد ـ لذلك كل تمهيد.

فحكم معاوية لم يكن الاّ تسلسلا طبيعياً لحكم عثمان، ومعاوية لم يحدث شيئاً جديداً من حيث الأساس لم يكن قد أحدثه عثمان، إنما الفارق في الدرجة لا أكثر.

وإذا انتقلنا إلى عثمان فإنّا نسمعه يقول:

" ما خالفت أبابكر وعمر ".


*  *  *


الصفحة 105
ورغم انّ خلافة السقيفة كان تستمع لآراء الصحابة، وتتراجع عن مواقفها في كثير من الأحيان، الاّ ان ذلك لا يعني أبداً انّها كانت متقيدة وملتزمة بالتصويت على رأيها دوماً، وأخذ مواقفة جميع الصحابة.

في كثير من الأحيان كانت تستقل برأيها، وتقطع به من دون مشورة.

فحينما حرَّم عمر متعة النساء ومتعة الحج، ومنع الزيادة في المهور، ونسخ سهم المؤلفة قلوبهم، لم يكن قد استشار أحداً.

ومن الخطأ أن نتصوّر انّ الاعتراض على الخليفة كان أمراً ميسوراً، وتتوفر دواعيه لدى كل أو كثير من الصحابة.

قليلون هم الذين يملكون الجرأة في الاعتراض، ويدركون حقيقة ما يجرّ إليه هذا التحريف مهما بدأ بسيطاً.

ومن الخطأ أن نتصوّر انّ الخليفة كان سمح الصدر دوماً بسماع الاعتراض عليه وردّ حكمه.

اخرج مسلم في صحيحه بأربعة طرق عن عبد الرحمن بن أبزي:

" انّ رجلا أتى عمر فقال: انّي أجنبت فلم أجد ماءً؟

فقال عمر: لا تُصلِّ.

فقال عمار: أمّا تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا واقف في سريّة فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تُصلِّ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلَّيت، فقال النبي (ص): انّما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك فقال عمر: اتّق الله يا عمّار.

قال: إن شئت لم أُحدِّث به؟

قال عمر: كلاّ والله ولكن نولّيك من ذلك ما تولّيت "(1).


*  *  *

____________

1- الغدير: 83، 6.


الصفحة 106
على ان كل ما حدث لا يعرب لنا عن المسار الحقيقي الذي كانت ستجري عليه خلافة السقيفة لولا وجوه الطليعة الشيعية، ولو لا وجود النَفَس الحي في الأمّة.

فحين كانت خلافة السقيفة تشكو القصور العلمي، وتمارس بالتبع نتائج ذاك القصور، كانت الطليعة الشيعية تمثِّل دور الرقيب الرسالي، كانت تصحح، وتوجّه وتعترض، وتملأ الثغرات العلمية باستمرار.

كان هناك علي، وعمار، وسلمان، وأبو ذر، وابن عباس، والمقداد، يرقبون ما يجري حولم عن كثب، وبترصد. كانوا يرشدون وينصحون، واحياناً يقفون وجهاً لوجه، ممثلين التحدّي الرسالي.

وكان غيرهم أيضاً يشاركونهم في هذا الصنيع.

ومع كل ذلك، لم تسلم خلافة السقيفة من الأخطاء، والزلاّت، وبدايات الانحدار.

إذن أي مدىً كانت ستبلغ لو ألغينا من الحساب وجود الصوت المعارض؟!

وعلى أيّ فالنتيجة التي نخرج بها انّ القابليات العلمية لخلافة السقيفة لم تكن بمستوى حاجة المنصب، وحاجة المرحلة.


الصفحة 107

2 ـ درجة الإندماج مع الرسالة:

إذا كان شرطاً ضرورياً في القائد الإحاطة العلمية بالرسالة فإنّه ليس أقل من ذلك ضرورة إنصهاره بتلك الرسالة، وبناء كلّ أهدافه، وطموحاته، وعواطفه، وخُلُقه، على النحو المنسجم مع محتوى الرسالة وأهدافها، وانّه بمقدار التفاعل والالتحام مع الرسالة تكون اللياقة لمنصب القيادة أكبر، واعتقد انّنا في غير حاجة لتوضيح هذه الحقيقة الواضحة.

وحينما تكون الرسالة في مرحلة بناء، والأمّة بانتظار المربّي تكون ضرورة تجسيد القائد للرسالة عملياً أكبر وأحكم، فمن خلال هذا التجسيد يستطيع أن ينجح في عملية التربية، وإكمال البناء الرسالي.

وعلى العكس تماماً حينما يبتعد القائد عن واقع الرسالة سلوكياً، فليس فقط يشجع الناس على الانحراف، انّما يعطيهم مفهوماً محرّفاً عن الرسالة.

وانّ مما يدعو للعجب والدهشة انّ الرسول الأكرم (ص) استطاع خلال أعوام قليلة مكتظة بالأحداث، مملوءة بالمشاكل، أن يخلق جيلا أبدى من الإخلاص والتفاعل والتفاني لرسالته مدىً عظيماً، خلّده لهم تاريخ الرسالات.

وانّ أحداً لا يشكّ انّ الذين عشقوا رسول الله (ص) وأخلصوا له، كانوا على درجة من النبل، والجدية، والوفاء للرسالة نَدَر ان تكون لغيرهم، بل لم تكن أبداً لجيل بعد جيلهم.

وحينما نتحدّث عن الخلفاء الثلاثة بالذات، فإنّما نتحدث عن رجال من كبار الصحابة.

غير انّ القدماء جاوزوا في الصحابة عموماً واقعهم، وكاد أن ينسبوا لهم العصمة، أو قد ينسبوها لهم بالفعل.

وإذا كان هناك ما دعاهم إلى هذا السرف المتعمد الواضح فإنّه لا يوجد اليوم ما يدعونا إلى مثله، وانّ نظرة الإعجاب والتكريم لصحابة النبي (ص) لا تغيّب عنّا الحقيقة.


الصفحة 108
لقد هذّبهم الإسلام أحسن تهذيب، وعُني رسول الله (ص) بتربيتهم أية عناية، ولكن ذلك لا يعني العصمة، كما انّ نصيبهم من التربية والتهذيب مختلف، فهناك من أسلم قبل الفتح ومن أسلم بعده، وهناك من أخلص للإسلام حقّ الإخلاص، ومن ليس بذاك، وهناك من جرت قيم الإسلام في عروقه، ومن لم يهضم تلك القيم. حسب تفاوتهم في النفسية، والتاريخ، والمصلحة، ومجالات الترقي الروحي.

فليس صحيحاً وضعهم في صفّ واحد، والحكم عليهم بكلمة واحدة.

بهذه الروح يجب أن ندخل للكلام عن الخلفاء الثلاثة.

ما هو مستوى تأثّرهم بقيم الرسالة، وتمثلهم لها؟ وإلى أي مدى اكتسحت مفاهيم واخلاق الرسالة رواسب الجاهلية القديمة من نفوسهم؟ وهنا يمكن القول:

انّ قدراً ولو قليلا من تلك الرواسب ظلّ فيهم حيّاً، وأنهم مهما ارتفعوا في معانيهم فإنّ تاريخهم لم يخل من سقطات هنا وهناك بتباعد أو تقارب. حينما دخلوا الإسلام دخلوه وهم يحملون ركاماً من الأخطاء، شأنهم شأن كل الذين عاشوا عصور ما قبل الإسلام، والشيء الذي يدعو للاعتزاز والفخر والإعجاب ان ذاك الركام بدأ سريعاً بالتلاشي والذوبان وبنيت مكانه أخلاقية نزيهة رسالية.


الصفحة 109
لكن إلى أي حدّ وصلت عملية التغيير فيهم؟

من المبالغة القول بأنه تمّ تصفية كل الانطباعات والتطبعات السلبيّة ذات المسحة العتيقة الضيّقة.

هناك شواهد كثيرة تقنعنا جداً بأن أصول التفكير والخلق غير المتأثر بقيم الإسلام كانت تتحرك، وتدفع، وتشارك في التوجيه.

الفرار من الحرب، والتخلف عن جيش أُسامة، واحراق الفجاءة السلمي بالنار، والشفاعة للمشركين عند رسول الله (ص)، والامتناع عن قتل المارق الذي أمر رسول الله بقتله، هذه كلّها من أفعال أبي بكر (رض) لم تكن بدوافع رسالية واعية بالطبع، وهذه كلّها شواهد عدم الانصهار الرسالي.


الصفحة 110

(1)
عصر الأئمة (عليهم السلام)
مهمّات الدور الأول


حينما نكون بصدد دراسة المهمات التي عمل الخط الشيعي على تحقيقها في هذه المرحلة، ونريد تقييم معطيات العمل من وجهة نظر نقدية، لابدّ أن ندرس اوّلا ما هي امكانيات العمل؟ وقابليات الخط على التحرك؟ وفي ضوء ذلك يمكن الحكم على النشاط في هذه المرحلة سلباً أو ايجاباً.

وهنا نلاحظ ما يلي:

أولا: لقد اقصي علي عن الحكم، واقصي الخط الشيعي كلّه. ومعنى ذلك انّ علياً سوف لا يستطيع أن يمارس نشاطات القائد والموجّه، وكما كان مرسوماً من قبل الرسول (ص)، وان كل ما يستطيع أن يمارسه من نشاط فإنما هو في حدود دائرة الفرد الرعيّة لا الفرد الراعي.

ثانياً: حتّى في دائرة نشاطات الفرد الرعيّة لم يكن عليّاً مطلق العنان، ولا كان أصحابه كذلك. فموقف الخلافة من علي كان موقفاً متميّزاً حذراً لأنّ عليّاً هو الذي تزعَّم المعارضة من ناحية، وهو إن تراجع عملياً عن المطالبة بالحكم فإنّه لم يتراجع في قرارة نفسه، ولا رضي بخلافة السقيفة ولأن علياً من ناحية ثانية يختلف مع

الصفحة 111
الخلافة الحاكمة في كثير من المنعطفات فله فهمه الخاص للشريعة، ولأسلوب الحكم، ولصلاحيّات الحاكم، مما لا يتفق مع تصوّرات الخلافة الحاكمة.

ولأنّ علياً من ناحية ثالثة له سابقة في الدين، وقرباً من رسول الله (ص)، ومجداً رسالياً متفرداً، مما أعطاه في نظر الناس كلّهم موضع الصدارة في الأمة، حتّى كان المهاجرون والأنصار لا يشكون في أنّه الرجل الثاني بعد الرسول (ص).

كلّ هذه الأمور جعلت الخلافة تتحفظ منه وتحذر.

فهي لا تنسى ماضيه معها، وانّه لم يبايعها الاّ مرغماً.

وهي لا تنسى موقعه عند الناس، وما يخلق لها ذلك من المشاكل.

وهي تعرف جيداً انّ علياً غير متفق معها في كثير من المواقف، ومن التصوّرات.

وانّها لتحسب لكل ذلك حساباً.

وعموماً كانت الخلافة الحاكمة تحذر كل منافس، وتحتاط لأدنى توقعات المنافسة، ومن السذاجة بل من العناد أن ننفي عن الخلافة الحاكمة هذه الخاصيّة، وانها لطبيعية في كلّ حكومة تريد لنفسها الثبات والإستمرار.

وانّا سنعود لهذا البحث في تحليل الموقف السياسي إن شاء الله.

أمّا الآن فنختصر القول في تحفظها من علي، ورصدها لنشاطه.

مما يلاحظ في هذا المجال انّ علياً لم يُبعد عن الحكم فقط، وانّما أُبعد عن المشاركة عموماً في النشاط السياسي والعسكري، وتلك ظاهرة ألفتت نظر الباحثين.

واستمرّت هذه الظاهرة في كلّ العهود الثلاثة عهد أبي بكر وعمر وعثمان.

والمعروف انّ أبابكر ألغى سهم ذوي القربى، كما أخذ فدكاً من الزهراء، وانّ لهذين العملين مدلولا سياسياً واضحاً.


الصفحة 112
وحتّى في المجال العلمي كان للخلافة الحاكمة موقفاً من علي.

فالثابت انّ علياً حين جمع القرآن، رفضته الخلافة الحاكمة وقد كانت أحوج ما تكون إليه، ثمّ أوعزت إلى غير علي أن يتصدّى لجمع القرآن. لماذا؟

لأن أية خطوة يتقدم بها علي تكون على حساب شخصية الخليفة، وفي غير صالحه، ومن هنا رفض جمع علي للقرآن. ولم يُشرك في عملية الجمع التي تصدّت لها الخلافة مؤخراً. بينما مقام علي من القرآن معلوم.

وعلى العموم لم يكن علياً في عهد الخلفاء الثلاثة قادراً على التحرك الحرّ المطلق، ولا أصحاب علي كان لهم ذلك. المعروف انّ أبابكر حين أراد تولية خالد بن سعيد اعترض عليه عمر، وذكَّره بموقف خالد من الحكم القائم، واتجاهه العلوي. وأخيراً نزل أبوبكر عن رأيه فعزل خالداً، وولى مكانه معاوية ابن أبي سفيان.

لقد كان عمّار وكان سلمان والياً لعمر بن الخطاب في مصر وفي المدائن، وكان هؤلاء من أصحاب علي، لكن عمر عزلهم بعد حين، لوشاية بلغته فيهما، ولك أن تسأل عن مضمون هذه الوشاية، ومن القادم بها من مصر ومن المدائن إلى عمر.

والتاريخ لم يكشف لنا النقاب عن مضمون تلك الوشاية، لكن من يعرف عماراً وسلمان في التزامهما الحرفي بالدين، وفي اتجاههما العلوي، يعرف حقيقة تلك الوشاية.

من المطمئن به انها ليست وشاية في سرقة أو غصب أو اكتناز الأموال أو الاستهتار بحقّ الناس، فعمار وسلمان أبعد ما يكونوا عن ذلك، ولو كانت وشاية بذلك لكن عمر يؤدبهما علناً أمام الناس.

إنما كانت وشاية في النشاط لصالح علي، ومن هنا لم يعلن عنها، ولم يؤاخذ بها، واكتفى الخليفة بعزلهما.


الصفحة 113
المقصود الآن الفات النظر إلى الرقابة التي كانت تحيط برجال علي.

وحين قال الزبير: " لو مات عمر لبايعت علياً ".

فوراً نقلت هذه الكلمة إلى الخليفة، وانتهى إليه خبرها!!

وفي عهد عمر نفسه هناك قضية رغم بساطتها فهي ذات دلالة كبيرة.

في رواية انّ الحسين قدم على عمر وهو على المنبر فقال له:

" انزل عن منبر أبي ".

وفوراً سأله الخليفة بذكاء: " من بعثك؟ ".

لقد أراد الخليفة بهذا السؤال أن يعرف ما وراء هذا التصرّف الغريب من الولد الصغير، وما إذا كان علياً هو الذي أرسله أو لا؟

ولقد بدأ عمر بهذا السؤال وهو غير شاك في انّ أحداً أرسل الحسين، أو أنّه أراد أن يحتال على الحسين في أخذ الحقيقة منه.

أمّا في عهد عثمان فنحن في غير حاجة إلى اطالة الحديث في الضغوط التي كان يواجهها الخط الشيعي، ومحاولات حجزه عن التحرك مطلقاً.

ثالثاً: وحين صار الحكم إلى علي بعد عثمان كانت المعارك والفتن تفقده كل فرص النشاط الرسالي، وتستقطب كل طاقاته وجهوده، وهو مع هذه الحراجة صنع شيئاً كثيراً في سبيل الرسالة، كما سنقرأ إن شاء الله.

وقل نفس الشيء في الحسن والحسين (ع).

فماذا يستطيع الحسن أن يفعل ومعاوية يخيف كل صوت معارض، وانّه ليتتبَّع الشيعة واحداً واحداً.

وفي ظل هذه الضغوط كيف نتوقّع من الخط الشيعي أن يفتح للإسلام كل فتح وهو مخنوق، مطارد، مراقب؟

إذن يجب أن نأخذ في الحساب طبيعة ظروف المرحلة، وفي ضوءها

الصفحة 114
نستطيع تقييم نشاط الخطّ الشيعي والمهمات التي توفّر لإنجازها.

والآن يمكن حصر تلك المهمات فيما يلي:

المهمة الأولى: بناء القاعدة الشيعية:

رغم انّ الضرورة السياسية كانت تفرض على الطليعة الشيعية مصافحة الخلافة الحاكمة وتجنب مناهضتها كما ستعرف. ورغم انّ الشيعة ومعهم علي قد بايعوا أخيراً وكسروا الجدار النفسي الذي حدث باقصائهم عن الحكم، والخروج على حقهم.

رغم كل ذلك فإن الاعلان عن عدم شرعية هذه الخلافة، ورفض اعتبارها القيّم على الإسلام والمسلمين، بات من مهمّات المرحلة التي سعى الشيعة إلى تحقيقها.

كان من الضروري جداً التأكيد أمام الرأي العام الإسلامي على هذه الحقيقة.

حقيقة انّ التجربة الإسلاميّة لم تصبح بيد قيادتها الشرعيّة، وانّ الخلافة الحاكمة بديلا غير كفوء، ولا يمكن اعتباره الأمين على هذه التجربة والوجه الحقيقي لها.

كان ضرورياً الاعلان عن انّ الزعامة الحقيقية لعلي، وهو وحده الذي يعبّر بأمانة وباستيعاب، ويجسّد بصدق وشمول كل أهداف، ومفاهيم، وأبعاد الرسالة.

كان ذلك ضرورياً، لأجل أن تبقى الرسالة نقيّة في فهم الناس، ولأجل أن لا تُحمل على الرسالة المواقف الخاطئة، والمنخفضة التي قد تتورط فيها الخلافة الحاكمة.

نحن قلنا انّ الرسالة ما تزال في مرحلة البناء، والأمة بعد غير مشبّعة روحياً

الصفحة 115
ونظرياً ولا بلغت في فهمها العمق النهائي لرسالتها.

المفاهيم التي جسّدها رسول الله (ص) بحاجة إلى تركيز، وتأطير، لتصبح صيغاً رساليةً ثابتة في رسالة الإسلام.

وهناك حاجة إلى تأكيد انّ القيم التي جسّدها رسول الله (ص) لم تكن له وحده، وانّما كانت لكلّ الناس، ومحمد (ص) هو النموذج للرجل المؤمن الرسالي.

وهناك حاجة إلى إشعار الناس بأن الرسالة ليست فوق مستوى البشر، ولا تجسيدها حرفياً أمر خارج عن المقدور، فالإنحراف ليس ضرورة، ومحمد (ص) لم يكن بدعاً من الناس، إنّما كان بشراً، والرسالة هي التي صقلته، وهي قادرة على أن تصقل كلّ الناس.

والخلافة الحاكمة لم تكن عند مستوى هذه الضرورات الإساسية.

الخلافة الحاكمة هي شخصياً عاشت الإنحراف، واعترفت به.

وهي شخصياً لم تكن تهضم كلّ مفاهيم الرسالة.

وهي شخصياً شاركت في خلق هذا المفهوم، مفهوم أنّ الالتحام التام مع الرسالة أمر غير مقدور، ولا مطلوب، انّما محمد (ص) وحده كان مسؤولا وقادراً على ذلك.

الخليفة الأول ركّز هذا المفهوم وساعد عليه من حيث لا يدري حينما قال: " لا تؤاخذوني فلست بنبيّكم ".

من هنا كانت الحاجة إلى اعلان عدم قيمومة الخلافة الحاكمة على الرسالة، ورفض اعتبارها النموذج الأمثل للانسان الرسالي.

لأجل أن لا تزول ثقة الناس بالرسالة، ولأجل أن لا تحرّف من نظر الناس، ولأجل أن لا يشك الناس في قدرة، رسالتهم على بناء الشخصية النموذجية، وتكوين المجتمع الملتزم بكل مفاهيمها.


الصفحة 116
هذا نظرياً...

وعملياً كان لابدّ من خلق فئة واعية نموذجية، تجسّد مفاهيم الرسالة، وتشرحها للناس من خلال هذا التجسيد.

كان لابدّ من بناء قاعدة حصينة، وراسخة، تؤكد في الناس قيم الرسالة وتصوّراتها، وتحافظ على أمل الأمة برسالتها وبقادتها الحقيقيين، وحتّى لا تصاب بالإنهيار النفسي، واليأس من بلوغ الأهداف والأبعاد القصوى للرسالة.

هذه الفئة بنفس وجودها، تقنع الأمة بأن رسالتها حيّة، وسوف تبقى حيّة، وإنّ رسالتها رسالة واقعيّة، وجديرة بالنجاح في تربية الإنسان، وخلق المجتمع الملتزم، وليست رسالة متنكرة لدوافع الإنسان، وحاجاته، وغرائزه. وانّ رسول الله (ص) لم يكن رسولا لأنه ينزل عليه الوحي، وإنّما لأنّه اندمج مع الرسالة، فهو قدوة لكلّ الناس، وهو مَثَل ينبغي أن يسار باتجاهه.

وسوف تشترك هذه الفئة في مهمّة الرقابة الرسالية على الخلافة الحاكمة، تصحح، وتوجّه، وتنصح، وتردع، وتكشف للناس الأخطاء إذا تعذر عليها أن تصحح تلك الأخطاء.

وكان علي (ع) هو محور النشاط في هذه المهمّة، والعَصَب الرئيسي له.

كان هو القادر على انتزاع صفة الشرعية من الخلافة الحاكمة.

وكان هو القادر على تعزيز وتحصين الفئة النموذجية الواعية.

وكان هو القادر على أن يعرض نفسه للناس بوصفه القيادة الشرعية، والقيّم الحقيقي على الرسالة، والتعبير الصادق عن مفاهيمهما وتصوراتها.

وكانت الطليعة تلتفّ حول علي، تحصّن نفسها به، وتشترك معه بالتالي في مجموع المهمّات.

وسنرى الآن مقدار الجهد الذي بذله الإمام علي، وبذلته الكتلة الشيعية في هذا السبيل.


الصفحة 117
كان أوّل اعلان عن عدم شرعية خلافة السقيفة يوم رفض علي (ع) والملتفّون حوله البيعة، وأصرّوا على هذا الرفض.

فالمؤرّخون يحدّثون انّه امتنع عن البيعة عليّ، ومعه جماعة من المهاجرين وجماعة من الأنصار وتحصّنوا في داره ومع بعضهم سلاح.

انظروا.. رغم انّ علياً لم ينهض بأصحابه لضرب الحكم القائم، حسب ما اقتضاه الوضع السياسي، الاّ انّه لم يكن مستعداً للإقرار لهذا الحكم، دون أن يسجل للناس ولتاريخ الرسالة الطويل موقفه السلبي تجاهه.

وقد تعمّد أن يبقى على هذا الرفض، هو والهاشميون ومن كان معه من غيرهم، ويعرّف الناس بحقيقة موقفة، حتّى تضطره الخلافة الحاكمة إلى البيعة، فيعرف الرأي العام أنّه كان مقهوراً لا مختاراً.

هذا ما حدث..

فبمشهد من عموم المسلمين جاءت رُسُل الخلافة الحاكمة تهدّد عليّاً والمتحصنون معه باحراق الدار عليهم، حتّى أثار ذلك مشاعر الناس، فقيل لعمر: وهو يرأس ذلك الجمع إن فيها فاطمة؟ قال: وإن.

وأُخرج علي مقاداً، مكتوفاً، وإنّه ليستطيع أن يفعل الشيء الكثير، لكنّه لم يفعل، لأنّه يريد أن يعرف الرأي العام واقع الحال.

وفي الجامع المزدحم بالناس، الذين شرأبت اعناقهم لمعرفة ما يحدث، وكيف يصنع علي، وكيف تتعامل معه الخلافة.

في مشهد من هؤلاء الناس، وعلي مكبّل يسأل:

فإن لم أبايع؟

يقال له: إذن تقتل؟!

فيقول: أتقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله؟!

ويقول:


الصفحة 118
" يا معشر المهاجرين: الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنّة، المضطلع بأمر الرعية، والله انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً ".

ولمدة ستة أشهر ظلّ (ع) ممتنعاً، ووجوه الناس نحوه مصوّبة، أليس يكفي ذلك في تعريف الناس برأيه.

تقول الرواية: " حتّى إذا ماتت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه " فبايع بعد ذلك، وفي رواية أنه بايع بعد ستة أشهر.

لماذا يفعل ذلك علي؟ وهو يعلم علم اليقين انّ ناصره قليل وخاذله كثير، ولا أمل في استرجاع حقّه.

وهل كان علي سيبقى رافضاً، معتزلا، بعيداً عن الناس، ما بقيت خلافة السقيفة في الحكم..؟

جزماً لم يكن علي يرتكب ذلك، انّه ليس من صالح الرسالة، ولا الأمّة.

انّما كان يريد أن يسجل الرفض، لأجل التسجيل فقط، ولأجل تعريف الناس بلغة رافض، رافض.

وجاءت الزهراء (ع)، وجاء شيعة علي (ع)، ينسفون علانية وفي الجامع النبوي وبمسمع من الناس ومشهد كل اساس شرعي لهذه الخلافة.

جاءت الزهراء تطالب بالميراث وتطالب بفدك، لكنّها لم يكن من قصدها ذلك بمقدار ما كانت تقصد إلى شيء آخر.

تقصد إلى تحطيم مزاعم الخلافة حين أقصت عليّاً عن الحكم، ووضعت نفسها، فاذا هي تبتعد عن الميراث، وتبتعد عن فدك، وتقول للناس:

" أيّها الناس اعلموا:


الصفحة 119
انّي فاطمة، وأبي محمد (ص)، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم.

وأخا ابن عمي دون رجالكم.. ".

ثم بعد أن تعرّفهم مقامهم من الرسالة، انهم حملة دين الله ووحيه، وأمناء الله على أنفسهم، وبلغاؤه إلى الأمم، وبعد أن تعرّفهم مقامها من الرسول، تجرّهم إلى قضية الخلافة، وتتهمهم بالنكوص والخذلان والانحراف قائلة:

" قد لسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لمّا يغبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين.

فهيهات منكم، وكيف بكم، وانّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلَّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بَدَلا... ".

ليست الزهراء بصدد فدك. لا نخلات ولا نخيلات، هل تستنهض الأنصار، وتحدث أكبر شقاق، لأجل فدك؟

ماذا كانت تعني حين خاطبت الأنصار:

".. وأنتم ذو العدد والعدّة، والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.... فأنّى صرتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الاعلان؟ وأشركتم بعد الإيمان؟ بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم.. ".

وما فدك؟! حتّى تثور لها الزهراء (ع) هذه الثورة، فتجردهم من الإيمان،